نقوس المهدي
كاتب
ركبت القطار وقعدت في ركن عربة فارغة من الركاب ثم أقفلت باب ديوان العربة آملا أن أظل وحيدا طيلة سفري لكن الباب فتح فجأة وسمعت صوتا يقول:
- خذ حذارك يا سيدي فإننا نوجد عند التقاء خطوط السكة الحديدية، ودرج العربة مرتفع، أجاب صوت آخر:
- لا تخش شيئا يا لوران فإنني سأستعين بمقبض الباب. ثم أطل رأس فوقه قبعة دائرية وأمسكت يداه بالسيور الجلدية المعلقة في الباب، وظهر جسم ضخم أحدثت قدماه قرقعة عكاز فوق الدرج. وعندما دخل الرجل إلى ديوان العربة لمحت قطعة من الخشب الأسود يبرز من فتحة رجل السروال ثم ظهر وجه من وراء هذا المسافر وسأله:
- هل أنت على ما يرام يا سيدي؟
- نعم.
- ها هي لفائفك وعكازاك.
وسرعان ما صعد إلى القطار خادم يشبه في سحنته جنديا عجوزا، وكان يحمل بين ذراعيه كومة من الأشياء ملفوفة في أوراق سوداء وصفراء محكمة الربط، ثم وضع ما كان يحمله في الشبكة التي توجد فوق رؤوس الركاب، وضعها وهو يقول:
- هذا كل شيء يا سيدي.. الحلوى والدمية والطبل والبندقية وفطائر الكبد.
- حسن .
- سفر ميمون يا سيدي.
- شكرا يا لوران.
ثم اختفى الرجل وراء الباب وعدت لأنظر إلى جاري. كان في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره بالرغم من أن الشيب كان يجلل شعره. كان أنيقا ذا شارب كث مفرطا في البدانة حتى كأنه من أولئك الرجال النشيطين الأقوياء الذين تضطرهم عاهة ما إلى التوفق عن نشاطهم. مسح جبهته وزفر ثم نظر إلى مواجهة وهو يقول:
- هل يضايقك الدخان يا سيدي؟
- أبدا ..
لم يكن صوته ونظراته ووجهه غرباء عني كانوا مألوفين لدي، لكن أين ومتى؟ أكيد أنني قابلت هذا الشخص وتحادثت معه وصافحته وهذا يرجع إلى تاريخ جد قديم ضاع وسط تلك الضبابة التي يحاول الفكر خلالها جاهدا أن يلتمس الذكريات وأن يتتبعها وهي تنفلت من بين يديه كالأطياف الهاربة.
إن أيضا يتفحصني جادا مثل من يحاول تذكر شيء لا يعرفه تماما.
وتضايقت عينانا من هذه النظرات اللحوحة فأخذت تنظر صوب اتجاه آخر. ثم بعد بضع لحظات عادت لتلتقي من جديد بدافع من الإرادة الغامضة التي كانت تحرك ذاكرتينا. وعندئذ قلت:
- يا سيدي عوضا عن أن نظل هكذا يراقب أحدنا الآخر خفية أفليس من الأفضل أن نبحث معا عن المكان الذي تعارفنا فيه؟
وأجاب جاري بمنتهى اللطف:
- إنك مصيب تماما فيما تقترحه.
وقمت بالتعريف بنفسي:
- اسمي هنري بونكلير أعمل قاضيا في المحكمة.
وتردد لحظة ثم قال وقد لونت صوته تلك الموجه التي ترافق تواترات الفكر الشديدة:
- اه بالضبط .. لقد التقيت بك عند آل بوانسيل منذ أمد طويل قبل نشوب الحرب.. لقد مرت على ذلك اثنتا عشرة سنة.
- نعم يا سيدي آه إنك الضابط روفاليير؟
- الأمر كما تقول بل لقد أصبحت القائد روفاليير إلى اليوم الذي فقدت فيه رجلاي مرة واحدة من جراء ضربة إحدى المدافع.
