عادل بوديار - المقدس والمدنس في الرواية العربية المعاصرة..

تمهيد:
لا يزال موضوع المقدس والمدنس في الرواية العربية المعاصرة يشكل أحد أهم المواضيع المثيرة للجدل بين النقاد وعند القراء العرب، وعلى الرغم من المغامرة الجريئة التي خاضها بعض الكتاب في عصرنا إلا أن ذلك ظل يذر أسماء مكرورة دأبت على الطعن بإسفاف في الدين أو الخوض في تفاصيل جنسية لا علاقة لها بالحدث الروائي أو النيل من التاريخ السياسي للأمم دون التجرأ على الكتابة في الواقع السياسي، والمثير للدهشة أن المغامرات الروائية موضوع المقدس والمدنس كلها تنشد الأدب الذي من سماته الأساسة التمرد والجرأة والحق، وتدعي جميعا أنها تتجاوز الطابوهات، وتكشف المستور، وتتمرَّد على طقوس الكتابة الروائية.
قراءات تفكيكية لواقع معيش:
يكاد يجمع أصحاب الأعماله الروائية التي تخوض في موضوع المقدس والمدنس أن أعمالهم الروائية تمثل قراءات تفكيكية لواقع معيش، ولكنها مشحونة بانفعالات حادة تريد إنهاء صراع ظل قائما، وبكل الوسائل حتى وإن أفضى ذلك إلى جلد الذات جلدا مبرحا، بل إن حديثهم لا يكاد يخرج عن ثلاثية “الدين، والجنس، والسياسية”، وإن كان موضوعا الدين، والجنس أكثرها تمظهرا في أعمالهم الروائية، لما للموضوع الأول من جهة بحقيقة الدين وجوهره، ولما للموضوع الثاني من أنصار وراغبين، ولما للموضوع الثالث من حماة فلا يجرأ هؤلاء الكتاب ـ وإن إدعوا ـ أن يخوضوا في المواضيع السياسية الساخنة في عصرنا، وإنما يتوسلون بالتاريخ السياسي الذي ذهب حماته في انتظار ذهاب حماة الواقع السياسي في عصرنا أو تغير النطام.
ولبيان الفكرة أكثرسأتاول موضوع المقدس والمدنس في الرواية العربية المعاصرة بإفراد كل موضوع لوحده باختصار “الدين، والجنس، ثم السياسة، ولن أمثل بعنوان روية بعينها أو أذكر اسم كاتب أو راوٍ حتى لا أُتهم بالتشهير أو الإساءة إلى الفن والأدب، وإنما الدراسة ستكون بعيدة عن الذاتية وسأنشد الموضوعية ما أمكنني ذلك.
1. الـدين:
تكاد جلُّ الروايات التي تدور حول قضايا متعلقة بالدين الإسلامي تلح على إثارة قضية المرأة وعلاقتها بالرجل في المجتمع العربي الإسلامي الذي تضيق فيه حدود حرية المرأة في علاقتها بالرجل مقارنة مع الديانة المسيحية على سبيل المثال، وينطلق هؤلاء الروائيون في رواياتهم من إيديولوجيا تنظر إلى علاقة المرأة بالرجل على أنها علاقة متحررة طاغية عن كل الأعنة الدينية والاجتماعية؛ إذ الأيديولوجيا عملية ذهنية يقوم بها المفكر وهو واع، إلا أن وعيه زائف؛ لأنه يجهل القوى التي تحركه، ولو عرفها لما كان فكره أيديولوجيا، ذلك أن المبدع كناقد اجتماعي من حقه أن يقدم أفكاره ووجهة نظره بالكيفيّة التى يرى، ولكن عليه أن لا يبتلع الحقيقة أو أن يستعمل ما أمكنه من أجل طمس أفكار الآخرين أو مصادرة حقهم في أن يكون لهم انتمائهم وحساسيّاتهم، تحت ذريعة أن الغاية تبرر الوسيلة.
ويبدو أن موقف أصحاب الأعمال الروائية التي تخوض في موضوع المقدس والمدنس من الدين من خلال أعمالهم الروائية كثيرا ما يثير حساسية مفرطة تصل إلى حدِّ العدائية أحيانا، خاصة إذا حاولنا فهم نصوصهم الروائية في معزل عن الظروف التي يدورون فيها؛ فإذا كانت العمليّة الإبداعية تفرض على الكاتب أن ينطلق مما هو موجود في مجتمعه، فإن عليه أيضا ألا ينسى أنه يكتب لمجتمعه أيضا، ومن أجل ذلك عليه أن يعيد تشكيل بعض المواقف كنماذج سلوكيّة ليتخذها القارئ موقفا ورأيا ويرسم على إثرها مشهده الخاص، فالكاتب يكتب ومن حقه أن يكتب ما شاء، ولكن عليه أن يلطف أحكامه، وألا تكون ألفاظه أو أحكامه قصفا عشوائيا يُحدث الفزع في نفسية القارئ أو يثير إرباكا في ذهنه؛ إذْ الأحكام المتسرعة أو التهم الجاهزة أو الأفكار الحاقدة كلها مجتمعة يمكنها أن تحمل إعصارا مدمرا للإنسان والمجتمع معا، والأكيد أن أسوأ الأحكام ما كان مسيئا للعقيدة، مستهترا بأدبيّاتها.
2. الجنس:
