ا
ابراهيم عنان
العام ( 1982) عام محوري في حياتي وبطريقة ما كان عام ميلاد وموت، فيه ولدت أشياء وماتت أشياء. في ذلك العام وقعت في يدي قبل امتحان الشهادة الثانوية رواية (طيران فوق عش الوقواق) التي كانت مفاجأة لم أستطع مقاومتها، وكادت تصبح بديلا للكتب الدراسية، فلجأت إلى حل:أن أقرأ الكتب المدرسية خلال النهار
والمساء أي مادمت مستيقظا، وفي الوقت المخصص للنوم سوف أسمح لنفسي بقراءة الرواية في السرير مقتطعا وقتا من حصة النوم، لكنني صرت أذهب للسرير، مقتطعا من وقت الاستيقاظ معلنا نهاية وقت الدراسة بوقت مبكر على اليوم الذي سبقه ، والذي سبقه ، والذي سبقه ، متشوقا لمعرفة ما الذي طرأ بين الممرضة الكبيرة في الرواية وبين (ماكمورفي) النزيل الجديد في المشفى الذي تدور احداث الرواية فيه، وكل يوم يزداد الوقت الذي أمضيه في السرير قبل أن أغفو، مقتطعا وقتا من فترة النوم ثم أستيقظ في اليوم التالي في وقت متأخر وأنا أهجس بالرواية لا بالدروس التي قرأتها: "في جانب من جوانب الغرفة يتجمع المرضى الذين أطلق عليهم اسم (المبرحين) لأن الأطباء يعتبرونهم مرضى لدرجة تسوغ بقاءهم ، يمارسون مصارعة الأيدي وألعاب الورق يتحرك المبرحون كثيرا ويتبادلون الأخبار والنكات ويكتبون الرسائل بأقلام رصاص.. ويخفون ضحكاتهم بين قبضاتهم فلا أحد يجرؤ على إفلات ضحكة وإلا...حضر المشرفون وأحضروا دفاتر ملاحظاتهم والعديد من الأسئلة" الصفحة (28).." في هذا الوقت كانت إسرائيل قد أعلنت الحرب على الفدائيين في لبنان والذين كانوا حلم طفولتنا، لقد كبر الحلم أذن وأصبح حقيقة؟ وإلا هل كانت إسرائيل سترسل كل تلك القوات إلى بيروت..؟ وهل كان العالم سيتابع الأنباء مذهولا ؟ ننام ونفيق ونتابع الحرب بقوة الحلم نفسه في قائظة النهارات الحزيرانية. لم تكن المرة الأولى التي تشن فيها إسرائيل عدوانا، فقد شنت عدوانا على لبنان في العقد الذي قبله، وعلى البلدان العربية في العقد الذي قبله والذي قبله.. لكن هذه المرة مختلفة لأن إسرائيل تشن حربا على الطرف الذي كانت تتجاهله وتعتبره غير موجود: الفلسطينيون، وهو الطرف الذي كنا منذ الطفولة نراه في كل مكان في منفاه وفي كل الأشياء، في الملصقات والعمليات الفدائية والأناشيد وكنا نصدق ذلك ونراه بعيوننا الداخلية تقول الاغنية / لو ميت دبابة قدامي / ولو ميت طيارة من فوقي/ وهاهي اسرائيل تزج مئات الدبابات باتجاه بيروت وتحلق مئات الطائرات في سماء لبنان منعت أي شيء من التحرك ، وفي إحدى العمليات القديمة ،تسلل الفدائيون لمبنى في فلسطين واشتبكوا مع الجنود الإسرائيليين حتى الموت. استشهد كل واحد في طابق من المبنى ودخل جنود الصهاينة وراحوا يحملون كل جثة ويطوحون بها ثم يلقون بها من النافذة إلى أن ترتطم على الأرض، من الطابق الثاني والثالث.. أمام الكاميرات ثم أوقد الجنود نارا، وتركوا المواطنين الفلسطينيين يتحلقون لمشاهدة ما يجري ثم