نقوس المهدي
كاتب
إن من الرجالات الأفذاذ ذوي المواهب النادرة والذكاء الوقاد، الذي احتل الصدارة العلمية وتسنم المكانة الأدبية وتربع كرسي مشيخة جماعة الرباط بحق بعد وفاة أستاذه وعمدته وسنده العلامة أبي إسحاق إبراهيم التادلي، والذي لا يمكن لتاريخنا العلمي والأدبي المعاصر أن يتجاهله لإنتاجه الجم الفوائد، المتعدد الطرائق، المختلف الألوان، ولا أن يتناسى دوره الكبير الهام الذي قام به في سبيل بث العلم ونشره على اختلاف فنونه بين صفوف طلبة مدينة الرباط أوائل القرن الحالي –الحجة المشارك الأديب الكبير النابغة أبا حامد السكي البطاوري، فلقد استطاع لقوة عارضته، وسر شخصيته، المعززتين باطلاعه الواسع أن يحدث تغييرا كبيرا ملموسا في سير التدريس بهذه المدينة لأسلوبه الساحر الجذاب، المتصف بالسلامة والوضوح، الممزوج بسلامة الذوق وخفة الروح، أمكنه به أن يكسب لمجلسه نخبة الطلبة كي يكون منها طبقة ممتازة من العلماء الكبار، والأدباء النقاد، والشعراء الفحول، نبغت في جميع العلوم المتداولة في عصره من منقول أو معقول وفروع وأصول حتى صارت تضاهي، لتمكنها الوثيق وتضلعها المتين، خريجي جامعتي القرويين واليوسفية المبرزين، وتفوقت في سائر الميادين العلمية والتاريخية والأدبية، وارتقت في أفق معالي العرفان بعقول نيرة ناضجة تغترف من نيابيعه باقتدار وكفاءة لتنتج لنا تراثا قيما في شتى الفنون ومؤلفات ذات أهمية تنم عن سمو مستوى أصحابها ودواوين شعرية تزخر بكثير من الشعر الجيد ذي الطابع القومي الإسلامي تشهد بما لمترجمنا العظيم من أياد بيضاء خالدة وأثرعميق لا يستطيع أن يتنكر له الخصم فما بالك بالمنصف في خلق هذه النخبة التي تعد –دون ريب- إحدى الطلائع الأولى لنهضتنا العلمية والأدبية بهذا البلد، أمثال المدني ابن الحسني، ومحمد بن عبد السلام السائح، ومحمد بن علي دينية، والتهامي الغربي، وأحمد بن جلون، ومحمد الرندى وأحمد الزبدي، ومحمد ملين، والجيلالي صندال، والصديق العوفير، والطاهر الرجراجي، ومحمد بوجندار، وأحمد الزعيمي، والفاطمي الغربي، ومحمد الناصري، ومحمد الجزولي وأبي بكر بناني، وغيرهم كثير ممن لم تحضرني الآن أسماؤهم والذي كان لبعضهم –كما يسجل التاريخ- جولات مشكورة محمودة في صد جماح الدعاة المشعوذين، والضرب على أيدي أدعياء الصوفية المغفلين ورفع رأية الإصلاح للقضاء على التقاليد والخرافات الزائفة من المجتمع بشعرهم ونثرهم والمشاركة الإيجابية في غرس بذور صالحة من أنواع القول الممتاز بالوعي الوطني أزهرت وأينعت فصائلها في حظائر الشباب، وأثمرت فروعها بإنتاج وفير في حقول عامة الشعب، كما أنه بفضل جهود مترجمنا ومساهمة ثلة من معاصريه الأماثل تكونت بهذه المدينة في هذه الفترة وبعدها بيئة علمية محترمة تطفح بالنشاط والحيوية الكاملة وتزدهر مجالسها العامرة بأفواج من الطلبة المتعطشين –صباح مساء- للارتواء من مناهلها العذبة المحببة، تعززت وتقوت وتدعمت بها حركتنا العلمية والأدبية –اذ ذاك- بالمدن الأخرى ذات المدارس الشهيرة والمعاهد الكبرى.
هذا وإني أقدم لقارئى العزيز كلمات تصف أستاذنا الكبير في حلقة دروسه نقلا عن أحد تلاميذه النجباء محمد بوجندار في كتابه «تعطير البساط بتراجم قضاة الرباط» وهي قوله: «فلقد تفرد بدمائه الأخلاق ولين العريكة وطلاقة الوجه وخفض الجناح للمستفيد مع ما أوتيه من حسن الالقاء وإتقان أسلوب التعليم وسعة الإملاء والحفظ وقوة الإدراك والفهم إلى ما حلى به من حيلة البيان والإيجاز البالغين حد الإعجاز ورشاقة العبارة الحائزة من النسيم لطاقته ومن الشهد حلاوته ومن الماء ملاسته».