وأخذنا ننظر إلى وجوه بعضنا بعد أن تم التعارف بيننا.. وعادت بي الذاكرة إلى الأيام التي عرفته فيها شابا رشيقا يقود حلقات الرقص بحمية محببة جعلتنا نطلق عليه لقب «الإعصار». لكن وراء هذه الصورة الواضحة التي انتصبت في مخيلتي كان هناك شيء يطفو ويتراقص من غير تحديد.. قصة سمعتها عنه وسرعان ما نسيتها، وهي من القصص التي نسمعها باهتمام أول الأمر ولكنها لا تترك في الذهن سوى أثر خفيف. أحسست أن عنصر الحب كان ممتزجا بهذه القصة ولكن لا شيء أكثر من ذلك، إنه إحساس يشبه الرائحة التي تخلفها أرجل القنيصة على الأرض فتنفذ إلى أنف كلب الصيد لتحركه إلى البحث عنها.
وفي هذه الأثناء كانت الظلال تتضح في مخيلتي، وانتصبت صورة فتاة أمام عيناي ثم انبثق اسمها داخل رأسي كالصاروخ عندما يشتعل: الآنسة ماندال. لقد تذكرت كل شيء الآن، فعلا إنها قصة حب ولكنها قصة عادية كانت تلك الفتاة تحب هذا الشاب عندما التقيت به وكان الحديث يدور حول زواجهما المنتظر، وكان الشاب يظهر متعلقا بها وسعيدا بحبه لها. رفعت بصري إلى الشبكة حيث كانت اللفائف التي حملها خادم جاري.. وتذكرت صوت الخادم وهو يقول:
«هذا كل شيء يا سيدي .. الحلوى والدمية والطبل والبندقية وفطائر الكبد».
وعندئذ نسجت في مخيلتي خلال لحظة واحدة قصة تشبه جميع القصص التي قرأتها والتي يتزوج فيها الشاب أحيانا خطيبته أو الفتاة خطيبها رغم المصيبة الجسدية أو المادية التي قد تحل بأحدهما، واذن فإن هذا الجندي الذي عطب خلال الحرب قد وجد بعد رجوعه في الميدان الفتاة التي وهبته قلبها في انتظاره فتزوجته رغم عاهته.
وجدت هذا أمرا جميلا لكنه عاديا مثلما نحكم بالبساطة على جميع أنواع الوفاء ونهايات القصص والمسرحيات. إنه يخيل إلينا عندما نقرأ أو نستمع إلى مثل هذه النماذج من المروءة والشهامة إنه بإمكاننا نحن أيضا أن نبذل تضحيات كبرى في حماس واندفاع رائع.. ولكن مزاجنا يتعكر بسرعة إذا طلب منا صديق محتاج –في اليوم التالي- أن نقرضه مقدارا من النقود.
- إن من الخطأ يا سيدي أن يذكر اسم السيدة فلوريل مقترنا باسمي.. فإنني عندما عدت من الحرب بدون رجلاي، لم أقبل مطلقا أن تصبح زوجة لي. هل كان ذلك ممكنا؟
ثم فجأة حل افتراض آخر أقل شاعرية وأكثر واقعية محل الافتراض الأول.. لعله قد تزوجها قبل ذهابه إلى الميدان وقبل أن تقطع رجلاه من جراء قذيفة المدفع.. وبعد أن عاد اضطرت إلى أن تعتني به وتواسيه وتقف بجانب زوجها الذي ذهب قويا جميلا ورجع حطاما مقصوص الرجلين، محكوما عليه باللاحركة، وباجترار المشاعر السوداوية وتحمل البدانة المشينة.
هل هو سعيد أو شقي؟
لقد تملكني رغبة قوية لمعرفة قصته أو على الأقل الوقوف على أهم الخطوط التي تسمح لي بتخمين بقية الحلقات التي لا يمكنه الإفضاء بها.
كنت أتحدث إليه وذهني سارح.. وكان حديثنا يتناول موضوعات تافهة .. وكانت عيناي مثبة على الشبكة وأنا أوزع الهدايا على النحو التالي:
«إذن فهو له ثلاثة أطفال: الحلوى سيخص بها زوجته، والدمية لابنته الصغيرة، والطبل والبندقية لأولاده.. وهذه الفطيرة سيتركها لنفسه.»