يعدُّ حضور الجنس في الأعمال الروائية العربية عنصرا حيويا، ولكن قصور النظرة، وسوء المعالجة الذي نجده عند كثير من الكتاب جعل الجنس يخرج عن وظيفته الرئيسة في الحياة إلى مجرد عبثية غريزية لوصف تفاصيل الجسد، ورصد جزئيات العلاقة الحميمية، وهو ما جعل تلك الأعمال الرواية تسقط في هاوية الابتذال والسخف على الرغم من الشعارات الكاذبة التي يرفعها الروائيون والتي تتمدح بالحرية، وتعلي فكرة الفن للفن، وتصدح بمقول الأدب للأدب، وتمسرح الأمر بالمقولات الشيكسبيرية: “أنا أكتب إذن أنا موجود”…
ولكن كثيرا من الروائيين الذين يرددون هذا الشعارات اليوم بعيدين كل البعد عن دعاويهم، إذ نجد أنهم يسعون من وراء تطرفهم الايديولوجي إلى ركوب موجة “الكتابة على حائط الجسد”، فينفصلون عن قضايا مجتمعهم الكبرى، ويحاولون تقليد الغربيين في ملء روايته بمقاطع جنسية مخلة بالحياء في أكثر مشاهدها، ويصطنعون شخصيات وهمية مريضة تعربد في مستنقع الجنس المرذول، وتتمدح به عن أنه نوع من ممارسة الحب بعيد عن القيود الاجتماعية والدينية التي تحول دون التمتع باللذة الطبيعية في الحياة.
والمؤسف أنَّ الأعمال الروائية التي ركزت على تيمة الجنس بجرأة كبيرة، جعلت حبكتها السردية تدور حول فكرة أن العمل الروائي يمكنه أن يخزّن في الجسد دلالات التمرد على عباءة العرف الاجتماعي، فإننا نجد أن توظيف الجسد في تلك الروايات يشكل عنصر إثارة قوي تجاوز من خلاله الكتاب بقدر كبير حدود المجتمع الفاصلة بين مرفوضاته ومقبولاته؛ وحتى وإن سلمنا بمقول أن تطور الرواية العربية ونضجها يفرض عليها حتما معالجة قضية الجنس من خلال اختراق تيمة الاجتماعي إثر تفجير المكبوت، وفضح المسكوت عنه لدرء الذرائع، والوصول إلى الصراحة المطلقة التي تفضي إلى قول الحقيقة بعيدا عن الضغوط المختلفة، فإن ذلك لا يتحقق إلا بمواجهة السلوكيات الخاطئة التي يمارسها المجتمع في الستر، ويرفض الحديث عنها خاصة أن الثقافة العربية ـ للأسف الشديد ـ تنظر إلى المرأة على أنها مخلوق يرتهن وجوده بنوعية وظيفته في الحياة، ودرجة امتثاله للنهم الذكوري.
3. السياسة:
تكاد القضايا السياسية العربية الراهنة تغيب في الرواية العربية المعاصرة غيابا تامة، وهو غياب له مبرراته كما أسلفنا في بداية بحثنا؛ إذ نجد أن الروايات التي تناولت موضوع السياسة في العالم العربي يكون كتابها أحد الوجوه الثلاثة: مناصرون أو مُدْهِنون أو ناقدون، وإن كان المناصرين والمدهنين أكثر آدائية على ركح الحياة الإبداعية الروائية العربية، وأما الناقدون للسياسة العربية في أعمالهم الروائية فإنهم يتناولون مواضيع ذات علاقة بتاريخ السياسة ولا يكاد أحد منهم يجرؤ على ملامسة مناطق الظل التي لم يخض فيها المؤرخون أو ظل الحديث عنها يتداول في أروقة الظل.
وربما لن نجانب الحقيقة إذا قلنا إن كتاب الرواية العربية الذي تناولوا موضوع السياسة في العالم العربي فشلوا في توصيف الواقع العربي توصيفا صحيحا، وفوتوا على أنفسهم فرصة انتزاع الحقيقة من الواقع انتزاعا، وأركسوا بموالاتهم العمياء فلم يتقلدوا نياشين بطولة قول الحقيقة، وحرموا شرف تجاوز المحاذير السياسية التي كثير منها وهمي، وقليلها حقيقي والتي ستظل عائقا أمامهم إن لم يكتبوا لمجتمعهم، وهم متجردون من أفكارهم المغلوطة عن مجتمعاتهم، فلا يمكن لكتاب يعتقدون أن أفضل من قراءهم أن ينجحوا في توصيل الفكرة؛ لأن الإنسان المتكلم في الرواية هو دائما صاحب أيديولوجيا بقدر أو بآخر، وكلمته ـ هي دائما ـ قول أيديولوجي، واللغة الخاصة في الرواية هي دائما وجهة نظر إلى العالم تستدعي قيمة اجتماعية، والكلمة ـ قولا أيديولوجيا ـ هي التي تصبح موضوع تصوير في الرواية، لذلك كم يكون جميلا لو هدف الكتاب إلى تعرية الحقيقة باعتمادهم أسلوبا مؤسسا على شهوة الحكي التي تتموقع ما بين التاريخ والفانتستيك.



د. عادل بوديار: جامعة تبسة – الجزائر
 
أعلى