نعم، فوصف مترجمنا بسعة الإملاء والحفظ وحسن الإلقاء ورشاقة العبارة كان لا يقتصر على مجالسه الخاصة بين طلبته فحسب، بل تجلى بأكمل من هذا وأمثل وأبلغ في المحافل العامة التي كانت تضم كبار العلماء وشيوخ الأمة – كما شهد الجميع في دروسه الحديثية باعتبار أنها كانت –دائما- تتم ببلاغة الإلقاء وجودة التعبير وروعة البيان مع حسن الاختيار، تلك الدروس التي كان يلقيها في المجالس الحفيظية أمام نخبة من علماء العدوتين وبعض علماء شنجيط الذين كانوا –حينذاك- بالرباط في ركاب المولى عبد الحفيظ لما كلف بإعطائها سنة (1330هـ-1912م) مناوبة يوما بيوم مع قاضي سلا الفقيه أبي الحسن علي عواد فكان محل إعجاب ودهشة واحترام زائد من حاضريها لما ظهر عليه من كثرة الاستحضار وغزارة الاطلاع
وقوة الملكة وجمال سبك الكلمات، وهو نفسه قد أحس بهذا التقدير الذي كان يغمر المجلس وشعر بسحائب الارتياح تموج في جوه وتملأه بئايات الثناء والتبجيل حيث عبر عن ذلك في كتابه «الدروس الحديثة في المجالس الحفيظية بقوله» حتى ظهر للحاضرين ما لم أكن أعهده في نفسي واستحضرت كل ما اطلعته وحصلت فتوحات زائدة حالة التقرير، وكأن ذلك كان يجري على لساني على سبيل البديهة حتى أن بعض شيوخي ممن كان يحضر المجلس بعد فراغي يقوم إلي ويقبل ما بين عيني»
ودرايته وإتقانه لأسلوب التعليم كان ذلك معروفا أيضا في الأوساط الخاصة العالية، فقد كلفه الخليفة المولى رشيد بن الملك عبد الرحمان لتعليم أولاده كما انتدبه لهذه الغاية الملك الهمام الحسن الأول في تربية بعض أنجاله بقبيلة امزاب، وكان في حياته التدريسية الخاصة والعامة شغوفا بالاطلاع دؤوبا على المراجعة والتحقيق منكبا على عيون الأمهات والمراجع والمصادرة العليا يظهر أثر ذلك جليا للمستفيد في مجالسه المفعمة بغزير من المعلومات وكثير من الطرائف والنكات الحلوة والمفاكهات المحببة الطافحة بها كتب القدماء شعرية ونثرية التي –لا تخل بمقام هذه المجالس التي كان- دائما يسودها الوقار والهيبة ويحوط زواياها الهدوء التام فلا تسمع من أحاديث القوم الا هما ولا ترى أمامك إلا أعناقهم مثرئبة لوجهة الأستاذ الكبير بأعين محدقة وآذان مصغية لا تتسع أنظارهم للداخل والخارج متربصين بتطلع لما يلقيه عليهم من درر الفوائد وغرر الشوارد، وقد حكي لي عدد من تلاميذه أنهم لما كانوا يدخلون لمجلسه يشعرون بحلة خاصة تكتسيه من الروعة والاحترام للمكانة العلمية التي كان يتمتع بها من حاضريه، ولقوة شخصيته وسر جاذبيته – علاوة على ما كان يتخلل هذه الدروس من نوادر الأمثال والنظائر في الحديث والفقه واللغة والنحو والتاريخ والأدب وغيرها من المواضيع التي كان يهتم بها الطلبة آنذاك، وعزز هذه الحياة المليئة العريضة وقوى مكانتها وخلد ذكرها بالتأليف فترك ما يربو على ستين مؤلفا جلها تام ترمي معنوياتها لهذه الفنون، كما خلف ركاما جيدا من صحف عديدة تشتمل على قصائد وأزجال وموشحات وفوائد علمية ورسائل متنوعة يجب أن تجمع وتنسق وتدرس دراسة تحليلية متأنية لكي تتضح شخصية مترجمنا في مظهرها المنير القوي بأوضح وأجلى مما ابنته، وتبرز جوانبها الثقافية المختلفة بأكمل وأعلى مما اجزته في هذه العجالة، ولا بأس من إيراد أسماء بعض مؤلفاته هنا كأمثلة لقارئي العزيز عن إنتاجه القيم وهي: «الأزهار المهصورة من رياض المقصورة» «مقصورة المكودي» «منح الأوطار من نفح العطار» «رائية حسن العطار» «لمحات المزية من نفحات الهمزية» «همزية البوصيري»«هامية الطرب في شرح لامية العرب» «شافية الدجم في شرح لامية العجم» «الاستسعاد بقصيدة بانت سعاد» «الحلل المجوهرة على الجوهرة» «جوهرة اللقاني» «معراج الراقي على ألفية العراقي في المصطلح» «منح المنية في شرح الكنية» «شرح رسالة الوضع» «شرح الجمل للمجراد» «شرح صغرى السنوسي» «شرح البيقونية في مصطلح الحديث» «شرح حزب الفلاح للجزولي» «حكم الموطأ» «نظم في علم العروض وشرحه»، إلى غير ذلك من المؤلفات الدالة على مشاركته في جميع الفنون الرائجة في بيئته العلمية، والمهتم بها في أوساط الطلبة والمعنى بها للتحصيل والتخريج في عصره.