وفجأة سألته:
- هل أنت أب يا سيدي؟
- كلا، لست أبا.
وشعرت بنفسي مضطربا كأنني ارتكبت عملا غير لائق واستأنفت قائلا:
- معذرة سيدي، فقد ظننت ذلك عندما سمعت خادمك يتحدث عن اللعب، كثيرا ما يتسرب الكلام إلى آذاننا بالرغم منا. وابتسم وهو يقول:
- إنه لم يكتب لي أن أتزوج.. لقد ظللت في مرحلة الخطوبة فأجبته وقد تذكرت فجأة:
- آه.. حقا لقد كنت تحمل خاتم الخطوبة عندما عرفتك.. وكانت خطيبتك الآنسة ماندل فيما أظن.
- بالضبط، إن ذاكرتك ممتازة يا سيدي.
وتملكتني جرأة متناهية فأضفت:
- نعم أظن أيضا أنني سمعت أن الآنسة ماندل قد تزوجت السيد .. السيد..
- السيد فلوريل.
- نعم هذا هو اسمه، بل إنني أتذكر أيضا أني سمعتهم يشيرون إلى جرحك.
ونظرت إليه مواجهة فزاد احمرار وجهه العريض المحتقن، ثم أجابني بحيوية وبحماس مفاجئ يشبه من يدافع عن قضية خاسرة سلفا، وهو يعلم ذلك ولكنه يحاول أن يكسب الرأي العام إلى جانبه:
الواقع يا سيدي أننا عندما نتزوج لا نفعل ذلك من أجل التظاهر بالكرم ولكن لكي نحيا كل يوم وكل ساعة وكل ثانية إلى جانب الشريك الذي نختاره، فإذا كان هذا الشريك معطوبا مثل فإن الزواج يصبح حكما بالشقاء حتى الموت. أوه، أنا أعجب بكل التضحيات وبالإخلاص عندما يكون لهما حد.. ولكنني لا أقبل تخلي المرأة عن العيشة الهنية التي كانت تؤملها وعن المسرات والأحلام لترضي إعجاب المتطلعين من الناس. إنني عندما أسمع فوق بلاط غرفتي دقات عكازاي، والضجيج الشبيه بأزيز الطاحونة الذي أحدثه عند كل خطوة.. عندما أسمع ذلك يتملكني غيظ جارف أريد معه أن أخنق خادمي. هل تعتقد يا سيدي أن بإمكاننا أن نطلب من امرأة أن تتحمل ما لا نقدر نحن أنفسنا على تحمله؟ هل تظن أن أطراف ساقي جميلة؟
انقطع جاري عن الكلام. ماذا أقول له؟ لقد وجدته محقا فيما قال. فهل أستطيع أن أوبخها أو أحتقرها هي التي لم تتزوجه؟ كلا. لكن هذه النهاية المتمشية مع الواقع والحقيقة لم ترض طبيعتي الشاعرية فأحسست بما يشبه الخيبة. وفجأة سألته:
- هل للسيدة فلوريل أولاد ؟
- نعم، لها بنت وطلفلان.. وأنا أحمل هذه اللعب لهم، إنها وزوجها صديقاي الحميمان.
ثم دخل القطار إلى محطة باريس، كنت على وشك أن أمد ذراعي إلى الضابط المعطوب لأساعده على النزول عندما رأيت يدين تمتدان نحوه من الباب المفتوح:
- مرحبا يا عزيزي رياليير
- آه، يوم سعيد يا فلوريل.
- ووراء الرجل كانت زوجته تبتسم مشترقة وهي ما تزال محتفظة بجمالها، وتحرك أصابعها محيية الضابط وإلى جانبها طفلة تثب من الفرح، وطفلان ينظران في لهفة إلى الطبل والبندقية اللذين حملهما أبوهما.
