نقوس المهدي
كاتب
الفصل السابع
-1-
بعد الإفطار اقترحَت إميلي برنت على فيرا كلايثورن أن يتمشيا معاً إلى القمة مرة أخرى وينتظرا القارب البخاري هناك ، فوافقتها فيرا على ذلك. كانت الريح قد نشطت وظهرت على سطح البحر أمواج صغيرة متتالية يعلوها الزبد. لم تكُن في البحر أيّ قوارب صيد، ولم يظهر أيّ أثر لذلك القارب البخاري المرتقّب.
لم يكن بالإمكان فعلياً رؤية قرية ستيكلهيفن ، بل فقط التّلة الواقعة فوقها، مقطع ناتئ من الصخور الحمراء يخفي خلفه الخليج الصغير.
قالت إميلي برنت: الرجل الذي أحضرنا أمس إلى هنا كان يبدو من ذلك النوع الجدير بالثقة. غريب حقّاً أن يتأخر اليوم إلى هذا الحد!
لم تردّ فيرا، فقد كانت تقاوم في أعماقها شعوراً متصاعداً بالفزع، وقالت تخاطب نفسها بغضب: " يجب أن تحافظي على هدوئك . أنت لست طبيعية! لقد كانت أعصابك هادئة دائماً " . ثم قالت بصوت عالٍ بعد دقيقة أو اثنتين : أتمنّى لو يأتي، كم أود أن أغادر هذا المكان.
فقالت إميلي برنت بجفاء: لا شكّ لديّ في أننا جميعاً نريد ذلك.
قالت فيرا: المسألة كلها غير طبيعية، تبدو... تبدو دون معنى على الإطلاق!
فقالت العانس العجوز بسرعة: أنا غاضبة من نفسي لانخداعي بهذه السهولة. كم تبدو لي تلك الرسالة سخيفة عندما أعود إلى التفكير بها! ولكن لم تكُن لديّ أية شكوك وقتها، لم تكُن لديّ شكوك أبداً.
غمغمت فيرا بلا تفكير: أظن أنه لم تكُن لديّ أية شكوك قط.
فقالت إميلي برنت: كثيراً ما نستخفّ بالأمور ونأخذها دون تمحيص.
وأخذت فيراً نفساً عميقاً مرتجفاً وقالت: هل أنت مقتنعة حقاً بما قلته على الإفطار؟
نظرت إميلي برنت بتأمّل إلى البحر وقالت : أنا شخصياً متأكدة من ذلك تماماً. ماذا تظنين أنت؟
وقالت فيرا: أذكر كيف بدت مرعوبة من خيالها. أنا لم أرَ امرأة في حياتي خائفة بهذا الشكل! لا بدّ أن تلك الحادثة كانت مسيطرة على عقلها دائماً.
غمغمت الآنسة برنت: أتذكّر حكمة كانت معلَّقة في غرفتي وأنا طفلة: " سوف تلاحقك خطيئتك دائماً" . هذا صحيح، بالفعل ، خطيئتك ستلاحقك دائماً.
انتفضت فيرا فجأة وقالت: ولكن يا آنسة برنت في هذه الحالة...
فقالت فيرا: كانوا مجرَّد وطنيين.
فردّت إميلي برنت بحدّة: بيضاً كانوا أو سوداً، كلهم إخوة لنا في الإنسانية.
فقالت فيرا في نفسها بسخرية: إخوتنا السود؟ سيغلبني الضحك! أنا في حالة هستيرية، أنا لست نفسي!
وتابعت إميلي برنت وهي مستغرقة في التفكير: بعض التهم الأخرى كانت بعيدة الاحتمال وسخيفة بالطبع. تلك التهمة مثلاً ضدّ القاضي الذي كان يقوم بواجبه بحكم وظيفته العامه، والمحقق السابق في شرطة سكوتلانديارد، وقضيتي أنا أيضاً.