ولقد تقلد مترجمنا الكبير عدة وظائف مخزنية وغيرها في مراحله الأولى من حياته الحافلة كان لها تأثير عميق ومدى بعيد في مجالاته ومسالكه وتطوره وتفتح ذهنه اكتسبه حنكة ودرية، أعظمها أثرا في نفسه وأكثرها مفعولا خدمته ككاتب خاص لممثل الحكومة المغربية أمام سفراء الدول الأجنبية بطنجة ونائب لممثل الحكومة المغربية أمام سفراء الدول الأجنبية بطنجة ونائب الملك المفوض بها السيد محمد بركاش، فلقد قضى في هذا الوظيف نحو العشر سنين تبتدئ من سنة (1290هـ - 1872م) تجول خلالها ببعض البلدان الأوربية كإسبانيا، ذهب إليها رفقة النائب للمؤتمر الدولي المنعقد بمدريد سنة (1297هـ-1880م) وزار أيضا فرنسا وأقام بباريز ما يزيد على الثلاثة اشهر تعرف على معالمها ومآثرها العظيمة ومصانعها العلمية كما سافر للبلاد الإنجليزية، وبطبيعة الحال اكتسب من هذه الزيارات معارف جديدة لم تكن له معهودة، واستفاد منها عادات غريبة لم تكن لديه مألوفة عن العالم المتمدن، ولا شك أنه اغتنم فرصا ثمينة من رحلته لزيارة معلوماته عن ساسة هذه البلاد وملوكها –عن كثب- الطامحين في تأسيس الإمبراطوريات والطامعين اذ ذاك – بنهم وشره في التوسع والاستعمار، واطلع على اشتداد تآمرهم على وطنه وقوة تنافهم –وقتذاك- في احتلاله بدعوى المساعدة التمدنية للقضاء على أسباب التخلف وإرجاع الأمن لربوع البلاد والعمل على تقديم الشعب في طليعة الركب المدني كما زعموا.
أجل وفي هذه الفترة التي قضاها بمدينة طنجة في أوج شبابه ومبدأ زهرة عمره الذي كان يطل فيها على كهولة ناضجة واعية – تعتبر- مرحلة فاضلة غنية مثمرة عن مراحله الأولى من حياته حيث لم تدعه نفسه الطموحة أن تكون هذه الحياة رتيبة جامدة مقتصرة على تحبير المكاتب وتذبيج الرسائل بصورة مهنية بل انغمر في عالم الأدب واندفع إليه بوازع ذاتي تقوده رغبة ملحة وشوق إلى مطالعة عيون كتبه وأجود دواوين شعره، وحبب إليه بصفة خاصة من دنيا البيان قافية ابن الونان، فاشتغل بها وعلق عليها وجعلها كمحور يدور حول اختيارات مطالعته الأدبية فانتج لنا بهذا العمل كتابا ظريفا ممتعا يكتنز اقتطافات ولقطات مفيدة من الأدب والتاريخ واللغة وغيرها أسماه «اقتطاف زهرات الافنان من دوحة قافية ابن الونان» وفي نسخة منه بخط السيد محمد بن محمد الجندوز مؤرخة النسخ بسنة 1315هـ عليها تصحيحات بقلم القنصل الفرنسي لريش المستعرب الشهير ومساعدة الفقيه الجيلالي صندال أحد تلاميذ مترجمنا مذكور في آخرها «وكان تمام تقييده بعد العشاء الأخيرة من يوم السبت عشر شهر رمضان المعظم عام تسعة وتسعين ومائتين وألف في محروسة ثغر طنجة كلأه الله» فيظهر من هذا التاريخ ويلوح من مفهومه أنه كان يقضي أوقات فراغه طول المدة التي قضاها بهذه المدينة وقبلها أيام بدايته في الطلب بالمقاصد الأدبية وما تقتضيه من العلوم العربية كما نص على ذلك في مقدمة هذا الكتاب حيث قال «فلما من الله سبحانه علي وأتم نعمته لدي بأفضل النعم بعد الإيمان به، وهو النظر في العلم الذي لا مرية في جلالة منصبه، اذ به يحصل التمييز بين أفراد النوع الإنساني، ويدرك به من خير الدارين غاية الأماني، كان من جملة ما تعاطيته نبذة من العلوم العربية وبعض المقاصد الأدبية اذ هو من الوسائل التي لا غنى لطالب العلم عنها ولا محيد له عن التزود منها» حقا في هذه النصيحة التي تدعو لتكوين الطالب تكوينا ذاتيا فهي –كما يقول- مترجمنا المعلم المرشد لا يمكن لأي طالب في فن من الفنون الغنى عن