نقوس المهدي
كاتب
قضى «رفائيل» أربعة عشر شهرا بالسجن داخل خلوته الضيقة. ولم يكن عالمه يتجاوز تلك الجدران الأربعة ذات البياض الحزين كبياض العظم فأصبحت شقوقها وأغوارها مألوفة لديه وقارة في ذاكرته لا تفارقها بأي حال من الأحوال. أم الشمس فلم يكن يرى منها إلا ضياءها عندما يتسلل إلى الخلوة من خلال النافذة الموجودة في السطح وعبر القضبان الحديدية التي كانت تقطع عليه وحدة المنظر لزرقة السماء. ولم تكن أرض الخلوة تزيد على ثماني خطوات. غير أن «رافائيل» كان مصدفا في السلاسل التي كادت بعض أطرافها تلتحم بكعبيه فلم يكن يستطيع لثقلها وضجيجها حراكا.
كان الحكم قد صدر عليه بالإعدام. غير أن «رافائيل» كان يقضي الشهور تلو الشهور في تلك الخلوة كما لو كان مدفونا حيا ويتعفن كجثة متحركة في تابوت معمول من الطين بينما ينظر قضاة مدريد في وثائق الدعوى لآخر مرة. وكان أمام هذه المحنة يؤثر حلول وقت تنفيذ الحكم باجتثاث رأسه فينتهي كل شيء دفعة واحدة على أن يخلد في ذلك النوع من العذاب المهلك المهين.
وكان السجين ضيق النفس بالنظافة المتجددة كل يوم داخل الخلوة لما كان يحس من تسرب الرطوبة إلى عظامه إذ كان غسل الجدران والأرض يذهب بذرات الغبار فيحس بالوحدة الشاملة التامة. وقد بلغت حسرته لهذه العزلة مبلغا جعله يتمنى لو تسرب الفئران وقاسمهم شيئا من طعامه الضئيل وأجرى معهم ضربا من ضروب الحديث والنجوى. ولو هو وجد العنكبوت في جنبات تلك الخلو لنفق بعض الوقت في ترويضها والتلهي بها.
إن رجال القضاء لم يكونوا يريدون في ذلك القبر حياة إلا حياة «رافائيل» السجين. وكم يتذكر ذلك اليوم الذي أطل فيه طائر صغير من خلال الشباك كما لو كان صبيا عابثا لعوبا. وكان العصفور يشدو وهو المغرم بالضوء والفضاء كما لو كان يستغرب وجود ذلك الشخص النحيل الشاحب وهو يرتعش من البرد في منتصف الصيف على ما تدثر به من رث الثياب. ولعل العصفور قد ذعر لرؤية ذلك الوجه الذي بلغ شحوبه إصفرار الورق العتيق وخاف من تلك الهيئة التي تشبه هيئة الهنود الحمر ففر وهو يضرب بجناحية كما لو كان بريد التخلص من رائحة القبر والصوف العفنة من ثيابه الخلقية عندما تتسلل عبر الشباك.
ولم يكن للحياة أثر هناك إلا صخب رفقائه المسجونين عندما يمرون بالبهو.وقد كان «رافائيل» بغيطهم على ما كانوا فيه من نعمة التحرك وتداول الحديث ومشاهدة السماء وعدم الاضطرار إلى استنشاق الهواء من خلال قضبان من حديد. لقد كان يرى أن الشقاء درجات بعضها فوق بعض. فقد كان يحسد رفقاءه كلما ساروا في البهو غادين أو رائجين. وكان يعتبر حالتهم من الحالات التي تستحق التمني وتستوجب النقمة على من ينعمون بها. أما المعتقلون الذين يجيئون ويذهبون في الفناء فكانوا يحسدون كل من كان خارج ذلك السجن ويتمتعون بالحرية ويسيرون آنذاك في الشوارع غير راضين عن مصائرهم في معظم الأحوال لما يطعمون فيه من مآرب أخرى كثرة لا نعملها.. ما أجمل الحرية.. غير أنهم جديرون بذلك الاعتقال.