القوا جثث الفدائيين فوق النار وإحرقوها، وقد عرضت التلفزيونات هذا ورأيناه وكنا أطفالا و الأطفال لايغفرون. أما الذين يكبروننا سنا فلم يكونوا أقل تعاطفا مع المأساة لكنهم كانوا يرون بعيون رؤوسهم أن الحرب ستكون في مكان آخر وبوسائل أخرى تاركين لنا وللمراهقين متابعة الأناشيد وعند اندلاع هذه الحرب حاولوا فهم سير الأحداث مثل أبناءهم وأخوتهم الصغار،لكن الوقت فاتهم. يقول (ماكمورفي) البطل في الرواية : " لم أر شلة يلوح عليها الفزع مثلكم ياجماعة.. هل تعلمون؟، الشيء الوحيد الذي لفت انتباهي في هذا المكان انه خال من الضاحكين.. هل تعرفون هذا ؟ حين تفقدون ضحكتكم تهتز أقدامكم على الأرض. الرجل منكم يذهب بعيدا في السماح لامرأة "- يقصد الممرضة الكبيرة- " أن تعتليه حتى لا يصبح قادرا على الضحك فيفقد بذلك أحد جوانب قوته ".. في الرواية يضع المؤلف السرد على لسان هندي أحمر، الضحية الأساسية للنظام الأمريكي: (برومدن) ولقبه الزعيم لأن والده كان زعيم قبيلة اسمه برومدن، وهو يلاحظ كل ما يحدث من حوله مدعيا أنه أصم وأخرس وفي الوقت نفسه يستعيد ذكريات عن القبيلة قبل أن يضيع كل شيء أمام المستوطنين البيض، والآن هو نزيل مشفى الأمراض النفسية، عمله حمل مكنسة وتنظيف الأرض ويسمونه لذلك : الزعيم المكنسة لأن النظام، أو الاتحاد، أو،كما تقول الرواية..(الائتلاف) يجده غير متلائم مع المجتمع. ويشير إلى والده في ذكرياته بـ(بابا) : "كان بابا يجلس القرفصاء كآلهة المراعي يحدق في السماء حين ظهر رجال الحكومة للمرة الأولى.."..واستمر السباق.. بين الرواية التي تدور في مشفى المجانين والتي أقرأها ليلا، والامتحان خلال النهار، والمعركة حول بيروت في النهار والليل. خارج الرواية كنا مذهولين من انعكاس أحلامنا هذه المرة على أرض الواقع، الفدائيون لن يهربوا من بيروت وهو ما يطابق توقعاتنا، وكان عرض إسرائيل باستسلام الفدائيين وخروجهم امنين من المدينة في الاذاعات نرد عليه من غرف المعيشة وغرف النوم ونحن نستمع إلى الراديو: لا هروب ولا استسلام وتنقل الاخبار رفض المنظمة كل العروض بالاستسلام وتقبل الحرب ..تقول الـ(بي.بي.سي) :" يلاقي الإسرائيليون مقاومة شديدة جدا" ونضحك نحن بينما أهالينا واجمين فقد توقعوا عدم نشوب حرب طويلة لانهم توقعوا ان تحقق اسرائيل مطالبها في الايام الاولى ، ونحن نضحك لأن حلمنا ينعكس على وكالات الأنباء.. يروي (برومدن) الهندي الاحمر في الرواية: "وعلى مبعدة من (المبرحين) تقبع حثالة نتاج الائتلاف وهم (المزمنون) وهؤلاء ... ليسوا بالمشفى للشفاء، بل لإبعادهم عن التسكع في الطرقات وإلحاق الأذى بسمعة النتاج. وينقسم المزمنون الى (المشاة) من أمثالي الذين لايزال بوسعهم السير على اقدامهم اذا تلقوا غذاء منتظما والمشاة بدواليب ثم ..البلداء. والمزمنون، او جميعنا.. ليسوا سوى آلات تعاني في داخلها من خلل عصي، خلل موروث، خلل..الخ"(28) ..
