نقوس المهدي
كاتب
الفصل التاسع
-1-
قال لومبارد ببطء: لقد كنّا مخطئين طوال الوقت، صنعنا كابوساً من الوهم والخيال لمجرَّد تصادف وقوع حادثّتي وفاة.
فقال آرمسترونغ بصوت خفيض: ولكن – مع ذلك – فما زالت النظرية قائمة بغضّ النظر عن كل شيء؛ فأنا طبيب وأعرف شيئاً عن حالات الانتحار، وأنتوني مارستون لم يكُن من النوع الذي يمكن أن ينتحر.
فقال لومبارد متشككاً: ألا نستطيع الافتراض بأنه كان حادثاً؟
زفر بلور غير مقتنع وقال : هذه نوعيه عجيبة من الحوادث!
توقّف الحديث برهة ثم قال بلور : بخصوص تلك المرأة... وتوقف عن الحديث فسأله لومبارد: السيدة روجرز؟
بدا على بلور حرَج خفيف وأصبح وجهه المتورد أشدّ حمرة وقال بلا وعي تقريباً: انظر يا عزيزي، لقد أعطيتَها أنت علاجاً مسكّناً، أليس كذلك؟
حدّق إليه الطبيب وقال: علاجاً مسكناً؟ ماذا تعني؟
فقال الدكتور آرمسترونغ بغضب: لا أفهم ماذا تعني.
فقال بلور: هذا ممكن، أليس كذلك؟ لعلّك ارتكبتَ خطأ فمثل هذه الأشياء تحدث أحياناً.
قال آرمسترونغ بحدّة: لم أفعل شيئاً من هذا القبيل. إن فكرتك غير معقولة.
وتوقف لحظة ثم أضاف بنبرة باردة ولاذعة : أم لعلك تقترح أنني أعطيتها جرعة زائدة متعمداً؟
فقال فيليب لومبارد بسرعة: أرجو أن تنصتا إليّ : نحن لا نريد أن نفقد عقولنا. دعونا لا نبدأ بتراشق الاتهامات.
قال بلور فجأة: كل ما قلته أن الطبيب ربما ارتكب خطأ.
أرغم الدكتور آرمسترونغ نفسه على الابتسام وقال وهو يكشف عن أسنانه بابتسامة قاسية: الأطباء لا يملكون ترف ارتكاب أخطاء كهذه يا صديقي.
فقال بلور بتروِّ ولهجة ذات معنى: لم يكُن ذلك أول خطأ لك... إذا أخذنا بما قيل في ذلك التسجيل.
فشحب وجه آرمسترونغ وقال لومبارد بسرعة وغضب موجّهاً الحديث إلى بلور: ما الفكرة من أن تجعل نفسك عدائياً؟ نحن جميعاً في قارب واحد وعلينا أن نتضامن معاً، ماذا عن حكاية اليمين الكاذب اللطيفة الموجَّهة لك؟
فخطا بلور خطوة إلى الأمام وقد تكوّرَت قبضتا يديه وقال بصوت أجشَ: يمين كاذب ملعون! تلك كانت كذبة حقيرة. بوسعك أن تحاول إسكاتي – يا سيد لومبارد – ولكن هنالك أشياء أريد أن أعرفها، وأحد هذه الأشياء عنك.
ارتفع حاجبا لومبارد وقال: عني؟
قال بلور: بلى، أريد أن أعرف يا سيد لومبارد.
فقال لومبارد بصورة غير متوقَّعة: أتعرف يا بلور؟ أنت لست معتوهاً كما تبدو.
فابتسم بلور متشككاً وقال: لم تُقل لنا ذلك ليلة أمس.
هزّ لومبارد رأسه فواصل بلور كلامه قائلاً: إذن فقد كنتَ تخفي الأمر عنّا.
قال لومبارد: بطريقة ما، نعم.
فاستحثّه بلور بصبر نافد قائلاً: حسناً، ثم ماذا؟
قال لومبارد بهمهمة : هذا كل ما هنالك.
فقال الدكتور آرمسترونغ: ولكن من المؤكَّد أنه أخبرك أشياء أكثر من ذلك.
فهزّ لومبارد كتفيه استنكاراً وقال: كيف كان بوسعي أن أعرف – يا عزيزي – أن ليلة أمس لم تكُن هي بالضبط الحدَث المحتمَل الذي جئتُ من أجله؟ لذلك لذتُ بالصمت ورويتُ قصة لا تُلزمني بشيء.
قال الدكتور آرمسترونغ ساخراً: ولكن تفكيرك اختلف الآن؟
فتغيرت ملامح لومبارد وعبس وجهه وتصلّب وقال: أجل، الآن أنا أعتقد أنني في القارب نفسه معكم. تلك الجنيهات المئة كانت قطعة الجبن الصغيرة التي وضعها لي السيد أوين طُعماً للوقوع في المصيدة معكم.
وأضاف ببطء: نحن جميعاً في مصيدة، أقسم على ذلك. موت السيدة روجرز وتوني مارستون، اختفاء تماثيل الجنود الصغار من فوق طاولة الطعام. نعم، نعم ، إن يد السيد أوين واضحة في الموضوع ، ولكن أين ذلك الوغد السيد أوين نفسه؟!
عندئذ دقّ الجرس في الطابق السفلي داعياً إلى الغداء.
-2-
كان روجرز واقفاً إلى جانب باب غرفة الطعام، وحين رأى الرجال الثلاثة ينزلون الدرَج خطا إلى الأمام خطوة أو اثنتين وقال بصوت خفيض يشوبه القلق: آمل أن يكون الطعام المعَدّ مرضياً لكم. لدينا شرائح من اللحم البارد وقد سلقتُ بعض البطاطا، ولدينا أيضاً جبن وبعض الفواكه المعلَّبة.
قال لومبارد: لا بأس بكل ذلك. إذن فالمؤن جيدة.
قال لومبارد: أجل ، سوء حظ غريب، هذا وصف جيّد للحالة.
دخلت الآنسة برنت الغرفة وكانت قد أسقطت لفة من الصوف لتوّها وأخذَت تعيد لفّ الخيط من جديد، وفيما كانت تأخذ مقعدها إلى المائدة علّقَت قائلة: الطقس يتغيّر، أصبحت الريح قوية جداً والأمواج البيضاء تملأ سطح البحر كالخيل.
ودخل القاضي وارغريف بخطوات بطيئة متزنة وجال بعينيه على بقيّة الجالسين حول المائدة بنظرات سريعة من تحت حاجّبيه الكثيفين ثم قال: أظنكم قضيتم صباحاً مفعماً بالنشاط.
كان في صوته رنّة ابتهاج يشوبها بعض الخبث، ثم دخلت فيرا كلايثورن على عجل فقالت وهي تلتقط أنفاسها: آمل أنكم لم تنتظروني. هل تأخرت عليكم؟
فقالت إميلي برنت: أنت لستِ آخر من يحضر؛ الجنرال لم يأتِ بعد.
جلسوا حول الطاولة فقال لورجز مخاطباً الآنسة برنت: هل ستبدئين يا سيدتي أم ستنتظرين؟
فقالت فيرا: الجنرال ماك آرثر يجلس على طرف البحر، ولا أتوقع أن يكون بوسعه سماع الجرس هناك على أية حال.
وتردّدَت قليلاً ثم أضافت: أعتقد أنه يتصرف بغرابة إلى حدّ ما هذا اليوم.
فقال روجرز بسرعة: سأذهب وأخبره أن الغداء جاهز.
فقفز الدكتور آرمسترونغ وقال: سأذهب أنا، ابدؤوا أنتم بتناول طعامكم.
وغادر الغرفة، وسمع من خلفه صوت روجرز يقول: أتريدين لحماً بارداً يا سيدتي؟
-3-
بدا أن الخمسة الجالسين حول الطاولة يجدون صعوبة في تبادل الحديث، وفي الخارج كانت هبّات من الريح تشتدّ ثم تتلاشى فارتعشت فيرا قليلاً وقالت: أظن أن العاصفة قادمة.
وأدلى بلور بدلوه في الحوار فقال بلهجة من يريد فتح باب الحديث: رجل عجوز في القطار القادم من بلايموث أمس ظلّ يقول طول الوقت إن عاصفة قادمة. كم تدهشني معرفة البحّارة العجائز بالطقس!
دار روجرز حول المائدة يجمع أطباق اللحوم، وفجأة توقُف والأطباق لا تزال في يدَيه وقال بصوت غريب ومذعور: هناك شخص يجري.
كان بوسع الجميع سماع الصوت، صوت أقدام تجري على طول الشرفة! وقد عرفوا الخبر في تلك اللحظة دون أن يخبرهم أحد ، ودون اتفاق مسبّق وثبوا جميعاً على أقدامهم ووقفوا ينظرون باتجاه الباب، وظهر الدكتور آرمسترونغ لاهثاً وقال: الجنرال ماك آرثر...
فقالت فيرا: مات؟!
انطلقت الكلمة من فم فيرا كالانفجار، فقال آمسترونغ: نعم، لقد مات!