لقد كان «رافائيل» قد نزل إلى آخر درج في سلم الشقاء. فقد حاول الفرار بحفر الأرض عندما استبدبه الضجر واليأس. إلا أن الحراسة كانت يقظة مرهقة. وقد كان من الواجب عليه أن يلزم الصمت. فقد حاول ذات يوم أن يتلهى بترتيل الصلوات التي علمته والدته في صباه وظل بعضها عالقا بذهنه فأجبره الحراس على السكوت. ذلك لأن هؤلاء كانوا يريدون الاحتفاظ به على الحالة التي كان عليها يوم دخل السجن من اكتمال الجسم والعقل جميعا حتى لا يكون الجلاد أمام جسد معطوب يوم يحين تنفيذ الإعدام. كان الحراس يؤولون ترتيله لتلك الصلوات على ذلك النحو الرتيب كما لو كان يريد أن يتظاهر بالجنون.
لم يكن «رافائيل» يريد أن يصبح مجنونا بأي حال. إلا أن السجن والأكل القليل يوشكان أن يقضيا عليه. فقد أخذ يرى في بعض الليالي مناظر مزعجة ويتمثل أعداءه المتربصين بحياته فتثور معدته ويتعذب العذاب الكبير من جراء وخزها القاسي وهو الذي تضيق نفسه بالضوء الكهربائي الذي لم يألفه ولو بعد مرور أربعة عشر شهرا.
وكان يقضي وجه النهار يفكر في ماضيه. إلا أن ذهنه كان مجهدا شاردا حتى كان يظن أنه يراجع قصة غيره. فقد كان يتذكر رجوعه إلى القرية الصغيرة التي ولد بها بعد أن دخل السجن أول مرة لإصابته لأحد من الناس بجروح. كما كان يتذكر صيته البعيد بين سكان الحي كافة ورواد المخمرة الواقعة بساحة القرية وإعجابهم به وتعظيمهم إياه بما كانوا يشيدون بقساوته. وكانت أجمل فتيات القرية ترضى عن التزوج به رهبة من شدته لا رغبة في به وعطفه. وكان أعضاء المجلس القروي يطرونه بالمدح فكانوا بنيلونه بندقية الحارس ليستعمل باسه الشديد عندما تحين الانتخابات، لقد كان يتذكر سيطرته التامة على ذلك القطاع. فكان يرهب الخصوم أعضاء الفريق الفاشل في تلك المشورة القروية حتى ضاقوا به ذات يوم فاحتموا بشجاع آخر كان حديث العهد بالخروج من السجن فأقاموه خصما عنيدا أمام «رافائيل».
يا إلهي، إنني، فعلت فعلتي فلأن الشرف المهني كان في خطر وكان من الواجب علي أن أمرغ أذن ذاك الذي كان يحرمني قوت يومي في التراب. وكان نتيجة محتومة أن أشفع الانتظار بالتربص ثم جاءت طلقة البندقية الصائبة ثم ضربه بعقبها حتى لا يصيح ولا يضرب برجله أبدا.
وخلاصة القول أن ما حدث كان من فعل الرجال، أما العاقبة فكانت السجن الذي وجد فيه رفقاءه السابقين. وحدث لما شرعت المحكمة تنظر في الدعوى أن تكتل ضده جميع أولئك الذي كانوا يكرهونه ويخافونه فانتقموا منه بالتصريح بما يدينه من الشهادات. ثم تذكر صدور الفصل عن المحكمة بعد الشهور الأربعة عشر الملعونة التي قضاها داخل السجن منتظرا أن يصل الأمر من مدريد بتنفيذ الحكم فيه. ولقد أبطأ الحكم في وصوله كما لو كان يسعى محمولا على عربة تدفعها الأيدي دفعا وثيدا.
وما كان «رافائيل» يفتقد الإقدام والشجاعة. فقد كان يفكر في «خوان بورطيلا» و«فرانشيسكو استيبان» الوسيم الطلعة وغيرهما من الرؤوس الصبورين الذي سارت الأمثال والحكايات بما فعلوا وكان ينصت إليها بحماس ويجتهد في ترويض نفسه لمواجهة تلك اللحظة الخيرة بمثل ما واجهوها به من صبر واحتمال.
