نقوس المهدي
كاتب
كانت الأرض مخضلة، والحقل يتضوع برائحة هادئة مما يكون غب المطر، إنه الربيع، بعض الأزهار العطرة قد بدأت تتفتح، وأغصان الأشجار قد تدلى بعضها على الطرقات... إنه يلاحظ كما لو كانت الحياة قد صارت أكثر شبابا... من يدري؟ لكأن كل شيء قد أصبح على إنفاق أيضا لكي يحيا حياة أكثر حرصا.
قد يرفع الشخص حجرا وهنالك يجد جعرانا يلمع كما لو كان من النحاس، أو يجد حشرة ذات أرجل كثيرة تهرب سريعا ثم لا تلبث أن تختفي تحت حجر مجاور، وقد يجد كذلك تحت بعض الأحجار حية صغيرة مختبئة من ذوات البراقة، لدغتها كفيلة بأن تقتل شخصا.
القمري قد عاد يسجع في قمم الأشجار\ن والهزار جعل يغرد من جديد فوق أغصان، وتلك الطيور السوداء الصغيرة أخذت تحوم زرافات ووحدانا، والعصافير هنا و هناك تتواثب من حجر إلى حجر في الوادي..إنه الربيع الذي يبدو كما لو كان قد أجرى في شراييننا دما جديدا.
-1-
هناك تقع الدار مختبئة في غابة من أشجار ضخمة ضاربة في السماء، لايقل عمر الشجر منها عن مائتي عام، وقد نمت حول جذوعها نباتات يتصاعد بعضها حتى يختلط بأغصان الأشجار نفسها، والأشجار متكاثفة متقاربة بيد أن أغصانها تمتد أحيانا أكثر مما ينبغي وتتدلى على الطريق فتكاد لاتسمح بالمرور فيه.
ويقع خلف الدار بناء قد إتخذ أسفله حظيرة للماشية، وأقيمت في أعلاه بعض الحجرات لسكنى العمال، ولما كان شهر مايو قد أوشك على الإنتهاء فقد كان العمال ينامون تاركين النوافذ مفتوحة تماما....
ويتفرغ من بين الأشجار طريقان، أحدهما يقود إلى الطريق العام، والآخر يؤدي إلى بناء مرتفع تعلوه قبة وبه شرفة حديدية ومقعد خشبي طويل، وتحيط به بعض الأزهار العطرة التي تتضوع روائحها فتغزو الأنوف وتكاد تبعث في الرؤوس دوارا..
ولما كان الوقت مساء، والأغصان تغلف ذلك البناء المرتفع، فضوء القمر لم يستطع أن يتسلل إلى الداخل، ولم يكن من المستطاع أن يرى المتكأ الخلفي للمقعد الخشبي الطويل، ولو كان الوقت نهارا لأمكن للناظر أن يرى على ذلك المتكأ تحت القلب هذا الإسم " كريستينا" كان قد نقش هذا أحد العمال الأجانب ثم سافر على ألا يعود ثانية....
ولم تكن " كريستينا" لتنام في الحجرات التي فوق الحظيرة والمعدة للعمال، وإنما كانت تنام مع وصيفتي السيدة فوق سطح الدار، حيث كان لها ثم حجرة صغيرة لها بعض النوافد المغطاة بستائر كثيفة، وبها مصباح حوله ستارة كثيفة من نفس نوع ستائر النوافذ...
وقد كانت "" كريستينا هذه فلاحة مكلفة بجلب الماشية، بينما كانت الوصيفتان من المدينة ومن ثم فقد كانتا تنظران إلى " كريسينا" نظرات ليس فيها تقدير، ولم تكن لتعيرهما أي إهتمام، ولم يكن ينام في الحجرات التي فوق الحظيرة غير الرجال وبعض النساء العجائز ممن لايخشى من بقائهن خطر... وكانت سيدة الدار تهتم بالجانب الخلقي كثيرا كسيدة قد ودعت الشباب. ولم يكن لها على عمال المزرعة سلطان، ولو أنه كان يسرها أن تراهم تحت إمرتها، فكانت تقول: آه... لو كان هؤلاء الخبثاء خاضعين لسلطاني.. وكانت إذا أخذت على أحدهم شيئا أبلغته لزوجها، ولكن كانت تصيب قليلا من النجاح في ذلك بوجع عام.