تلتقي الإذاعة نفسها مع قيادي فلسطيني يجيب على الأسئلة في ضوء تهديد اسرائيل باقتحام المدينة بجيشها اذا لم يستجب الفلسطينيون للطلبات بجواب أخير، بعد أسابيع على الحصار : "..نحن لن نخرج من بيروت وإذا كان الإسرائيليون يرغبون بالدخول إليها فسوف نرحب بهم.." ويقول مضيفا بسخرية :"..أهلا وسهلا.." ساخرا من القوة الوحشية فلم تستطع الدبابات الإسرائيلية عبور بوابة المتحف وهي النقطة الفاصلة بين بيروت الشرقية والغربية وكانت كل يوم ترتد على أعقابها.. ياإلهي.. شكرا لك، لم يسبق أن تألقت الضحية أمام الجلاد بمثل هذا التألق، لم نحلم بأكثر من هذا، ياإلهي.. لامزيد.. ألم يقل محمود درويش:" أنا لم أسألك عبئا هيناً / ياإلهي أعطني ظهرا قوياً"هذا ظهر قوي.. والعبء ليس هينا، وظهورنا لن تنحني لقد مضى شهر ونصف شكرا للذين يتحملون وطأة أحلامنا،أنتم أيها الفلسطينيون.. فأنتم ملح المأساة (فإذا فسد الملح.)..لم يتوقع آباؤنا مواجهة كهذه لم يكونوا يأملون شيئا لقد اعتادوا على الخيبة ، خيبة العام 67 التي يحملونها معهم وهم يكبرون اما نحن فقد كبرنا بعدها والآن يجاري الاباء أولادهم بالإصغاء إلى الأنباء، والأنباء تتطابق مع توقعات أولادهم، وقائد الجيش الاسرائيلي اصيب بالتوتر لانه لم يجرؤ على تنفيذ تهديده واكتفوا بقصف المدينة قصفا مرعبا من الخارج ..على الجميع أن يعرفوا أن أحلام الأولاد ليست عبثا..لكن كان لابد من شرخ في صورة البطولة التي كنا نراها..كانت الضغوط هائلة كيلا تنتشر روح المقاومة في الانحاء وهكذا بعد ثلاثة أشهر قبل الفدائيون وقف اطلاق النار والخروج من المدينة واقترح البعض القتال حتى الموت ولكن ..قامت الدول العربية بتوزيع الفدائيين فيما بينها وفي الرواية لم تعد ادارة المشفى والممرضة القوية قادرة على تحمل روح التحدي التي ينشرها ماكمورفي بين المبرحين بل المزمنين فأخذوه الى دكان الصدمة لتعريضه كعقوبة للصدمة الكهربائية وأعادوه لكنه لم يخضع وعرف انه صار رمزا للمقاومة عند جميع المرضى فعرضوه بشكل متكرر للصدمة الكهربائية إلى أن فقد قواه ووعيه وأخرجوه وتركوه ممدا كالمزمنين في غرفة المرضى لكي يتعلموا الدرس لكن (برومدن) المزمن الذي أحبه يرفض هذه النهاية ولا يسلم بها على الرغم انه كان مراقبا سلبيا فقد صارت لديه هو ايضا روح مقاومة على طريقته وفي النهاية يقترب الهندي (برومدن ) حتى يخنق صديقه (مكمورفي) المحطم لكي تبقى صورته بعد أن أصبح بطلا في نظره ، وفي لمحة اخيرة يبتسم ( ماكمورفي) لـ(برومدن) وهو خائر القوى ..تشجيعا له.. أي انه يوافق على حرمان الادارة من تشويه البطولة حتى لو كان ثمنها موته يقتله برومدن لكي تبقى صورة البطل دون تشويه ويهرب برومدن للمرة الاولى يهرب من مستشفى المجانين.. وبالنسبة لي توقعت ان لا انجح في امتحان الثانوية العامة لكنني نجحت وذهبت للجامعة في دمشق وحتى اليوم اعود للقراءة في الروية بشكل متكرر..