غير أنه كان يحدث في بعض الليالي أن يقفز من سريره قفزة قوية كما لو كانت بذلك السرير آلة خفية تدفعه فيسمع الصدى الحزين الذي تحدثه الغلال عندما تنبعث فيها تلك الحركة المفاجئة. وكان يصبح آنذاك كما يصيح الصبيان ثم يندم على ما صدر منه فيحاول عبثا كظم ما كان يعتريه. وكان «رافائيل» يحس بان ذلك الصوت إنما يصدر عن شخص آخر سكن جسمه. وقد كان هذا الشخص إلى ذلك الحين مجهولا عنده يخاف وينتخب ولا تسكن ثورة نفسه إلا بعد أن يشرب ستة أكواب من ذلك المائع الساخن المعمول من ماء التين والخروب والذي كانوا يسمونه في السجن رحيق البن.
أما «رافائيل» القديم الذي كان يرجو لقاء أجله لينتهي ذلك العذاب الذي كان يقيم فيه فلم يبق منه إلا هيكله. ذلك لأن «رافائيل» الجديد الذي تكون في تلك الخلوة قد أصبح يخاف الموت ويتهيب اقتراب النهاية. وكان بوده لو استطاع أن يمدد عمره أربعة عشر شهرا آخر يعيش أثناءها ف يذلك الشقاء الذي عاش فيه إلى الآن.
لقد أصبح «رافائيل» جزوعا يرى الموت في كل مكان يولي وجهه شطره. فهو براه في أوجه المستطلعين الذين يمرون بباب الخلوة فينظرون إليه من خلال نافذتها الصغيرة الضيقة. وهو يراه في وجه راهب السجن الذي أخذ يزوره كل مساء كما لو كانت تلك الخلوة أحسن مكان للتدخين والحديث. وجعل «رفائيل» يتوجس خيفة من كل هذه الإمارات المنذرة.
ولم يكن في المستطاع أن تكون أسئلة الراهب أكثر إقلاقا. فقد سأل «رافائيل» عما إذا كان نصرانيا صحيح الإيمان يقوم بشعائر الدين فأجابه بالإثبات وبأنه كان يحترم الرهبان فلم ينهلم أبدا بأي سوء. أما أهله فلا حاجة إلى السؤال عن مدى تدينهم إذ أنهم آثروا الاعتصام بالجبال للدفاع عن الملك الشرعي لأن شماس القرية أمرهم بذلك. وكان «رافائيل» يلجأ لتأكيد تدينه إلى إخراج بعض الرقي والتمائم من بين الثياب الرثة التي كانت تغطي صدره.
وكان الراهب يأخذ ي الحديث فيما بعد عن المسيح الذي وجد نفسه في حالة شهيبة بحالة «رافائيل» مع أنه «ابن الله»، وكانت هذه المقارنة تدخل شيئا من السرور على نفس ذلك الشيطان المسكين فيعتبرها تشريفا له... ومع اغتباطه بهذه المقارنة فقد كان يرجو أن تتأخر النهاية المنتظرة أكثر ما يمكن أن يكون التأخير.
وجاء اليوم الذي انفجر فيه الخير المخيف كما تنفجر الصاعقة. فقد أنهى قضاة مدريد الأعلون النظر في القضية فجعل الموت يسعى سريعا إليه لورود برقية تأمر بتنفيذ الحكم.
ولما اقترب أحد مستخدمي السجن من «رافائيل» ذات يوم لإخباره بأن زوجته وبنته التي ولدت إبان اعتقاله يحومان حول السجن لم يعد السجين يشك في أن النهاية قد اقتربت لأن زوجته ما كانت لتغادر القرية إلا بعد أن علمت بأن الساعة قد اقتربت حقا.
غير أن بعض المسجونين جعلوا «رافائيل» يفكر في العفو فتشبث بقوة بهذا الرجاء الأخير الذي يتشبث به جميع البائسين. وأخذ السجين يمني نفسه ببلوغ هذه البقية التي نالها من قبله معتقلون آخرون. وكان يرى أنه ليس من الصعب في شيء على تلك السيدة الموجودة في مدريد أن تنقذ حياته وتحفظه لأهله.