- وعندما نزل المعطوب إلى الرصيف التف حوله الأطفال مقبلين.. ثم تحركوا منصرفين وقد أمسكت الطفلة بإبهام صديقها الكبير.
- خذ حذارك يا سيدي فإننا نوجد عند التقاء خطوط السكة الحديدية، ودرج العربة مرتفع، أجاب صوت آخر:
- لا تخش شيئا يا لوران فإنني سأستعين بمقبض الباب. ثم أطل رأس فوقه قبعة دائرية وأمسكت يداه بالسيور الجلدية المعلقة في الباب، وظهر جسم ضخم أحدثت قدماه قرقعة عكاز فوق الدرج. وعندما دخل الرجل إلى ديوان العربة لمحت قطعة من الخشب الأسود يبرز من فتحة رجل السروال ثم ظهر وجه من وراء هذا المسافر وسأله:
- هل أنت على ما يرام يا سيدي؟
- نعم.
- ها هي لفائفك وعكازاك.
وسرعان ما صعد إلى القطار خادم يشبه في سحنته جنديا عجوزا، وكان يحمل بين ذراعيه كومة من الأشياء ملفوفة في أوراق سوداء وصفراء محكمة الربط، ثم وضع ما كان يحمله في الشبكة التي توجد فوق رؤوس الركاب، وضعها وهو يقول:
- هذا كل شيء يا سيدي.. الحلوى والدمية والطبل والبندقية وفطائر الكبد.
- حسن .
- سفر ميمون يا سيدي.
- شكرا يا لوران.
ثم اختفى الرجل وراء الباب وعدت لأنظر إلى جاري. كان في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره بالرغم من أن الشيب كان يجلل شعره. كان أنيقا ذا شارب كث مفرطا في البدانة حتى كأنه من أولئك الرجال النشيطين الأقوياء الذين تضطرهم عاهة ما إلى التوفق عن نشاطهم. مسح جبهته وزفر ثم نظر إلى مواجهة وهو يقول:
- هل يضايقك الدخان يا سيدي؟
- أبدا ..
لم يكن صوته ونظراته ووجهه غرباء عني كانوا مألوفين لدي، لكن أين ومتى؟ أكيد أنني قابلت هذا الشخص وتحادثت معه وصافحته وهذا يرجع إلى تاريخ جد قديم ضاع وسط تلك الضبابة التي يحاول الفكر خلالها جاهدا أن يلتمس الذكريات وأن يتتبعها وهي تنفلت من بين يديه كالأطياف الهاربة.
إن أيضا يتفحصني جادا مثل من يحاول تذكر شيء لا يعرفه تماما.
وتضايقت عينانا من هذه النظرات اللحوحة فأخذت تنظر صوب اتجاه آخر. ثم بعد بضع لحظات عادت لتلتقي من جديد بدافع من الإرادة الغامضة التي كانت تحرك ذاكرتينا. وعندئذ قلت:
- يا سيدي عوضا عن أن نظل هكذا يراقب أحدنا الآخر خفية أفليس من الأفضل أن نبحث معا عن المكان الذي تعارفنا فيه؟
وأجاب جاري بمنتهى اللطف:
- إنك مصيب تماما فيما تقترحه.
وقمت بالتعريف بنفسي:
- اسمي هنري بونكلير أعمل قاضيا في المحكمة.
وتردد لحظة ثم قال وقد لونت صوته تلك الموجه التي ترافق تواترات الفكر الشديدة:
- اه بالضبط .. لقد التقيت بك عند آل بوانسيل منذ أمد طويل قبل نشوب الحرب.. لقد مرت على ذلك اثنتا عشرة سنة.
- نعم يا سيدي آه إنك الضابط روفاليير؟
- الأمر كما تقول بل لقد أصبحت القائد روفاليير إلى اليوم الذي فقدت فيه رجلاي مرة واحدة من جراء ضربة إحدى المدافع.