أما زوجها الشيخ- وقد كان طائشا أيام شبابه-فقد كان يقول دائما في شيء من الجدية والموافقة: بالرغم من أن العيد قد إنتهى " أوه...نتهم الربيع" ثم يدق الأرض بعصاه دقات خفيفة: كما لو كان مشغولا، أو ينقر بأصبع يديه على جانبي المقعد الذي يجلس عليه في حركة شبه موسيقية، وبتلك الأصابع القوية، أصابع فلاح، حيث كان يحمل خاتم الزواج، وخاتما آخر ضخما من الحديد، كان من اسباب شهرته أيام شبابه، فقد إستطاع بوساطته أن يحطم أضراس ابن عمه" جييرمو" في لطمة وجهها إليه، وكان كثيرا ما يروي هذا ثم يخرج ليدور دورة حول تلك الأشجار الضخمة المحيطة بالدار فإذا مر بإحدى الفتيات حياها مبتسما.
وقد صاح ذات يوم مناديا " كريستسنا" التي وجدها في ذلك الطريق الفرعي المؤدي إلى البناء المرتفع ذي القبة، وجعل يتكلم معها، والله وحده يعلم ماذا قال لها، غير أن إحدى وصيفتيه السيدة و تدعى ( كريستينا) وحدها ومن غير أن تقول شيئا لأحد، وجعلت تسير في الحقل ثم توجت رأسها ببعض الأزهار البيضاء والصفراء وثبتت فوق صدر غصنا صغيرا من النبات... وكان السيد قد خرج يتمشى فلما أبصرته( مارجاريتا) حيته بتحية الصباح، فتوقف في منتصف الطريق ورد عليها تحيته وبقيا صامتين... ثم سألها السيد عن ما إذا كانت لاتحس بالبرد وهي تسير في ثياب خفيفة؟ وفي المساء كانت " مارجاريتا" تضحك وهي تقص ما وقع لها على الوصيفة الأخرى للسيد والمسماة " إسيرانثا".
أما " مريستينا" فقد كانت تتقلب في فراشها، ولما لم يداعب النوم جفونها فقد نهضت من فراشها قلقة ثم لبست حذاءها وخرجت نحو الحقل، ولم يكن الجو باردا ولذا فقد إكتفت بأن تلبس " بلوزا" فوق القميص فقط، وكانت تحاكي غناء بعض الطيور وهي تسير، ولم تمض خمس دقائق حتى كانت مأخوذة من يدها صاعدة نحو البناء المرتفع ذي لبقبة، وهنالك طوق وسطها بيده... فقالت : إن الرجال يخيفونني... إنني اليوم عجيبة، ولم يجبها هو.. وعند رجوعها إلى المنزل خلعت حذاءها وهي صاعدة نحو غرفتها حتى لاتحدث صوتا، وبالرغم من إن المساء كان معتدلا، إلا انها أحست بالبرد لخفة الثياب التي ترتديها..
-2-
تجمعت الطيور فعمرت أغصان الشجر، ثم أخذت تغرد، كإنما ودت أن توقظ النهار بتغريدها، وخرج الحطابون نحو الغابة، هذا يحمل فأسه على كتفه، وذان يحملان فيما بينهما منشارا كبيرا، أوة يضعانه فوق عربة يجرها ثور، يلأخذون طريقهم بين حقول الفول والبطاطا...