وجعل «رافائيل» يسأل كل من يصل إليه أما يحب الاستطلاع أو للقيام بواجبه كالمحامين والرهبان والصحفيين عما إذا كانت العذراء ستستجيب لندائه وتوسله وهو خائف مرتعش الشفتين. غير أنه كان من المقرر أن يساق إذا كان الغد إلى قريته مصفدا مخفورا كما تساق ثيران المصارعة إلى المجزرة. وقد كان يتصور أيضل زوجته وهي تقضي الساعات الطويلة بباب السجن في انتظار رؤيته لدى خروجه منه للذهاب إلى القرية. وكانت زوجته شابة سمراء ذات شفتين غليظتين وحاجبين متصلين تنبعث منهل رائحة الحظيرة القوية إذ هي سارت وارتفعت أذيال زيها.
وكانت زوجته مشدوهة لوجودها في ذلك المكان، فقد كانت نظرتها الغبية تنم عن الاندهاش أكثر مما تنم عن الألم. فلم تكن تذرف الدموع إلا عندما تنظر إلى بنتها وقد أحاطت بثديها في نهم. وكانت الزوجة تقول «يا إلاهي، ما أعظم هذا العار الذي لحق بنا جميعا. وقد كنت اعلم أن ذلك الرجل ستكتب له هذه النهاية. وليت بنتي لم تولد».
وكان راهب السجن يحاول تجميلها بالصبر فينصحها بالاستسلام والرضا بالقدر، فهي لا تزال شابة وفي الإمكان أن تجد بعد ترملها زوجا يسعدها. وكان هذا القول يشيع في نفسها الأمل حتى أنها عادت إلى الحديث عن خطيبها الأول الذي كان شابا وسيم الطلعة فاسحب خوفا من «رافائيل»، غير انه جعل في المدة الخيرة يقترب منها سواء في الحقول أو داخل القرية كما لو كان يريد أن يقول لها شيئا أو يحدثها بما يجد في نفسه.
لقد أخذت الزوجة تقول ف ينفسها بهدوء يشعر ببداية الابتسام «لا فإنني لن أعدم الرجال، غير أنني امرأة متدينة وأريد إن أنا تزوجت مرة أخرى أن يكون زوجي على نحو يرضي الله».
غير أنها أحست بنظرات الاستغراب يبعث بها الراهب ومستخدمو باب السجن إليها فعادت إلى الواقع مستأنفة نحيبها العسير.
وما جاء الليل حتى وصل الخبر. فالعذراء التي كان يتصورها «رافائيل» في مدريد محاطة بالبهاء العظيم الذي يزين هياكل الكنائس قد استجابت للتوسلات والبرقيات فأطالت عمره.
وكان لنبأ العفو بتبديل الحكم دوي كبير وصخب عظيم كالذي يحدثه ألف من الجنون أو كما لو تلقى كافة المسجونين أمرا بتحريرهم.
قال الراهب للزوجة «افرحي يا سيدتي فإن الإعدام لن ينفذ في زوجك ولن تصبحي أرملة». إلا أن المرأة الشابة ظلت هادئة صامتة كما لو كانت تصارع أفكارا تعتمل في رأسها ببط غبي قبل ان تقول في هدوء آخر الأمر «حسن، فما هو ميعاد خروجه من السجن؟».
-الخروج .. ها أنت مجنونة ؟. إنه لن يخرج من السجن أبدا. وعليه أن يكون راضي النفس لنجاته من الموت. إنه سيرحل إلى سجن بإفريقيا. وهو لا يزال شابا قوي البنية. ولربما عاش عشرين سنة أخرى.
ولأول مرة بكت المرأة بكل قواها. إلا أن نحيبها لم يكن من فرط الحزن وإنما كان مصدره اليأس.
قال الراهب «هوني عليك يا سيدتي، فإن ما تفعلين من شأنه أن يغضب الله. أو لا تفهمين؟. فإن زوجك لم يعد في عداد المحكوم عليهم بالإعدام، وهل لك بعد هذا حق في التذمر والشكوى؟».
كفت المرأة عن البكاء، إلا أن شرر البغض اخذ يتطاير من عينيها السوداوين قبل أن تقول محنقة :
«حسنا ن لا يقتلوه، فأنا فرحة لأنه نجا، فما هو شأني ومصيري يا ترى؟».