الأدب والعزوف عن الاهتمامات بمواضعه أو الزهد في تعاطيه ولا محيد له عنه أثناء دراسته لخروجه من النطاق المحلي لتقبل المعارف على اختلاف المشارب وتباين المصادر، فهو الوسيلة الكبرى والمفتاح الوحيد والعين النقادة لمن أراد أن يقتحم كنوزها ويقوى على امتلاك الجيد منها ويستطيع أن يتغلب على نبذ التافه منها والزائف، وبها تتفتح المدارك وتتفتق الأذهان وتجود الأقلام للتعبير عن مضامين البيان، وبفضلها تنتشر أعوص مسائل العلوم وتهضمها أبطأ الفهوم وتروج بين عامة المثقفين وأنصاف المتعلمين.
ولما انقضت مهمته التي أنيط به عملها لدى النائب المفوض بمدينة طنجة قفل لمدينة الرباط مقر نشأته واستقر بها مدة ثم بعدها اتخذ رحلته للمدن المغربية ذات المعاهد العلمية –استكمالا لما استفاده واعتبر به من رحلاته السابقة –زار مراكش وفاس ومكناس، فاجتمع مع علمائها واستجاز بعض شيوخها، وفي سنة (1304-1886م) رغب أن يتم مقاصده في رحلته لبعض بلدان الشرق العربي وأن يجعل مسعاه الأول أداء فريضة الحج فذهب أولا إلى الأصقاع الحجازية فاتصل بأهل العلم فيها وأخذ عنهم واستجازهم ثم بعد ذلك رحل للبلاد المصرية فزار القاهرة والاسكندرية واجتمع برجالاتهما وتعرف بالمعالم والمآثر والمعاهد، وتطلع على نهضتها العلمية وحركتها التقدمية العمرانية ثم رجع لبلده مزودا بكل جيد من الطريف والتليد ومسلحا بما يغنيه ويزيد في معناه من كل معلوم مفيد، ليتصدر التدريس ويتفرغ للتأليف، وينقطع لبث العلم ونشره، ولقد كانت رحلاته للشرق والغرب أثرا عميقا في نفسه وعاملا قويا في تفتح ذهنه واتساع مداركه وتحرره من الجمود الداعي للنفور من تقبل المعارف الحديثة، فاعتاد مطالعة الصحف السياسية والمجلات العلمية وغيرها كما جعل ديدنه مطالعة الكتب العصرية ذات الجودة والمتانة على اختلاف فنونها واعطاها قيمتها وأهميتها من بين كتبه الصفراء يعلق عليها ويلاحظ، فلقد عثرت على نسخة كان يملكها – من كتاب «كنز العلوم واللغة» لفريد وجدي عليها تعاليق في هامشها بخط يده، انقل لقارئي العزيز منها ثلاثة تعاليق تعطيه صورة مقربة لثقافة المترجم المتنوعة، أولها تتعلق بتاريخ المغرب في العصر العلوي، ففي مادة «الجزائر» ذكر وجدي أن سلطان المغرب اتحد مع الفرنسيين على محاربة الأمير عبد القادر وصده عن الالتجاء إلى الصحراء فاضطر الأمير للتسليم وكان ذلك سنة (1848م) فرد عليه بقوله لم يتحد معهم وإنما ارتكب أخف الضررين هو عدم السماح للأمير بالدخول للبلاد حفظا عليها لعدم وجود قوة كافية بها اذ ذاك، وثانيها تدل على تشينه في تاريخ رجالات صدر الإسلام، ففي مادة (ابن عمر) ذكر أن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما توفي سنة 63هـ «فرد عليه بقوله فيه نظرا لأنه تبت في الصحاح أن ابن عمر بايع عبد الملك بن مروان والتاريخ المذكور هو زمن يزيد بن معاوية، وثالثها تتعلق بالتحليل الكيماوي وللعناصر المركبة منها المعادن ففي مادة «الكيمياء» ذكر وجدي «إن الذهب معدن بسيط غير مركب لم توجد آلة ولا واسطة للآن لتحليله حتى تعلم مركباته فكيف يمكن تركيبه بل كيف يمكن تركيب ما لا تعلم أجزاؤه المركبة له» فرد عليه بقوله فيه نظر لأن الحكماء اطبقوا على أن الحيوان والنبات والمعدن كلها مركبة ويسمونها المركبات الثلاثة في مقابلة البسائط التي هي العناصر الأربعة النار والهواء والماء والتراب، فمن هذه تتركب تلك فالذهب معدن مركب قطعا وقصارى الأمر أنه لم يدرك تحليله؟!