هبطت "كريستسنا" حاملة فوق خاصرتها جرة كبيرة، وسارت في الطريق الفرعي المؤدي على الطريق العام... إنها ذاهبة لحلب الماشية فرحة مبتهجة، ولم تكن لتنظر تجاه الأشجار الملتفة حول الدار حيث الطيور تغرد في أغصانها، وحيث الزروع النامية حول مصادر الماء، ثم وصلت إلى حظيرة الماشية وبدأت تحلب بقراتها وهي جالسة على مقعد خشبي ذي ثلاثة أرجل كان قد صنعه لها ذلك الأجنبي الذي رحل على الا يعود. ولم تكن لا " مارجاريتا" ولا " إسييرانثا" قد نهضتا بعد نومهما، إذن إن سيدهما لم يكن من عاتها ات تبكر، أما السيد فإنه يستيقظ مبكرا، ويرى متنقلا من مكان إلى آخر بين العمال ببطنه الكبير وحزامه الجلدي، ومع أن عمره قد جاوز الستين، إلا أنه كفلاح كان نظيفا، لحيته ممشوطة دائما بعناية، ويداه مغسولتان كل صباح.
أما إبنة السيد فلم تكن كذلك لتبكر شأنها شأن أمها، وقد كانت فارغة سمينة حمراء مثل أمها كذلك، وتحمل نفس الإسم الذي تحمله أمها، وهي تقل عن أمها بأربعين عاما، وفرق ما بينها وبين أمها في السن قد جعل عادتها تخالف عادات أمها، عمر الفتاة إثنان وعشرون عاما، وهذا لايعني أن أمها كانت تكبر أباها نوعا ما.. وكان من عادة الفتاة أنها عندما تستيقظ من نومها ترتعش في قميصها نوعا ما، ولاتغادر فراشها بل تتقلب فيه ثم تلف نفسها جيدا بالغطاء ثم تتابع نومها كأشفة وجهها ناظرة إلى النافذة، مستمعة إلى زقزقة العصافير، وكان من عادتها كذلك أن تدع النافذة الخشبية مفتوحة بينما تغلق زجاحها إذ كان يسرها أن تشهد مولد النهار كل صباح...
وصل السيد إلى حظيرة الماشية متوكأ على عصاه، وقد سال " كريستسن" عن الماشية وأجابته هذه بأنها جيدة، وقد إحمر وجه " كرسيتينا" نوعا ما، ثم تابع سيره نحو الغابة ليرى كيف يسير العمل، ولقد إبتسم لمنظر نوع من الثياب رآه غريبا، ثم تابع سيره، فقد كان رجل عمل لايعرف التعب إليه سبيلا، أما " كريستينا" فقد بكت لشيء ما قاله لها السيد، ولكنها الان سوف لاتقصه على " مارجاريتا" وأخذت شيئا من الثمر وضعته في فمها ثم تابعت حلب الماشية حتى فرغت من ذلك.. فرفعت الجرة ووضعتها بعناية فوق رأسها، وبدأت سيرها عائدة نحو المنزل.
وكان للسيد إبن شاب غائر العينين، شاحب اللون، ممتليء الوجه بحبوب صغيرة، يصغر أخته بقليل، وكانت أمه دائما أثناء طعام الإفطار تقول له: إنه شيء غريب، رياضة بدنية أكثر مما ينبغي، وعلى نحو ينهك الجسم هكذا..شيء غريب وكان الفتى يرتعش لسماعه هذا، لأنه وحده.. هو الذي يعلم إلى ابن تذهب " إسييرانثا" كل مساء، وكان والده دائما ينبري للدفاع عنه قائلا: نحيف.. عيناه غائرتان هو شيء طبيعي.. طبيعي جدا.. إن الفتى في عمر الـ...ثم يبتسم السيد قبل أن يختم حديثه بقوله: أوه... نتهم الربيع.
كان الفتى يهرب من " كريستسنا" لأنه يرى أنها خشنة أكثر من اللازم.. أما الراعي فلم يكن ليهرب منها لأنه كان خشنا مثلها، وكان قد أفضى إليها منذ زمن قليل بشيء ثم إحتضنها، وتركته هي يحتضنها ثم قالت له: لا... ووضعت شيئا من الثمر في فمها.
كان هذا الراعي مختبئا بين زروع مجاورة، ثم خرج وأخذ " كريستينا" من يدها، وتركا جرة اللبن على الأرض، ثم حمل هو لها الجرة مسافة طويلة، وذهبت بعد إلى المنزل مسرورة جدا تواثب كالغزال، ولكن عندما وصلت المنزل أحست بقشعريرة في ظهرها وبقيت منهمكة في تفكير، فقد خيل إليها إن كل العيون تلحظها بنظرات فيها ظنة..