غير أنها أردفت بعد صمت طويل وهي تبكي بكاء يهتز له كل جسدها الأسمر الشاب المتقد فيشيع رائحة الفتوة العنيفة :
«إن الحكم بالعذاب قد صار علي في هذه الحال»(1)
(1) عنوان القصة في الأصل الاسباني La Condenada أو «المحكوم عليه» وقد رأينا أن عنوان «المعلقة» انسب في الترجمة العربية كما سيرى القارئ من مدلول القصة ومقصدها (المعرب).
كان الحكم قد صدر عليه بالإعدام. غير أن «رافائيل» كان يقضي الشهور تلو الشهور في تلك الخلوة كما لو كان مدفونا حيا ويتعفن كجثة متحركة في تابوت معمول من الطين بينما ينظر قضاة مدريد في وثائق الدعوى لآخر مرة. وكان أمام هذه المحنة يؤثر حلول وقت تنفيذ الحكم باجتثاث رأسه فينتهي كل شيء دفعة واحدة على أن يخلد في ذلك النوع من العذاب المهلك المهين.
وكان السجين ضيق النفس بالنظافة المتجددة كل يوم داخل الخلوة لما كان يحس من تسرب الرطوبة إلى عظامه إذ كان غسل الجدران والأرض يذهب بذرات الغبار فيحس بالوحدة الشاملة التامة. وقد بلغت حسرته لهذه العزلة مبلغا جعله يتمنى لو تسرب الفئران وقاسمهم شيئا من طعامه الضئيل وأجرى معهم ضربا من ضروب الحديث والنجوى. ولو هو وجد العنكبوت في جنبات تلك الخلو لنفق بعض الوقت في ترويضها والتلهي بها.
إن رجال القضاء لم يكونوا يريدون في ذلك القبر حياة إلا حياة «رافائيل» السجين. وكم يتذكر ذلك اليوم الذي أطل فيه طائر صغير من خلال الشباك كما لو كان صبيا عابثا لعوبا. وكان العصفور يشدو وهو المغرم بالضوء والفضاء كما لو كان يستغرب وجود ذلك الشخص النحيل الشاحب وهو يرتعش من البرد في منتصف الصيف على ما تدثر به من رث الثياب. ولعل العصفور قد ذعر لرؤية ذلك الوجه الذي بلغ شحوبه إصفرار الورق العتيق وخاف من تلك الهيئة التي تشبه هيئة الهنود الحمر ففر وهو يضرب بجناحية كما لو كان بريد التخلص من رائحة القبر والصوف العفنة من ثيابه الخلقية عندما تتسلل عبر الشباك.
ولم يكن للحياة أثر هناك إلا صخب رفقائه المسجونين عندما يمرون بالبهو.وقد كان «رافائيل» بغيطهم على ما كانوا فيه من نعمة التحرك وتداول الحديث ومشاهدة السماء وعدم الاضطرار إلى استنشاق الهواء من خلال قضبان من حديد. لقد كان يرى أن الشقاء درجات بعضها فوق بعض. فقد كان يحسد رفقاءه كلما ساروا في البهو غادين أو رائجين. وكان يعتبر حالتهم من الحالات التي تستحق التمني وتستوجب النقمة على من ينعمون بها. أما المعتقلون الذين يجيئون ويذهبون في الفناء فكانوا يحسدون كل من كان خارج ذلك السجن ويتمتعون بالحرية ويسيرون آنذاك في الشوارع غير راضين عن مصائرهم في معظم الأحوال لما يطعمون فيه من مآرب أخرى كثرة لا نعملها.. ما أجمل الحرية.. غير أنهم جديرون بذلك الاعتقال.
لقد كان «رافائيل» قد نزل إلى آخر درج في سلم الشقاء. فقد حاول الفرار بحفر الأرض عندما استبدبه الضجر واليأس. إلا أن الحراسة كانت يقظة مرهقة. وقد كان من الواجب عليه أن يلزم الصمت. فقد حاول ذات يوم أن يتلهى بترتيل الصلوات التي علمته والدته في صباه وظل بعضها عالقا بذهنه فأجبره الحراس على السكوت. ذلك لأن هؤلاء كانوا يريدون الاحتفاظ به على الحالة التي كان عليها يوم دخل السجن من اكتمال الجسم والعقل جميعا حتى لا يكون الجلاد أمام جسد معطوب يوم يحين تنفيذ الإعدام. كان الحراس يؤولون ترتيله لتلك الصلوات على ذلك النحو الرتيب كما لو كان يريد أن يتظاهر بالجنون.
