الأسعد العيّاري - الجنس في النصوص الدينية

تمثّل ثنائية الجسد والجنس في النصوص الدينية حقيقة جوهرية وثابتة رغم كثافة المحاذير الأخلاقية والسياسية والاجتماعية التي تجعل من الحديث عن هذا الموضوع خطابا مشروطا بالكتمان ومحفوفا بالإحراج والإقصاء. غير أنّ الدارس المتمعّن في النصوص المقدّسة يقف على نماذج متفاوتة من احتفال هذه النصوص المتعالية في أصل مصدرها بالجسد وبالجنس، وهو ما يدفعنا إلى فكّ شفرة الاندهاش من هذه المفارقة العميقة والقائمة بين نواميس العادة وتعاليم العبادة، كلّما تحرّرت الرؤية العقلية من عقال الميتافيزيقيا بتخصيص نصيب من تأويل النصّ للتشريع لحبّ الحياة وحيّز من دلالات النص للاعتراف بحاجة الجسد الجنسية. وكلّنا سعى لمقاومة القراءات الانطباعية التي باعدت بين المتعة الجنسية للجسد الإنســـاني والممــــــارسة الإيمانية للعقيــــــدة رغـــم ما نظفر به من إحالات دينية دالّة على عدم إقصاء الدين للذّة الجنسية في حياة الرجل والمرأة قدر إقصائه للّذة اللامشروطة والفوضوية المضادة للطبيعة الإنسانية والمحرجة للوجود الإنساني كلّما توغّلت هذه الممارسة في قوالب جنسية غير محدودة وغير مقيّدة بالمنطق الداخلي لنواة الثقافة الجنسية.

ظلّ مفهوم الجسد في الثقافة العربيـــة حبيس النصّ الفقهــــي والتشـريعي ومحــدّدا في وظائفـه وارتباطه الميتافيزيقي والسلوكي من جهة علاقته بالروح، أو من جهة وظيفته الجنسية أو العاطفية أو العملية، حيث احتلّ حيّزا بارزا في اهتمام الفقهاء وعلماء الكلام والفلاسفة المتصوّفة وإن بمنطلقات متفاوتة ومتباينة، ما أنتج تراكما كميّا ونوعيّا في مجال الدراسات التي عالجت موضوع حضور الجسد في النصّ الديني. وقد تراوحت النتائج التي خلصت إليها هذه الدراسات بين تمثّل الجسد فضاء فيزيولوجيا موسوما بالتحقير والتهميش وممارسة لاهوت من الإذلال في حقّه بما هو مكمن النوازع والغرائز والشهوات المادية، وبين اعتباره آية من آيات الذات المتعالية الدالة على العظمة والقدرة على الخلق: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» (التين {95/4}). وقد أشار إلى هذا المعنى عبد الرحمان بن ناصر السعدي بقوله: «..أي تامّ الخلق متناسب الأعضاء، منتصب القامة ولم يفتقد ممّا يحتاج إليه ظاهرا وباطنا شيئا...». كما تبدّى الجسد مفهوما ثقافيّا محمّلا بقابليّة التفكير في طرافته وجدّته لحظة تحريره من دائرة المحرّم والتعامل مع أبعاده الماديّة فاستقرّ موطنا فكريّا في مباحث التحليل النفسي والأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع متأصّلا في مجالات المتخيّل الجمعي بمختلف تمظهراته الأساسية وخاصيّاته الجمالية والجنسية والرمزية، حيث يتلخّص الجسد في مظاهره الجسدية والحركية، إذ كلّما كان الجسد قادرا على الفعل كلّما تحققّ الفرد من وجوده وأثبته ماديّا وفيزيولوجيّا.