وأخيرا لست أخفي على القارئ الكريم ما لا أستطيع إنكاره، أو يمكن للتاريخ أن يسمح للباحث بإهماله، ولا أراه يصح للفائدة المرغوبة من كتابة التراجم إغفاله، وهو أن ترجمة أستاذ جيل ماضينا القريب وشيخ جماعة علمائه بمدينة الرباط تنقصها عدة جوانب عدلت عن إفادتك بها –الآن- اضطرارا واستيفاء لعناصر البحث ريثما أتمكن من معلومات زائدة كافية عنها تنير إلى السبيل وتعد ما يعوق الوصول إلى المقصد منها بنزاهة وموضوعية كقضية ولايته شؤون القضاء بالرباط سنوات تبتدئ من سنة (1323هـ-1906م) وتنتمي عام (1332هـ-1914م) وابتلائه فيه، ومنها تقديم صور دراسية وارتسامات استطلاعية عن جلساته الأدبية والعلمية في بيته وغيره التي كانت تمتلئ بنخبة تلاميذه وصفوة من أهل العلم والفضل، وما وقع فيها من مطارحات ومساجلات ومناظرات في النقد الحصيف والأدب العالي شعرا أو نثرا مما يزري ويفوق كثيرا من «الأسمار والأحاديث» المعروفة عن الأوساط العربية الأدبية المعاصرة.
وموعدي معك بحول الله وعونه في ترجمته المفصلة ضمن مجموعة «رواد النهضة في العالم العربي».
دعوة الحق
77 العدد
هذا وإني أقدم لقارئى العزيز كلمات تصف أستاذنا الكبير في حلقة دروسه نقلا عن أحد تلاميذه النجباء محمد بوجندار في كتابه «تعطير البساط بتراجم قضاة الرباط» وهي قوله: «فلقد تفرد بدمائه الأخلاق ولين العريكة وطلاقة الوجه وخفض الجناح للمستفيد مع ما أوتيه من حسن الالقاء وإتقان أسلوب التعليم وسعة الإملاء والحفظ وقوة الإدراك والفهم إلى ما حلى به من حيلة البيان والإيجاز البالغين حد الإعجاز ورشاقة العبارة الحائزة من النسيم لطاقته ومن الشهد حلاوته ومن الماء ملاسته».
نعم، فوصف مترجمنا بسعة الإملاء والحفظ وحسن الإلقاء ورشاقة العبارة كان لا يقتصر على مجالسه الخاصة بين طلبته فحسب، بل تجلى بأكمل من هذا وأمثل وأبلغ في المحافل العامة التي كانت تضم كبار العلماء وشيوخ الأمة – كما شهد الجميع في دروسه الحديثية باعتبار أنها كانت –دائما- تتم ببلاغة الإلقاء وجودة التعبير وروعة البيان مع حسن الاختيار، تلك الدروس التي كان يلقيها في المجالس الحفيظية أمام نخبة من علماء العدوتين وبعض علماء شنجيط الذين كانوا –حينذاك- بالرباط في ركاب المولى عبد الحفيظ لما كلف بإعطائها سنة (1330هـ-1912م) مناوبة يوما بيوم مع قاضي سلا الفقيه أبي الحسن علي عواد فكان محل إعجاب ودهشة واحترام زائد من حاضريها لما ظهر عليه من كثرة الاستحضار وغزارة الاطلاع
وقوة الملكة وجمال سبك الكلمات، وهو نفسه قد أحس بهذا التقدير الذي كان يغمر المجلس وشعر بسحائب الارتياح تموج في جوه وتملأه بئايات الثناء والتبجيل حيث عبر عن ذلك في كتابه «الدروس الحديثة في المجالس الحفيظية بقوله» حتى ظهر للحاضرين ما لم أكن أعهده في نفسي واستحضرت كل ما اطلعته وحصلت فتوحات زائدة حالة التقرير، وكأن ذلك كان يجري على لساني على سبيل البديهة حتى أن بعض شيوخي ممن كان يحضر المجلس بعد فراغي يقوم إلي ويقبل ما بين عيني»
ودرايته وإتقانه لأسلوب التعليم كان ذلك معروفا أيضا في الأوساط الخاصة العالية، فقد كلفه الخليفة المولى رشيد بن الملك عبد الرحمان لتعليم أولاده كما انتدبه لهذه الغاية الملك الهمام الحسن الأول في تربية بعض أنجاله بقبيلة امزاب، وكان في حياته التدريسية الخاصة والعامة شغوفا بالاطلاع دؤوبا على المراجعة والتحقيق منكبا على عيون الأمهات والمراجع والمصادرة العليا يظهر أثر ذلك جليا للمستفيد في مجالسه المفعمة بغزير من المعلومات وكثير من الطرائف والنكات الحلوة والمفاكهات المحببة الطافحة بها كتب القدماء شعرية