لم يكن «رافائيل» يريد أن يصبح مجنونا بأي حال. إلا أن السجن والأكل القليل يوشكان أن يقضيا عليه. فقد أخذ يرى في بعض الليالي مناظر مزعجة ويتمثل أعداءه المتربصين بحياته فتثور معدته ويتعذب العذاب الكبير من جراء وخزها القاسي وهو الذي تضيق نفسه بالضوء الكهربائي الذي لم يألفه ولو بعد مرور أربعة عشر شهرا.
وكان يقضي وجه النهار يفكر في ماضيه. إلا أن ذهنه كان مجهدا شاردا حتى كان يظن أنه يراجع قصة غيره. فقد كان يتذكر رجوعه إلى القرية الصغيرة التي ولد بها بعد أن دخل السجن أول مرة لإصابته لأحد من الناس بجروح. كما كان يتذكر صيته البعيد بين سكان الحي كافة ورواد المخمرة الواقعة بساحة القرية وإعجابهم به وتعظيمهم إياه بما كانوا يشيدون بقساوته. وكانت أجمل فتيات القرية ترضى عن التزوج به رهبة من شدته لا رغبة في به وعطفه. وكان أعضاء المجلس القروي يطرونه بالمدح فكانوا بنيلونه بندقية الحارس ليستعمل باسه الشديد عندما تحين الانتخابات، لقد كان يتذكر سيطرته التامة على ذلك القطاع. فكان يرهب الخصوم أعضاء الفريق الفاشل في تلك المشورة القروية حتى ضاقوا به ذات يوم فاحتموا بشجاع آخر كان حديث العهد بالخروج من السجن فأقاموه خصما عنيدا أمام «رافائيل».
يا إلهي، إنني، فعلت فعلتي فلأن الشرف المهني كان في خطر وكان من الواجب علي أن أمرغ أذن ذاك الذي كان يحرمني قوت يومي في التراب. وكان نتيجة محتومة أن أشفع الانتظار بالتربص ثم جاءت طلقة البندقية الصائبة ثم ضربه بعقبها حتى لا يصيح ولا يضرب برجله أبدا.
وخلاصة القول أن ما حدث كان من فعل الرجال، أما العاقبة فكانت السجن الذي وجد فيه رفقاءه السابقين. وحدث لما شرعت المحكمة تنظر في الدعوى أن تكتل ضده جميع أولئك الذي كانوا يكرهونه ويخافونه فانتقموا منه بالتصريح بما يدينه من الشهادات. ثم تذكر صدور الفصل عن المحكمة بعد الشهور الأربعة عشر الملعونة التي قضاها داخل السجن منتظرا أن يصل الأمر من مدريد بتنفيذ الحكم فيه. ولقد أبطأ الحكم في وصوله كما لو كان يسعى محمولا على عربة تدفعها الأيدي دفعا وثيدا.
وما كان «رافائيل» يفتقد الإقدام والشجاعة. فقد كان يفكر في «خوان بورطيلا» و«فرانشيسكو استيبان» الوسيم الطلعة وغيرهما من الرؤوس الصبورين الذي سارت الأمثال والحكايات بما فعلوا وكان ينصت إليها بحماس ويجتهد في ترويض نفسه لمواجهة تلك اللحظة الخيرة بمثل ما واجهوها به من صبر واحتمال.
غير أنه كان يحدث في بعض الليالي أن يقفز من سريره قفزة قوية كما لو كانت بذلك السرير آلة خفية تدفعه فيسمع الصدى الحزين الذي تحدثه الغلال عندما تنبعث فيها تلك الحركة المفاجئة. وكان يصبح آنذاك كما يصيح الصبيان ثم يندم على ما صدر منه فيحاول عبثا كظم ما كان يعتريه. وكان «رافائيل» يحس بان ذلك الصوت إنما يصدر عن شخص آخر سكن جسمه. وقد كان هذا الشخص إلى ذلك الحين مجهولا عنده يخاف وينتخب ولا تسكن ثورة نفسه إلا بعد أن يشرب ستة أكواب من ذلك المائع الساخن المعمول من ماء التين والخروب والذي كانوا يسمونه في السجن رحيق البن.