الجسـد عـادة

مـن نوافـل القـول، أنّ الجسد يدخل في جدل لا متناه مع العالم الخارجي فيه يؤثّر وبه يتأثّـر. وأهميّة الجسد باعتباره أداة التواصل بين الفردي والدنيوي تتفاوت بحسب الظروف والمؤثّرات وطبيعة البنى الاجتماعية والثقافية فهو المدخل الرئيسي لأشكال التواصل كلّها مع الكون. وقد ذهب «ميشال فوكو» إلى القول بظاهرة تشكيل الجسد وفق مخطّط هدفه الرئيسي تحويل هذا الجسد إلى مصدر إنتاج محصورة خصائصه في توفير قوّة للعمل مضاعفة تجسّد تتويجا لآفاق الثورات العلمية والتكنولوجية الحديثة. كما تبدّى الجسد محاصرا بعلامات ورموز لم تقتصر على تصويره موضوعا للرغبة في ذاتها وإنّما صاغته آلية لإشباع مختلف الرغبات المرغوب فيها وغير المرغوب فيها على حدّ السواء، فصار النموذج المرجعي للجسد من وجهة الاقتصاد السياسي ممثّلا في عارضة الأزياء التي يعتبرها «رولان بارط» فضلا عن وظيفتها الجمالية الكامنة في اقتراح جسد جميل خاضع لقواعد معيارية تتعلّق بأنماط الجمال وتشكلاته، بأنّها علامة دالّة على إمكانات التبدّل والتشكّل التي يوفّرها جسدها لبقيّة الأجساد الأخرى، فتمّ استبدال عبادة الروح بعبادة الجسد على حدّ قول المفكر «جون بودريار». ولعلّه في قصة «يوسف» التوراتية أو الإسلامية أوضح الشواهد تجسيما لدلالة الجسد القائمة على معنى اكتساب الإنسان لمدنيته وإدراكه لجـوهر وجـوده.

ومن خلال هذا الطرح يتّضح لنا أنّ الجسد ظلّ مفتوحا في دراسات علم النفس والأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع على إمكانات متعددّة من التعامل والتفاعل مع المحيط المادي عبر علاقات مباشرة بجميع مراحل الوجود البشري.

الجسـد عبـادة

جاء الخطاب الديني مناف لكلّ الرّؤى التي أسهمت في تحقير الجسد وتكريس هويّته في أبعاده الدنيويّة الصرفة من جهة حدّ وظائفه في إشباع الغريزة أو التحريض على الانقياد إلى تلبية الحاجات البيولوجية لدى الفرد، حيث يتجلّى الجسد في الرؤية الإسلامية رمزا شكليا لتجليّات الإعجاز الإلهي وإثبات إعجاز الخلق لجسد جاء في تركيب قويم ومعتدل في أحسن الأشكال وأجمل الهيئات، «يا أيها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدّلك في أيّ صورة ما شاء ركّبك» (الانفطار: {72 /6-8}). وفي هذا الشاهد دليل سياقي على أنّ الجسد في الخطاب القرآني إنّما ورد للتدليل على معنى اعتباره آية وحجّة ودليلا على قدرة الخالق، ولم يرد الجسد في النص القرآني بمعزل عن التقنين والنمذجة وإنّما ورد محمّلا بجملة من السنن الأخلاقية والاجتماعية والرمزية، فهو جسد مكرّس لتكريس المقدّس من خلال إلزامه بممارسة مجموعة من الشعائر والعبادات وإخضاعه للقيام بواجبات الصلاة والصيام والحجّ، إذ الجسد من هذه الوجهة يمثّل رجعا لصدى العبادات والطقوس عبر تقنين مجمل حركاته اليومية الرامزة إلى تفاعل وتداخل الدنيوي مع الديني على حدّ قول «ج.ج ونينبرغر».لقـد صاغت النصوص التراثية المتّصلة بالسيرة النبوية مجموعة من المقولات التي تضبط حركات الجسد وحدود الانضباط بحسب معيار التماهي مع المثال النبوي من جهة كيفيّات الوضوء وطرائق أداء الصلاة وسلامة أداء مناسك الحج، فمن تماثل مع المثال النبوي تحقّق له الفوز بالتطابق مع التعاليم الإسلامية وما خالفه دخل في مجال الزيغ والضـلال.