ابراهيم عنان
والمساء أي مادمت مستيقظا، وفي الوقت المخصص للنوم سوف أسمح لنفسي بقراءة الرواية في السرير مقتطعا وقتا من حصة النوم، لكنني صرت أذهب للسرير، مقتطعا من وقت الاستيقاظ معلنا نهاية وقت الدراسة بوقت مبكر على اليوم الذي سبقه ، والذي سبقه ، والذي سبقه ، متشوقا لمعرفة ما الذي طرأ بين الممرضة الكبيرة في الرواية وبين (ماكمورفي) النزيل الجديد في المشفى الذي تدور احداث الرواية فيه، وكل يوم يزداد الوقت الذي أمضيه في السرير قبل أن أغفو، مقتطعا وقتا من فترة النوم ثم أستيقظ في اليوم التالي في وقت متأخر وأنا أهجس بالرواية لا بالدروس التي قرأتها: "في جانب من جوانب الغرفة يتجمع المرضى الذين أطلق عليهم اسم (المبرحين) لأن الأطباء يعتبرونهم مرضى لدرجة تسوغ بقاءهم ، يمارسون مصارعة الأيدي وألعاب الورق يتحرك المبرحون كثيرا ويتبادلون الأخبار والنكات ويكتبون الرسائل بأقلام رصاص.. ويخفون ضحكاتهم بين قبضاتهم فلا أحد يجرؤ على إفلات ضحكة وإلا...حضر المشرفون وأحضروا دفاتر ملاحظاتهم والعديد من الأسئلة" الصفحة (28).." في هذا الوقت كانت إسرائيل قد أعلنت الحرب على الفدائيين في لبنان والذين كانوا حلم طفولتنا، لقد كبر الحلم أذن وأصبح حقيقة؟ وإلا هل كانت إسرائيل سترسل كل تلك القوات إلى بيروت..؟ وهل كان العالم سيتابع الأنباء مذهولا ؟ ننام ونفيق ونتابع الحرب بقوة الحلم نفسه في قائظة النهارات الحزيرانية. لم تكن المرة الأولى التي تشن فيها إسرائيل عدوانا، فقد شنت عدوانا على لبنان في العقد الذي قبله، وعلى البلدان العربية في العقد الذي قبله والذي قبله.. لكن هذه المرة مختلفة لأن إسرائيل تشن حربا على الطرف الذي كانت تتجاهله وتعتبره غير موجود: الفلسطينيون، وهو الطرف الذي كنا منذ الطفولة نراه في كل مكان في منفاه وفي كل الأشياء، في الملصقات والعمليات الفدائية والأناشيد وكنا نصدق ذلك ونراه بعيوننا الداخلية تقول الاغنية / لو ميت دبابة قدامي / ولو ميت طيارة من فوقي/ وهاهي اسرائيل تزج مئات الدبابات باتجاه بيروت وتحلق مئات الطائرات في سماء لبنان منعت أي شيء من التحرك ، وفي إحدى العمليات القديمة ،تسلل الفدائيون لمبنى في فلسطين واشتبكوا مع الجنود الإسرائيليين حتى الموت. استشهد كل واحد في طابق من المبنى ودخل جنود الصهاينة وراحوا يحملون كل جثة ويطوحون بها ثم يلقون بها من النافذة إلى أن ترتطم على الأرض، من الطابق الثاني والثالث.. أمام الكاميرات ثم أوقد الجنود نارا، وتركوا المواطنين الفلسطينيين يتحلقون لمشاهدة ما يجري ثم القوا جثث الفدائيين فوق النار وإحرقوها، وقد عرضت التلفزيونات هذا ورأيناه وكنا أطفالا و الأطفال لايغفرون. أما الذين يكبروننا سنا فلم يكونوا أقل تعاطفا مع المأساة لكنهم كانوا يرون بعيون رؤوسهم أن الحرب ستكون في مكان آخر وبوسائل أخرى تاركين لنا وللمراهقين متابعة الأناشيد وعند اندلاع هذه الحرب حاولوا فهم سير الأحداث مثل أبناءهم وأخوتهم الصغار،لكن الوقت فاتهم. يقول (ماكمورفي) البطل في الرواية : " لم أر شلة يلوح عليها الفزع مثلكم ياجماعة.. هل تعلمون؟