أما «رافائيل» القديم الذي كان يرجو لقاء أجله لينتهي ذلك العذاب الذي كان يقيم فيه فلم يبق منه إلا هيكله. ذلك لأن «رافائيل» الجديد الذي تكون في تلك الخلوة قد أصبح يخاف الموت ويتهيب اقتراب النهاية. وكان بوده لو استطاع أن يمدد عمره أربعة عشر شهرا آخر يعيش أثناءها ف يذلك الشقاء الذي عاش فيه إلى الآن.
لقد أصبح «رافائيل» جزوعا يرى الموت في كل مكان يولي وجهه شطره. فهو براه في أوجه المستطلعين الذين يمرون بباب الخلوة فينظرون إليه من خلال نافذتها الصغيرة الضيقة. وهو يراه في وجه راهب السجن الذي أخذ يزوره كل مساء كما لو كانت تلك الخلوة أحسن مكان للتدخين والحديث. وجعل «رفائيل» يتوجس خيفة من كل هذه الإمارات المنذرة.
ولم يكن في المستطاع أن تكون أسئلة الراهب أكثر إقلاقا. فقد سأل «رافائيل» عما إذا كان نصرانيا صحيح الإيمان يقوم بشعائر الدين فأجابه بالإثبات وبأنه كان يحترم الرهبان فلم ينهلم أبدا بأي سوء. أما أهله فلا حاجة إلى السؤال عن مدى تدينهم إذ أنهم آثروا الاعتصام بالجبال للدفاع عن الملك الشرعي لأن شماس القرية أمرهم بذلك. وكان «رافائيل» يلجأ لتأكيد تدينه إلى إخراج بعض الرقي والتمائم من بين الثياب الرثة التي كانت تغطي صدره.
وكان الراهب يأخذ ي الحديث فيما بعد عن المسيح الذي وجد نفسه في حالة شهيبة بحالة «رافائيل» مع أنه «ابن الله»، وكانت هذه المقارنة تدخل شيئا من السرور على نفس ذلك الشيطان المسكين فيعتبرها تشريفا له... ومع اغتباطه بهذه المقارنة فقد كان يرجو أن تتأخر النهاية المنتظرة أكثر ما يمكن أن يكون التأخير.
وجاء اليوم الذي انفجر فيه الخير المخيف كما تنفجر الصاعقة. فقد أنهى قضاة مدريد الأعلون النظر في القضية فجعل الموت يسعى سريعا إليه لورود برقية تأمر بتنفيذ الحكم.
ولما اقترب أحد مستخدمي السجن من «رافائيل» ذات يوم لإخباره بأن زوجته وبنته التي ولدت إبان اعتقاله يحومان حول السجن لم يعد السجين يشك في أن النهاية قد اقتربت لأن زوجته ما كانت لتغادر القرية إلا بعد أن علمت بأن الساعة قد اقتربت حقا.
غير أن بعض المسجونين جعلوا «رافائيل» يفكر في العفو فتشبث بقوة بهذا الرجاء الأخير الذي يتشبث به جميع البائسين. وأخذ السجين يمني نفسه ببلوغ هذه البقية التي نالها من قبله معتقلون آخرون. وكان يرى أنه ليس من الصعب في شيء على تلك السيدة الموجودة في مدريد أن تنقذ حياته وتحفظه لأهله.
وجعل «رافائيل» يسأل كل من يصل إليه أما يحب الاستطلاع أو للقيام بواجبه كالمحامين والرهبان والصحفيين عما إذا كانت العذراء ستستجيب لندائه وتوسله وهو خائف مرتعش الشفتين. غير أنه كان من المقرر أن يساق إذا كان الغد إلى قريته مصفدا مخفورا كما تساق ثيران المصارعة إلى المجزرة. وقد كان يتصور أيضل زوجته وهي تقضي الساعات الطويلة بباب السجن في انتظار رؤيته لدى خروجه منه للذهاب إلى القرية. وكانت زوجته شابة سمراء ذات شفتين غليظتين وحاجبين متصلين تنبعث منهل رائحة الحظيرة القوية إذ هي سارت وارتفعت أذيال زيها.