وتوقفت قليلاً ثم تابعت: طبعاً، وإذا أخذنا الظروف بعين الاعتبار فلم يكُن ممكناً لي أن أقول شيئاً مساء أمس، لم يكُن موضوعاً ملائماً للبحث أمام الرجال.
راحت فيرا تنصت باهتمام وسألت: لِمَ لا؟
فتابعت الآنسة برنت بهدوء: كانت بياتريس تايلور خادمة عندي. لم تكُن فتاة فاضلة، وذلك ما اكتشفتُه بعد فوات الأوان. كنتُ مخدوعة بها كثيراً، فقد كانت حسنة الطباع وكانت دائماً نظيفة ومطيعة، وكنت سعيدة جداً بها. بالطبع تبيّن أن ذلك كله كان مجرَّد نفاق؛ فقد كانت فتاة عابثة عديمة الأخلاق، وكان هذا أمراً يدعو إلى الإحباط. وقد مرّ وقت طويل قبل أن أكتشف أنها كانت في ورطة.
وتوقفت قليلاً وأنفها الرقيق يتلوى اشمئزازاً ثم تابعت: كان ذلك صدمة كبيرة لي، وبالإضافة إلى هذا فقد كان أهلها أناساً طيبين ربوّها تربية صارمة، ويسعدني أن أقول إنهم لم يغفروا لها سلوكها.
قالت فيرا وهي تحدق إلى الآنسة برنت: ماذا حدث؟
قالت الآنسة برنت: تلك المخلوقة المنبوذة لم تكتفِ بخطيئة واحدة تُقل ضميرها، بل ارتكبت خطيئة أشدٌ ... قتلت نفسها.
همست فيرا وقد استبدٌ بها الرعب: قتلت نفسها؟!
عدلّت إميلي برنت هيئتها وقالت: أنا؟! وما شأني لأوبّخ نفسي؟
قالت فيرا: ولكن ماذا إذا كان موقفك... عذراً، إذا كان موقفك الشديد قد دفعها إلى ذلك؟
فقالت إميلي برنت بحدّة: ذلك لأن تصرفها... أعني أنها كانت خطيئتها هي؛ كان ذلك هو ما دفعها إلى الموت. لو كانت تصرفت كامرأة محترَمة طيّبة لما حدث أيّ شيء من هذا القبيل.
ثم التفتت بوجهها إلى فيرا. لم يظهر أيّ إحساس بالذنب أو القلق في عينيها ، بل كانت عيناها قاسيتين تشعّان بالفضيلة. كانت إميلي برنت تجلس على قمة جزيرة الزنوج مغلَّفة بدرع من الفضيلة صنعته لنفسها. لم تعُد العانس العجوز في نظر فيرا مجرَّد امرأة سخيفة بعض الشيء، لقد أصبحت – فجأة – امرأة مخيفة!
-2-
خرج الدكتور آرمسترونغ من غرفة الطعام ثم دلف إلى الشرفة مرة أخرى. كان القاضي يجلس وقتها على كرسي ينظر إلى البحر بهدوء، وإلى اليسار كان لومبارد وبلور يدخّنان بصمت. تردد الطبيب لحظة كعادته ثم أخذ ينظر إلى القاضي متأملاً. أراد تبادل الرأي مع شخص ما، وكان يعلم أن القاضي ذو ذهن منطقي حادّ ولكنه – مع ذلك – تردد ؛ فالقاضي وارغريف قد يكون ذا عقل راجح ولكنه رجل عجوز، وقد شعر آرمسترونغ أنه بحاجة إلى رجل عملي في تلك اللحظة، فحسم أمره وقال: لومبارد، هل أستطيع التحدث معك لحظة؟
فردّ فيليب: طبعاً.
غادر الرجلان الشرفة ونزلا المنحدَر باتجاه البحر، وعندما أصبحا خارج مدى السمع قال آرمسترونغ: أحتاج إلى مشورتك.
فارتفع حاجبا لومبارد وقال: صديقي العزيز: أنا لا أفهم في الطبّ.