تجليّات الجنس في النصوص الدّينية

تعتبـر دراسة الجنس في النصّ المقدّس من أبرز المتطلّبات المنهجيّة لقراءة دعائم ثقافة المجتمعات الإنسانيّة في تمثّلاتها للعالم، فالعمليّة الجنسيّة تعكس بوضوح استجابة الجسد الأنت لغريزة الشّهوة الطبيعيّة للجسد الأنت. كما تعكس أنماط التمثّلات المختلفة والمعارف التي تساعدنا على ضبط وتحليل الفعل الجسدي الذّي هو في النّهاية يتشكّل من أشكال دينيّة وأسطوريّة ورمزيّة قد تبدو متباعدة أومتقاربة داخل سياقات اجتماعيّة وتاريخيّة. وانطلاقا من هذا الترابط العميق بين الجنس والمقدّس وبخاصّة في اليهوديّة والإسلام فإنّ الضرورة المنهجيّة تقتضي تحديد موقع الجسد داخل الفعل الجنسي يعني جدلا ضبط حدود المحرّم من جهة وحدود الطاهر المباح من جهة أخرى، فكيف تعامل النصّ اليهودي مع العمليّة الجنسيّة بين الرجل والمرأة وما طبيعة الجدل القائم بين اليهوديّة والإسلام حول الفعل الجنسي للجسد وكيفيّات انتظامه ورسم حدوده وتخومه في مستوى التقاء النصّين في سرد قصّة «يوسف» وايرادها بطرائق قد تكون متواشجة حينا ومتفارقة في أحايين كثيـرة.

في العهد القديم: قصّـة يوسـف نمـوذجا

لقـد سعت النّصوص المقدّسة بمختلف مشاربها وخصائصها إلى إنتاج صور شتّى ترسم العلاقة الجامعة بين المرأة والرّجل، في مدار اللذّة الجنسيّة انطلاقا من تلك الصور البدئيّة التي استقرّت في الضّمير الإنساني والتي تروي قصّة «آدم وحوّاء» إلى جانب قصّة «سليمان» مع ملكة «سبـأ» وصولا إلى قصّة «يوسف»، ونقصّر البحث على قصّة يوسف لما فيها من دلالات رمزيّة تمنحنا مستويات عديدة من الإحالات الدالّة على منزلة الجنس وتجليّاته قي النصّ التّوراتي والنصّ القرآني باعتبار أنّ قصّة «يوسف» تمثّل عنصرا من العناصر المشتركة بين اليهوديّة والإسـلام. لقـد جاء التّوراة فجلب معه صورا متنوّعة من الشّواهد المعبّرة عن الجنس وألفاظا متعدّدة تحمل صفة الفعل الجنسي وتدلّ على الغزل الإباحي المباشر، حيث استحال «نشيد الإنشاد» بما هو أحد أسفار الكتاب المقدس من العهد القديم مصدر الغزل الجنسي الفاضح (الإنشاد، الإصحاح 7، الآية 1 - 9). ونظفر في سفر «الأمثال» بحديث جنسي فيه يحتفل النصّ بطقوسيّة الممارسة الجنسيّة من جهة ما تتطلّبه من تجهيز جمالي للفراش المعطّر حيث تقول امرأة متزوّجة لرجل: «بالدّيباج فرشت سريري بموشّى كتّان من مصر، عطّرت فراشي بمر وعود وقرفة، هلمّ نرتو ودّا إلى الصباح نتلذّذ بالحبّ لأنّ الرجل ليس في البيت».

كمـا لا يقتصر احتفاء التوراة بالجنس على إيراد الألفاظ الدّالة على معنى العملية الجنسية أو العبارات المثيرة للشهوة، وإنما يتعدّى الاحتفاء هذه الحدود السياقية ليطال حدود الدعوة إلى مباشرة الفعل الجنسي والتوصية به، «اسمعي أيتها الزانية قضاء الربّ من حيث أنّك أنفقت مالك وكشفت عن عريك في فواحشك لعشاقك... ها أنا أحشد جميع عشاقك الذين تلذّذت بهم، وجميع محبّيك مع كلّ الذين أبغضتهم، فأجمعهم عليك من كلّ ناحية وأكشف عورتك لهم لينظروا كلّ عورتك...وأسلّمك لأيديهم فيهدمون قبّتك ومرتفعة نصبك، وينزعون عنك ثيابك ويستولون على جواهر زينتك ويتركونك عريانة وعارية» (سفر حزقيـال، الإصحاح 16 الآية 35.). إنّ مثل هذه المرويّـات لا يمكن فهمها إلا بـــردمها داخـــل النســق الديني الذي تنتمـــي إليه، فهـــو الـذي ينظّم عـــلاقات المعاني ببعضها ويوزّعـــها في خــانة وظائفها المعنوية والرمزيّة.