أمر السيد بأن يسرج له فرسه وذهب إلى المدينة، وكان على السيدة أن تضاعف حراستها للخدم، لأن زوجها لم يعد بجوارها لكي يساعدها على رعاية النظام، ولأن أولئك الخادمات لسن شيئا آخر أكثر من طائشات، ولأن العمال في كثير من الأحيان يعوزهم الحياء.. ولكن " كريستينا" قد أحبت أن تخرج في المساء لتشتم روائح الزهر مع الآخر...مع الحطاب الذي يخرج مرتديا أبهى ثيابه، وكانت تعتمد على كتفه وهي تسير نحو البناء المرتفع ذي القبة لكي تتأمل القمر.....
أما " مارجاريتا" فستبقى نائمة إذ من المعروف إن السيد ليس موجودا، ولكن عندما يعود من المديتة سيحضر لها قطعة من القماش نقشت عليها ورود حوراء لكي تصنع منها ثوبا، وقد قدم لها من قبل مثل ذلك..
وأما " اسييرانثا" فهي تخرج دائما مستخفية عندما تبدأ الصراصير في غنائها الذي يظل متتابعا رتيبا طول الليل، حتى إن الشخص الذي يتعود سماعه يبدو له أنه لايسمع شيئا ,انه صدى لهدوء الليل..
وصل الطبيب فربط فرسه من لجامه في شجرة من تلك الأشجار الضخمة المحيطة بالمنزل، واتجه يمينا نحو المنزل ثم جعل يعد.. واحد.. إثنان.. ثلاثة.. أربعة. ولما كان الليل حالك السواد فإنه قد أخطأ ودق بأصابعه دقات خفيفة على زجاج النافذة، وجعل ينادي بصوت خافت.. " ماريا".. ماريا.. ولم يكن في حاجة إلى أن يرفع صوته لأنها هي جيدة السمع، ولقد تعجبت السيدة لسماه صوت يناديها من خلف النافذة، ففتحت الزجاج وإذا برجل يتسلق عليها النافذة وينزل عندعا في الحجرة، ثم يقول لها: " أنظري.. كيف إن هذا هو أفضل مكان.." ولكن السيدة لم تقل شيئا، لأنها أرادت أن تعرف نهاية الشوط الذي سينتهي إليه الطبيب، ولو أنها إستنكرت بحواسها الخمس ذلك الموقف، ولم تكن بحاجة إلى أكثر...ومع ذلك فقد عرفت بغريزة المرأة كل شيء... ولكن شيطان البدن...
ثم قالت في فزع: ماهذا؟.. لا...ليس من الممكن.. فقد أرادت أن تعرف إلى أي حد ستصل بالطبيب جرأته...
وفي حجرة مجاورة كانت الفتاة- إبنتها- ترتعد في قميصها مع أن رأسها يستنكر خوفها المصطنع ثم قالت لنفسها: لم يستطع أن يأتي إلى هنا...
ولقد أدرك الطبيب حينا أنه قد أخطأ الهدف فقال للسيدة: لا ادري كيف إستطعت أن أبقى هنا وقتا أكثر مما ينبغي من غير أن أحسب لذلك حسابا.. في الحقيقة هو واجب يميليه الضمير، لقد قلت : أين سأستطيع أن أرى " ماريا" لكي أخبرها؟ وحينا فكرت ...في حجرتها، فقالت له السيدة: ومن أجل ذلك قلت لي عند دخولك: " الاترين كيف أن هذا هو أفضل مكان؟" فقال: نعم، كما قلت لك في الحقيقة أنه واجب.. زوجك.. فقالت زوجي؟ قال: نعم زوجك.
فقالت: ماذا؟ أن رأيتهما، قال ذلك عندما رأى نفسه محرجا، ثم خرج من النافذة أيضا.