تأمّل لومبارد لحظة ثم قال: الأمر يدعو إلى التفكّر، أليس كذلك؟
فقال آرمسترونغ ببطء: قد تكون المسألة أكثر بساطة. لقد سألت روجرز هذا الصباح عن طبيعة الحالة التي عانت منها تلك المرأة، الآنسة برادي، وكان جوابه مفيداً لي. لست بحاجة إلى الدخول في تفصيلات طبيّة ولكن توجد حالات معيَّنة من أمراض القلب تُستخدَم فيها النيترات، فعندما تأتي النوبة تُكسر كبسولة نيترات وتوضع تحف أنف المريض لاستنشاقها. وإذا لم يتمّ ذلك، أي إذا مُنعت النيترات عن المريض، فمن السهل حدوث الوفاة.
قال لومبارد وهو مستغرق في التفكير: بهذه البساطة؟ لا بدّ أن ذلك كان مغرياً إلى حد ما.
فأومأ الطبيب موافقاً وقال: أجل، لا حاجة للقيام بعمل مباشر ولا ضرورة للحصول على زرنيخ لاستخدامه .... بل فقط تصرّف سلبي ، امتناع عن التصرف. ثم ذهب روجرز في الليل لإحضار طبيب، وشعر كلاهما بثقة أنه لا يمكن لأحد أن يعرف الحقيقة.
وأضاف لومبارد: وحتى لو عرف أحدٌ فلا يوجد ما يمكن إثباته ضدّهما.
ثم قطّب فجأة وقال: طبعاً هذا يفسّر الكثير.
وقال آرمسترونغ مستفسراً: عفواً ، ماذا تعني؟
فقال لومبارد: أعني أنه يفسّر مسألة الجزيرة هذه. توجد جرائم لا يمكن إسنادها إلى مرتكبيها؛ قضية آل روجرز مثلاً، ومثال آخر هو القاضي وارغريف الذي ارتكب جريمته وهو ملتزم بالقانون تماماً.
قال آرمسترونغ بحدّة: هل تصدّق تلك القصة؟
فابتسم فيليب لومبارد وقال: طبعاً أصدّقها؛ وارغريف قتل إدوراد سيتون بلا شك، قتله كما لو كان غرس خنجراً في جسده، ولكنه كان ذكياً بما فيه الكفاية ليفعل ذلك وهو على مقعد القاضي بردائه وشعره المستعار، وهكذا فليس بوسعك إلصاق جريمته الصغيرة به بالطرق المعتادة.
ومضت صورة مفاجئة كالبرق في خيال آرمسترونغ : جريمة في المستشفى ، جريمة على طاولة العمليات.... بكل أمان، نعم ، بكل ، أمان كما لو كنتَ في منزلك!
كان فيليب لومبارد يقول: هذا يفسّر السيد أوين ويفسّر " جزيرة الجنود " أيضاً.
تنفس آرمسترونغ بعمق وقال: ها نحن نصل إلى جوهر المسألة: ما الهدف الحقيقي من جمعنا هنا؟
فقال فيليب لومبارد : ماذا تظن؟
اعترض آرمسترونغ بشكل مفاجئ وقال : لنعُد قليلاً إلى وفاة المرأة. ما هي النظريات المحتمَلة؟ الاحتمال الأول أن روجرز قتلها لأنه كان يخشى أن تكشف أمره، والاحتمال الثاني أنها فقدت أعصابها فسلكت طريقاً سهلاً بإنهاء حياتها.
قال لومبارد: انتحار؟
قال آرمسترونغ: لا يحمل إنسان عاقل سيانيد البوتاسيوم معه. قد يفعل ذلك رجل ينوي تدمير عش دبابير مثلاً.
فابتسم لومبارد وقال: لماذا تريدني أن أقولها وهي على طرف لسانك؟ أنتوني مارستون قُتِلَ بالطبع.