وكانت زوجته مشدوهة لوجودها في ذلك المكان، فقد كانت نظرتها الغبية تنم عن الاندهاش أكثر مما تنم عن الألم. فلم تكن تذرف الدموع إلا عندما تنظر إلى بنتها وقد أحاطت بثديها في نهم. وكانت الزوجة تقول «يا إلاهي، ما أعظم هذا العار الذي لحق بنا جميعا. وقد كنت اعلم أن ذلك الرجل ستكتب له هذه النهاية. وليت بنتي لم تولد».
وكان راهب السجن يحاول تجميلها بالصبر فينصحها بالاستسلام والرضا بالقدر، فهي لا تزال شابة وفي الإمكان أن تجد بعد ترملها زوجا يسعدها. وكان هذا القول يشيع في نفسها الأمل حتى أنها عادت إلى الحديث عن خطيبها الأول الذي كان شابا وسيم الطلعة فاسحب خوفا من «رافائيل»، غير انه جعل في المدة الخيرة يقترب منها سواء في الحقول أو داخل القرية كما لو كان يريد أن يقول لها شيئا أو يحدثها بما يجد في نفسه.
لقد أخذت الزوجة تقول ف ينفسها بهدوء يشعر ببداية الابتسام «لا فإنني لن أعدم الرجال، غير أنني امرأة متدينة وأريد إن أنا تزوجت مرة أخرى أن يكون زوجي على نحو يرضي الله».
غير أنها أحست بنظرات الاستغراب يبعث بها الراهب ومستخدمو باب السجن إليها فعادت إلى الواقع مستأنفة نحيبها العسير.
وما جاء الليل حتى وصل الخبر. فالعذراء التي كان يتصورها «رافائيل» في مدريد محاطة بالبهاء العظيم الذي يزين هياكل الكنائس قد استجابت للتوسلات والبرقيات فأطالت عمره.
وكان لنبأ العفو بتبديل الحكم دوي كبير وصخب عظيم كالذي يحدثه ألف من الجنون أو كما لو تلقى كافة المسجونين أمرا بتحريرهم.
قال الراهب للزوجة «افرحي يا سيدتي فإن الإعدام لن ينفذ في زوجك ولن تصبحي أرملة». إلا أن المرأة الشابة ظلت هادئة صامتة كما لو كانت تصارع أفكارا تعتمل في رأسها ببط غبي قبل ان تقول في هدوء آخر الأمر «حسن، فما هو ميعاد خروجه من السجن؟».
-الخروج .. ها أنت مجنونة ؟. إنه لن يخرج من السجن أبدا. وعليه أن يكون راضي النفس لنجاته من الموت. إنه سيرحل إلى سجن بإفريقيا. وهو لا يزال شابا قوي البنية. ولربما عاش عشرين سنة أخرى.
ولأول مرة بكت المرأة بكل قواها. إلا أن نحيبها لم يكن من فرط الحزن وإنما كان مصدره اليأس.
قال الراهب «هوني عليك يا سيدتي، فإن ما تفعلين من شأنه أن يغضب الله. أو لا تفهمين؟. فإن زوجك لم يعد في عداد المحكوم عليهم بالإعدام، وهل لك بعد هذا حق في التذمر والشكوى؟».
كفت المرأة عن البكاء، إلا أن شرر البغض اخذ يتطاير من عينيها السوداوين قبل أن تقول محنقة :
«حسنا ن لا يقتلوه، فأنا فرحة لأنه نجا، فما هو شأني ومصيري يا ترى؟».
غير أنها أردفت بعد صمت طويل وهي تبكي بكاء يهتز له كل جسدها الأسمر الشاب المتقد فيشيع رائحة الفتوة العنيفة :
«إن الحكم بالعذاب قد صار علي في هذه الحال»(1)
(1) عنوان القصة في الأصل الاسباني La Condenada أو «المحكوم عليه» وقد رأينا أن عنوان «المعلقة» انسب في الترجمة العربية كما سيرى القارئ من مدلول القصة ومقصدها (المعرب).