ريتا فرج - الحب في مرآة الفلاسفة… روح إيروسية وازدراء متعالٍ

وصف الفيلسوف الفرنسي آلان باديو (1937) الحب بأنه «نتاج الحقيقة» وخبرة ترتكز إلى فعل اثنين واستهلال يتحقق بلقاء استثنائي، ومرحلة فارقة تميز النشاط الاستنمائي الخالص. لم ينظر الفلاسفة إلى الحب بفرح روحي جسدي، بل تعاملوا معه بتحفظ شديد يشبه صرامة أفكارهم الفلسفية الباحثة في عالم المُثل والحكمة. قلة منهم ابتهجت بالعشق كطريق لفهم الحياة وسبيل لخرق عدمية الوجود.
في «الفلاسفة والحب: الحب من سقراط إلى سيمون دو بوفوار» الذي صدر بالفرنسية عام 2008 (انتقل أخيراً إلى العربية عن «دار التنوير» ــ ترجمة: دينا مندور)، تطرح أود لانسولان وماري لومونييه في عملهما المشترك موضوع الحب في أبعاده المتعالية والجسدية كما عرفه الفلاسفة: أفلاطون، ولوكريس، ومونتاني، وجان جاك روسو، وإيمانويل كانط، آرثر شوبنهاور، سورين كيركيغارد، فريدريك نيتشه، والثنائي مارتن هايدغر وحنة أرندت، وجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار. اختارت الباحثتان الفرنسيتان نماذج لحالات عشقية مضطربة، باستثناء الفيلسوف الدنماركي كيركيغارد التائه في «الحب المطلق» الذي قال عنه جاك لاكان «إنه المتسائل الأكثر حدة حول النفس البشرية قبل فرويد». لم يهتم الفلاسفة بالحب، تحدثوا عنه بازدراء ذكوري وهاجموا كل من يرفض تحليلهم، لأنه بدا مقاوماً لكل أشكال العقلنة. احتفى أفلاطون في «المأدبة» الأبدية بـــ «إيروس» (إله الليونة والشهوة) بأسلوب غرائبي يبرهن على المعنى الأقصى للكشف. وعلى الرغم من أنه واجه «الرغبة المشؤومة» للشاعر لوكريس، فقد رأى في الحب هدفاً للسعادة، وليس نزوة شهوانية عابرة، وهذا لا يعني احتقار البعد الجسدي وإنما مرحلة أولى لارتقاء النفس، فحب الأجساد لا يؤدي سوى إلى بديل للخلود. دعا الشاعر الإيطالي لوكريس إلى إدمان العلاقات الجنسية المفتوحة هرباً من خطر العاطفة المستمرة. تناوله في كتابه «عن طبيعة الأشياء» الذي يعد بمثابة قصيدة فلسفية طويلة حول التطور المستمر للكون، واضعاً صورة مرعبة للتوله الغرامي، ناظراً إلى الحب كنهم غير محدود تسيطر عليه حالة من السوداوية الداعية إلى التحرر الجنسي، ناصحاً إيانا بـ «محو الجراح القديمة بندوب جديدة» وألا نتردد في استخدام «الحب الجديد لطرد متعة قديمة». حقق مونتاني في الفصل الخامس من كتابه «المقالات» رغبته في الوصف الذاتي لفلسفة المتعة «باكتمال وعري تامّين»، معترفاً بغزواته الجنسية مادحاً المُتع الأرضية. تلاحظ الكاتبتان أن مديحه للمباهج تزامن مع إعادة تأهيله الجسدي بعد السقطة التي لحقت به من أعلى صحوة جواده، فكسر المحرمات التي فرضتها الأخلاقيات الدينية المسيحية التي دشنت عصراً جديداً من الكبت الجنسي. هذا الإخصاء المسيحي قال فيه نيتشه: «المسيحية سقت السّم لإيروس: ولكنه لم يمت به، بل تحول إلى فاسق». مونتاني أستاذ الإيروتيكية تحدث عن الحب بلغة واضحة دون ترميز أو «لغة مهذبة»: «من يسألني عن الجزء الأول من ممارسة الحب، سأجيبه: أن تأخذ وقتك. وهو الجزء الثاني أيضاً بل والثالث». على النقيض من مونتاني، أصيب الأديب والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو برهاب الحب ولعنة المساواة. كتب في الاعترافات أنه لم يعرف حباً كبيراً حقيقياً، معتبراً أن الحب «شعور اصطناعي». وقدم في «إميل» الرغبة الجنسية على أنها احتياج غير طبيعي. وذهب إلى تخيل أنه إذا عاش رجلاً وحيداً على جزيرة منعزلة من الممكن أن يموت من دون أن يجربها. ينضم صاحب «دين الفطرة» في رؤيته هذه إلى الأخلاقيين في القرن السابع عشر من الذين اعتبروا أن الحب قوة مُعدية وانعكس ذلك على علاقاته المضطربة مع النساء. ولعل أهم درس يلحظه القارئ في كتابه «إميل» اعتباره أن ممارسة الجنس بلا حب هو نوع من العبودية. إذ يفقدنا احترام الذات ويؤسس لحياة غير سوية. يماثل الحب عند الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قوة الارتياب والغريزة الهدامة. في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»، يثير الحديث عن الجنس كأنه حالة تهبط بالإنسان «لما هو أدنى من مرتبة الحيوان». ويضيف: «حتى العلاقة الجنسية التي يسمح بها الزواج، ينبغي أن نغلفها بالكثير من التهذيب حين نتحدث عنها في المجتمع المتحضر». هذه الصرامة الكانطية الفلسفية تفاجئنا برفضه لحق النساء في التصويت «ليس فقط بسبب انعدام مسؤوليتهن عن أنفسهن مادياً واجتماعياً، ولكن أيضاً لأنهن وُلدن نساءً» أي لا يحق لهن إلى الأبد.