وبحث جيدا هذه المرة ثم دق بأصابعه عل النافذة الأخرى، وكان قلقا نوعا ما.. أما فرسه فلكثرة ما نازع اللجام المربوط به في الشجرة، تقطع ذلك اللجام وانطلق الفرس كالشعاع وصادف إن كان السيد عائدا من المدينة ممتطيا فرسه فذعر الفرس ووثب فسقط السيد على جانب الطريق، فقال وهو مطروح على ألرض: " أوه.. نتهم الربيع".
أما " كريستينا" فقد خرجت مع الحطاب وهو ممسك بيدها وهي تتأمل القمر في طريقها إلى البناء المرتفع ذي القبة، وهنالك إستنشقت روائح الأزهار العطرة..
كما خرجت "مارجاريتا" كذلك لتتجول أمام الحظيرة، مصعدة هابطة زهاء عشر دقائق ثم قالت لبائع الخبز لقد تأخرت عن موعدك، وفي مثل هذه الساعات الباردة من الليل يصيبني الزكام.
طلب الحطاب مقابلة السيدة وقال لها: إن الذي يجب أن يخرج من المنزل ليس " كرستينا" وإنما أنا، وجاها أن تغفر له، ولكن " كريستينا" كانت قد جمعت ثيابها بعد أن سكبت بحرا من الدمع، وخرجت فسلكت الطريق الفرعي المؤذي إلى الطريق العام..
جلس السيد منقبضا وقد افهمته إبنته ما وقع، ثم دخلت السيدة وجلست على طرف الفراش مبتسمة وقالت: إن صديقة السيد قد طردت إلى الطريق- وكانت توجه الحديث لزوجها-فقطب السيد ما بين عينيه، ثم نظر إلى الحقيبة التي أحضر فيها الثوب الأحمر لمارجاريتا وفكر.. كيف يصير هذا ممكنا وقد رآها منذ عشر دقائق تمر، فعادت السيدة تقول- وهي مازالت مبتسمة-: إنني عرفت أن الحطاب قد جعلك أكثر إطمئنانا فقال: من قال لك هذا؟ فقالت: هو نفسه، لقد كان معي منذ قليل، ولكن .. لا.. لا... أقول ذلك.. اقول إسم الأخرى. فقد كان الطبيب مساء في حجرتي.. وكانت إبنتها داخلة تحمل طعام الإفطار لأبيها، فاضطربت لسماع كلمة " الطبيب" وسقط الطعام من يدها، وقالت: إن نوبة عصبية قد أصابتها، وكان عليهم أن ينادوا الطبيب، ولكن السيد لم يحب أن يراه، وقال لزوجته: لقد خدعك الطبيب ببساطة، ليست " كريستينا" إنها أخرى، فابحثي عنها إن شئت.. وإزاء هذا أرادت السيدة أيضا أن تعيد النظر فيما قال، ولكن أرادت أن تطمئن نفسها، فقد إختلت بابنتها واستطاعت أن تزيل عنها النوبة بطريقة أصيلة تعرفها النساء.
وصل الراعي يحمل غطاء رأسه في يديه، وتقدم إلى الموضع الذي فيه السيدة، وقد سعل قليلا ثم قال: إن كريستينا بريئة يا سيدتي، وأقسم لك على ذلك.. وكانت السيدة قد تغيرت فكرتها، فأمرت بالبحث عن " كريستينا" وقد أصبح المتهم الوحيد في نظرها الآن هو زوجها، أما أخطء الآخرين فلم تعد تهمها.