ومن خلال المرويات الواردة في الكتاب المقدس لليهود نتبيّن أنّ الأخبار الدالة على العملية الجنسية لا تحيط بالعامة فحسب، وإنّما تصل الأنبياء أيضا على نحو الأخبار المتتالية التي صوّرت النبي «داود» في مواضع جنسية متنوّعة كأن يضاجع فتاة صغيرة: «وشاخ الملك داود تقدّم في الأيام، وكانوا يدثّرونه بالثياب فلم يدفأ، فقال له عبيـده: ليفتّشوا لسيّدنا الملك عن فتاة عذراء، فلتقف أمام الملك، ولتكن له حاضنة، ولتضطجع في حضنك فيدفأ سيّدنا الملك، ففتّشوا عن فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل فوجدوا «أبشيج السونمية فجاءوا بها إلى الملك» (سفر الملوك الأوّل؛ الإصحاح 1 من الآية 1 إلى الآية 3). كما أنّه لكل نبيّ تجربة مع الجنس مخصوصة تختلف عن بقيّة تجارب الأنبياء الأخرى.

وعموما طرح النصّ التوراتي مفهوم الجنس في قصّة يوسف ضمن ثنائية متباعدة الأطراف، بين جسدين يمتاز كلّ واحد منهما بإيقاع جمالي وبخطاب لغوي يختلف عن الآخـر، حيث تجلّى الحوار جدلا بين جسد موسوم بإيقاع الحسن والجمال الأنثوي وآخـر تبدّى رمزا للجمال في بعده الميتافيزيقي فكأنّما الجسد في هذه القصّة لا قيمة له في ذاتـه وإنّما تكمن قيمته في مستوى جريانه في نسق عملية التواصل بين إيقاع لغوي وخطاب جمالي وسوف يتطوّر هذا الحوار ليأخذ أشكالا متلاحقة تتفرّع إلى منطقين متقابلين يقوم الأوّل على منطق تصوّر كلّي للجسد في أبعاده الجماليـة، تتجلى فيه المرأة «راعيل» النموذج الجمالي الأنثوي، أمّا الثاني فيقوم على منطق تصوّر الجسد في حدوده الروحيّة الميتافيزيقية، تتبدّى فيه صورة يوسف مثال الرجل الصالـح الذي خاف مقام ربّـه ونهى نفسه عن أهوائها.

الجنـس فـي المسيحيّة

لئن تحدّث النص القرآني عن العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة وبين الرجل وحور العين والولدان من خلال استخدام تعابير جنسية من مثل: «ما ملكت يمينك – فينكحها – فروجهنّ – نكاحا»....الخ. فإنّ المسيحية جلبت معها قداسة عالية للجسد بما أنّ المؤمن المسيحي يسمو بجسده ليعيش مع الله تجربة روحية في ظل عشرة مقدّسة بصحبة الأبرار والملائكة. وفي القيامة لا يزوّجون ولا يتزوّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء (إنجيل: متّى 22-30/ مرقس 12-25 / لوقا 25- 30).

الجنـس فـي القـرآن: قصّـة يوسـف نمـوذجـا

ورد النص القرآني ليعتني هو الآخر بقصّة يوسف فيخصّص لها سورة كاملة هي سورة يوسف، وقد مثّلت قصّة يوسف في القرآن نموذجا بارزا في مجال احتفال المقدّس بالجنس وإن من خلال مقاومة اللذّة والانتصار للتعفّف، لأنّ نقد الظّاهرة لا يعني أبدا إقصاءها نهائيّا قدر الاعتراف بها وبشرعيّة وجودها وسنهتمّ بهذه القصّة لاستخلاص تجليّات الجنس ومنزلته ضمن الرّؤية الإسلاميّة. فكيف تبدّى الجسد في سياق انخراطه في المنظومة المعرفيّة الإسلاميّة نموذجا جماليّا متحكّما في أنواع الخطابات التي يفرزها بحسب درجات الوعي التي تصدر عنـه؟.