وسادت برهة من الصمت، برهة طويلة، ونظر الأشخاص السبعة بعضهم إلى بعض دون أن يجدوا شيئاً يقولونه.
-4-
بدأت العاصفة تهبّ ، وبينما كانت جثة الرجل العجوز تُنقَل عبر الباب كان البقية يقفون في القاعة، وإذ أخذ المطر ينهمر تصاعد صوت خفيف لتساقط المياه على الأرض مصحوباً بزئير العاصفة. وبينما كان بلور وآرمسترونغ يصعدان الدرَج بحملهما استدارت فيرا فجأة وذهبت إلى غرفة الطعام المهجورة. كانت كما تركوها وطبق الحلوى على الطاولة الجانبية لم يمسَسُه أحد.
خطت فيرا نحو الطاولة... وكانت لا تزال هناك بعد دقيقة أو اثنتين عندما دخل روجرز بهدوء إلى الغرفة ففوجئ بوجودها، ثم لاح سؤال في عينه وقال: عفواً يا آنسة، أنا ... لقد جئت لأرى...
وبصوت عالٍ أجشّ فاجأها هي نفسها قالت فيرا: أنت محقّ تماماً يا روجرز، انظر بنفسك، هناك سبعة تماثيل فقط!
-5-
كانت جثة الجنرال ماك آرثر قد سُجيّت على سريره، وأجرى آرمسترونغ فحصاً أخيراً ثم غادر الغرفة ونزل إلى الطابق الأرضي فوجد الآخرين مجتمعين في غرفة الجلوس. كانت الآنسة برنت تشتغل بالصوف في حين كانت فيرا كلايثورن واقفة بجوار الشبّاك تنظر إلى المطر المتساقط، وجلس بلور باعتدال على كرسيّ ويداه على ركبتيه، وكان لومبارد يذرع الغرفة جيئة وذهاباً، وفي الطرَف الآخر من الغرفة جلس القاضي وارغريف في كرسيّ مريح وعيناه نصف مغمضتين.
فتح وارغريف عينيَه عندما دخل آرمسترونغ الغرفة وقال بصوت واضح: حسناً يا دكتور، ما الوضع؟
بدا آرمسترونغ شاحباً جداً وقال : لم يُصّب بنوبة قلبية أو بأي شيء من هذا القبيل، لقد ضُرب ماك آرثر بهراوة أو بشيء مماثل على مؤخّرة رأسه!
سرَت همهمة بين الحضور ، ولكن صوت القاضي ارتفع بوضوح مرة أخرى قائلاً: هل وجدت الأداة الفعلية التي تمّ استخدامها؟
تنحنح القاضي وقال مرة أخرى: كنتُ في أثناء جلوسي هذا الصباح في الشرفة – أيها السادة – أراقب تصرفاتكم، ولم يكُن لديّ سوى القليل من الشك حول ما كنتم تسعون إليه، كنتم تفتّشون الجزيرة بحثاً عن قاتل مجهول.
فقال فيليب لومبارد: هذا صحيح تماماً يا سيدي.
تابع القاضي: ولقد وصلتم إلى النتيجة ذاتها التي توصلت أنا إليها دون شك، وهي أن موت أنتوني مارستون والسيدة روجرز لم يكُن نتيجة حادثٍ أو انتحار، كما أنكم توصلتم إلى استنتاج معيَّن حول قصد السيد أوين من استدراجنا إلى هذه الجزيرة بالتأكيد.
فقال بلور بصوت أجشّ : هذا الرجل مجنون معتوه!
فسعل القاضي وقال: هذا مؤكَّد تقريباً: ولكنه بالكاد يؤثّر على الموضوع. اهتمامنا الرئيسي الآن هو إنقاذ حياتنا.
قال آرمسترونغ بصوت متهدّج: لا يوجد أحد في الجزيرة، أؤكّد لكم انه لا أحد في الجزيرة.
فمسح القاضي على ذقنه وقال بلطف: بالمعنى الذي تقصده: نعم. لقد توصلتُ إلى هذا الاستنتاج في وقت مبكّر هذا الصباح، وكان بوسعي أن أقول لكم إن بحثكم سينتهي دون جدوى، لكنني – مع ذلك – أتبّنى بشدّة الرأي القائل إن السيد أوين (ولنستخدم الاسم الذي أعطاه هو لنفسه) موجود في هذه الجزيرة. هذا شبه مؤكَّد، وإذا أمعَنا النظر في تلك المسألة المحيّرة، ألا وهي – دون زيادة أو نقصان – إنفاذ حكم القضاء بحقّ أشخاص معَّينين لارتكابهم جرائم لا يثبتها القانون، فسنجد انه توجد طريقة واحدة لتنفيذ هذه الخطة. السيد أوين لا يمكن أن يكون على الجزيرة إلاَ بطريقة واحدة أيها السادة، وهي أن يكون واحداً منّا.
-6-
صرخت فيرا كما لو كانت تئنّ : يا إلهي ! لا ، لا ، لا !
فرمقها القاضي بنظرة حادّة وقال: عزيزتي السيدة الشابة، ليس هذا وقت رفض مواجهة الحقائق. نحن جميعاً نواجه خطراً قاتلاً، أحدنا هو أوين ولا نعرف من يكون بيننا. من بين الأشخاص العشرة الذين أتوا إلى هذه الجزيرة ثلاثة تأكدَت براءتهم، أنتوني مارستون والسيدة روجرز والجنرال ماك آرثر أصبحوا خارج دائر الشك. بقي سبعة منّا، ومن بين هؤلاء السبعة واحد سأدعوه " الجندي الصغير المزيَّف ".
وتوقّف قليلاً ونظر حوله ثم سأل: هل أفهم أنكم جميعاً توافقونني الرأي؟
فقال آرمسترونغ: هذا شيء كالخيال، ولكني أعتقد أنك على حق.
وقال بلور: لا شك في ذلك، وإذا سألتموني فلديّ فكرة جيدة جداً.
ولكن القاضي وارغريف أوقفه بإشارة من يده وقال بهدوء: سنصل إلى ذلك فيما بعد. كل ما أريده الآن هو التأكّد من أننا جميعاً متفقون حول الحقائق.
قالت إميلي برنت وهي لا تزال تشتغل بحياكة الصوف: نظريتك تبدو منطقية، أنا أوافق أن أحدنا يتملكه شيطان.
وغمغمت فيرا: لا أستطيع أن أصدّق، لا أستطيع.
فقال وارغريف: وماذا عنك يا لومبارد؟
بداية: هل من سبب للاشتباه في شخص معيِّن ؟ أعتقد أن لديك ما تقوله يا سيد بلور.
تنفّس بلور بصعوبة وقال: لومبارد معه مسدّس، وهو لم يَقُل الحقيقة ليلة أمس، وقد أعترف بذلك.
فابتسم لومبارد باستهزاء وقال: أعتقد أن من الأفضل أن أشرح الأمر ثانية.
وشرح الموضوع سارداً القصة بشكل موجَز ومحكَم فقال بلور بحدّة: ماذا لديك من إثباتات؟ لا يوجد ما يعزّز روايتك.
فسعل القاضي وقال: نحن جميعاً في هذا الوضع؛ ليس لدينا من دليل سوى كلامنا لسوء الحظ.
ثم انحنى إلى الأمام قليلاً وأضاف: ليس بينكم من استوعب غرابة الموقف الذي نحن فيه حتى الآن، وفي رأيي أنه يوجد أسلوب واحد يمكن الأخذ به. هل يمكننا استبعاد أحد من الشك بناء على الأدلة الموجودة لدينا؟
فقال الدكتور آرمسترونغ بسرعة: أنا رجل مهنيّ معروف، ومجرّد فكرة أنني قد أكون موضع اشتباه...
فأشار القاضي وارغريف بيده مرة أخرى فأوقف المتحدث قبل الانتهاء من كلامه وقال بصوته الهادئ الواضح: أنا أيضاً رجل معروف جيّداً، ولكن هذا لا يثبت شيئاً يا سيدي. بعض الأطبّاء والقضاة أصيبوا بالجنون.
ثم نظر إلى بلور وقال مكملاً: وكذلك رجال شرطة.
قال لومبارد: أيّاً كان الأمر، أعتقد أنك سوف تستثني النساء من ذلك.
فارتفع حاجبا القاضي وقال بنبرة السخرية اللاذعة التي يجيدها: هل أفهم من هذا أنك تؤكّد أن النساء ليست لديهنّ نزعات إجرامية؟
فقال لومبارد متضايقاً: بالطبع لا، ولكن يبدو هذا احتمالاً صعباً.
وتوقف عن كلامه فقال القاضي وارغريف بنفس الصوت الهادئ اللاذع: أعتقد – يا دكتور آرمسترونغ – أن أي امرأة قادرة جسدياً على توجيه ضربة كتلك التي قتلت المسكين ماك آرثر.
فقال الطبيب بهدوء: تستطيع تماماً إذا توفرت لها أداة مناسبة كهراوة أو نحو ذلك.
فصاحت فيرا بغضب: أعتقد أنك تهذي!
فتحركت عيناه ببطء حتى استقرّتا عليها، وكانت النظرة الباردة لرجل اعتاد جيداً على تقييم الناس، فقالت فيرا لنفسها: " إنه ينظر إليّ فقط كـ... كمثال، و..."، ثم واتتها الفكرة بدهشة حقيقية فقالت لنفسها: وهو لا يحبني كثيراً!
قال القاضي بنبرة متزنة: سيدتي الشابة العزيزة، حاولي كبح مشاعرك . أنا لا أتهمك.
ثم انحنى للآنسة برنت وقال: آمل – يا آنسة برنت – أن لا أضايقك بإصراري على أننا جميعاً متساوون في أن تكون عرضة للاشتباه.
كانت إميلي برنت تحيك الصوف، وقالت دون أن ترفع رأسها وبصوت بارد: إن فكرة اتهامي بقتل شخص من بني الإنسان، ناهيك عن قتل ثلاثة أشخاص، فكرة سخيفة تماماً – بالطبع – لكل من يعرف شيئاً عن طبيعة شخصيتي. ولكني أقدّر حقيقة أننا جميعاً غرباء بعضنا بالنسبة لبعض، وأنه في ظروف كهذه لا يمكن استثناء أحد دون أدلّة وافية.
قال القاضي : إذن فنحن متفقون، لا يمكن استثناء أحد على أساس الشخصية أو المركز فقط.
فقال لومبارد: وماذا عن روجرز؟
فقال القاضي وهو ينظر إليه دون أن تطرف عيناه: وماذا عنه؟
قال لومبارد : حسناً ، في رأيي أن روجرز مستثنى تماماً.
فقال القاضي وارغريف حقاً؟ على أيّ أساس؟
قال لومبارد: أولاً ليس لديه الكثير من الذكاء، وثانياً زوجته كانت إحدى الضحايا.
فارتفع حاجبا القاضي مرة اخرى وقال: في أيام خدمتي – أيها الشاب – وقف أمامي أشخاص عديدون متّهمون بقتل زوجاتهم، وثبت أنهم مذنبون.
قال لومبارد: حسناً، خذ الأمر كما تشاء؛ أوين واحد منّا ولا أحدَ مستثنى، وجميعنا مؤهَّلون لهذا الاحتمال.
قال القاضي وارغريف: النقطة التي أريد التركيز عليها هي انه يجب عدم السماح بأية استثناءات على أساس الشخصية أو المركز أو الاحتمالية. ما يتعيّن علينا الآن البحث فيه هو مدى احتمال استثناء شخص أو أكثر من بيننا على أساس الحقائق. بعبارة أبسط: هل بيننا شخص أو أكثر لا يُحتمَل ان يكون قد وضع السيانيد لأنتوني مارستون، أو جرعة منوّم زائدة للسيدة روجرز. أو لم تكُن لديه فرصة لتوجيه الضربة التي قتلت الجنرال ماك آرثر؟
فأضاء وجه بلور الذي كان متجهماً وانحنى بجسمه إلى الأمام وقال: الآن أنت تضع النقاط على الحروف يا سيدي، هذا هو صلب الموضوع ولندخل في تفصيلاته الآن، بالنسبة لمارستون لا أعتقد أن بالإمكان إضافة أيّ شيء. لقد طُرحت فكرة مفادها أنّ شخصاً ما من الخارج قد دسّ له شيئاً في كأسه قبل أن يملأها للمرة الأخيرة، والواقع أن شخصاً من داخل الغرفة كان بوسعه فعل ذلك بسهولة أكبر. أنا لا أذكر ما إذا كان روجرز داخل الغرفة عندئذ أم لا، ولكن أيّ شخص منّا نحن الآخرين كان بوسعه ذلك.
وتوقف لحظة ثم تابع: والآن خذ مثلاً تلك المرأة السيدة روجرز، الأشخاص الأبرز فيما يتعلق بها هم زوجها والطبيب، وكلاهما كان بوسعه تنفيذ الأمر بكل سهولة.
فانتفض آرمسترونغ واقفاً على قدميه مرتجفاً وقال: أنا أحتجّ ؛ هذا كلام لا أساس له أبداً. أقسم أن الجرعة التي أعطيتها لتلك المرأة كانت في غاية الـ...
فقال القاضي بصوت غاضب مهيب منخفض النبرة: دكتور آرمسترونغ!
فلم يكمل آرمسترونغ عبارته وتابع القاضي بصوته المنخفض الهادئ: من الطبيعي أن تغضب ، ولكن عليك أن تعترف أنه لا بدّ من مواجهة الحقائق. أنت وروجرز كان بإمكانكما دسّ جرعة مميتة بكل سهولة. والآن فلنستعرض موقف بقية الحاضرين. ما فرصتي أنا ؟ وما فرصة المفتش بلور أو الآنسة كلايثورن أو السيد لومبارد؟ ما فرصة أيّ من هؤلاء في وضع السم؟ هل بالإمكان استبعاد أي منّا كلّياً؟
وتوقف قليلاً ثم قال: لا أظن ذلك.
قالت فيرا بغضب: أنا لم أقترب من تلك المرأة، يمكنكم جميعاً أن تُقسموا على ذلك.
فانتظر القاضي وارغريف لحظة ثم قال: بقدر ما تسعفني ذاكرتي كانت الحقائق كما يلي، وأرجو منكم تصحيحي إذا كان في كلامي أي خطأ: السيدة روجرز حُمِلت إلى الأريكة بواسطة السيد مارستون والسيد لومبارد، الدكتور آرمسترونغ ذهب إليها لمعاينتها وأرسل روجرز لإحضار العصائر، ثم برز سؤال حول مصدر الصوت الذي كنّا قد سمعناه للتو فذهبنا جميعاً إلى الغرفة المجاورة ما عدا الآنسة برنت التي بقيّت في الغرفة وحدها مع المرأة فاقدة الوعي.
احمرّت وجنتا الآنسة برنت قليلاً وتوقفت عن الحياكة قائلة: هذا فظيع!
وتابع الصوت الخفيض القاسي: عندما عدنا إلى الغرفة كنت أنت – يا آنسة برنت – منحنية على المرأة المطروحة على الأريكة.
فقالت إميلي برنت: هل التعاطف الإنساني جريمة؟
فقال القاضي وارغريف : أنا أؤكّد الحقائق فقط. بعد ذلك دخل روجرز ومعه المرطبات التي كان بوسعه أن يضع فيها ما يشاء بالطبع قبل دخول الغرفة، وأعطى العصير للمرأة، وبعد ذلك بفترة قصيرة قام كل من زوجها والدكتور آرمسترونغ بمساعدتها في الصعود إلى غرفة نومها، وهناك أعطاها الدكتور آرمسترونغ مُسكّناً.
قال بلور: هذا ما حدث بالضبط، وهذا يستبعد من الموضوع القاضي والسيد لومبارد وأنا والآنسة كلايثورن.
كان صوته عالياً ومبتهجاً ، فرماه القاضي وارغريف بنظرة باردة وغمغم: حقاً؟ هل هذا صحيح؟ يجب أن نضع في حسابنا كل الاحتمالات الممكنة.
فنظر إليه بلور وقال: لا أفهم ما تعني؟
فقال القاضي وارغريف: في غرفتها في الأعلى كانت السيدة روجرز ممدَّدة على السرير، وكان المُسكّن الذي أعطاها إياه الطبيب قد بدأ يأخذ مفعوله، كانت ترقد مستسلمة تغالب النوم على نحو ما. لنفرض أن الباب دُق في لحظة ما ودخل شخص ومعه قرص أو جرعة دواء مثلاً، وقال لها إن الطبيب يريد منها تناول هذا. فهل تتصورون للحظة واحدة أنها لن تبتلع ذلك الدواء بكل طواعية ودون تردد؟
ساد الصمت وبدّل بلور وضع قدميه وقطب جبينه، وقال فيليب لومبارد: لا أصدّق هذه الفرضية للحظة واحدة، ثم إنه لا أحد منًا غادر هذه الغرفة لعدة ساعات بعدها بسبب حادثة وفاة مارستون وما إلى ذلك.
قال القاضي: كان بوسع أيّ واحد منا (أو واحدة) أن يغادر غرفته ( أو غرفتها) في وقت لاحق.
فاعترض لومبارد قائلاً: ولكن كان متوقَّعاً أن يكون السيد روجرز هناك.
تململ الدكتور آرمسترونغ وقال: لا ، روجرز نزل لتنظيف وترتيب غرفة الطعام والمطبخ، وكان بوسع أيّ شخص أن يصعد إلى غرفة المرأة دون أن يراه أحد.
قالت إميلي برنت: بالتأكيد – يا دكتور – ستكون المرأة مستغرقة عندئذ في النوم بفعل تأثير المسكّن الذي أعطيتَها إياه.
وتدخّل صوت القاضي الهادئ البارد ثانية مقاطعاً: لا فائدة من تبادل الاتهامات، علينا التعامل مع الحقائق فقط، أعتقد أنه من الثابت الآن أن شيئاً كالذي وصفتُه لكم محتمَل الحدوث، وأنا أؤيّد أن درجة الاحتمال ليست عالية، ولكن ذلك يعتمد على شخصية مَن يُحتمَل أن يكون قد قام بذلك العمل؛ فظهور الآنسة برنت أو الآنسة كلايثورن في مهمّة كهذه لن يثير دهشة لدى المريضة، وصحيح أن ظهوري أنا أو السيد بلور أو السيد لومبارد سيكون أمراً غير عادي على الأقل، ولكني لا أزال أعتقد أن زيارة كهذه لن تثير أية شكوك حقيقية.
قال بلور: وأين يؤدّي بنا ذلك؟
قال القاضي وارغريف وهو يربّت على شفته ويبدو بمنتهى القسوة والجمود: لقد بحثنا في الجريمة الثانية حتى الآن، وتوصلنا إلى حقيقة أنه لا يمكن استبعاد أيّ منّا تماماّ من الاشتباه.
وتوقف قليلاً ثم تابع: نأتي الآن إلى موت الجنرال ماك آرثر الذي حدث هذا الصباح. سوف اسأل كل مَن يعتبر أن لديه أو لديها حجة غياب أن يقول لنا حجّته بكل وضوح. أنا عن نفسي أقول مباشرة إنه ليس لديّ حجة مؤكّدة؛ لقد قضيت فترة الصباح جالساً في الشرفة متأملاً الوضع الفريد الذي صرنا جميعاً فيه. جلستُ على ذلك الكرسي في الشرفة طول الصباح حتى دقّ الجرس، ولكن يخيَّل إليّ أنني مرّت بي فترات لم أكن خلالها مراقَباً من أحد، وكان بوسعي خلال هذه الفترات أن أنزل إلى الشاطئ فأقتل الجنرال وأعود إلى حيث كنت أجلس، ولا يوجد ما يدعم حقيقة أنّي لم أغادر الشرفة إلا كلمتي أنا، وفي أحوال كهذه لا يكفي هذا ولا بدّ من وجود إثبات. قال بلور أنا كنتُ مع السيد لومبارد والدكتور آرمسترونغ طوال الصباح، وهما يشهدان على ذلك. فقال الدكتور آرمسترونغ : لقد ذهبتَ إلى البيت لإحضار حبل.
قال بلور: طبعاً حصل هذا، ذهبتُ مباشرة وعدتُ مباشرة، أنت تعرف هذا.
فقال آرمسترونغ: لقد غبتَ فترة طويلة.
أحمرّ وجه بلور وقال: ماذا تعني يا دكتور آرمسترونغ؟
فأجاب آرمسترونغ : كل ما قلتُه إنك غبت لمدة طويلة.
فأجاب آرمسترونغ بحرارة: بالتأكيد، أعني... لقد غادر لومبارد لبضع دقائق وأنا بقيت في مكاني.
قال لومبارد مبتسماً: كنتُ أودّ اختبار احتمال إرسال إشارات بمرآة إلى البر، وأردت معرفة أفضل نقطة لذلك. لقد تغيّبتُ لمدة دقيقة أو اثنتين.
أومأ آرمسترونغ موافقاً وقال: هذا صحيح، لم يكُن وقتاً يكفي لارتكاب جريمة، أؤكّد ذلك.
قال القاضي : هل نظر أيّ منكما إلى ساعته؟
قال القاضي بهدوء : دقيقة أو اثنتان تعبير غامض.
ثم التفت برأسه إلى المرأة الجالسة بهيئة معتدلة وفي حضنها أشغال الصوف وقال: وأنت يا آنسة برنت؟
فقال الآنسة برنت: لقد تمشّيتُ مع الآنسة كلايثورن إلى قمة الجزيرة، وبعد ذلك جلست في الشمس في الشرفة.
قال القاضي : لا أعتقد أنني رأيتك هناك.
ثم نزلت وتحدثت إلى الجنرال ماك آرثر و...
فقاطعها القاضي وارغريف: متى كان ذلك؟
كانت فيرا غير محدَّدة للمرة الأولى وقالت: لا أعرف ، أظنه كان قبل الغداء بنحو ساعة، أو لعلّه كان قبل ذلك
سأل بلور: هل كان ذلك بعد أن تحدثنا معه أم قبل ذلك؟
قالت فيرا: لا أعرف، لقد... لقد بدا غريباً جداً!
وسرَت رعشة في جسمها، فقال القاضي مستفسراً: كيف بدا لك غريباً؟
فقالت فيرا بصوت خفيض: قال إننا جميعاً سوف نموت، وقال إنه كان ينتظر النهاية! لقد.... لقد أخافني.
أومأ القاضي وقال: ماذا فعلتِ بعد ذلك؟
-7-
حين مَثُل روجرز أمام المحكمة لم يكُن لديه الكثير ليقوله؛ كان مشغولاً طوال الصباح بأعمال البيت وإعداد الغداء، وقبل الغداء قدّم بعض المرطبات في الشرفة ثم ذهب لنقل أمتعته من غرفة السطح إلى غرفة أخرى. لم ينظر من النافذة خلال الصباح ولم يرَ شيئاً قد تكون له صلة بموت الجنرال ماك آرثر، وهو يقسم بأنه كان على طاولة الطعام ثمانية تماثيل خزفية عندما كان يُعِدّ المائدة للغداء.
عندما انتهى روجرز من إفادته ساد صمت قصير وتنحنح القاضي وارغريف، وغمغم لومبارد هامساً لفيرا كلايثورن: سوف يلخّص القضية الآن.
قال القاضي: لقد حققنا في ظروف حالات الوفاة الثلاث هذه بأفضل ما استطعنا، وفي حين أن الاحتمالية في بعض القضايا ليست في صالح أشخاص معَّينين كانوا موضع اشتباه إلا أننا لا نستطيع ان نقول إن أيّ واحد منّا يمكن اعتباره بريئاً بشكل مؤكّد. أؤكّد قناعتي التامّة بأن أحد الأشخاص السبعة الموجودين في هذه الغرفة مجرم خطير، وهو مختلّ العقل على الأرجح. ليس أمامنا دليل حول هذا الشخص، وكل ما نستطيع أن نفعله في هذه المرحلة هو بحث الإجراءات التي يمكننا اتخاذها للاتصال بالبر طلباً للنجدة، ولكن إذا ما تأخرت النجدة (وهو أمر محتمَل جداً بسبب حالة الطقس) فما الإجراءات التي نستطيع اتخاذها لضمان سلامتنا؟
وصمت هنيهة ثم عاد يقول: اطلب منكم أن تفكّروا فيما أقوله بعناية وأن تُعلِموني بأيّ اقتراحات قد تخطر لكم. في هذه الأثناء أودّ أن أحذّر كلاً منكم ليكون في غاية اليقظة والاحتراس. لقد كانت مهمة المجرم سهلة حتى الآن لأن ضحاياه لم يكونوا مرتابين فيه، لكن واجبنا أن نشكّ في كل واحد فينا هذه اللحظة. لا تخاطروا بأية صورة وكونوا متنبهين للخطر، هذا كل ما لديّ.
غمغم فيليب لومبارد هامساً: والآن ستُرفع الجلسة.
* * *
-1-
قال لومبارد ببطء: لقد كنّا مخطئين طوال الوقت، صنعنا كابوساً من الوهم والخيال لمجرَّد تصادف وقوع حادثّتي وفاة.
فقال آرمسترونغ بصوت خفيض: ولكن – مع ذلك – فما زالت النظرية قائمة بغضّ النظر عن كل شيء؛ فأنا طبيب وأعرف شيئاً عن حالات الانتحار، وأنتوني مارستون لم يكُن من النوع الذي يمكن أن ينتحر.
فقال لومبارد متشككاً: ألا نستطيع الافتراض بأنه كان حادثاً؟
زفر بلور غير مقتنع وقال : هذه نوعيه عجيبة من الحوادث!
توقّف الحديث برهة ثم قال بلور : بخصوص تلك المرأة... وتوقف عن الحديث فسأله لومبارد: السيدة روجرز؟
- نعم ، ألا يحتمل بالنسبة لها أن موتها ربما كان حادثاً؟
بدا على بلور حرَج خفيف وأصبح وجهه المتورد أشدّ حمرة وقال بلا وعي تقريباً: انظر يا عزيزي، لقد أعطيتَها أنت علاجاً مسكّناً، أليس كذلك؟
حدّق إليه الطبيب وقال: علاجاً مسكناً؟ ماذا تعني؟
- الليلة الماضية قلتَ إنك أعطيتها شيئاً يساعدها على النوم.
- آه، نعم؛ كان عقاراً مسكناً لا ضرر منه.
- ماذا كان بالضبط؟
- أعطيتُها جرعة خفيفة من التريونال، وهو مستحضَر لا ضرر منه أبداً.
فقال الدكتور آرمسترونغ بغضب: لا أفهم ماذا تعني.
فقال بلور: هذا ممكن، أليس كذلك؟ لعلّك ارتكبتَ خطأ فمثل هذه الأشياء تحدث أحياناً.
قال آرمسترونغ بحدّة: لم أفعل شيئاً من هذا القبيل. إن فكرتك غير معقولة.
وتوقف لحظة ثم أضاف بنبرة باردة ولاذعة : أم لعلك تقترح أنني أعطيتها جرعة زائدة متعمداً؟
فقال فيليب لومبارد بسرعة: أرجو أن تنصتا إليّ : نحن لا نريد أن نفقد عقولنا. دعونا لا نبدأ بتراشق الاتهامات.
قال بلور فجأة: كل ما قلته أن الطبيب ربما ارتكب خطأ.
أرغم الدكتور آرمسترونغ نفسه على الابتسام وقال وهو يكشف عن أسنانه بابتسامة قاسية: الأطباء لا يملكون ترف ارتكاب أخطاء كهذه يا صديقي.
فقال بلور بتروِّ ولهجة ذات معنى: لم يكُن ذلك أول خطأ لك... إذا أخذنا بما قيل في ذلك التسجيل.
فشحب وجه آرمسترونغ وقال لومبارد بسرعة وغضب موجّهاً الحديث إلى بلور: ما الفكرة من أن تجعل نفسك عدائياً؟ نحن جميعاً في قارب واحد وعلينا أن نتضامن معاً، ماذا عن حكاية اليمين الكاذب اللطيفة الموجَّهة لك؟
فخطا بلور خطوة إلى الأمام وقد تكوّرَت قبضتا يديه وقال بصوت أجشَ: يمين كاذب ملعون! تلك كانت كذبة حقيرة. بوسعك أن تحاول إسكاتي – يا سيد لومبارد – ولكن هنالك أشياء أريد أن أعرفها، وأحد هذه الأشياء عنك.
ارتفع حاجبا لومبارد وقال: عني؟
- نعم ، أودّ أن أعرف لماذا أحضرت معك مسدَّساً إلى هنا وأنت قادم في زيادة اجتماعية ودّية.
قال بلور: بلى، أريد أن أعرف يا سيد لومبارد.
فقال لومبارد بصورة غير متوقَّعة: أتعرف يا بلور؟ أنت لست معتوهاً كما تبدو.
- هذا جائز ، والآن ماذا عن المسدَّس؟
فابتسم بلور متشككاً وقال: لم تُقل لنا ذلك ليلة أمس.
هزّ لومبارد رأسه فواصل بلور كلامه قائلاً: إذن فقد كنتَ تخفي الأمر عنّا.
قال لومبارد: بطريقة ما، نعم.
- حسناً ، تفضل وأخبرنا الآن.
فاستحثّه بلور بصبر نافد قائلاً: حسناً، ثم ماذا؟
قال لومبارد بهمهمة : هذا كل ما هنالك.
فقال الدكتور آرمسترونغ: ولكن من المؤكَّد أنه أخبرك أشياء أكثر من ذلك.
- لا ، لم يفعل ؛ لقد أطبق فمه كالمحارة، وكان عليّ أن أقبل أو أرفض، كانت هذه كلماته، ولأنني كنت مفلساً فقد قبلت العرض.
فهزّ لومبارد كتفيه استنكاراً وقال: كيف كان بوسعي أن أعرف – يا عزيزي – أن ليلة أمس لم تكُن هي بالضبط الحدَث المحتمَل الذي جئتُ من أجله؟ لذلك لذتُ بالصمت ورويتُ قصة لا تُلزمني بشيء.
قال الدكتور آرمسترونغ ساخراً: ولكن تفكيرك اختلف الآن؟
فتغيرت ملامح لومبارد وعبس وجهه وتصلّب وقال: أجل، الآن أنا أعتقد أنني في القارب نفسه معكم. تلك الجنيهات المئة كانت قطعة الجبن الصغيرة التي وضعها لي السيد أوين طُعماً للوقوع في المصيدة معكم.
وأضاف ببطء: نحن جميعاً في مصيدة، أقسم على ذلك. موت السيدة روجرز وتوني مارستون، اختفاء تماثيل الجنود الصغار من فوق طاولة الطعام. نعم، نعم ، إن يد السيد أوين واضحة في الموضوع ، ولكن أين ذلك الوغد السيد أوين نفسه؟!
عندئذ دقّ الجرس في الطابق السفلي داعياً إلى الغداء.
-2-
كان روجرز واقفاً إلى جانب باب غرفة الطعام، وحين رأى الرجال الثلاثة ينزلون الدرَج خطا إلى الأمام خطوة أو اثنتين وقال بصوت خفيض يشوبه القلق: آمل أن يكون الطعام المعَدّ مرضياً لكم. لدينا شرائح من اللحم البارد وقد سلقتُ بعض البطاطا، ولدينا أيضاً جبن وبعض الفواكه المعلَّبة.
قال لومبارد: لا بأس بكل ذلك. إذن فالمؤن جيدة.
- الطعام وفير يا سيدي ؛ يوجد هنا الكثير من الأطعمة المعلَّبة وثلاجة اللحوم مملوءة جيداً. هذا ضروري – يا سيدي – في جزيرة قد ينقطع فيها المرء عن الساحل فترة طويلة.
قال لومبارد: أجل ، سوء حظ غريب، هذا وصف جيّد للحالة.
دخلت الآنسة برنت الغرفة وكانت قد أسقطت لفة من الصوف لتوّها وأخذَت تعيد لفّ الخيط من جديد، وفيما كانت تأخذ مقعدها إلى المائدة علّقَت قائلة: الطقس يتغيّر، أصبحت الريح قوية جداً والأمواج البيضاء تملأ سطح البحر كالخيل.
ودخل القاضي وارغريف بخطوات بطيئة متزنة وجال بعينيه على بقيّة الجالسين حول المائدة بنظرات سريعة من تحت حاجّبيه الكثيفين ثم قال: أظنكم قضيتم صباحاً مفعماً بالنشاط.
كان في صوته رنّة ابتهاج يشوبها بعض الخبث، ثم دخلت فيرا كلايثورن على عجل فقالت وهي تلتقط أنفاسها: آمل أنكم لم تنتظروني. هل تأخرت عليكم؟
فقالت إميلي برنت: أنت لستِ آخر من يحضر؛ الجنرال لم يأتِ بعد.
جلسوا حول الطاولة فقال لورجز مخاطباً الآنسة برنت: هل ستبدئين يا سيدتي أم ستنتظرين؟
فقالت فيرا: الجنرال ماك آرثر يجلس على طرف البحر، ولا أتوقع أن يكون بوسعه سماع الجرس هناك على أية حال.
وتردّدَت قليلاً ثم أضافت: أعتقد أنه يتصرف بغرابة إلى حدّ ما هذا اليوم.
فقال روجرز بسرعة: سأذهب وأخبره أن الغداء جاهز.
فقفز الدكتور آرمسترونغ وقال: سأذهب أنا، ابدؤوا أنتم بتناول طعامكم.
وغادر الغرفة، وسمع من خلفه صوت روجرز يقول: أتريدين لحماً بارداً يا سيدتي؟
-3-
بدا أن الخمسة الجالسين حول الطاولة يجدون صعوبة في تبادل الحديث، وفي الخارج كانت هبّات من الريح تشتدّ ثم تتلاشى فارتعشت فيرا قليلاً وقالت: أظن أن العاصفة قادمة.
وأدلى بلور بدلوه في الحوار فقال بلهجة من يريد فتح باب الحديث: رجل عجوز في القطار القادم من بلايموث أمس ظلّ يقول طول الوقت إن عاصفة قادمة. كم تدهشني معرفة البحّارة العجائز بالطقس!
دار روجرز حول المائدة يجمع أطباق اللحوم، وفجأة توقُف والأطباق لا تزال في يدَيه وقال بصوت غريب ومذعور: هناك شخص يجري.
كان بوسع الجميع سماع الصوت، صوت أقدام تجري على طول الشرفة! وقد عرفوا الخبر في تلك اللحظة دون أن يخبرهم أحد ، ودون اتفاق مسبّق وثبوا جميعاً على أقدامهم ووقفوا ينظرون باتجاه الباب، وظهر الدكتور آرمسترونغ لاهثاً وقال: الجنرال ماك آرثر...
فقالت فيرا: مات؟!
انطلقت الكلمة من فم فيرا كالانفجار، فقال آمسترونغ: نعم، لقد مات!
وسادت برهة من الصمت، برهة طويلة، ونظر الأشخاص السبعة بعضهم إلى بعض دون أن يجدوا شيئاً يقولونه.
-4-
بدأت العاصفة تهبّ ، وبينما كانت جثة الرجل العجوز تُنقَل عبر الباب كان البقية يقفون في القاعة، وإذ أخذ المطر ينهمر تصاعد صوت خفيف لتساقط المياه على الأرض مصحوباً بزئير العاصفة. وبينما كان بلور وآرمسترونغ يصعدان الدرَج بحملهما استدارت فيرا فجأة وذهبت إلى غرفة الطعام المهجورة. كانت كما تركوها وطبق الحلوى على الطاولة الجانبية لم يمسَسُه أحد.
خطت فيرا نحو الطاولة... وكانت لا تزال هناك بعد دقيقة أو اثنتين عندما دخل روجرز بهدوء إلى الغرفة ففوجئ بوجودها، ثم لاح سؤال في عينه وقال: عفواً يا آنسة، أنا ... لقد جئت لأرى...
وبصوت عالٍ أجشّ فاجأها هي نفسها قالت فيرا: أنت محقّ تماماً يا روجرز، انظر بنفسك، هناك سبعة تماثيل فقط!
-5-
كانت جثة الجنرال ماك آرثر قد سُجيّت على سريره، وأجرى آرمسترونغ فحصاً أخيراً ثم غادر الغرفة ونزل إلى الطابق الأرضي فوجد الآخرين مجتمعين في غرفة الجلوس. كانت الآنسة برنت تشتغل بالصوف في حين كانت فيرا كلايثورن واقفة بجوار الشبّاك تنظر إلى المطر المتساقط، وجلس بلور باعتدال على كرسيّ ويداه على ركبتيه، وكان لومبارد يذرع الغرفة جيئة وذهاباً، وفي الطرَف الآخر من الغرفة جلس القاضي وارغريف في كرسيّ مريح وعيناه نصف مغمضتين.
فتح وارغريف عينيَه عندما دخل آرمسترونغ الغرفة وقال بصوت واضح: حسناً يا دكتور، ما الوضع؟
بدا آرمسترونغ شاحباً جداً وقال : لم يُصّب بنوبة قلبية أو بأي شيء من هذا القبيل، لقد ضُرب ماك آرثر بهراوة أو بشيء مماثل على مؤخّرة رأسه!
سرَت همهمة بين الحضور ، ولكن صوت القاضي ارتفع بوضوح مرة أخرى قائلاً: هل وجدت الأداة الفعلية التي تمّ استخدامها؟
- لا.
- وهل أنت متأكد من الحقائق التي توصلتَ إليها؟
- نعم، متأكد تماماً.
- قال القاضي وارغريف بهدوء: نحن نعرف أين نحن الآن بالضبط.
تنحنح القاضي وقال مرة أخرى: كنتُ في أثناء جلوسي هذا الصباح في الشرفة – أيها السادة – أراقب تصرفاتكم، ولم يكُن لديّ سوى القليل من الشك حول ما كنتم تسعون إليه، كنتم تفتّشون الجزيرة بحثاً عن قاتل مجهول.
فقال فيليب لومبارد: هذا صحيح تماماً يا سيدي.
تابع القاضي: ولقد وصلتم إلى النتيجة ذاتها التي توصلت أنا إليها دون شك، وهي أن موت أنتوني مارستون والسيدة روجرز لم يكُن نتيجة حادثٍ أو انتحار، كما أنكم توصلتم إلى استنتاج معيَّن حول قصد السيد أوين من استدراجنا إلى هذه الجزيرة بالتأكيد.
فقال بلور بصوت أجشّ : هذا الرجل مجنون معتوه!
فسعل القاضي وقال: هذا مؤكَّد تقريباً: ولكنه بالكاد يؤثّر على الموضوع. اهتمامنا الرئيسي الآن هو إنقاذ حياتنا.
قال آرمسترونغ بصوت متهدّج: لا يوجد أحد في الجزيرة، أؤكّد لكم انه لا أحد في الجزيرة.
فمسح القاضي على ذقنه وقال بلطف: بالمعنى الذي تقصده: نعم. لقد توصلتُ إلى هذا الاستنتاج في وقت مبكّر هذا الصباح، وكان بوسعي أن أقول لكم إن بحثكم سينتهي دون جدوى، لكنني – مع ذلك – أتبّنى بشدّة الرأي القائل إن السيد أوين (ولنستخدم الاسم الذي أعطاه هو لنفسه) موجود في هذه الجزيرة. هذا شبه مؤكَّد، وإذا أمعَنا النظر في تلك المسألة المحيّرة، ألا وهي – دون زيادة أو نقصان – إنفاذ حكم القضاء بحقّ أشخاص معَّينين لارتكابهم جرائم لا يثبتها القانون، فسنجد انه توجد طريقة واحدة لتنفيذ هذه الخطة. السيد أوين لا يمكن أن يكون على الجزيرة إلاَ بطريقة واحدة أيها السادة، وهي أن يكون واحداً منّا.
-6-
صرخت فيرا كما لو كانت تئنّ : يا إلهي ! لا ، لا ، لا !
فرمقها القاضي بنظرة حادّة وقال: عزيزتي السيدة الشابة، ليس هذا وقت رفض مواجهة الحقائق. نحن جميعاً نواجه خطراً قاتلاً، أحدنا هو أوين ولا نعرف من يكون بيننا. من بين الأشخاص العشرة الذين أتوا إلى هذه الجزيرة ثلاثة تأكدَت براءتهم، أنتوني مارستون والسيدة روجرز والجنرال ماك آرثر أصبحوا خارج دائر الشك. بقي سبعة منّا، ومن بين هؤلاء السبعة واحد سأدعوه " الجندي الصغير المزيَّف ".
وتوقّف قليلاً ونظر حوله ثم سأل: هل أفهم أنكم جميعاً توافقونني الرأي؟
فقال آرمسترونغ: هذا شيء كالخيال، ولكني أعتقد أنك على حق.
وقال بلور: لا شك في ذلك، وإذا سألتموني فلديّ فكرة جيدة جداً.
ولكن القاضي وارغريف أوقفه بإشارة من يده وقال بهدوء: سنصل إلى ذلك فيما بعد. كل ما أريده الآن هو التأكّد من أننا جميعاً متفقون حول الحقائق.
قالت إميلي برنت وهي لا تزال تشتغل بحياكة الصوف: نظريتك تبدو منطقية، أنا أوافق أن أحدنا يتملكه شيطان.
وغمغمت فيرا: لا أستطيع أن أصدّق، لا أستطيع.
فقال وارغريف: وماذا عنك يا لومبارد؟
- أوافقك يا سيدي، أوافقك تماماً.
بداية: هل من سبب للاشتباه في شخص معيِّن ؟ أعتقد أن لديك ما تقوله يا سيد بلور.
تنفّس بلور بصعوبة وقال: لومبارد معه مسدّس، وهو لم يَقُل الحقيقة ليلة أمس، وقد أعترف بذلك.
فابتسم لومبارد باستهزاء وقال: أعتقد أن من الأفضل أن أشرح الأمر ثانية.
وشرح الموضوع سارداً القصة بشكل موجَز ومحكَم فقال بلور بحدّة: ماذا لديك من إثباتات؟ لا يوجد ما يعزّز روايتك.
فسعل القاضي وقال: نحن جميعاً في هذا الوضع؛ ليس لدينا من دليل سوى كلامنا لسوء الحظ.
ثم انحنى إلى الأمام قليلاً وأضاف: ليس بينكم من استوعب غرابة الموقف الذي نحن فيه حتى الآن، وفي رأيي أنه يوجد أسلوب واحد يمكن الأخذ به. هل يمكننا استبعاد أحد من الشك بناء على الأدلة الموجودة لدينا؟
فقال الدكتور آرمسترونغ بسرعة: أنا رجل مهنيّ معروف، ومجرّد فكرة أنني قد أكون موضع اشتباه...
فأشار القاضي وارغريف بيده مرة أخرى فأوقف المتحدث قبل الانتهاء من كلامه وقال بصوته الهادئ الواضح: أنا أيضاً رجل معروف جيّداً، ولكن هذا لا يثبت شيئاً يا سيدي. بعض الأطبّاء والقضاة أصيبوا بالجنون.
ثم نظر إلى بلور وقال مكملاً: وكذلك رجال شرطة.
قال لومبارد: أيّاً كان الأمر، أعتقد أنك سوف تستثني النساء من ذلك.
فارتفع حاجبا القاضي وقال بنبرة السخرية اللاذعة التي يجيدها: هل أفهم من هذا أنك تؤكّد أن النساء ليست لديهنّ نزعات إجرامية؟
فقال لومبارد متضايقاً: بالطبع لا، ولكن يبدو هذا احتمالاً صعباً.
وتوقف عن كلامه فقال القاضي وارغريف بنفس الصوت الهادئ اللاذع: أعتقد – يا دكتور آرمسترونغ – أن أي امرأة قادرة جسدياً على توجيه ضربة كتلك التي قتلت المسكين ماك آرثر.
فقال الطبيب بهدوء: تستطيع تماماً إذا توفرت لها أداة مناسبة كهراوة أو نحو ذلك.
- هل يتطلب هذا استخداماً مفرطاً في القوة؟
- لا ، ابداً.
فصاحت فيرا بغضب: أعتقد أنك تهذي!
فتحركت عيناه ببطء حتى استقرّتا عليها، وكانت النظرة الباردة لرجل اعتاد جيداً على تقييم الناس، فقالت فيرا لنفسها: " إنه ينظر إليّ فقط كـ... كمثال، و..."، ثم واتتها الفكرة بدهشة حقيقية فقالت لنفسها: وهو لا يحبني كثيراً!
قال القاضي بنبرة متزنة: سيدتي الشابة العزيزة، حاولي كبح مشاعرك . أنا لا أتهمك.
ثم انحنى للآنسة برنت وقال: آمل – يا آنسة برنت – أن لا أضايقك بإصراري على أننا جميعاً متساوون في أن تكون عرضة للاشتباه.
كانت إميلي برنت تحيك الصوف، وقالت دون أن ترفع رأسها وبصوت بارد: إن فكرة اتهامي بقتل شخص من بني الإنسان، ناهيك عن قتل ثلاثة أشخاص، فكرة سخيفة تماماً – بالطبع – لكل من يعرف شيئاً عن طبيعة شخصيتي. ولكني أقدّر حقيقة أننا جميعاً غرباء بعضنا بالنسبة لبعض، وأنه في ظروف كهذه لا يمكن استثناء أحد دون أدلّة وافية.
قال القاضي : إذن فنحن متفقون، لا يمكن استثناء أحد على أساس الشخصية أو المركز فقط.
فقال لومبارد: وماذا عن روجرز؟
فقال القاضي وهو ينظر إليه دون أن تطرف عيناه: وماذا عنه؟
قال لومبارد : حسناً ، في رأيي أن روجرز مستثنى تماماً.
فقال القاضي وارغريف حقاً؟ على أيّ أساس؟
قال لومبارد: أولاً ليس لديه الكثير من الذكاء، وثانياً زوجته كانت إحدى الضحايا.
فارتفع حاجبا القاضي مرة اخرى وقال: في أيام خدمتي – أيها الشاب – وقف أمامي أشخاص عديدون متّهمون بقتل زوجاتهم، وثبت أنهم مذنبون.
- أنا موافق تماماً، إن قتل الزوجات محتمَل تماماً، بل لنقل إنه يكاد يكون طبيعياً، ولكن ليس هذا النوع بالذات. يمكنني أن أصدّق أن روجرز قتل زوجته لأنه كان يخشى أن تنهار وتفضح أمره، أو لأنه لم يعُد يحبها، أو لأنه يريد الارتباط بامرأة جميلة أصغر سناً... ولكن لا أرى من المحتمل أن يكون هو السيد أوين المعتوه ويريد إحقاق عدل مجنون بدءاً بزوجته هو لجريمة ارتكباها معاً.
قال لومبارد: حسناً، خذ الأمر كما تشاء؛ أوين واحد منّا ولا أحدَ مستثنى، وجميعنا مؤهَّلون لهذا الاحتمال.
قال القاضي وارغريف: النقطة التي أريد التركيز عليها هي انه يجب عدم السماح بأية استثناءات على أساس الشخصية أو المركز أو الاحتمالية. ما يتعيّن علينا الآن البحث فيه هو مدى احتمال استثناء شخص أو أكثر من بيننا على أساس الحقائق. بعبارة أبسط: هل بيننا شخص أو أكثر لا يُحتمَل ان يكون قد وضع السيانيد لأنتوني مارستون، أو جرعة منوّم زائدة للسيدة روجرز. أو لم تكُن لديه فرصة لتوجيه الضربة التي قتلت الجنرال ماك آرثر؟
فأضاء وجه بلور الذي كان متجهماً وانحنى بجسمه إلى الأمام وقال: الآن أنت تضع النقاط على الحروف يا سيدي، هذا هو صلب الموضوع ولندخل في تفصيلاته الآن، بالنسبة لمارستون لا أعتقد أن بالإمكان إضافة أيّ شيء. لقد طُرحت فكرة مفادها أنّ شخصاً ما من الخارج قد دسّ له شيئاً في كأسه قبل أن يملأها للمرة الأخيرة، والواقع أن شخصاً من داخل الغرفة كان بوسعه فعل ذلك بسهولة أكبر. أنا لا أذكر ما إذا كان روجرز داخل الغرفة عندئذ أم لا، ولكن أيّ شخص منّا نحن الآخرين كان بوسعه ذلك.
وتوقف لحظة ثم تابع: والآن خذ مثلاً تلك المرأة السيدة روجرز، الأشخاص الأبرز فيما يتعلق بها هم زوجها والطبيب، وكلاهما كان بوسعه تنفيذ الأمر بكل سهولة.
فانتفض آرمسترونغ واقفاً على قدميه مرتجفاً وقال: أنا أحتجّ ؛ هذا كلام لا أساس له أبداً. أقسم أن الجرعة التي أعطيتها لتلك المرأة كانت في غاية الـ...
فقال القاضي بصوت غاضب مهيب منخفض النبرة: دكتور آرمسترونغ!
فلم يكمل آرمسترونغ عبارته وتابع القاضي بصوته المنخفض الهادئ: من الطبيعي أن تغضب ، ولكن عليك أن تعترف أنه لا بدّ من مواجهة الحقائق. أنت وروجرز كان بإمكانكما دسّ جرعة مميتة بكل سهولة. والآن فلنستعرض موقف بقية الحاضرين. ما فرصتي أنا ؟ وما فرصة المفتش بلور أو الآنسة كلايثورن أو السيد لومبارد؟ ما فرصة أيّ من هؤلاء في وضع السم؟ هل بالإمكان استبعاد أي منّا كلّياً؟
وتوقف قليلاً ثم قال: لا أظن ذلك.
قالت فيرا بغضب: أنا لم أقترب من تلك المرأة، يمكنكم جميعاً أن تُقسموا على ذلك.
فانتظر القاضي وارغريف لحظة ثم قال: بقدر ما تسعفني ذاكرتي كانت الحقائق كما يلي، وأرجو منكم تصحيحي إذا كان في كلامي أي خطأ: السيدة روجرز حُمِلت إلى الأريكة بواسطة السيد مارستون والسيد لومبارد، الدكتور آرمسترونغ ذهب إليها لمعاينتها وأرسل روجرز لإحضار العصائر، ثم برز سؤال حول مصدر الصوت الذي كنّا قد سمعناه للتو فذهبنا جميعاً إلى الغرفة المجاورة ما عدا الآنسة برنت التي بقيّت في الغرفة وحدها مع المرأة فاقدة الوعي.
احمرّت وجنتا الآنسة برنت قليلاً وتوقفت عن الحياكة قائلة: هذا فظيع!
وتابع الصوت الخفيض القاسي: عندما عدنا إلى الغرفة كنت أنت – يا آنسة برنت – منحنية على المرأة المطروحة على الأريكة.
فقالت إميلي برنت: هل التعاطف الإنساني جريمة؟
فقال القاضي وارغريف : أنا أؤكّد الحقائق فقط. بعد ذلك دخل روجرز ومعه المرطبات التي كان بوسعه أن يضع فيها ما يشاء بالطبع قبل دخول الغرفة، وأعطى العصير للمرأة، وبعد ذلك بفترة قصيرة قام كل من زوجها والدكتور آرمسترونغ بمساعدتها في الصعود إلى غرفة نومها، وهناك أعطاها الدكتور آرمسترونغ مُسكّناً.
قال بلور: هذا ما حدث بالضبط، وهذا يستبعد من الموضوع القاضي والسيد لومبارد وأنا والآنسة كلايثورن.
كان صوته عالياً ومبتهجاً ، فرماه القاضي وارغريف بنظرة باردة وغمغم: حقاً؟ هل هذا صحيح؟ يجب أن نضع في حسابنا كل الاحتمالات الممكنة.
فنظر إليه بلور وقال: لا أفهم ما تعني؟
فقال القاضي وارغريف: في غرفتها في الأعلى كانت السيدة روجرز ممدَّدة على السرير، وكان المُسكّن الذي أعطاها إياه الطبيب قد بدأ يأخذ مفعوله، كانت ترقد مستسلمة تغالب النوم على نحو ما. لنفرض أن الباب دُق في لحظة ما ودخل شخص ومعه قرص أو جرعة دواء مثلاً، وقال لها إن الطبيب يريد منها تناول هذا. فهل تتصورون للحظة واحدة أنها لن تبتلع ذلك الدواء بكل طواعية ودون تردد؟
ساد الصمت وبدّل بلور وضع قدميه وقطب جبينه، وقال فيليب لومبارد: لا أصدّق هذه الفرضية للحظة واحدة، ثم إنه لا أحد منًا غادر هذه الغرفة لعدة ساعات بعدها بسبب حادثة وفاة مارستون وما إلى ذلك.
قال القاضي: كان بوسع أيّ واحد منا (أو واحدة) أن يغادر غرفته ( أو غرفتها) في وقت لاحق.
فاعترض لومبارد قائلاً: ولكن كان متوقَّعاً أن يكون السيد روجرز هناك.
تململ الدكتور آرمسترونغ وقال: لا ، روجرز نزل لتنظيف وترتيب غرفة الطعام والمطبخ، وكان بوسع أيّ شخص أن يصعد إلى غرفة المرأة دون أن يراه أحد.
قالت إميلي برنت: بالتأكيد – يا دكتور – ستكون المرأة مستغرقة عندئذ في النوم بفعل تأثير المسكّن الذي أعطيتَها إياه.
- في الغالب، نعم، ولكن هذا ليس مؤكَّداً مئة بالمئة؛ فأنتِ لا تستطيعين معرفة كيفية استجابة المرضى لمختلف الأدوية إلاّ إذا كنتِ قد وضعتِ الدواء للمريض أكثر من مرّة. أحياناً تمرّ فترة طويلة قبل أن يأخذ المسكّن مفعوله. الأمر يعتمد على مدى حساسية المريض لذلك الدواء بالذات.
وتدخّل صوت القاضي الهادئ البارد ثانية مقاطعاً: لا فائدة من تبادل الاتهامات، علينا التعامل مع الحقائق فقط، أعتقد أنه من الثابت الآن أن شيئاً كالذي وصفتُه لكم محتمَل الحدوث، وأنا أؤيّد أن درجة الاحتمال ليست عالية، ولكن ذلك يعتمد على شخصية مَن يُحتمَل أن يكون قد قام بذلك العمل؛ فظهور الآنسة برنت أو الآنسة كلايثورن في مهمّة كهذه لن يثير دهشة لدى المريضة، وصحيح أن ظهوري أنا أو السيد بلور أو السيد لومبارد سيكون أمراً غير عادي على الأقل، ولكني لا أزال أعتقد أن زيارة كهذه لن تثير أية شكوك حقيقية.
قال بلور: وأين يؤدّي بنا ذلك؟
قال القاضي وارغريف وهو يربّت على شفته ويبدو بمنتهى القسوة والجمود: لقد بحثنا في الجريمة الثانية حتى الآن، وتوصلنا إلى حقيقة أنه لا يمكن استبعاد أيّ منّا تماماّ من الاشتباه.
وتوقف قليلاً ثم تابع: نأتي الآن إلى موت الجنرال ماك آرثر الذي حدث هذا الصباح. سوف اسأل كل مَن يعتبر أن لديه أو لديها حجة غياب أن يقول لنا حجّته بكل وضوح. أنا عن نفسي أقول مباشرة إنه ليس لديّ حجة مؤكّدة؛ لقد قضيت فترة الصباح جالساً في الشرفة متأملاً الوضع الفريد الذي صرنا جميعاً فيه. جلستُ على ذلك الكرسي في الشرفة طول الصباح حتى دقّ الجرس، ولكن يخيَّل إليّ أنني مرّت بي فترات لم أكن خلالها مراقَباً من أحد، وكان بوسعي خلال هذه الفترات أن أنزل إلى الشاطئ فأقتل الجنرال وأعود إلى حيث كنت أجلس، ولا يوجد ما يدعم حقيقة أنّي لم أغادر الشرفة إلا كلمتي أنا، وفي أحوال كهذه لا يكفي هذا ولا بدّ من وجود إثبات. قال بلور أنا كنتُ مع السيد لومبارد والدكتور آرمسترونغ طوال الصباح، وهما يشهدان على ذلك. فقال الدكتور آرمسترونغ : لقد ذهبتَ إلى البيت لإحضار حبل.
قال بلور: طبعاً حصل هذا، ذهبتُ مباشرة وعدتُ مباشرة، أنت تعرف هذا.
فقال آرمسترونغ: لقد غبتَ فترة طويلة.
أحمرّ وجه بلور وقال: ماذا تعني يا دكتور آرمسترونغ؟
فأجاب آرمسترونغ : كل ما قلتُه إنك غبت لمدة طويلة.
- كان عليّ أن أجد الحبل ، أليس كذلك؟ لا يمكنك أن تجد لفّة حبل خلال دقيقة.
فأجاب آرمسترونغ بحرارة: بالتأكيد، أعني... لقد غادر لومبارد لبضع دقائق وأنا بقيت في مكاني.
قال لومبارد مبتسماً: كنتُ أودّ اختبار احتمال إرسال إشارات بمرآة إلى البر، وأردت معرفة أفضل نقطة لذلك. لقد تغيّبتُ لمدة دقيقة أو اثنتين.
أومأ آرمسترونغ موافقاً وقال: هذا صحيح، لم يكُن وقتاً يكفي لارتكاب جريمة، أؤكّد ذلك.
قال القاضي : هل نظر أيّ منكما إلى ساعته؟
- حسنا ، لم يفعل أحدنا هذا.
قال القاضي بهدوء : دقيقة أو اثنتان تعبير غامض.
ثم التفت برأسه إلى المرأة الجالسة بهيئة معتدلة وفي حضنها أشغال الصوف وقال: وأنت يا آنسة برنت؟
فقال الآنسة برنت: لقد تمشّيتُ مع الآنسة كلايثورن إلى قمة الجزيرة، وبعد ذلك جلست في الشمس في الشرفة.
قال القاضي : لا أعتقد أنني رأيتك هناك.
- هذا صحيح؛ كنت خلف زاوية البيت من الجهة الشرقية بعيداً عن مهبّ الريح.
- وهل جلستِ هناك حتى وقت الغداء؟
- نعم.
- وأنتِ يا آنسة كلايثورن؟
ثم نزلت وتحدثت إلى الجنرال ماك آرثر و...
فقاطعها القاضي وارغريف: متى كان ذلك؟
كانت فيرا غير محدَّدة للمرة الأولى وقالت: لا أعرف ، أظنه كان قبل الغداء بنحو ساعة، أو لعلّه كان قبل ذلك
سأل بلور: هل كان ذلك بعد أن تحدثنا معه أم قبل ذلك؟
قالت فيرا: لا أعرف، لقد... لقد بدا غريباً جداً!
وسرَت رعشة في جسمها، فقال القاضي مستفسراً: كيف بدا لك غريباً؟
فقالت فيرا بصوت خفيض: قال إننا جميعاً سوف نموت، وقال إنه كان ينتظر النهاية! لقد.... لقد أخافني.
أومأ القاضي وقال: ماذا فعلتِ بعد ذلك؟
- عدت إلى البيت ، وقبل الغداء مباشرة خرجتُ ثانية وذهبت خلف المنزل. لقد كنت قلقة للغاية طوال الصباح.
-7-
حين مَثُل روجرز أمام المحكمة لم يكُن لديه الكثير ليقوله؛ كان مشغولاً طوال الصباح بأعمال البيت وإعداد الغداء، وقبل الغداء قدّم بعض المرطبات في الشرفة ثم ذهب لنقل أمتعته من غرفة السطح إلى غرفة أخرى. لم ينظر من النافذة خلال الصباح ولم يرَ شيئاً قد تكون له صلة بموت الجنرال ماك آرثر، وهو يقسم بأنه كان على طاولة الطعام ثمانية تماثيل خزفية عندما كان يُعِدّ المائدة للغداء.
عندما انتهى روجرز من إفادته ساد صمت قصير وتنحنح القاضي وارغريف، وغمغم لومبارد هامساً لفيرا كلايثورن: سوف يلخّص القضية الآن.
قال القاضي: لقد حققنا في ظروف حالات الوفاة الثلاث هذه بأفضل ما استطعنا، وفي حين أن الاحتمالية في بعض القضايا ليست في صالح أشخاص معَّينين كانوا موضع اشتباه إلا أننا لا نستطيع ان نقول إن أيّ واحد منّا يمكن اعتباره بريئاً بشكل مؤكّد. أؤكّد قناعتي التامّة بأن أحد الأشخاص السبعة الموجودين في هذه الغرفة مجرم خطير، وهو مختلّ العقل على الأرجح. ليس أمامنا دليل حول هذا الشخص، وكل ما نستطيع أن نفعله في هذه المرحلة هو بحث الإجراءات التي يمكننا اتخاذها للاتصال بالبر طلباً للنجدة، ولكن إذا ما تأخرت النجدة (وهو أمر محتمَل جداً بسبب حالة الطقس) فما الإجراءات التي نستطيع اتخاذها لضمان سلامتنا؟
وصمت هنيهة ثم عاد يقول: اطلب منكم أن تفكّروا فيما أقوله بعناية وأن تُعلِموني بأيّ اقتراحات قد تخطر لكم. في هذه الأثناء أودّ أن أحذّر كلاً منكم ليكون في غاية اليقظة والاحتراس. لقد كانت مهمة المجرم سهلة حتى الآن لأن ضحاياه لم يكونوا مرتابين فيه، لكن واجبنا أن نشكّ في كل واحد فينا هذه اللحظة. لا تخاطروا بأية صورة وكونوا متنبهين للخطر، هذا كل ما لديّ.
غمغم فيليب لومبارد هامساً: والآن ستُرفع الجلسة.
* * *