، الشيء الوحيد الذي لفت انتباهي في هذا المكان انه خال من الضاحكين.. هل تعرفون هذا ؟ حين تفقدون ضحكتكم تهتز أقدامكم على الأرض. الرجل منكم يذهب بعيدا في السماح لامرأة "- يقصد الممرضة الكبيرة- " أن تعتليه حتى لا يصبح قادرا على الضحك فيفقد بذلك أحد جوانب قوته ".. في الرواية يضع المؤلف السرد على لسان هندي أحمر، الضحية الأساسية للنظام الأمريكي: (برومدن) ولقبه الزعيم لأن والده كان زعيم قبيلة اسمه برومدن، وهو يلاحظ كل ما يحدث من حوله مدعيا أنه أصم وأخرس وفي الوقت نفسه يستعيد ذكريات عن القبيلة قبل أن يضيع كل شيء أمام المستوطنين البيض، والآن هو نزيل مشفى الأمراض النفسية، عمله حمل مكنسة وتنظيف الأرض ويسمونه لذلك : الزعيم المكنسة لأن النظام، أو الاتحاد، أو،كما تقول الرواية..(الائتلاف) يجده غير متلائم مع المجتمع. ويشير إلى والده في ذكرياته بـ(بابا) : "كان بابا يجلس القرفصاء كآلهة المراعي يحدق في السماء حين ظهر رجال الحكومة للمرة الأولى.."..واستمر السباق.. بين الرواية التي تدور في مشفى المجانين والتي أقرأها ليلا، والامتحان خلال النهار، والمعركة حول بيروت في النهار والليل. خارج الرواية كنا مذهولين من انعكاس أحلامنا هذه المرة على أرض الواقع، الفدائيون لن يهربوا من بيروت وهو ما يطابق توقعاتنا، وكان عرض إسرائيل باستسلام الفدائيين وخروجهم امنين من المدينة في الاذاعات نرد عليه من غرف المعيشة وغرف النوم ونحن نستمع إلى الراديو: لا هروب ولا استسلام وتنقل الاخبار رفض المنظمة كل العروض بالاستسلام وتقبل الحرب ..تقول الـ(بي.بي.سي) :" يلاقي الإسرائيليون مقاومة شديدة جدا" ونضحك نحن بينما أهالينا واجمين فقد توقعوا عدم نشوب حرب طويلة لانهم توقعوا ان تحقق اسرائيل مطالبها في الايام الاولى ، ونحن نضحك لأن حلمنا ينعكس على وكالات الأنباء.. يروي (برومدن) الهندي الاحمر في الرواية: "وعلى مبعدة من (المبرحين) تقبع حثالة نتاج الائتلاف وهم (المزمنون) وهؤلاء ... ليسوا بالمشفى للشفاء، بل لإبعادهم عن التسكع في الطرقات وإلحاق الأذى بسمعة النتاج. وينقسم المزمنون الى (المشاة) من أمثالي الذين لايزال بوسعهم السير على اقدامهم اذا تلقوا غذاء منتظما والمشاة بدواليب ثم ..البلداء. والمزمنون، او جميعنا.. ليسوا سوى آلات تعاني في داخلها من خلل عصي، خلل موروث، خلل..الخ"(28) ..