وأخذنا ننظر إلى وجوه بعضنا بعد أن تم التعارف بيننا.. وعادت بي الذاكرة إلى الأيام التي عرفته فيها شابا رشيقا يقود حلقات الرقص بحمية محببة جعلتنا نطلق عليه لقب «الإعصار». لكن وراء هذه الصورة الواضحة التي انتصبت في مخيلتي كان هناك شيء يطفو ويتراقص من غير تحديد.. قصة سمعتها عنه وسرعان ما نسيتها، وهي من القصص التي نسمعها باهتمام أول الأمر ولكنها لا تترك في الذهن سوى أثر خفيف. أحسست أن عنصر الحب كان ممتزجا بهذه القصة ولكن لا شيء أكثر من ذلك، إنه إحساس يشبه الرائحة التي تخلفها أرجل القنيصة على الأرض فتنفذ إلى أنف كلب الصيد لتحركه إلى البحث عنها.
وفي هذه الأثناء كانت الظلال تتضح في مخيلتي، وانتصبت صورة فتاة أمام عيناي ثم انبثق اسمها داخل رأسي كالصاروخ عندما يشتعل: الآنسة ماندال. لقد تذكرت كل شيء الآن، فعلا إنها قصة حب ولكنها قصة عادية كانت تلك الفتاة تحب هذا الشاب عندما التقيت به وكان الحديث يدور حول زواجهما المنتظر، وكان الشاب يظهر متعلقا بها وسعيدا بحبه لها. رفعت بصري إلى الشبكة حيث كانت اللفائف التي حملها خادم جاري.. وتذكرت صوت الخادم وهو يقول:
«هذا كل شيء يا سيدي .. الحلوى والدمية والطبل والبندقية وفطائر الكبد».
وعندئذ نسجت في مخيلتي خلال لحظة واحدة قصة تشبه جميع القصص التي قرأتها والتي يتزوج فيها الشاب أحيانا خطيبته أو الفتاة خطيبها رغم المصيبة الجسدية أو المادية التي قد تحل بأحدهما، واذن فإن هذا الجندي الذي عطب خلال الحرب قد وجد بعد رجوعه في الميدان الفتاة التي وهبته قلبها في انتظاره فتزوجته رغم عاهته.
وجدت هذا أمرا جميلا لكنه عاديا مثلما نحكم بالبساطة على جميع أنواع الوفاء ونهايات القصص والمسرحيات. إنه يخيل إلينا عندما نقرأ أو نستمع إلى مثل هذه النماذج من المروءة والشهامة إنه بإمكاننا نحن أيضا أن نبذل تضحيات كبرى في حماس واندفاع رائع.. ولكن مزاجنا يتعكر بسرعة إذا طلب منا صديق محتاج –في اليوم التالي- أن نقرضه مقدارا من النقود.
- إن من الخطأ يا سيدي أن يذكر اسم السيدة فلوريل مقترنا باسمي.. فإنني عندما عدت من الحرب بدون رجلاي، لم أقبل مطلقا أن تصبح زوجة لي. هل كان ذلك ممكنا؟
ثم فجأة حل افتراض آخر أقل شاعرية وأكثر واقعية محل الافتراض الأول.. لعله قد تزوجها قبل ذهابه إلى الميدان وقبل أن تقطع رجلاه من جراء قذيفة المدفع.. وبعد أن عاد اضطرت إلى أن تعتني به وتواسيه وتقف بجانب زوجها الذي ذهب قويا جميلا ورجع حطاما مقصوص الرجلين، محكوما عليه باللاحركة، وباجترار المشاعر السوداوية وتحمل البدانة المشينة.
هل هو سعيد أو شقي؟
لقد تملكني رغبة قوية لمعرفة قصته أو على الأقل الوقوف على أهم الخطوط التي تسمح لي بتخمين بقية الحلقات التي لا يمكنه الإفضاء بها.
كنت أتحدث إليه وذهني سارح.. وكان حديثنا يتناول موضوعات تافهة .. وكانت عيناي مثبة على الشبكة وأنا أوزع الهدايا على النحو التالي:
«إذن فهو له ثلاثة أطفال: الحلوى سيخص بها زوجته، والدمية لابنته الصغيرة، والطبل والبندقية لأولاده.. وهذه الفطيرة سيتركها لنفسه.»