اعترف مونتاني بغزواته الجنسية مادحاً المُتع الأرضية
«يُعد تأمل الجنسانية أحد المصادر الأساسية لمذهب شوبنهاور» كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي كليمان روسيه صاحب «شوبنهاور فيلسوف العدم». اتصف شوبنهاور بنزعة معادية للمرأة وللزواج، نافياً عن إناث البشر أي سحر جسدي حقيقي، قائلاً إننا نخطئ حين نطلق لفظ «الجنس الجميل» على تلك المخلوقات القصيرة عريضة الأرداف. والأغرب دعوته إلى تعدد الزوجات انطلاقاً من إيمانه بأن عند الشعوب التي تقبل التعدد في آسيا والشرق لا يمكن العثور على عانس لم يلمسها أحد بعد. وذهب – كما تشير الكاتبتان- إلى حد توصيفه للعاهرات، بـ «الضحايا الحقيقيين للزواج من زوجة واحدة، وقرابين الوقوف على مذبح العرس»، و«فلنلغِ الزواج الأوحد وستختفي العاهرات اللواتي تعج بهن شوارع لندن». كانت علاقة شوبنهاور بأمه علاقة مضطربة، كما هو الحال مع روسو ومونتاني. ربما هذا ما يفسر التصورات التي وضعها هؤلاء العظماء عن المرأة والحب. مع كيركيغارد، تحولت علاقته العشقية مع حبيبته ريجينا، أو كما كان يطلق عليها «شمس النساء»، إلى صورة رمزية للعشق الأوحد الباحث عن الانفلات من المحبوب ضمن منظور فلسفي أراد تعرية الوجود البشري انطلاقاً من الحياة الحميمة. جعل كيركيغارد القطيعة مع المرأة التي أحب تجلياً من تجليات العشق، ويعود سبب هذا الانفصال إلى توجسه من الروتين اليومي للحياة الزوجية. هذا التوجه دفعه إلى رفض الزواج حيث كان يزدري القناعات الموروثة كمتمردٍ لا يقبل «الغرق المشترك» في القيود التي تفرضها هذه المؤسسة. تسامى كيركيغارد بروحه العليا، ما أنتج عنده هوة كبيرة بين الأفكار وعالم الحياة المملوسة.
عشق نيتشه الموسيقى ورأى فيها «الفكرة الحقيقة للعالم»، غير أن علاقته بالحب شهدت توتراً على المستوى الذاتي. أسس لنظرية حادة تجاه موقف الحضارة الأوروبية من الجنس التي عملت على «شيطنة إيروس». يدين صاحب «إنسان مفرط في إنسانيته» الدعوة إلى العفة معتبراً أنها تحريض علني نحو الطبيعة المضادة «إن كل احتقار للحياة الجنسية باستخدام فكرة الدنس هي محاولة اغتيال للحياة، إنها الخطيئة الحقّة ضد الروح المقدسة للحياة (…) ليست الشهوة سماً إلاّ بالنسبة إلى الذابلين الذين يحتقرون الجسد والمصابين بهذيان العالم الآخر». نيتشه الذي اشتهر بكونه «فيلسوف الحَبَل» وفقاً للمصطلح الذي أطلقه جاك دريدا شكلت مسألة الأمومة محور اهتمام عنده؛ فالحبل هو ما يجعلهن «أكثر نعومة وحنواً وتسامحاً، وأكثر خوفاً». عرف نيتشه علاقات عاطفية عدة. تعتبر علاقته مع الكاتبة والروائية الروسية لو سالومي الأكثر تأثيراً فيه، كحضور أنثوي صاخب. انبنت العلاقة مع شريك ثالث هو رينيه ريلكه. وضعت الأديبة الروسية الواقعة بين ضفتين خطة من نوع المعيشة الثلاثية الخاصة بالمثقفين. ولعل الصورة الشهيرة التي قرر نيتشه التقاطها «سالومي تمسك سوطاً في يدها وتعتلي عربة يجرها مفكران لامعان مسخران هما ريكله ونيتشه» تعد تمثلاً واضحاً عن أشكال من الروابط الاستثنائية. شكلت –آنذاك- صدمة قوية في الأوساط الثقافية.
شكل الثنائي مارتن هايدغر وحنة أرندت، وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار علامة فارقة في الكتاب تخللها الحب والكره في خطاب الفلاسفة والروابط الإنسانية. لم يكن ثمة حب خالص. جريمة عدم الاخلاص حضرت وإن ظهرت «المرأة الفيلسوفة» كحضور عشقي منتج للأفكار لدى هايدغر وسارتر. تأسست هذه النزوات الحيوية والحسية على اتفاق بين «الفلاسفة المتحضرين». حافظ هايدغر على زواجه بعدما استسلمت لسحره الفلسفي أو لشهيته الحسية نساء كثيرات. كانت تفصله عن زوجته فوارق طبقية. وصفتهما أرندت وهي تتحدث مع زوجها الثاني بلوخر قائلة: «كانت حالة كلاسيكية من الارتباط الشعبوي – النخبوي». تنم قصص الفلاسفة مع الحب والجنس عن حيوات متداخلة ومعقدة، اتسمت –غالباً- بوجهتين متناقضتين: لزومية النشوة؛ والتعالي على الجنس المحكوم بالضوابط الأخلاقية. تظهر بعض الحالات المدروسة هنا كجزء من المكبوت الجنسي، لكنها تبقى في النهاية أنماطاً عشقية لا تكتسب صفة الفرادة بقدر ما تعكس طبقات النفس البشرية.
 
أعلى