أخذ الدكتور آرمسترونغ نفساً عميقاً وقال: وماذا عن السيدة روجرز؟
فقال لومبارد ببطء: كان يمكن لي أن أصدّق بصعوبة انتحار أنتوني لولا موضوع السيدة روجرز، وكان يمكن لي بسهولة أن أصدق انتحار السيدة روجرز لولا قضية أنتوني مارستون. أستطيع تصديق فكرة أن روجرز قتل زوجته لولا الوفاة غير المتوقعة لأنتوني مارستون ، ولكن ما نحتاجه هو نظرية تفسّر لنا حالتَي وفاة تُبِعَت إحداهما الأخرى بهذه السرعة.
قال آرمسترونغ : قد أستطيع مساعدتك في هذه النظرية.
وأعاد على سمعه الحقائق التي قدّمها له روجرز عن اختفاء التماثيل الخزفية ، فقال لومبارد : أجل ، التماثيل الخزفية لجنود صغار. كان يوجد عشرة منها مساء أمس عند العشاء بالتأكيد، والآن تقول إنه يوجد ثمانية فقط ؟!
فردّد الدكتور آرمسترونغ الأنشودة قائلاً:
عشرة جنود صغار خرجوا للعشاء
أحدهم شَرِق فمات فبقي تسعة
تسعة جنود صغار سهروا حتى ساعة متأخرة
أحدهم أخذه النوم فبقي ثمانية
تبادل الرجلان نظرات غريبة، وتجهّم وجه لومبارد وقال: تطابق تامّ يتجاوز اعتبارها صدفة! أنتوني مارستون يموت من الاختناق أو الشَّرْقة ليلة أمس بعد العشاء، والسيدة روجرز استغرقت في النوم إلى الأبد.
قال آرمسترونغ: ماذا إذن؟
فردّ عليه لومبارد: إذن يوجد " جندي " من نوع آخر، جندي مختبئ في كومة حطب! السيد " س " السيد أوين... مجنون مطلَق السراح.
فاطلق آرمسترونغ تنهيدة ارتياح وقال: آه، أنت توافقني. ولكن لاحظ ماذا يعني ذلك: لقد أقسم روجرز إنه لا يوجد سوانا بالإضافة له ولزوجته على الجزيرة.
فأومأ فيليب لومبارد إيجاباً وقال: القارب البخاري لم يصل هذا الصباح، وهذا تدبير يتفق مع النظرية. ترتيبات مسبَقة من قِبَل السيد أوين، عزل الجزيرة حتى ينتهي من مهمّته.
شحب وجه آرمسترونغ وقال: يا إلهي لا بدّ أن الرجل مجنون!
فقال فيليب لومبارد بصوت فيه نبرة جديّة: أمر واحد لم يدركه السيد أوين.
فضحك لومبارد وقال: خطيراً؟ من يخشى ذلك الذئب السيّئ؟ سأكون أنا الخطير عندما ألقي القبض عليه.
وتوقف لحظة ثم قال: من الأفضل أن نضمّ إلينا بلور لمساعدتنا؛ فسوف يكون مفيداً لنا عند الحاجة. ومن الأفضل أن لا نخبر النساء، أمّا الآخران فالجنرال شيخ مخرف – فيما أظن – والعجوز وارغريف يتّصف بالكسل الشديد. أعتقد أن ثلاثتنا قادرون القيام بالمهمة.
* * *
-1-
بعد الإفطار اقترحَت إميلي برنت على فيرا كلايثورن أن يتمشيا معاً إلى القمة مرة أخرى وينتظرا القارب البخاري هناك ، فوافقتها فيرا على ذلك. كانت الريح قد نشطت وظهرت على سطح البحر أمواج صغيرة متتالية يعلوها الزبد. لم تكُن في البحر أيّ قوارب صيد، ولم يظهر أيّ أثر لذلك القارب البخاري المرتقّب.
لم يكن بالإمكان فعلياً رؤية قرية ستيكلهيفن ، بل فقط التّلة الواقعة فوقها، مقطع ناتئ من الصخور الحمراء يخفي خلفه الخليج الصغير.