تلتقي الإذاعة نفسها مع قيادي فلسطيني يجيب على الأسئلة في ضوء تهديد اسرائيل باقتحام المدينة بجيشها اذا لم يستجب الفلسطينيون للطلبات بجواب أخير، بعد أسابيع على الحصار : "..نحن لن نخرج من بيروت وإذا كان الإسرائيليون يرغبون بالدخول إليها فسوف نرحب بهم.." ويقول مضيفا بسخرية :"..أهلا وسهلا.." ساخرا من القوة الوحشية فلم تستطع الدبابات الإسرائيلية عبور بوابة المتحف وهي النقطة الفاصلة بين بيروت الشرقية والغربية وكانت كل يوم ترتد على أعقابها.. ياإلهي.. شكرا لك، لم يسبق أن تألقت الضحية أمام الجلاد بمثل هذا التألق، لم نحلم بأكثر من هذا، ياإلهي.. لامزيد.. ألم يقل محمود درويش:" أنا لم أسألك عبئا هيناً / ياإلهي أعطني ظهرا قوياً"هذا ظهر قوي.. والعبء ليس هينا، وظهورنا لن تنحني لقد مضى شهر ونصف شكرا للذين يتحملون وطأة أحلامنا،أنتم أيها الفلسطينيون.. فأنتم ملح المأساة (فإذا فسد الملح.)..لم يتوقع آباؤنا مواجهة كهذه لم يكونوا يأملون شيئا لقد اعتادوا على الخيبة ، خيبة العام 67 التي يحملونها معهم وهم يكبرون اما نحن فقد كبرنا بعدها والآن يجاري الاباء أولادهم بالإصغاء إلى الأنباء، والأنباء تتطابق مع توقعات أولادهم، وقائد الجيش الاسرائيلي اصيب بالتوتر لانه لم يجرؤ على تنفيذ تهديده واكتفوا بقصف المدينة قصفا مرعبا من الخارج ..على الجميع أن يعرفوا أن أحلام الأولاد ليست عبثا..لكن كان لابد من شرخ في صورة البطولة التي كنا نراها..كانت الضغوط هائلة كيلا تنتشر روح المقاومة في الانحاء وهكذا بعد ثلاثة أشهر قبل الفدائيون وقف اطلاق النار والخروج من المدينة واقترح البعض القتال حتى الموت ولكن ..قامت الدول العربية بتوزيع الفدائيين فيما بينها وفي الرواية لم تعد ادارة المشفى والممرضة القوية قادرة على تحمل روح التحدي التي ينشرها ماكمورفي بين المبرحين بل المزمنين فأخذوه الى دكان الصدمة لتعريضه كعقوبة للصدمة الكهربائية وأعادوه لكنه لم يخضع وعرف انه صار رمزا للمقاومة عند جميع المرضى فعرضوه بشكل متكرر للصدمة الكهربائية إلى أن فقد قواه ووعيه وأخرجوه وتركوه ممدا كالمزمنين في غرفة المرضى لكي يتعلموا الدرس لكن (برومدن) المزمن الذي أحبه يرفض هذه النهاية ولا يسلم بها على الرغم انه كان مراقبا سلبيا فقد صارت لديه هو ايضا روح مقاومة على طريقته وفي النهاية يقترب الهندي (برومدن ) حتى يخنق صديقه (مكمورفي) المحطم لكي تبقى صورته بعد أن أصبح بطلا في نظره ، وفي لمحة اخيرة يبتسم ( ماكمورفي) لـ(برومدن) وهو خائر القوى ..تشجيعا له.. أي انه يوافق على حرمان الادارة من تشويه البطولة حتى لو كان ثمنها موته يقتله برومدن لكي تبقى صورة البطل دون تشويه ويهرب برومدن للمرة الاولى يهرب من مستشفى المجانين.. وبالنسبة لي توقعت ان لا انجح في امتحان الثانوية العامة لكنني نجحت وذهبت للجامعة في دمشق وحتى اليوم اعود للقراءة في الروية بشكل متكرر..
ابراهيم عنان
التعديل الأخير بواسطة المشرف: