نقوس المهدي
كاتب
ملحق
هذا نصّ وثيقة أرسلها إلى شرطة سكوتلانديارد قبطان سفينة الصيد" إيماجين" :
لقد أدركتُ منذ أيام شبابي الأولى أنّ طبيعتي تضم كتلة من المتناقضات؛ فلديّ خيال رومَنسي لا شفاء لي منه، وقد كانت عادة وضع وثيقة مهمة في زجاجة ورميها في البحر تثيرني عندما كنت أقرأ قصص المغامرات في طفولتي، وما زالت تثيرني حتى الآن. ولهذا السبب لجأت إلى هذه الوسيلة؛ فكتبت اعترافي ووضعت الورقة في زجاجة وأغلقت الزجاجة بإحكام لألقيها في البحر. أحسب أن فرصة عثور أيَّ كان على اعترافي هذا لا تتجاوز نسبتُها واحداً في المئة، ولو حصل هذا (إذا لم يكُن هذا الإقرار تملّقاً لنفسي) فسوف يُحَلّ لغز جريمة غامضة لم يعرف أحدٌ حلّها حتى الآن.
كما أنني وُلدتُ ولديّ ميول أخرى سوى الميول الرومنسية ، فأنا أشعر بابتهاج ساديّ شديد عندما أرى أحداً يموت أو عندما أكون سبباً في موته. أتذكّر تجارِب كنت أجريها على الدبابير ومختلف حشرات الحدائق الأخرى. منذ طفولتي المبكرة كنت أشعر بقوة بشهوة القتل، ولكن إلى جانب هذا كانت تناقض معها خاصيّة أخرى ، وهي أنه كان لديّ حس قويّ بالعدالة، فممّا يثير اشمئزازي أن يتعرض شخص بريء أو حيوان للعذاب أو الموت بسبب تصرّف من جانبي، وقد شعرت شعوراً قوياً على الدوام بأن العدالة ينبغي أن تسود، ولذلك فقد يكون من المفهوم (أظن أن طبيباً نفسيّاً سيفهم) أنه طبقاً لتكويني الذهني بحالته هذه فقد اتخذتُ القانون مهنة لي، واحترافُ العمل القانوني أشبع كل غرائزي.
كنت دائماً مفتوناً بكلّ ما يتصل بالجريمة والعقاب، وأستمتع بقراءة كل أنواع الروايات البوليسية وقصص المغامرات المثيرة، وقد استنبطتُ – لمتعتي الشخصية – أبرع طرق ارتكاب الجرائم.
وعندما جاء الوقت الذي تبوّأتُ فيه رئاسة محكمة تشجَعت الغريزة السريّة الأخرى لديّ على التطور. كانت رؤية مجرم بائس يتألّم في قفصه في حين تقترب نهايته ساعة بعد ساعة تملؤني ببهجة رائعة، ولكني ألفِتُ الانتباه إلى أنني لم أكن أجد أيّ متعة في رؤية رجل بريء بهذا الوضع . لقد أوقفتُ السير في قضايا في مناسبتين على الأقل وكنت مقتنعاً خلالها أن المتهَم واضح البراءة، فكنت أبدي توجيهاتي للمحلّفين بأنه لا توجد قضية في الأساس.
ولكن بفضل كفاءة ونزاهة جهاز الشرطة لدينا فإن معظم المتهَمين الذين مثلوا أمامي كانوا مذنبين. وأريد التأكيد هنا على أن هذا الوضع ينطبق على قضية الرجل المدعوّ إدوارد سيتون، كان مظهره وسلوكه مضلّلين، وقد نجح في ترك انطباع جيّد لدى المحلفّين، ولكن الذي كان واضحاً بالنسبة لي أن الرجل قد ارتكب الجريمة التي أتُّهم بها، وهي قتل امرأة عجوز وثقت به، قتلها بكل وحشية! وقد أخبرَتني بذلك خبرتي الشخصية الطويلة في المجرمين وأنواعهم وطرقهم.
إن لي سمعة كقاضي إعدام، ولكن هذا ليس صحيحاً؛ لقد – كنتُ دائماً منصفاً ودقيقاً عندما كنت أقدّم إجمالاً لأي قضية، وكل ما فعلته هو حماية هيئة المحلفين من التأثير الذي ينتج عن المناشدات العاطفية التي يلجأ إليها بعض المحامين، وكنت ألِفتُ انتباههم حينئذ إلى الأدلة الحقيقية.
لقد بدأتُ أشعر بتغيّر في نفسي منذ بضع سنوات، تضاؤل الرغبة في التوجيه وتنامي الرغبة في التصرف التنفيذي بدلاً من إصدار الأحكام. لقد أردتُ أن أرتكب جريمة أقوم بها بنفسي – وهذا اعتراف صريح منّي). وأدركت أن هذا بمثابة رغبة الفنان في التعبير عن نفسه. كنتُ، أو كان بوسعي أن أكون، فناناً في الجريمة، وكان خيالي الذي قيّدَته مقتضيات عملي قد جمح سرّاً وأصبح قوة هائلة. يجب أن .... يجب ..... أن يجب أن ارتكب جريمة! والأكثر من ذلك أنه يجب أن لا تكون جريمة عادية، بل يجب أن تكون جريمة مثيرة، شيئاً مذهلاً، شيئاً غير مألوف. في هذه الناحية بالذات ما زال لديّ خيال مراهق فيما أظن.
أردتُ عرضاً مسرحياً، مستحيلاً. أردت أن أقتل نعم، أردت أن أقتل. ولكن رغم التناقض الذي قد يبدو للبعض، فقد كنت مقيَّداً وملتزماً بحسيّ الفطري للعدالة وبأن البريء لا يجب أن يعاقَب. ثم فجأة خطرت لي الفكرة، خطرَت انطلاقاً من ملاحظة عابرة وردَت خلال حديث عادي لي مع طبيب.
كان ممارساً عامّاً عادياً ليس له أيّ تميّز خاص، وكان قد ذكر بصورة عفوية أن كثيراً من الجرائم يحدث ولا ينال منه القضاء، وضرب مثلاً بقضية معَّينة ، وهي سيدة عجوز كانت مريضة في عيادته ثم ماتت مؤخَّراً، وقد قال إنه كان مقتنعاً بأن موتها نتج عن عدم إعطائها علاجاً بواسطة رجل وزوجته كانا يعملان في خدمتها، وقد كانا سيجنيان فائدة كبرى من موتها، وقال إن حالة من هذا النوع يستحيل تماماً إثباتها، ولكنه – مع ذلك – كان واثقاً من الحقيقة في قراره نفسه. وأضاف أنه توجد حالات كثيرة ذات طبيعة مشابهة تحدث دائماً، حالات من الجريمة المدَّبرة، وكلها لا ينال منها القانون.
كانت هذه بداية الموضوع كله. وفجأة رأيت طريقي واضحاً، وصمّمت على أن أرتكب عدت جرائم على نطاق واسع وليس مجرَّد جريمة واحدة. خطرّت لي أنشودة صغيرة منذ أيام طفولتي، أنشودة " الجنود العشرة الصِّغار " . كانت قد أدهشتني وأنا طفل في الثانية من عمري، أدهشني ما فيها من ذلك التلاشي القاهر ومنطق الحتمية، فبدأت أبحث عن الضحايا سرّاً.
لن أضيع وقتاً بسرد تفصيلات كيفية تحقيق ذلك، ولكن كان لديّ أسلوب جيد في الحديث استخدمته مع كل مَن قابلته تقريباً، وكانت النتائج التي توصلت إليها مدهشة حقاً. في أثناء إقامتي في بيت للمسنّين علمت بقضية الدكتور آرمسترونغ. كانت الممرضة التي تقوم على خدمتي تكره المشروبات الكحولية بشدة، وكانت مهتمة بأن تثبت لي مساوئ الشراب فروت لي قصّة حدثت قبل عدّة سنوات في أحد المستشفيات حين كان طبيبٌ يُجري عملية لمريضة فقتلها بسبب سكره. وبسؤال عابر عن الأماكن التي عملت فيه الممرضة استطعت الحصول على المعلومات الضرورية بسرعة، ثم توصلت بسهولة إلى معرفة الطبيب والمريضة.
ثم عرفت عن قضايا أخرى؛ فمن خلال حديث بين رجال عسكريّين عجائز في النادي الذي أنتمي إليه توصلت إلى الجنرال ماك آرثر ، وسمعت رجلاً عاد مؤخَّراً من الأمازون وهو يروي قصة مذهلة عن شخص يُدعى فيليب لومبارد، وروت سيدة ناقمة قصة إميلي برنت المتزمّتة مع خادمتها البائسة. أما أنتوني مارستون فقد اخترته من بين مجموعة كبيرة من الناس الذين ارتكبوا مخالفات مماثلة، إذ كانت قسوته وعدم شعوره بأي مسؤولية عن النفوس البريئة التي أزهقها قد جعلّته في نظري خطراً على المجتمع ولا يستحق الحياة. المفتش السابق بلور ورد اسمه بصورة طبيعية تماماً حين كان بعض زملائي يتناقشون في قضية لاندور بحريّة وبلا تحفّظ، فأخذت موقفاً جادّا من جريمته يجب أن يكون الشرطي في غاية الاستقامة باعتباره خادماً للقانون لأن كلمته مصدَّقة بالضرورة بحكم طبيعة عمله.
واخيراً قضية فيرا كلايثورن، وقد سمعت القصة في أثناء عبوري المحيط الأطلسي، ففي ساعة متأخرة ذات ليلة جلس شخصان فقط في غرفة المدخنين، أنا ورجل وسيم أسمه هوغو هاملتون . لم يكُن هوغو سعيداً وقد تناول كمية لا بأس بها من الشراب لتخفيف كآبته، وكان قد أصبح ثملاً وميّالاً لفتح قلبه فشرعت في استخدام أسلوبي المعتاد في الحديث دون أمل كبير في الوصول إلى أيّ نتائج، ولكن الاستجابة كانت مذهلة! أستطيع تذكّر كلماته الآن. قال لي: أنت على حق، الجريمة ليست بالصورة التي يظنّها معظم الناس، كإعطاء شخصٍ جرعةَ سم أو دفعه من فوق حافّة جبل مثلاً.
ثم مال بجسمه إلى الأمام مقترباً بوجهه من وجهي وتابع: لقد عرفت مجرمة... نعم، كنت أعرفها، بل كنت متَّيماً بها. آه، أعانني الله! أحياناً أشعر أنني ما زلت متيَّماً بها.. هذا هو الجحيم أقول لك إنه الجحيم، هل تفهمني؟ المحصّلة أنها قد فعلَت ما فعلته من أجلي! لم يخطر ببالي مطلقاً... إن النساء هنّ الشر، الشر المطلَق! لا يخطر لك أن فتاة كتلك ، فتاة لطيفة وأمينة ومرحة، لا يخطر لك أنها قد تفعل شيئاً كهذا! هل تصدّق أنها تفعل شيئاً كهذا؟ أنها قد تأخذ طفلاً إلى البحر وتتركه يغرق؟! لا يمكنك أن تصدّق أن امرأة يمكنها القيام بشيء كهذا.
قلت له: هل أنت متأكد من أنها فعلت ذلك؟
قال وقد بدا أنه صحا فجأة: أنا متأكد تماماً. لم يشتبه بها أيّ شخص سواي قط، ولكني عرفت بمجرَّد أن نظرت إليها حين عدت، بعد أن.. وقد عرفت هي أنني عرفت، ولكن ما لم تدركه هو أنني كنت أحب ذلك الطفل.
لم يُقل شيئاً آخر، ولكن كان من السهل عليّ أن أتتبع تفصيلات القصة وأفهم الموضوع برمتّه.
وأخيراً كنت بحاجة إلى ضحية عاشرة، فوجدتها في رجل اسمه موريس، كان مخلوقاً قميئاً غامضاً، وكان – بين أشياء أخرى – يبيع المخدرات، وهو الذي دفع بابنة صديق لي إلى تعاطي المخدرات فانتحرت في سن الحادية والعشرين.
طوال فترة البحث هذه كانت الخطة تنضج في رأسي تدريجياً. كانت قد اكتملت عندئذ ، وجاءت اللمسة الأخيرة خلال زيارتي لعيادة طبيب في شارع هارلي. قلت إنه قد سبق وأُجريَت لي عملية جراحية، وفي زيارتي الأخيرة تلك قال الطبيب إن جراحة أخرى لن تكون لها أيّ فائدة وأبلغني بالتفصيلات بشكل مخفّف، ولكني معتاد على استخلاص الحقائق من وسط أيّ كلام. لم أخبر الطبيب بقراري بأن موتي ينبغي أن لا يأتي بطيئاً وخلال فترة طويلة كما يحدث عادة، بل ينبغي أن يكون موتاُ مثيراً سأعيش قبل أن أموت.
والآن سأنتقل إلى تفصيلات جريمة " جزيرة الجنود" : كان من السهل استخدام الرجل المدعوّ موريس للتغطية على عملية شراء الجزيرة، فقد كان خبيراً في هذا النوع من المعاملات. وبتصنيف المعلومات التي كنت قد جمعتُها عن ضحايا استطعتُ تهيئة طُعم مناسب لكل منهم. ولم تفشل أيّ خطّة وضعتُها، فوصل جميع الضيوف إلى الجزيرة في يوم 8 آب (أغسطس) ، بما في ذلك أنا نفسي.
وكنتُ قد حسبتُ حساب موريس؛ كان يعاني من سوء الهضم فأعطيته قبل مغادرتي لندن كبسولة ليأخذها قبل النوم،وقلت له إن هذا الدواء كان مفيداً جداً لمعتدي فقبل دون تردد. ولم أخشّ أن يترك أيّ وثائق أو أوراق قد تفضح الموضوع، فهو لم يكُن من هذا النوع من الرجال.
كنت قد درست بعناية ترتيب عمليات القتل في الجزيرة، فقررتُ أن ضيوفي مذنبون بدرجات مختلفة، فمَن كان ذنبه أخفّ كان – في رأيي – حريّاً بالموت أوّلاً حتى لا يتعرّض للخوف والإرهاق العصبيّ المطوَّل الذي سيتعرض له أولئك المجرمون الذين ارتكبوا جرائمهم بدم بارد.
مات كلّ من أنتوني مارستون والسيدة روجرز أولاً، الأول فوراً والثانية وهي تنام بسلام، فقد تبيّن لي أن مارستون كان من النوع الذي وُلد فاقداً للإحساس بالمسؤولية المعنوية التي يمتلكها معظمنا، أما السيدة روجرز فقد تصرفَت بتأثير زوجها بلا شك.
لا حاجة بي لأن أشرح مفصّلاً كيف مات هذان الشخصان، وسيكون بوسع الشرطة اكتشاف ذلك بسهولة سيانيد البوتاسيوم يمكن الحصول عليه بسهولة لمكافحة الدبابير في المنازل، وقد كان لديّ شيء منه وكان من السهل وضعه في كأس مارستون شبه الفارغة تقريباً خلال فترة التوتر التي أعقبَت سماع شريط الاتهامات في مكبّر الصوت.
لقد راقبت وجوه ضيوفي بعناية في أثناء تلاوة الاتهامات، وبحكم خبرتي الطويلة في المحاكم ومواجهة المجرمين لم يكُن لديّ أدنى شكّ في أن الجميع كانوا مذنبين.
خلال نوبات الألم الأخيرة كان الطبيب قد وصف لي عقّاراً منوّماّ، كلورال الهايدريك، وقد كان من السهل عليّ أن أتحمّل الألم لأجمع كمية قاتلة من هذا العقّار، وعندما أحضر روجرز كأس العصير لزوجته وضعها على إحدى الطاولات، وعند مروري بجانب تلك الطاولة وضعت الدواء في العصير. كان ذلك سهلاً لأن الشك لم يكُن قد حلّ بيننا في ذلك الوقت بعد.
الجنرال ماك آرثر مات دون أيّ ألم. لم يسمعني وأنا قادم من خلفه، وكان عليّ اختيار وقت مغادرة الشرفة بعناية تامّة بالطبع، وقد تمّ كل شيء بنجاح كامل. ثم فُتشت الجزيرة طبقاً لتوقعاتي، وتبيْن أنه ليس في الجزيرة سوانا نحن السبعة ممّا أوجد جوّاً من الريبة فوراً. وطبقاً لخطتي كنت سأحتاج قريباً إلى حليف، فاخترت الدكتور آرمسترونغ لهذه المرحلة. كان رجلاً ساذجاً وكان يعرفني من حيث مظهري وسمعتي، فلم يُدر بخلده أن رجلاً بمكانتي قد يكون في الواقع قاتلاً. كانت كل شكوكه تتجه نحو لومبارد، وقد تظاهرتُ بتأييده في ذلك ثم ألمحت له أن لديّ خطة ربما استطعنا بموجبها الإيقاع بالقاتل واكتشافه.
ورغم تفتيش كافّة الغرف إلاَ أنه لم يكُن قد جرى تفتيش للأشخاص أنفسهم، ولكن ذلك كان شيئاً لا بدّ منه فيما بعد.
قتلت روجرز صباح يوم العاشر من آب. كان يقطع الحطب لإشعال النار ولم يسمعني وأنا أقترب منه، ووجدت مفتاح غرفة الطعام في جيبه لأنه كان قد أقفل بابها بنفسه في الليلة السابقة. وخلال الفوضى التي أعقبَت العثور على جثة روجرز تسللتُ إلى غرفة لومبارد فأخذت مسدّسه. كنت أعرف انه سيحمل مسدّساً ، والواقع أنني كنت قد أعطيت تعليماتي لموريس ليقترح عليه ذلك عند مقابلته له.
عند الفطور وضعتُ آخر جرعة من الكلورال في قهوة الآنسة برنت عندما كنت أعيد تعبئة قدحها، وتركناها في غرفة الطعام ثم تسللتُ بعد فترة قصيرة إليها. كانت فاقدة الوعي تقريباً وكان من السهل عليّ أن أعطيها حقنة قوية من السيانيد. أما مسألة النحلة الطنانة تلك فقد كانت أمراً طفولياً، ولكنها أسعدَتني على نحو ما؛ لقد أحببت أن أتقيّد بمضمون أنشودتي قدر الإمكان.
بعد ذلك مباشرة حدث ما كنتُ أتوقعه، والواقع أنني اقترحت ذلك بنفسي. خضعنا جميعاً إلى تفتيش دقيق، وكنت قد خبّأت المسدّس في مكان آمن ولم يعُد بحوزتي سيانيد أو كلورال. عند تلك النقطة أفضيت لآرمسترونغ بأن علينا وضع خطتنا موضع التنفيذ، وقد اتفقنا على أن أُكتشَف مقتولاً باعتباري أصبحت الضحية التالية. قلت له إن هذا قد يثير حيرة القاتل، ولكن على أيّة حال فعندما أُصبح ميَتّاً – حسبما يُفترض – فسوف يكون بوسعي الحركة داخل البيت والتجسس على القاتل المجهول.
أعجبَت الفكرة آرمسترونغ ونفّذناها مساء ذلك اليوم، فجهزّنا قليلاً من الوحل الأحمر ليوضع على الجبين، ثم الستارة الحمراء والصوف... وأصبح المسرح جاهزاً. كانت أضواء الشموع تهتزّ وتجعل الأشياء غير واضحة، والشخص الوحيد الذي كان سيفحصني من قرب هو آرمسترونغ بصفته الطبيب الوحيد بين أفراد المجموعة.
نُفّذت الخطة بإتقان تامّ. الآنسة كلايثورن ملأت البيت صراخاً عندما اكتشفت الأعشاب البحرية التي كنتُ قد هيأتُها في غرفتها بترتيب مسبق، فهُرعوا جميعاً إلى غرفتها في الطابق العلوي في حين اتخذت أنا وضع الفتيل. كان وقع الصدمة عليهم عندما اكتشفوني هو التأثير الذي كنت أسعى إليه، وقام آرمسترونغ بتمثيل دوره بحِرَفية عالية. حملوني إلى الطابق العلويّ ومدّدوني على سريري، ولم يقلق احد بشأني؛ فقد كانوا جميعاً مذعورين حتى الموت يخاف بعضهم بعضاً.
واتفقت مع آرمسترونغ على الالتقاء به خارج البيت قبل الثانية بربع الساعة، فأخذتُه مسافة قصيرة خلف البيت إلى حافة المنحدر الصخري وقلت له إنه سيكون بوسعنا هناك أن نرى إذا اقترب منّا شخص آخر دون أن يرانا أحد في المنزل، وذلك لأن غرف النوم كانت متجهة إلى الجهة الأخرى. كان لا يزال غير مرتاب إطلاقاً ، ومع ذلك فقد كان عليه أن يكون متنبهاً لو انه فقط تذكر كلمات الأنشودة : " سمكة رنجة حمراء ابتلعت أحدهم فبقي ثلاثة" ، ولكنه ابتلع الطُعم وقضى نحبه.
تمّ الأمر بسهولة؛ أطلقتُ صرخة تعجّب وانحنيت فوق الصخور وأشرت إليه بأن ينظر إلى الأسفل ليرى، وقلت له: ألم يكن ذلك مدخل كهف؟
فانحنى إلى الأمام فدفعته بسرعة وقوة ، فاختلّ توازنه وهوى إلى الأمواج المتلاطمة في الأسفل، ثم عدت إلى البيت.
كان وقعو خطواتي هو ما سمعه بلور دون شك، وبعد دقائق من عودتي إلى غرفة آرمسترونغ خرجتُ منها مُحدِثاً قدراً معيَّناً من الضجيج في تلك المرة بحيث يسمعني أحدهم، وسمعت باباً يُفتَح عندما وصلت إلى أسفل الدرَج ، ولا بدّ أنهم لمحوا شبحي وأنا أخرج من الباب الأمامي.
مرّت دقيقة أو اثنتان قبل أن يتبعاني، وكنت قد استدرت حول المنزل ودخلت من نافذة غرفة الطعام التي كنتُ قد تركتها مفتوحة، وأغلقت النافذة ثم كسرت لوح زجاج فيما بعد، ثم صعدت إلى أعلى وتمددتُ على سريري.
توقعتُ أن يفتشوا البيت مرة أخرى، ولكنّي لم أتوقع أن يدقّقوا النظر في أيّ من الجثث، بل مجرَّد جذب ملاءة السرير لطمأنة أنفسهم بأن آرمسترونغ لم يكُن متنكراُ كجثة، وهذا هو ما حدث تماماً. نسيت أن أقول إنني أعدت المسدّس إلى غرفة لومبارد، ولعل أحداً يهمّه أن يعرف أين كنتُ قد خبّأته خلال التفتيش. كانت في الخزانة كمية من علب الطعام مرتَّبة في صفوف بعضها فوق بعض، ففتحت علبة في آخر صفّ منها ووضعت المسدّس فيها، ثم أعدت لصق الشريط عليها كما كان.
كان تفكيري في محلّه حين توقّعت أن أحداً لن يخطر بباله أن يفتح كومة من صفائح الطعام التي يدلّ مظهرها على أنها لم تُمَسّ حتى يصل إلى قاعدتها، لاسيما وأن العلب العلوية كانت جميعها مختومة. أما الستارة الحمراء فقد أخفيتها بحشوها في أحد مقاعد غرفة الجلوس تحت قماش الغطاء، ووضعت الصوف في المساند بعد أن فتحت ثقباً فيها.
نأتي هنا إلى اللحظة التي كنت أتوقعها؛ ثلاثة أشخاص يتربّص بعضهم ببعض، وكل منهم في غاية الرعب بحيث قد يحدث أيّ شيء في أيّ وقت، وأحدهم معه مسدّس. راقبُتهم من نوافذ البيت، وعندما جاء بلور وحده جهّزت كتلة الرخام الضخمة في الوضع المناسب، وهكذا انتهى بلور. ومن نافذتي رأيت فيرا كلايثورن تطلق النار على لومبارد. كانت امرأة جريئة وذات دهاء، وقد اعتقدت دائماً أنها قد تكون ندّاً له أو ربما تفوقه، وحالما حدث ذلك أعددت لها المسرح في غرفتها.
كان اختباراً نفسياً مشوّقاً. هل يكفي الذنب الذي يُثقل ضميرَها والتوترُ العصبي الناتج عن كونها قد قتلت رجلاً للتوّ، إضافة إلى الجوّ المشحون بنوع من التنويم المغناطيسي، هل يكفي كل هذا لجعلها تقتل نفسها؟ شعرت بأن ذلك محتمَل الحدوث، وكنت على حق. لقد شنقَت فيرا كلايثورن نفسها أمام عينيّ حينما كنت أقف في ظل خزانة ملابسها.
والآن أصل إلى المرحلة الأخيرة. تقدمتُ فأخذت الكرسي وأعدتُه إلى جانب الجدار، ثم بحثت عن المسدّس فوجدته عند أعلى الدرَج في المكان الذي سقط فيه من الفتاة، وحرصتُ على الإبقاء على بصمات أصابعها عليه.
والآن سأنهي كتابة هذه الصفحات، سأطويها وأضعها في زجاجة محكمَه الإغلاق وسأرمي الزجاجة في البحر. ولكن لماذا؟ نعم، لماذا؟ لقد كنت أطمح إلى تأليف جريمة غامضة لا يستطيع أحدٌ حلها، لكني أدرك الآن أنه ما من فنّان يكتفي بالفنّ وحده، بل يكون لديه شوق طبيعي إلى اعتراف الناس بفنّه، وهذا الشوق لا يمكن مقاومته وأريد أن أعترف – بكل تواضع – بأن لديّ رغبة إنسانية تدعو إلى الرثاء، وهي أنني أودّ فقط لو يعرف شخصٌ ما كم كنت ذكياً!
لقد افترضت – في كل هذا – أن قصة " جزيرة الجنود " الغامضة ستبقى بلا حل، بالطبع قد يكون الشرطة أكثر ذكاء مما أظن بسبب وجود دليلين على الأقل في نهاية الأمر: الأول أن الشرطة يعرفون جيّداً أن إدوارد سيتون كان مذنباً ، وتبعاً لذلك فهم يعرفون أن واحداً من العشرة في الجزيرة لم يكُن قاتلاً بأيّ شكل من الأشكال ، ويترتب على ذلك – بما قد يبدو تناقضاً- أن هذا الشخص يجب أن يكون هو القاتل منطقياً.
الدليل الثاني يكمن في المقطع السابع من الأنشودة، فموت آرمسترونغ مرتبط بسمكة الرنجة الحمراء أو الطُعم الذي ابتلعه، أو لعله الطعم الذي ابتلع آرمسترونغ. بعبارة أخرى فإن في ذلك المقطع من الحكاية إشارة واضحة إلى استخدام الحيلة وإلى أن آرمسترونغ انطلَت عليه الحيلة ممّا أدى إلى موته. هذه النقطة قد تصلح بداية مبشّرة في التحقيق لأنه لم يكُن في تلك المرحلة سوى أربعة أشخاص، ومن بين هؤلاء الأربعة أُعتبَر أنا الشخص الوحيد المحتمَل أن يوحي له بالثقة ويجعله يطمئن إليه.
لم يبقَ لديّ الكثير ممَا يمكنني قوله. بعد أن أرمي زجاجتي وبداخلها هذه الرسالة في البحر سأذهب إلى غرفتي وأتمدّد على سريري. النظارات التي أرتديها مربوطة بما يبدو أنه حبل دقيق أسود اللون، ولكنه حبل مطاطيّ قوي في الواقع. سوف ألقي بثقل جسدي على النظارات، وسوف ألفّ الحبل المطاطي حول مقبض الباب وأعود بطرفة فأربطه بالمسدّس ربطة خفيفة. أظن أن ما سيحصل هو الآتي: سألفّ يدي بمنديل وأضغط بها على الزناد. ستسقط يدي إلى جانبي ، أما المسدّس المربوط بالحبل المطاطي فسوف يرتدّ إلى الباب فيرتطم بمقبض الباب وينفكّ من الحبل ويسقط على الأرض، ثم يتدلى الحبل الذي صار حراً من النظارات التي يستلقي فوقها جسدي، ولن يهتم به أحد. ولا أحسب أن المنديل الملقى على الأرض سيثير أية تساؤلات أيضاً.
سيتمّ العثور عليّ ممدَّداً بهيئة حسنة وقد اخترقَت رصاصةٌ جبيني كما هو وارد في مذكرات زملائي الضحايا، وعندما تُفحَص جثثنا فلن يكون بالإمكان تحديد مواعيد الوَفَيات بأيّ قدر من الدقّة.
عندما يهدأ البحر سيصل من شاطئ البر قوارب ورجال، وسيجدون عشر جثث ، وقضية دون حلّ في " جزيرة الجنود " .
التوقيع : لورانس وارغريف
هذا نصّ وثيقة أرسلها إلى شرطة سكوتلانديارد قبطان سفينة الصيد" إيماجين" :
لقد أدركتُ منذ أيام شبابي الأولى أنّ طبيعتي تضم كتلة من المتناقضات؛ فلديّ خيال رومَنسي لا شفاء لي منه، وقد كانت عادة وضع وثيقة مهمة في زجاجة ورميها في البحر تثيرني عندما كنت أقرأ قصص المغامرات في طفولتي، وما زالت تثيرني حتى الآن. ولهذا السبب لجأت إلى هذه الوسيلة؛ فكتبت اعترافي ووضعت الورقة في زجاجة وأغلقت الزجاجة بإحكام لألقيها في البحر. أحسب أن فرصة عثور أيَّ كان على اعترافي هذا لا تتجاوز نسبتُها واحداً في المئة، ولو حصل هذا (إذا لم يكُن هذا الإقرار تملّقاً لنفسي) فسوف يُحَلّ لغز جريمة غامضة لم يعرف أحدٌ حلّها حتى الآن.
كما أنني وُلدتُ ولديّ ميول أخرى سوى الميول الرومنسية ، فأنا أشعر بابتهاج ساديّ شديد عندما أرى أحداً يموت أو عندما أكون سبباً في موته. أتذكّر تجارِب كنت أجريها على الدبابير ومختلف حشرات الحدائق الأخرى. منذ طفولتي المبكرة كنت أشعر بقوة بشهوة القتل، ولكن إلى جانب هذا كانت تناقض معها خاصيّة أخرى ، وهي أنه كان لديّ حس قويّ بالعدالة، فممّا يثير اشمئزازي أن يتعرض شخص بريء أو حيوان للعذاب أو الموت بسبب تصرّف من جانبي، وقد شعرت شعوراً قوياً على الدوام بأن العدالة ينبغي أن تسود، ولذلك فقد يكون من المفهوم (أظن أن طبيباً نفسيّاً سيفهم) أنه طبقاً لتكويني الذهني بحالته هذه فقد اتخذتُ القانون مهنة لي، واحترافُ العمل القانوني أشبع كل غرائزي.
كنت دائماً مفتوناً بكلّ ما يتصل بالجريمة والعقاب، وأستمتع بقراءة كل أنواع الروايات البوليسية وقصص المغامرات المثيرة، وقد استنبطتُ – لمتعتي الشخصية – أبرع طرق ارتكاب الجرائم.
وعندما جاء الوقت الذي تبوّأتُ فيه رئاسة محكمة تشجَعت الغريزة السريّة الأخرى لديّ على التطور. كانت رؤية مجرم بائس يتألّم في قفصه في حين تقترب نهايته ساعة بعد ساعة تملؤني ببهجة رائعة، ولكني ألفِتُ الانتباه إلى أنني لم أكن أجد أيّ متعة في رؤية رجل بريء بهذا الوضع . لقد أوقفتُ السير في قضايا في مناسبتين على الأقل وكنت مقتنعاً خلالها أن المتهَم واضح البراءة، فكنت أبدي توجيهاتي للمحلّفين بأنه لا توجد قضية في الأساس.
ولكن بفضل كفاءة ونزاهة جهاز الشرطة لدينا فإن معظم المتهَمين الذين مثلوا أمامي كانوا مذنبين. وأريد التأكيد هنا على أن هذا الوضع ينطبق على قضية الرجل المدعوّ إدوارد سيتون، كان مظهره وسلوكه مضلّلين، وقد نجح في ترك انطباع جيّد لدى المحلفّين، ولكن الذي كان واضحاً بالنسبة لي أن الرجل قد ارتكب الجريمة التي أتُّهم بها، وهي قتل امرأة عجوز وثقت به، قتلها بكل وحشية! وقد أخبرَتني بذلك خبرتي الشخصية الطويلة في المجرمين وأنواعهم وطرقهم.
إن لي سمعة كقاضي إعدام، ولكن هذا ليس صحيحاً؛ لقد – كنتُ دائماً منصفاً ودقيقاً عندما كنت أقدّم إجمالاً لأي قضية، وكل ما فعلته هو حماية هيئة المحلفين من التأثير الذي ينتج عن المناشدات العاطفية التي يلجأ إليها بعض المحامين، وكنت ألِفتُ انتباههم حينئذ إلى الأدلة الحقيقية.
لقد بدأتُ أشعر بتغيّر في نفسي منذ بضع سنوات، تضاؤل الرغبة في التوجيه وتنامي الرغبة في التصرف التنفيذي بدلاً من إصدار الأحكام. لقد أردتُ أن أرتكب جريمة أقوم بها بنفسي – وهذا اعتراف صريح منّي). وأدركت أن هذا بمثابة رغبة الفنان في التعبير عن نفسه. كنتُ، أو كان بوسعي أن أكون، فناناً في الجريمة، وكان خيالي الذي قيّدَته مقتضيات عملي قد جمح سرّاً وأصبح قوة هائلة. يجب أن .... يجب ..... أن يجب أن ارتكب جريمة! والأكثر من ذلك أنه يجب أن لا تكون جريمة عادية، بل يجب أن تكون جريمة مثيرة، شيئاً مذهلاً، شيئاً غير مألوف. في هذه الناحية بالذات ما زال لديّ خيال مراهق فيما أظن.
أردتُ عرضاً مسرحياً، مستحيلاً. أردت أن أقتل نعم، أردت أن أقتل. ولكن رغم التناقض الذي قد يبدو للبعض، فقد كنت مقيَّداً وملتزماً بحسيّ الفطري للعدالة وبأن البريء لا يجب أن يعاقَب. ثم فجأة خطرت لي الفكرة، خطرَت انطلاقاً من ملاحظة عابرة وردَت خلال حديث عادي لي مع طبيب.
كان ممارساً عامّاً عادياً ليس له أيّ تميّز خاص، وكان قد ذكر بصورة عفوية أن كثيراً من الجرائم يحدث ولا ينال منه القضاء، وضرب مثلاً بقضية معَّينة ، وهي سيدة عجوز كانت مريضة في عيادته ثم ماتت مؤخَّراً، وقد قال إنه كان مقتنعاً بأن موتها نتج عن عدم إعطائها علاجاً بواسطة رجل وزوجته كانا يعملان في خدمتها، وقد كانا سيجنيان فائدة كبرى من موتها، وقال إن حالة من هذا النوع يستحيل تماماً إثباتها، ولكنه – مع ذلك – كان واثقاً من الحقيقة في قراره نفسه. وأضاف أنه توجد حالات كثيرة ذات طبيعة مشابهة تحدث دائماً، حالات من الجريمة المدَّبرة، وكلها لا ينال منها القانون.
كانت هذه بداية الموضوع كله. وفجأة رأيت طريقي واضحاً، وصمّمت على أن أرتكب عدت جرائم على نطاق واسع وليس مجرَّد جريمة واحدة. خطرّت لي أنشودة صغيرة منذ أيام طفولتي، أنشودة " الجنود العشرة الصِّغار " . كانت قد أدهشتني وأنا طفل في الثانية من عمري، أدهشني ما فيها من ذلك التلاشي القاهر ومنطق الحتمية، فبدأت أبحث عن الضحايا سرّاً.
لن أضيع وقتاً بسرد تفصيلات كيفية تحقيق ذلك، ولكن كان لديّ أسلوب جيد في الحديث استخدمته مع كل مَن قابلته تقريباً، وكانت النتائج التي توصلت إليها مدهشة حقاً. في أثناء إقامتي في بيت للمسنّين علمت بقضية الدكتور آرمسترونغ. كانت الممرضة التي تقوم على خدمتي تكره المشروبات الكحولية بشدة، وكانت مهتمة بأن تثبت لي مساوئ الشراب فروت لي قصّة حدثت قبل عدّة سنوات في أحد المستشفيات حين كان طبيبٌ يُجري عملية لمريضة فقتلها بسبب سكره. وبسؤال عابر عن الأماكن التي عملت فيه الممرضة استطعت الحصول على المعلومات الضرورية بسرعة، ثم توصلت بسهولة إلى معرفة الطبيب والمريضة.
ثم عرفت عن قضايا أخرى؛ فمن خلال حديث بين رجال عسكريّين عجائز في النادي الذي أنتمي إليه توصلت إلى الجنرال ماك آرثر ، وسمعت رجلاً عاد مؤخَّراً من الأمازون وهو يروي قصة مذهلة عن شخص يُدعى فيليب لومبارد، وروت سيدة ناقمة قصة إميلي برنت المتزمّتة مع خادمتها البائسة. أما أنتوني مارستون فقد اخترته من بين مجموعة كبيرة من الناس الذين ارتكبوا مخالفات مماثلة، إذ كانت قسوته وعدم شعوره بأي مسؤولية عن النفوس البريئة التي أزهقها قد جعلّته في نظري خطراً على المجتمع ولا يستحق الحياة. المفتش السابق بلور ورد اسمه بصورة طبيعية تماماً حين كان بعض زملائي يتناقشون في قضية لاندور بحريّة وبلا تحفّظ، فأخذت موقفاً جادّا من جريمته يجب أن يكون الشرطي في غاية الاستقامة باعتباره خادماً للقانون لأن كلمته مصدَّقة بالضرورة بحكم طبيعة عمله.
واخيراً قضية فيرا كلايثورن، وقد سمعت القصة في أثناء عبوري المحيط الأطلسي، ففي ساعة متأخرة ذات ليلة جلس شخصان فقط في غرفة المدخنين، أنا ورجل وسيم أسمه هوغو هاملتون . لم يكُن هوغو سعيداً وقد تناول كمية لا بأس بها من الشراب لتخفيف كآبته، وكان قد أصبح ثملاً وميّالاً لفتح قلبه فشرعت في استخدام أسلوبي المعتاد في الحديث دون أمل كبير في الوصول إلى أيّ نتائج، ولكن الاستجابة كانت مذهلة! أستطيع تذكّر كلماته الآن. قال لي: أنت على حق، الجريمة ليست بالصورة التي يظنّها معظم الناس، كإعطاء شخصٍ جرعةَ سم أو دفعه من فوق حافّة جبل مثلاً.
ثم مال بجسمه إلى الأمام مقترباً بوجهه من وجهي وتابع: لقد عرفت مجرمة... نعم، كنت أعرفها، بل كنت متَّيماً بها. آه، أعانني الله! أحياناً أشعر أنني ما زلت متيَّماً بها.. هذا هو الجحيم أقول لك إنه الجحيم، هل تفهمني؟ المحصّلة أنها قد فعلَت ما فعلته من أجلي! لم يخطر ببالي مطلقاً... إن النساء هنّ الشر، الشر المطلَق! لا يخطر لك أن فتاة كتلك ، فتاة لطيفة وأمينة ومرحة، لا يخطر لك أنها قد تفعل شيئاً كهذا! هل تصدّق أنها تفعل شيئاً كهذا؟ أنها قد تأخذ طفلاً إلى البحر وتتركه يغرق؟! لا يمكنك أن تصدّق أن امرأة يمكنها القيام بشيء كهذا.
قلت له: هل أنت متأكد من أنها فعلت ذلك؟
قال وقد بدا أنه صحا فجأة: أنا متأكد تماماً. لم يشتبه بها أيّ شخص سواي قط، ولكني عرفت بمجرَّد أن نظرت إليها حين عدت، بعد أن.. وقد عرفت هي أنني عرفت، ولكن ما لم تدركه هو أنني كنت أحب ذلك الطفل.
لم يُقل شيئاً آخر، ولكن كان من السهل عليّ أن أتتبع تفصيلات القصة وأفهم الموضوع برمتّه.
وأخيراً كنت بحاجة إلى ضحية عاشرة، فوجدتها في رجل اسمه موريس، كان مخلوقاً قميئاً غامضاً، وكان – بين أشياء أخرى – يبيع المخدرات، وهو الذي دفع بابنة صديق لي إلى تعاطي المخدرات فانتحرت في سن الحادية والعشرين.
طوال فترة البحث هذه كانت الخطة تنضج في رأسي تدريجياً. كانت قد اكتملت عندئذ ، وجاءت اللمسة الأخيرة خلال زيارتي لعيادة طبيب في شارع هارلي. قلت إنه قد سبق وأُجريَت لي عملية جراحية، وفي زيارتي الأخيرة تلك قال الطبيب إن جراحة أخرى لن تكون لها أيّ فائدة وأبلغني بالتفصيلات بشكل مخفّف، ولكني معتاد على استخلاص الحقائق من وسط أيّ كلام. لم أخبر الطبيب بقراري بأن موتي ينبغي أن لا يأتي بطيئاً وخلال فترة طويلة كما يحدث عادة، بل ينبغي أن يكون موتاُ مثيراً سأعيش قبل أن أموت.
والآن سأنتقل إلى تفصيلات جريمة " جزيرة الجنود" : كان من السهل استخدام الرجل المدعوّ موريس للتغطية على عملية شراء الجزيرة، فقد كان خبيراً في هذا النوع من المعاملات. وبتصنيف المعلومات التي كنت قد جمعتُها عن ضحايا استطعتُ تهيئة طُعم مناسب لكل منهم. ولم تفشل أيّ خطّة وضعتُها، فوصل جميع الضيوف إلى الجزيرة في يوم 8 آب (أغسطس) ، بما في ذلك أنا نفسي.
وكنتُ قد حسبتُ حساب موريس؛ كان يعاني من سوء الهضم فأعطيته قبل مغادرتي لندن كبسولة ليأخذها قبل النوم،وقلت له إن هذا الدواء كان مفيداً جداً لمعتدي فقبل دون تردد. ولم أخشّ أن يترك أيّ وثائق أو أوراق قد تفضح الموضوع، فهو لم يكُن من هذا النوع من الرجال.
كنت قد درست بعناية ترتيب عمليات القتل في الجزيرة، فقررتُ أن ضيوفي مذنبون بدرجات مختلفة، فمَن كان ذنبه أخفّ كان – في رأيي – حريّاً بالموت أوّلاً حتى لا يتعرّض للخوف والإرهاق العصبيّ المطوَّل الذي سيتعرض له أولئك المجرمون الذين ارتكبوا جرائمهم بدم بارد.
مات كلّ من أنتوني مارستون والسيدة روجرز أولاً، الأول فوراً والثانية وهي تنام بسلام، فقد تبيّن لي أن مارستون كان من النوع الذي وُلد فاقداً للإحساس بالمسؤولية المعنوية التي يمتلكها معظمنا، أما السيدة روجرز فقد تصرفَت بتأثير زوجها بلا شك.
لا حاجة بي لأن أشرح مفصّلاً كيف مات هذان الشخصان، وسيكون بوسع الشرطة اكتشاف ذلك بسهولة سيانيد البوتاسيوم يمكن الحصول عليه بسهولة لمكافحة الدبابير في المنازل، وقد كان لديّ شيء منه وكان من السهل وضعه في كأس مارستون شبه الفارغة تقريباً خلال فترة التوتر التي أعقبَت سماع شريط الاتهامات في مكبّر الصوت.
لقد راقبت وجوه ضيوفي بعناية في أثناء تلاوة الاتهامات، وبحكم خبرتي الطويلة في المحاكم ومواجهة المجرمين لم يكُن لديّ أدنى شكّ في أن الجميع كانوا مذنبين.
خلال نوبات الألم الأخيرة كان الطبيب قد وصف لي عقّاراً منوّماّ، كلورال الهايدريك، وقد كان من السهل عليّ أن أتحمّل الألم لأجمع كمية قاتلة من هذا العقّار، وعندما أحضر روجرز كأس العصير لزوجته وضعها على إحدى الطاولات، وعند مروري بجانب تلك الطاولة وضعت الدواء في العصير. كان ذلك سهلاً لأن الشك لم يكُن قد حلّ بيننا في ذلك الوقت بعد.
الجنرال ماك آرثر مات دون أيّ ألم. لم يسمعني وأنا قادم من خلفه، وكان عليّ اختيار وقت مغادرة الشرفة بعناية تامّة بالطبع، وقد تمّ كل شيء بنجاح كامل. ثم فُتشت الجزيرة طبقاً لتوقعاتي، وتبيْن أنه ليس في الجزيرة سوانا نحن السبعة ممّا أوجد جوّاً من الريبة فوراً. وطبقاً لخطتي كنت سأحتاج قريباً إلى حليف، فاخترت الدكتور آرمسترونغ لهذه المرحلة. كان رجلاً ساذجاً وكان يعرفني من حيث مظهري وسمعتي، فلم يُدر بخلده أن رجلاً بمكانتي قد يكون في الواقع قاتلاً. كانت كل شكوكه تتجه نحو لومبارد، وقد تظاهرتُ بتأييده في ذلك ثم ألمحت له أن لديّ خطة ربما استطعنا بموجبها الإيقاع بالقاتل واكتشافه.
ورغم تفتيش كافّة الغرف إلاَ أنه لم يكُن قد جرى تفتيش للأشخاص أنفسهم، ولكن ذلك كان شيئاً لا بدّ منه فيما بعد.
قتلت روجرز صباح يوم العاشر من آب. كان يقطع الحطب لإشعال النار ولم يسمعني وأنا أقترب منه، ووجدت مفتاح غرفة الطعام في جيبه لأنه كان قد أقفل بابها بنفسه في الليلة السابقة. وخلال الفوضى التي أعقبَت العثور على جثة روجرز تسللتُ إلى غرفة لومبارد فأخذت مسدّسه. كنت أعرف انه سيحمل مسدّساً ، والواقع أنني كنت قد أعطيت تعليماتي لموريس ليقترح عليه ذلك عند مقابلته له.
عند الفطور وضعتُ آخر جرعة من الكلورال في قهوة الآنسة برنت عندما كنت أعيد تعبئة قدحها، وتركناها في غرفة الطعام ثم تسللتُ بعد فترة قصيرة إليها. كانت فاقدة الوعي تقريباً وكان من السهل عليّ أن أعطيها حقنة قوية من السيانيد. أما مسألة النحلة الطنانة تلك فقد كانت أمراً طفولياً، ولكنها أسعدَتني على نحو ما؛ لقد أحببت أن أتقيّد بمضمون أنشودتي قدر الإمكان.
بعد ذلك مباشرة حدث ما كنتُ أتوقعه، والواقع أنني اقترحت ذلك بنفسي. خضعنا جميعاً إلى تفتيش دقيق، وكنت قد خبّأت المسدّس في مكان آمن ولم يعُد بحوزتي سيانيد أو كلورال. عند تلك النقطة أفضيت لآرمسترونغ بأن علينا وضع خطتنا موضع التنفيذ، وقد اتفقنا على أن أُكتشَف مقتولاً باعتباري أصبحت الضحية التالية. قلت له إن هذا قد يثير حيرة القاتل، ولكن على أيّة حال فعندما أُصبح ميَتّاً – حسبما يُفترض – فسوف يكون بوسعي الحركة داخل البيت والتجسس على القاتل المجهول.
أعجبَت الفكرة آرمسترونغ ونفّذناها مساء ذلك اليوم، فجهزّنا قليلاً من الوحل الأحمر ليوضع على الجبين، ثم الستارة الحمراء والصوف... وأصبح المسرح جاهزاً. كانت أضواء الشموع تهتزّ وتجعل الأشياء غير واضحة، والشخص الوحيد الذي كان سيفحصني من قرب هو آرمسترونغ بصفته الطبيب الوحيد بين أفراد المجموعة.
نُفّذت الخطة بإتقان تامّ. الآنسة كلايثورن ملأت البيت صراخاً عندما اكتشفت الأعشاب البحرية التي كنتُ قد هيأتُها في غرفتها بترتيب مسبق، فهُرعوا جميعاً إلى غرفتها في الطابق العلوي في حين اتخذت أنا وضع الفتيل. كان وقع الصدمة عليهم عندما اكتشفوني هو التأثير الذي كنت أسعى إليه، وقام آرمسترونغ بتمثيل دوره بحِرَفية عالية. حملوني إلى الطابق العلويّ ومدّدوني على سريري، ولم يقلق احد بشأني؛ فقد كانوا جميعاً مذعورين حتى الموت يخاف بعضهم بعضاً.
واتفقت مع آرمسترونغ على الالتقاء به خارج البيت قبل الثانية بربع الساعة، فأخذتُه مسافة قصيرة خلف البيت إلى حافة المنحدر الصخري وقلت له إنه سيكون بوسعنا هناك أن نرى إذا اقترب منّا شخص آخر دون أن يرانا أحد في المنزل، وذلك لأن غرف النوم كانت متجهة إلى الجهة الأخرى. كان لا يزال غير مرتاب إطلاقاً ، ومع ذلك فقد كان عليه أن يكون متنبهاً لو انه فقط تذكر كلمات الأنشودة : " سمكة رنجة حمراء ابتلعت أحدهم فبقي ثلاثة" ، ولكنه ابتلع الطُعم وقضى نحبه.
تمّ الأمر بسهولة؛ أطلقتُ صرخة تعجّب وانحنيت فوق الصخور وأشرت إليه بأن ينظر إلى الأسفل ليرى، وقلت له: ألم يكن ذلك مدخل كهف؟
فانحنى إلى الأمام فدفعته بسرعة وقوة ، فاختلّ توازنه وهوى إلى الأمواج المتلاطمة في الأسفل، ثم عدت إلى البيت.
كان وقعو خطواتي هو ما سمعه بلور دون شك، وبعد دقائق من عودتي إلى غرفة آرمسترونغ خرجتُ منها مُحدِثاً قدراً معيَّناً من الضجيج في تلك المرة بحيث يسمعني أحدهم، وسمعت باباً يُفتَح عندما وصلت إلى أسفل الدرَج ، ولا بدّ أنهم لمحوا شبحي وأنا أخرج من الباب الأمامي.
مرّت دقيقة أو اثنتان قبل أن يتبعاني، وكنت قد استدرت حول المنزل ودخلت من نافذة غرفة الطعام التي كنتُ قد تركتها مفتوحة، وأغلقت النافذة ثم كسرت لوح زجاج فيما بعد، ثم صعدت إلى أعلى وتمددتُ على سريري.
توقعتُ أن يفتشوا البيت مرة أخرى، ولكنّي لم أتوقع أن يدقّقوا النظر في أيّ من الجثث، بل مجرَّد جذب ملاءة السرير لطمأنة أنفسهم بأن آرمسترونغ لم يكُن متنكراُ كجثة، وهذا هو ما حدث تماماً. نسيت أن أقول إنني أعدت المسدّس إلى غرفة لومبارد، ولعل أحداً يهمّه أن يعرف أين كنتُ قد خبّأته خلال التفتيش. كانت في الخزانة كمية من علب الطعام مرتَّبة في صفوف بعضها فوق بعض، ففتحت علبة في آخر صفّ منها ووضعت المسدّس فيها، ثم أعدت لصق الشريط عليها كما كان.
كان تفكيري في محلّه حين توقّعت أن أحداً لن يخطر بباله أن يفتح كومة من صفائح الطعام التي يدلّ مظهرها على أنها لم تُمَسّ حتى يصل إلى قاعدتها، لاسيما وأن العلب العلوية كانت جميعها مختومة. أما الستارة الحمراء فقد أخفيتها بحشوها في أحد مقاعد غرفة الجلوس تحت قماش الغطاء، ووضعت الصوف في المساند بعد أن فتحت ثقباً فيها.
نأتي هنا إلى اللحظة التي كنت أتوقعها؛ ثلاثة أشخاص يتربّص بعضهم ببعض، وكل منهم في غاية الرعب بحيث قد يحدث أيّ شيء في أيّ وقت، وأحدهم معه مسدّس. راقبُتهم من نوافذ البيت، وعندما جاء بلور وحده جهّزت كتلة الرخام الضخمة في الوضع المناسب، وهكذا انتهى بلور. ومن نافذتي رأيت فيرا كلايثورن تطلق النار على لومبارد. كانت امرأة جريئة وذات دهاء، وقد اعتقدت دائماً أنها قد تكون ندّاً له أو ربما تفوقه، وحالما حدث ذلك أعددت لها المسرح في غرفتها.
كان اختباراً نفسياً مشوّقاً. هل يكفي الذنب الذي يُثقل ضميرَها والتوترُ العصبي الناتج عن كونها قد قتلت رجلاً للتوّ، إضافة إلى الجوّ المشحون بنوع من التنويم المغناطيسي، هل يكفي كل هذا لجعلها تقتل نفسها؟ شعرت بأن ذلك محتمَل الحدوث، وكنت على حق. لقد شنقَت فيرا كلايثورن نفسها أمام عينيّ حينما كنت أقف في ظل خزانة ملابسها.
والآن أصل إلى المرحلة الأخيرة. تقدمتُ فأخذت الكرسي وأعدتُه إلى جانب الجدار، ثم بحثت عن المسدّس فوجدته عند أعلى الدرَج في المكان الذي سقط فيه من الفتاة، وحرصتُ على الإبقاء على بصمات أصابعها عليه.
والآن سأنهي كتابة هذه الصفحات، سأطويها وأضعها في زجاجة محكمَه الإغلاق وسأرمي الزجاجة في البحر. ولكن لماذا؟ نعم، لماذا؟ لقد كنت أطمح إلى تأليف جريمة غامضة لا يستطيع أحدٌ حلها، لكني أدرك الآن أنه ما من فنّان يكتفي بالفنّ وحده، بل يكون لديه شوق طبيعي إلى اعتراف الناس بفنّه، وهذا الشوق لا يمكن مقاومته وأريد أن أعترف – بكل تواضع – بأن لديّ رغبة إنسانية تدعو إلى الرثاء، وهي أنني أودّ فقط لو يعرف شخصٌ ما كم كنت ذكياً!
لقد افترضت – في كل هذا – أن قصة " جزيرة الجنود " الغامضة ستبقى بلا حل، بالطبع قد يكون الشرطة أكثر ذكاء مما أظن بسبب وجود دليلين على الأقل في نهاية الأمر: الأول أن الشرطة يعرفون جيّداً أن إدوارد سيتون كان مذنباً ، وتبعاً لذلك فهم يعرفون أن واحداً من العشرة في الجزيرة لم يكُن قاتلاً بأيّ شكل من الأشكال ، ويترتب على ذلك – بما قد يبدو تناقضاً- أن هذا الشخص يجب أن يكون هو القاتل منطقياً.
الدليل الثاني يكمن في المقطع السابع من الأنشودة، فموت آرمسترونغ مرتبط بسمكة الرنجة الحمراء أو الطُعم الذي ابتلعه، أو لعله الطعم الذي ابتلع آرمسترونغ. بعبارة أخرى فإن في ذلك المقطع من الحكاية إشارة واضحة إلى استخدام الحيلة وإلى أن آرمسترونغ انطلَت عليه الحيلة ممّا أدى إلى موته. هذه النقطة قد تصلح بداية مبشّرة في التحقيق لأنه لم يكُن في تلك المرحلة سوى أربعة أشخاص، ومن بين هؤلاء الأربعة أُعتبَر أنا الشخص الوحيد المحتمَل أن يوحي له بالثقة ويجعله يطمئن إليه.
لم يبقَ لديّ الكثير ممَا يمكنني قوله. بعد أن أرمي زجاجتي وبداخلها هذه الرسالة في البحر سأذهب إلى غرفتي وأتمدّد على سريري. النظارات التي أرتديها مربوطة بما يبدو أنه حبل دقيق أسود اللون، ولكنه حبل مطاطيّ قوي في الواقع. سوف ألقي بثقل جسدي على النظارات، وسوف ألفّ الحبل المطاطي حول مقبض الباب وأعود بطرفة فأربطه بالمسدّس ربطة خفيفة. أظن أن ما سيحصل هو الآتي: سألفّ يدي بمنديل وأضغط بها على الزناد. ستسقط يدي إلى جانبي ، أما المسدّس المربوط بالحبل المطاطي فسوف يرتدّ إلى الباب فيرتطم بمقبض الباب وينفكّ من الحبل ويسقط على الأرض، ثم يتدلى الحبل الذي صار حراً من النظارات التي يستلقي فوقها جسدي، ولن يهتم به أحد. ولا أحسب أن المنديل الملقى على الأرض سيثير أية تساؤلات أيضاً.
سيتمّ العثور عليّ ممدَّداً بهيئة حسنة وقد اخترقَت رصاصةٌ جبيني كما هو وارد في مذكرات زملائي الضحايا، وعندما تُفحَص جثثنا فلن يكون بالإمكان تحديد مواعيد الوَفَيات بأيّ قدر من الدقّة.
عندما يهدأ البحر سيصل من شاطئ البر قوارب ورجال، وسيجدون عشر جثث ، وقضية دون حلّ في " جزيرة الجنود " .
التوقيع : لورانس وارغريف