قالت إميلي برنت: الرجل الذي أحضرنا أمس إلى هنا كان يبدو من ذلك النوع الجدير بالثقة. غريب حقّاً أن يتأخر اليوم إلى هذا الحد!
لم تردّ فيرا، فقد كانت تقاوم في أعماقها شعوراً متصاعداً بالفزع، وقالت تخاطب نفسها بغضب: " يجب أن تحافظي على هدوئك . أنت لست طبيعية! لقد كانت أعصابك هادئة دائماً " . ثم قالت بصوت عالٍ بعد دقيقة أو اثنتين : أتمنّى لو يأتي، كم أود أن أغادر هذا المكان.
فقالت إميلي برنت بجفاء: لا شكّ لديّ في أننا جميعاً نريد ذلك.
قالت فيرا: المسألة كلها غير طبيعية، تبدو... تبدو دون معنى على الإطلاق!
فقالت العانس العجوز بسرعة: أنا غاضبة من نفسي لانخداعي بهذه السهولة. كم تبدو لي تلك الرسالة سخيفة عندما أعود إلى التفكير بها! ولكن لم تكُن لديّ أية شكوك وقتها، لم تكُن لديّ شكوك أبداً.
غمغمت فيرا بلا تفكير: أظن أنه لم تكُن لديّ أية شكوك قط.
فقالت إميلي برنت: كثيراً ما نستخفّ بالأمور ونأخذها دون تمحيص.
وأخذت فيراً نفساً عميقاً مرتجفاً وقالت: هل أنت مقتنعة حقاً بما قلته على الإفطار؟
- كوني أكثر دقة يا عزيزتي ، إلامَ تشيرين بالضبط؟
نظرت إميلي برنت بتأمّل إلى البحر وقالت : أنا شخصياً متأكدة من ذلك تماماً. ماذا تظنين أنت؟
- لا أعرف ماذا أظن.
وقالت فيرا: أذكر كيف بدت مرعوبة من خيالها. أنا لم أرَ امرأة في حياتي خائفة بهذا الشكل! لا بدّ أن تلك الحادثة كانت مسيطرة على عقلها دائماً.
غمغمت الآنسة برنت: أتذكّر حكمة كانت معلَّقة في غرفتي وأنا طفلة: " سوف تلاحقك خطيئتك دائماً" . هذا صحيح، بالفعل ، خطيئتك ستلاحقك دائماً.
انتفضت فيرا فجأة وقالت: ولكن يا آنسة برنت في هذه الحالة...
- ماذا يا عزيزتي ؟
- ماذا عن الآخرين؟
- لا أفهمك تماماً.
- كل الاتهامات الأخرى؟ هل تكون صحيحة؟ إذا صحت في حالة روجرز...
فقالت فيرا: كانوا مجرَّد وطنيين.
فردّت إميلي برنت بحدّة: بيضاً كانوا أو سوداً، كلهم إخوة لنا في الإنسانية.
فقالت فيرا في نفسها بسخرية: إخوتنا السود؟ سيغلبني الضحك! أنا في حالة هستيرية، أنا لست نفسي!
وتابعت إميلي برنت وهي مستغرقة في التفكير: بعض التهم الأخرى كانت بعيدة الاحتمال وسخيفة بالطبع. تلك التهمة مثلاً ضدّ القاضي الذي كان يقوم بواجبه بحكم وظيفته العامه، والمحقق السابق في شرطة سكوتلانديارد، وقضيتي أنا أيضاً.
وتوقفت قليلاً ثم تابعت: طبعاً، وإذا أخذنا الظروف بعين الاعتبار فلم يكُن ممكناً لي أن أقول شيئاً مساء أمس، لم يكُن موضوعاً ملائماً للبحث أمام الرجال.