وفجأة سألته:
- هل أنت أب يا سيدي؟
- كلا، لست أبا.
وشعرت بنفسي مضطربا كأنني ارتكبت عملا غير لائق واستأنفت قائلا:
- معذرة سيدي، فقد ظننت ذلك عندما سمعت خادمك يتحدث عن اللعب، كثيرا ما يتسرب الكلام إلى آذاننا بالرغم منا. وابتسم وهو يقول:
- إنه لم يكتب لي أن أتزوج.. لقد ظللت في مرحلة الخطوبة فأجبته وقد تذكرت فجأة:
- آه.. حقا لقد كنت تحمل خاتم الخطوبة عندما عرفتك.. وكانت خطيبتك الآنسة ماندل فيما أظن.
- بالضبط، إن ذاكرتك ممتازة يا سيدي.
وتملكتني جرأة متناهية فأضفت:
- نعم أظن أيضا أنني سمعت أن الآنسة ماندل قد تزوجت السيد .. السيد..
- السيد فلوريل.
- نعم هذا هو اسمه، بل إنني أتذكر أيضا أني سمعتهم يشيرون إلى جرحك.
ونظرت إليه مواجهة فزاد احمرار وجهه العريض المحتقن، ثم أجابني بحيوية وبحماس مفاجئ يشبه من يدافع عن قضية خاسرة سلفا، وهو يعلم ذلك ولكنه يحاول أن يكسب الرأي العام إلى جانبه:
الواقع يا سيدي أننا عندما نتزوج لا نفعل ذلك من أجل التظاهر بالكرم ولكن لكي نحيا كل يوم وكل ساعة وكل ثانية إلى جانب الشريك الذي نختاره، فإذا كان هذا الشريك معطوبا مثل فإن الزواج يصبح حكما بالشقاء حتى الموت. أوه، أنا أعجب بكل التضحيات وبالإخلاص عندما يكون لهما حد.. ولكنني لا أقبل تخلي المرأة عن العيشة الهنية التي كانت تؤملها وعن المسرات والأحلام لترضي إعجاب المتطلعين من الناس. إنني عندما أسمع فوق بلاط غرفتي دقات عكازاي، والضجيج الشبيه بأزيز الطاحونة الذي أحدثه عند كل خطوة.. عندما أسمع ذلك يتملكني غيظ جارف أريد معه أن أخنق خادمي. هل تعتقد يا سيدي أن بإمكاننا أن نطلب من امرأة أن تتحمل ما لا نقدر نحن أنفسنا على تحمله؟ هل تظن أن أطراف ساقي جميلة؟
انقطع جاري عن الكلام. ماذا أقول له؟ لقد وجدته محقا فيما قال. فهل أستطيع أن أوبخها أو أحتقرها هي التي لم تتزوجه؟ كلا. لكن هذه النهاية المتمشية مع الواقع والحقيقة لم ترض طبيعتي الشاعرية فأحسست بما يشبه الخيبة. وفجأة سألته:
- هل للسيدة فلوريل أولاد ؟
- نعم، لها بنت وطلفلان.. وأنا أحمل هذه اللعب لهم، إنها وزوجها صديقاي الحميمان.
ثم دخل القطار إلى محطة باريس، كنت على وشك أن أمد ذراعي إلى الضابط المعطوب لأساعده على النزول عندما رأيت يدين تمتدان نحوه من الباب المفتوح:
- مرحبا يا عزيزي رياليير
- آه، يوم سعيد يا فلوريل.
- ووراء الرجل كانت زوجته تبتسم مشترقة وهي ما تزال محتفظة بجمالها، وتحرك أصابعها محيية الضابط وإلى جانبها طفلة تثب من الفرح، وطفلان ينظران في لهفة إلى الطبل والبندقية اللذين حملهما أبوهما.
- وعندما نزل المعطوب إلى الرصيف التف حوله الأطفال مقبلين.. ثم تحركوا منصرفين وقد أمسكت الطفلة بإبهام صديقها الكبير.