ونثرية التي –لا تخل بمقام هذه المجالس التي كان- دائما يسودها الوقار والهيبة ويحوط زواياها الهدوء التام فلا تسمع من أحاديث القوم الا هما ولا ترى أمامك إلا أعناقهم مثرئبة لوجهة الأستاذ الكبير بأعين محدقة وآذان مصغية لا تتسع أنظارهم للداخل والخارج متربصين بتطلع لما يلقيه عليهم من درر الفوائد وغرر الشوارد، وقد حكي لي عدد من تلاميذه أنهم لما كانوا يدخلون لمجلسه يشعرون بحلة خاصة تكتسيه من الروعة والاحترام للمكانة العلمية التي كان يتمتع بها من حاضريه، ولقوة شخصيته وسر جاذبيته – علاوة على ما كان يتخلل هذه الدروس من نوادر الأمثال والنظائر في الحديث والفقه واللغة والنحو والتاريخ والأدب وغيرها من المواضيع التي كان يهتم بها الطلبة آنذاك، وعزز هذه الحياة المليئة العريضة وقوى مكانتها وخلد ذكرها بالتأليف فترك ما يربو على ستين مؤلفا جلها تام ترمي معنوياتها لهذه الفنون، كما خلف ركاما جيدا من صحف عديدة تشتمل على قصائد وأزجال وموشحات وفوائد علمية ورسائل متنوعة يجب أن تجمع وتنسق وتدرس دراسة تحليلية متأنية لكي تتضح شخصية مترجمنا في مظهرها المنير القوي بأوضح وأجلى مما ابنته، وتبرز جوانبها الثقافية المختلفة بأكمل وأعلى مما اجزته في هذه العجالة، ولا بأس من إيراد أسماء بعض مؤلفاته هنا كأمثلة لقارئي العزيز عن إنتاجه القيم وهي: «الأزهار المهصورة من رياض المقصورة» «مقصورة المكودي» «منح الأوطار من نفح العطار» «رائية حسن العطار» «لمحات المزية من نفحات الهمزية» «همزية البوصيري»«هامية الطرب في شرح لامية العرب» «شافية الدجم في شرح لامية العجم» «الاستسعاد بقصيدة بانت سعاد» «الحلل المجوهرة على الجوهرة» «جوهرة اللقاني» «معراج الراقي على ألفية العراقي في المصطلح» «منح المنية في شرح الكنية» «شرح رسالة الوضع» «شرح الجمل للمجراد» «شرح صغرى السنوسي» «شرح البيقونية في مصطلح الحديث» «شرح حزب الفلاح للجزولي» «حكم الموطأ» «نظم في علم العروض وشرحه»، إلى غير ذلك من المؤلفات الدالة على مشاركته في جميع الفنون الرائجة في بيئته العلمية، والمهتم بها في أوساط الطلبة والمعنى بها للتحصيل والتخريج في عصره.
ولقد تقلد مترجمنا الكبير عدة وظائف مخزنية وغيرها في مراحله الأولى من حياته الحافلة كان لها تأثير عميق ومدى بعيد في مجالاته ومسالكه وتطوره وتفتح ذهنه اكتسبه حنكة ودرية، أعظمها أثرا في نفسه وأكثرها مفعولا خدمته ككاتب خاص لممثل الحكومة المغربية أمام سفراء الدول الأجنبية بطنجة ونائب لممثل الحكومة المغربية أمام سفراء الدول الأجنبية بطنجة ونائب الملك المفوض بها السيد محمد بركاش، فلقد قضى في هذا الوظيف نحو العشر سنين تبتدئ من سنة (1290هـ - 1872م) تجول خلالها ببعض البلدان الأوربية كإسبانيا، ذهب إليها رفقة النائب للمؤتمر الدولي المنعقد بمدريد سنة (1297هـ-1880م) وزار أيضا فرنسا وأقام بباريز ما يزيد على الثلاثة اشهر تعرف على معالمها ومآثرها العظيمة ومصانعها العلمية كما سافر للبلاد الإنجليزية، وبطبيعة الحال اكتسب من هذه الزيارات معارف جديدة لم تكن له معهودة، واستفاد منها عادات غريبة لم تكن لديه مألوفة عن العالم المتمدن، ولا شك أنه اغتنم فرصا ثمينة من رحلته لزيارة معلوماته عن ساسة هذه البلاد وملوكها –عن كثب- الطامحين في تأسيس الإمبراطوريات والطامعين اذ ذاك – بنهم وشره في التوسع والاستعمار، واطلع على اشتداد تآمرهم على وطنه وقوة تنافهم –وقتذاك- في احتلاله بدعوى المساعدة التمدنية للقضاء على أسباب التخلف وإرجاع الأمن لربوع البلاد والعمل على تقديم الشعب في طليعة الركب المدني كما زعموا.