راحت فيرا تنصت باهتمام وسألت: لِمَ لا؟
فتابعت الآنسة برنت بهدوء: كانت بياتريس تايلور خادمة عندي. لم تكُن فتاة فاضلة، وذلك ما اكتشفتُه بعد فوات الأوان. كنتُ مخدوعة بها كثيراً، فقد كانت حسنة الطباع وكانت دائماً نظيفة ومطيعة، وكنت سعيدة جداً بها. بالطبع تبيّن أن ذلك كله كان مجرَّد نفاق؛ فقد كانت فتاة عابثة عديمة الأخلاق، وكان هذا أمراً يدعو إلى الإحباط. وقد مرّ وقت طويل قبل أن أكتشف أنها كانت في ورطة.
وتوقفت قليلاً وأنفها الرقيق يتلوى اشمئزازاً ثم تابعت: كان ذلك صدمة كبيرة لي، وبالإضافة إلى هذا فقد كان أهلها أناساً طيبين ربوّها تربية صارمة، ويسعدني أن أقول إنهم لم يغفروا لها سلوكها.
قالت فيرا وهي تحدق إلى الآنسة برنت: ماذا حدث؟
- طبعاً أنا لم أقبل بها ساعة واحدة في منزلي بعد ذلك؛ لن أسمح أن يقول أحدٌ يوماً إنني قبلت بالرذيلة.
قالت الآنسة برنت: تلك المخلوقة المنبوذة لم تكتفِ بخطيئة واحدة تُقل ضميرها، بل ارتكبت خطيئة أشدٌ ... قتلت نفسها.
همست فيرا وقد استبدٌ بها الرعب: قتلت نفسها؟!
- نعم ، ألقت بنفسها في النهر.
عدلّت إميلي برنت هيئتها وقالت: أنا؟! وما شأني لأوبّخ نفسي؟
قالت فيرا: ولكن ماذا إذا كان موقفك... عذراً، إذا كان موقفك الشديد قد دفعها إلى ذلك؟
فقالت إميلي برنت بحدّة: ذلك لأن تصرفها... أعني أنها كانت خطيئتها هي؛ كان ذلك هو ما دفعها إلى الموت. لو كانت تصرفت كامرأة محترَمة طيّبة لما حدث أيّ شيء من هذا القبيل.
ثم التفتت بوجهها إلى فيرا. لم يظهر أيّ إحساس بالذنب أو القلق في عينيها ، بل كانت عيناها قاسيتين تشعّان بالفضيلة. كانت إميلي برنت تجلس على قمة جزيرة الزنوج مغلَّفة بدرع من الفضيلة صنعته لنفسها. لم تعُد العانس العجوز في نظر فيرا مجرَّد امرأة سخيفة بعض الشيء، لقد أصبحت – فجأة – امرأة مخيفة!
-2-
خرج الدكتور آرمسترونغ من غرفة الطعام ثم دلف إلى الشرفة مرة أخرى. كان القاضي يجلس وقتها على كرسي ينظر إلى البحر بهدوء، وإلى اليسار كان لومبارد وبلور يدخّنان بصمت. تردد الطبيب لحظة كعادته ثم أخذ ينظر إلى القاضي متأملاً. أراد تبادل الرأي مع شخص ما، وكان يعلم أن القاضي ذو ذهن منطقي حادّ ولكنه – مع ذلك – تردد ؛ فالقاضي وارغريف قد يكون ذا عقل راجح ولكنه رجل عجوز، وقد شعر آرمسترونغ أنه بحاجة إلى رجل عملي في تلك اللحظة، فحسم أمره وقال: لومبارد، هل أستطيع التحدث معك لحظة؟
فردّ فيليب: طبعاً.
غادر الرجلان الشرفة ونزلا المنحدَر باتجاه البحر، وعندما أصبحا خارج مدى السمع قال آرمسترونغ: أحتاج إلى مشورتك.
فارتفع حاجبا لومبارد وقال: صديقي العزيز: أنا لا أفهم في الطبّ.
- لا ، بل أعني حول ذلك الوضع الحالي.
- آه، هذا أمر مختلف.
تأمّل لومبارد لحظة ثم قال: الأمر يدعو إلى التفكّر، أليس كذلك؟
- ما رأيك بموضوع تلك المرأة؟ هل تقبل بنظرية بلور عنها؟
- بالضبط.