إنّ امرأة العزيز زليخة قد تحدّث عنها النصّ القرآني وأطنبت نصوص التّراث الحافّة في وصف جمالها وتصوير ملامح حسنها، فتشكّلت في صورة المرأة الفاتنة الجذّابة، فالخطاب القرآني ينصّ على أنّ الجسد الإنساني مرغوب فيه التّجميل إذ لا انفصال بين طهارة الجسد وركونه إلى الزّينة، «قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده». كما تضمّنت مرويّات السّيرة المحمديّة على أخبار تفصح عن ضرورة الاحتفاء بجمال الجسد، عن أبي سعيد الخذري أنّ رسول الله قال: «من أتاه الله وجها حسنا فهو من صفوة خلق الله». وقال عن المرأة: «النّظر إلى الجارية الحسناء يزيد في البصر». بالإضافة إلى ورود إشارة في القرآن أخرى ممثّلة في إعجاب ابنة شعيب بجسد موسى القويّ الأمين وإن اختلفت مع امرأة العزيز في مستوى توجيه هذا الإعجاب إلى إيقاع جنسي كما الشّأن عند زليخة وإنّما وجّهته إلى خطاب لغوي محكوم بالتّوازن الأخلاقي يفتقر إلى الفتنة والإغراء، «فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت: إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجـر ما سقيت لنـا». تعدّدت إذن الشّواهد المعبّرة على احتفاء القرآن بالجسد وبالتّمظهرات الجماليّة للجسد غير أنّ الإسلام على حدّ عبارة فريد الزّاهي «لا يقبل الجسد المجرّد من نوازعه ورغباته والمتنسّك طمعا في حياة أخرى بنبـذ الدّنيـا، إنّ جسدا من هذا القبيل يغدو لا واقعيّـا، قريبا من الملائكة وبعيدا عن الإنسانيّة».

ولم يقتصر هـذا الاهتمام بالجسد على مجرّد الحدود السياقيّة وإنّما تجاوزها ليشمل تأسيس إستراتيجية يتواصل من خلالها الجسد الجميل مع الفضاء المقدّس، فجماليّة الصّورة الجسديّة صارت مرتبطة من جهة التّفاعل بالرّغبة في الغواية فتحوّل الجسد في قصّة يوسف إلى مدخل لا للحبّ والعشق فقط وإنّما للإغراء والحاجة الجنسيّة أيضا، وقد ذهب «مرسيا إلياد» إلى القول بأنّ: «الإنسان في تفاعل مباشر مع الكون عبر ما يوفّره له جسده من إمكانات التّناسق والتّلاحم مع ما يحيط به».

وقد تتالى الحوار بين الجسدين ليتّخذ أبعادا رمزيّة تحيل على الوقوع تحت طائلة سلطة الجنس ولم يتحقّق عدول يوسف عن إتمام إشباع رغبته الغريزيّة إلاّ بتدخّل غيبيّ تمثّل له في هبوط «جبريل» بعدما بدا له في صورة أبيه «يعقوب» ليثنيه عن مواصلة هذا الصّنيع ليدخل الجسدان إثر ذلك في صراع حادّ بين الفضيلة والرّذيلة، بين الوفاء والخيانة، بين الغواية والهداية، وقد صاغ «رشيد رضا» في كتابه «تفسير المنار» طبيعة هذا الصّراع وحدّد أطرافه في التمزّق الحاصل بين خضوع امرأة العزيز لأهوائها. فتتنازل عن دلّها وكبريائها لتنكسر أمام عبد في قصرها وبين عبد ضعيف يترفّع عن الخيانة بالتّقوى والأمانة. وهكذا فإنّ قصّة يوسف وزليخة في النصّ القرآني قد احتفت بالجسد رمزا جماليّا وطوّعته في سياق قصصي أعطى لهذا الجسد مستويات متعدّدة من الحضور فهو الجسد النّموذج من حيث الجمال وهو الجسد الطّافح بالشّهوة والإغراء من جهة الطّبيعة الجنسيّة وهو أيضا الجسد العفّة من جهة التّقوى، غير أنّ كرامة يوسف ونبوّته لم تكن في أحلامه ولا في قميصه وإنّما كانت في طهارته وعفّته بعدما خاض امتحانا من جهة المحنة للتأكّد من قوّة إيمانه ومدى ثباته حتّى صار مثالا للعفّة ونموذجا للطّهارة والتّقـوى.

الأسعد العيّاري
 
أعلى