أجل وفي هذه الفترة التي قضاها بمدينة طنجة في أوج شبابه ومبدأ زهرة عمره الذي كان يطل فيها على كهولة ناضجة واعية – تعتبر- مرحلة فاضلة غنية مثمرة عن مراحله الأولى من حياته حيث لم تدعه نفسه الطموحة أن تكون هذه الحياة رتيبة جامدة مقتصرة على تحبير المكاتب وتذبيج الرسائل بصورة مهنية بل انغمر في عالم الأدب واندفع إليه بوازع ذاتي تقوده رغبة ملحة وشوق إلى مطالعة عيون كتبه وأجود دواوين شعره، وحبب إليه بصفة خاصة من دنيا البيان قافية ابن الونان، فاشتغل بها وعلق عليها وجعلها كمحور يدور حول اختيارات مطالعته الأدبية فانتج لنا بهذا العمل كتابا ظريفا ممتعا يكتنز اقتطافات ولقطات مفيدة من الأدب والتاريخ واللغة وغيرها أسماه «اقتطاف زهرات الافنان من دوحة قافية ابن الونان» وفي نسخة منه بخط السيد محمد بن محمد الجندوز مؤرخة النسخ بسنة 1315هـ عليها تصحيحات بقلم القنصل الفرنسي لريش المستعرب الشهير ومساعدة الفقيه الجيلالي صندال أحد تلاميذ مترجمنا مذكور في آخرها «وكان تمام تقييده بعد العشاء الأخيرة من يوم السبت عشر شهر رمضان المعظم عام تسعة وتسعين ومائتين وألف في محروسة ثغر طنجة كلأه الله» فيظهر من هذا التاريخ ويلوح من مفهومه أنه كان يقضي أوقات فراغه طول المدة التي قضاها بهذه المدينة وقبلها أيام بدايته في الطلب بالمقاصد الأدبية وما تقتضيه من العلوم العربية كما نص على ذلك في مقدمة هذا الكتاب حيث قال «فلما من الله سبحانه علي وأتم نعمته لدي بأفضل النعم بعد الإيمان به، وهو النظر في العلم الذي لا مرية في جلالة منصبه، اذ به يحصل التمييز بين أفراد النوع الإنساني، ويدرك به من خير الدارين غاية الأماني، كان من جملة ما تعاطيته نبذة من العلوم العربية وبعض المقاصد الأدبية اذ هو من الوسائل التي لا غنى لطالب العلم عنها ولا محيد له عن التزود منها» حقا في هذه النصيحة التي تدعو لتكوين الطالب تكوينا ذاتيا فهي –كما يقول- مترجمنا المعلم المرشد لا يمكن لأي طالب في فن من الفنون الغنى عن الأدب والعزوف عن الاهتمامات بمواضعه أو الزهد في تعاطيه ولا محيد له عنه أثناء دراسته لخروجه من النطاق المحلي لتقبل المعارف على اختلاف المشارب وتباين المصادر، فهو الوسيلة الكبرى والمفتاح الوحيد والعين النقادة لمن أراد أن يقتحم كنوزها ويقوى على امتلاك الجيد منها ويستطيع أن يتغلب على نبذ التافه منها والزائف، وبها تتفتح المدارك وتتفتق الأذهان وتجود الأقلام للتعبير عن مضامين البيان، وبفضلها تنتشر أعوص مسائل العلوم وتهضمها أبطأ الفهوم وتروج بين عامة المثقفين وأنصاف المتعلمين.