فقال آرمسترونغ ببطء: قد تكون المسألة أكثر بساطة. لقد سألت روجرز هذا الصباح عن طبيعة الحالة التي عانت منها تلك المرأة، الآنسة برادي، وكان جوابه مفيداً لي. لست بحاجة إلى الدخول في تفصيلات طبيّة ولكن توجد حالات معيَّنة من أمراض القلب تُستخدَم فيها النيترات، فعندما تأتي النوبة تُكسر كبسولة نيترات وتوضع تحف أنف المريض لاستنشاقها. وإذا لم يتمّ ذلك، أي إذا مُنعت النيترات عن المريض، فمن السهل حدوث الوفاة.
قال لومبارد وهو مستغرق في التفكير: بهذه البساطة؟ لا بدّ أن ذلك كان مغرياً إلى حد ما.
فأومأ الطبيب موافقاً وقال: أجل، لا حاجة للقيام بعمل مباشر ولا ضرورة للحصول على زرنيخ لاستخدامه .... بل فقط تصرّف سلبي ، امتناع عن التصرف. ثم ذهب روجرز في الليل لإحضار طبيب، وشعر كلاهما بثقة أنه لا يمكن لأحد أن يعرف الحقيقة.
وأضاف لومبارد: وحتى لو عرف أحدٌ فلا يوجد ما يمكن إثباته ضدّهما.
ثم قطّب فجأة وقال: طبعاً هذا يفسّر الكثير.
وقال آرمسترونغ مستفسراً: عفواً ، ماذا تعني؟
فقال لومبارد: أعني أنه يفسّر مسألة الجزيرة هذه. توجد جرائم لا يمكن إسنادها إلى مرتكبيها؛ قضية آل روجرز مثلاً، ومثال آخر هو القاضي وارغريف الذي ارتكب جريمته وهو ملتزم بالقانون تماماً.
قال آرمسترونغ بحدّة: هل تصدّق تلك القصة؟
فابتسم فيليب لومبارد وقال: طبعاً أصدّقها؛ وارغريف قتل إدوراد سيتون بلا شك، قتله كما لو كان غرس خنجراً في جسده، ولكنه كان ذكياً بما فيه الكفاية ليفعل ذلك وهو على مقعد القاضي بردائه وشعره المستعار، وهكذا فليس بوسعك إلصاق جريمته الصغيرة به بالطرق المعتادة.
ومضت صورة مفاجئة كالبرق في خيال آرمسترونغ : جريمة في المستشفى ، جريمة على طاولة العمليات.... بكل أمان، نعم ، بكل ، أمان كما لو كنتَ في منزلك!
كان فيليب لومبارد يقول: هذا يفسّر السيد أوين ويفسّر " جزيرة الجنود " أيضاً.
تنفس آرمسترونغ بعمق وقال: ها نحن نصل إلى جوهر المسألة: ما الهدف الحقيقي من جمعنا هنا؟
فقال فيليب لومبارد : ماذا تظن؟
اعترض آرمسترونغ بشكل مفاجئ وقال : لنعُد قليلاً إلى وفاة المرأة. ما هي النظريات المحتمَلة؟ الاحتمال الأول أن روجرز قتلها لأنه كان يخشى أن تكشف أمره، والاحتمال الثاني أنها فقدت أعصابها فسلكت طريقاً سهلاً بإنهاء حياتها.
قال لومبارد: انتحار؟
- ما رأيك في ذلك؟
- ربما كان ممكناً لولا مسألة موت مارستون. حالتا انتحار
قال آرمسترونغ: لا يحمل إنسان عاقل سيانيد البوتاسيوم معه. قد يفعل ذلك رجل ينوي تدمير عش دبابير مثلاً.
- قد يكون مزارعاً مثلاً، ولكن ليس أنتوني مارستون! يبدو لي أن مسألة السيانيد هذه تحتاج إلى بعض التفسير، فإمّا أنّ أنتوني مارستون كان ينوي الانتحار قبل قدومه إلى هنا فجاء مستعدّاً، أو...
فابتسم لومبارد وقال: لماذا تريدني أن أقولها وهي على طرف لسانك؟ أنتوني مارستون قُتِلَ بالطبع.
أخذ الدكتور آرمسترونغ نفساً عميقاً وقال: وماذا عن السيدة روجرز؟
فقال لومبارد ببطء: كان يمكن لي أن أصدّق بصعوبة انتحار أنتوني لولا موضوع السيدة روجرز، وكان يمكن لي بسهولة أن أصدق انتحار السيدة روجرز لولا قضية أنتوني مارستون. أستطيع تصديق فكرة أن روجرز قتل زوجته لولا الوفاة غير المتوقعة لأنتوني مارستون ، ولكن ما نحتاجه هو نظرية تفسّر لنا حالتَي وفاة تُبِعَت إحداهما الأخرى بهذه السرعة.
قال آرمسترونغ : قد أستطيع مساعدتك في هذه النظرية.
وأعاد على سمعه الحقائق التي قدّمها له روجرز عن اختفاء التماثيل الخزفية ، فقال لومبارد : أجل ، التماثيل الخزفية لجنود صغار. كان يوجد عشرة منها مساء أمس عند العشاء بالتأكيد، والآن تقول إنه يوجد ثمانية فقط ؟!
فردّد الدكتور آرمسترونغ الأنشودة قائلاً:
عشرة جنود صغار خرجوا للعشاء
أحدهم شَرِق فمات فبقي تسعة
تسعة جنود صغار سهروا حتى ساعة متأخرة
أحدهم أخذه النوم فبقي ثمانية
تبادل الرجلان نظرات غريبة، وتجهّم وجه لومبارد وقال: تطابق تامّ يتجاوز اعتبارها صدفة! أنتوني مارستون يموت من الاختناق أو الشَّرْقة ليلة أمس بعد العشاء، والسيدة روجرز استغرقت في النوم إلى الأبد.
قال آرمسترونغ: ماذا إذن؟
فردّ عليه لومبارد: إذن يوجد " جندي " من نوع آخر، جندي مختبئ في كومة حطب! السيد " س " السيد أوين... مجنون مطلَق السراح.
فاطلق آرمسترونغ تنهيدة ارتياح وقال: آه، أنت توافقني. ولكن لاحظ ماذا يعني ذلك: لقد أقسم روجرز إنه لا يوجد سوانا بالإضافة له ولزوجته على الجزيرة.
- روجرز على خطأ أو لعله كان يكذب.
فأومأ فيليب لومبارد إيجاباً وقال: القارب البخاري لم يصل هذا الصباح، وهذا تدبير يتفق مع النظرية. ترتيبات مسبَقة من قِبَل السيد أوين، عزل الجزيرة حتى ينتهي من مهمّته.
شحب وجه آرمسترونغ وقال: يا إلهي لا بدّ أن الرجل مجنون!
فقال فيليب لومبارد بصوت فيه نبرة جديّة: أمر واحد لم يدركه السيد أوين.
- ما هو؟
- هذه الجزيرة ليست إلاَ صخرة محدودة المساحة نستطيع تفتيشها بقليل من الجهد، وعندئذ ستعثر على السيد المحترم أوين وبسرعة.
فضحك لومبارد وقال: خطيراً؟ من يخشى ذلك الذئب السيّئ؟ سأكون أنا الخطير عندما ألقي القبض عليه.
وتوقف لحظة ثم قال: من الأفضل أن نضمّ إلينا بلور لمساعدتنا؛ فسوف يكون مفيداً لنا عند الحاجة. ومن الأفضل أن لا نخبر النساء، أمّا الآخران فالجنرال شيخ مخرف – فيما أظن – والعجوز وارغريف يتّصف بالكسل الشديد. أعتقد أن ثلاثتنا قادرون القيام بالمهمة.
* * *