ولما انقضت مهمته التي أنيط به عملها لدى النائب المفوض بمدينة طنجة قفل لمدينة الرباط مقر نشأته واستقر بها مدة ثم بعدها اتخذ رحلته للمدن المغربية ذات المعاهد العلمية –استكمالا لما استفاده واعتبر به من رحلاته السابقة –زار مراكش وفاس ومكناس، فاجتمع مع علمائها واستجاز بعض شيوخها، وفي سنة (1304-1886م) رغب أن يتم مقاصده في رحلته لبعض بلدان الشرق العربي وأن يجعل مسعاه الأول أداء فريضة الحج فذهب أولا إلى الأصقاع الحجازية فاتصل بأهل العلم فيها وأخذ عنهم واستجازهم ثم بعد ذلك رحل للبلاد المصرية فزار القاهرة والاسكندرية واجتمع برجالاتهما وتعرف بالمعالم والمآثر والمعاهد، وتطلع على نهضتها العلمية وحركتها التقدمية العمرانية ثم رجع لبلده مزودا بكل جيد من الطريف والتليد ومسلحا بما يغنيه ويزيد في معناه من كل معلوم مفيد، ليتصدر التدريس ويتفرغ للتأليف، وينقطع لبث العلم ونشره، ولقد كانت رحلاته للشرق والغرب أثرا عميقا في نفسه وعاملا قويا في تفتح ذهنه واتساع مداركه وتحرره من الجمود الداعي للنفور من تقبل المعارف الحديثة، فاعتاد مطالعة الصحف السياسية والمجلات العلمية وغيرها كما جعل ديدنه مطالعة الكتب العصرية ذات الجودة والمتانة على اختلاف فنونها واعطاها قيمتها وأهميتها من بين كتبه الصفراء يعلق عليها ويلاحظ، فلقد عثرت على نسخة كان يملكها – من كتاب «كنز العلوم واللغة» لفريد وجدي عليها تعاليق في هامشها بخط يده، انقل لقارئي العزيز منها ثلاثة تعاليق تعطيه صورة مقربة لثقافة المترجم المتنوعة، أولها تتعلق بتاريخ المغرب في العصر العلوي، ففي مادة «الجزائر» ذكر وجدي أن سلطان المغرب اتحد مع الفرنسيين على محاربة الأمير عبد القادر وصده عن الالتجاء إلى الصحراء فاضطر الأمير للتسليم وكان ذلك سنة (1848م) فرد عليه بقوله لم يتحد معهم وإنما ارتكب أخف الضررين هو عدم السماح للأمير بالدخول للبلاد حفظا عليها لعدم وجود قوة كافية بها اذ ذاك، وثانيها تدل على تشينه في تاريخ رجالات صدر الإسلام، ففي مادة (ابن عمر) ذكر أن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما توفي سنة 63هـ «فرد عليه بقوله فيه نظرا لأنه تبت في الصحاح أن ابن عمر بايع عبد الملك بن مروان والتاريخ المذكور هو زمن يزيد بن معاوية، وثالثها تتعلق بالتحليل الكيماوي وللعناصر المركبة منها المعادن ففي مادة «الكيمياء» ذكر وجدي «إن الذهب معدن بسيط غير مركب لم توجد آلة ولا واسطة للآن لتحليله حتى تعلم مركباته فكيف يمكن تركيبه بل كيف يمكن تركيب ما لا تعلم أجزاؤه المركبة له» فرد عليه بقوله فيه نظر لأن الحكماء اطبقوا على أن الحيوان والنبات والمعدن كلها مركبة ويسمونها المركبات الثلاثة في مقابلة البسائط التي هي العناصر الأربعة النار والهواء والماء والتراب، فمن هذه تتركب تلك فالذهب معدن مركب قطعا وقصارى الأمر أنه لم يدرك تحليله؟!
وأخيرا لست أخفي على القارئ الكريم ما لا أستطيع إنكاره، أو يمكن للتاريخ أن يسمح للباحث بإهماله، ولا أراه يصح للفائدة المرغوبة من كتابة التراجم إغفاله، وهو أن ترجمة أستاذ جيل ماضينا القريب وشيخ جماعة علمائه بمدينة الرباط تنقصها عدة جوانب عدلت عن إفادتك بها –الآن- اضطرارا واستيفاء لعناصر البحث ريثما أتمكن من معلومات زائدة كافية عنها تنير إلى السبيل وتعد ما يعوق الوصول إلى المقصد منها بنزاهة وموضوعية كقضية ولايته شؤون القضاء بالرباط سنوات تبتدئ من سنة (1323هـ-1906م) وتنتمي عام (1332هـ-1914م) وابتلائه فيه، ومنها تقديم صور دراسية وارتسامات استطلاعية عن جلساته الأدبية والعلمية في بيته وغيره التي كانت تمتلئ بنخبة تلاميذه وصفوة من أهل العلم والفضل، وما وقع فيها من مطارحات ومساجلات ومناظرات في النقد الحصيف والأدب العالي شعرا أو نثرا مما يزري ويفوق كثيرا من «الأسمار والأحاديث» المعروفة عن الأوساط العربية الأدبية المعاصرة.
وموعدي معك بحول الله وعونه في ترجمته المفصلة ضمن مجموعة «رواد النهضة في العالم العربي».
دعوة الحق
77 العدد