رجعت " كريستينا" فرحة مبتهجة، وقبلت إقدام سيدتها، ثم أمرت السيدة بنداء " اسييرانثا" وقالت لها: حسن يا " اسيرانثا" لكي نتعرف على شيء من السر-.. لقد قررت العفو ولكن عليك أن تقولي لماذا السيد..؟ فانخرطت " اسييرانثا" في البكاء وقالت: آه يا سيدتي.. إبنك.. فقالت السيدة: كيف إبني..؟ فقالت " اسييرانثا": لقد أمر به أن يرسل إلى مدرسة داخلية ولكن في الطريق قد أنقذ من ذلك طبقا لأوامر والد، وأبعد غلة تلك الدار الخلوية الصغيرة الواقعة في الجانب الآخر من الوادي، ولما كانت السيدة قد ابعدت " لسييرانثا" فقد عهد السيد إلى هذه أن تعني بشؤون ابنه.. وحينئذ أمرت السيدة باحضار" مارجاريتا" واتهمتها بالتآمر ضد سعادة المنزل، فقالت لها "مارجاريتا" بغير إكثراث: حسن.. قولي ما تشائين فأنا لن أعير قولك هذا الإهتمام، وأمام هذا طردتها السيدة وألقت بها إلى الطريق، فذهبت لكي تعيش هناك... في الضيعة التي تقع بعيدا عن المنزل- والتي يملكها السيد- ولكن السيد عندما أطمأنت له الأمور لم يتركها بل نقلها إلى تلك الدار الخلوية الصغيرة الواقعة في الجانب الآخر من الوادي، وأصبح من الملائم التفكير في إصلاح تلك الدار والعناية بحديقتها، كما أصبح السيد يتردد عليها.. وهكذا يستطيع أن يراقب إبنه جيدا..
أما إبنته فقد أصبحت تعاني أزمات عصبية متوالية، وقد نصح لها الطبيب أن تغير الجو، وأن تذهب مثلا إلى الدار الخلوية الصغيرة حيث تستشفي وحيث تستطيع أ تعنى بأبيها الشيخ.. وهكذا جعل الطبيب يزورها بصفة مستمرة، أما الأزمات العصبية التي كانت تنتابها...
-4-
مر الزمن وانقضت أيام الربيع، وأقبلت أيام الشتاء التي تجلب رعشة الأبدان وانكماشها وماتت السيدة، وحملت لتدفن في المقبرة المجاورة للكنيسة، وإن المطر لم ير مثله قد هطل بغزارة فبلل المشيعين.
قد يرفع الشخص حجرا وهنالك يجد جعرانا يلمع كما لو كان من النحاس، أو يجد حشرة ذات أرجل كثيرة تهرب سريعا ثم لا تلبث أن تختفي تحت حجر مجاور، وقد يجد كذلك تحت بعض الأحجار حية صغيرة مختبئة من ذوات البراقة، لدغتها كفيلة بأن تقتل شخصا.
القمري قد عاد يسجع في قمم الأشجار\ن والهزار جعل يغرد من جديد فوق أغصان، وتلك الطيور السوداء الصغيرة أخذت تحوم زرافات ووحدانا، والعصافير هنا و هناك تتواثب من حجر إلى حجر في الوادي..إنه الربيع الذي يبدو كما لو كان قد أجرى في شراييننا دما جديدا.
-1-
هناك تقع الدار مختبئة في غابة من أشجار ضخمة ضاربة في السماء، لايقل عمر الشجر منها عن مائتي عام، وقد نمت حول جذوعها نباتات يتصاعد بعضها حتى يختلط بأغصان الأشجار نفسها، والأشجار متكاثفة متقاربة بيد أن أغصانها تمتد أحيانا أكثر مما ينبغي وتتدلى على الطريق فتكاد لاتسمح بالمرور فيه.
ويقع خلف الدار بناء قد إتخذ أسفله حظيرة للماشية، وأقيمت في أعلاه بعض الحجرات لسكنى العمال، ولما كان شهر مايو قد أوشك على الإنتهاء فقد كان العمال ينامون تاركين النوافذ مفتوحة تماما....
ويتفرغ من بين الأشجار طريقان، أحدهما يقود إلى الطريق العام، والآخر يؤدي إلى بناء مرتفع تعلوه قبة وبه شرفة حديدية ومقعد خشبي طويل، وتحيط به بعض الأزهار العطرة التي تتضوع روائحها فتغزو الأنوف وتكاد تبعث في الرؤوس دوارا..
ولما كان الوقت مساء، والأغصان تغلف ذلك البناء المرتفع، فضوء القمر لم يستطع أن يتسلل إلى الداخل، ولم يكن من المستطاع أن يرى المتكأ الخلفي للمقعد الخشبي الطويل، ولو كان الوقت نهارا لأمكن للناظر أن يرى على ذلك المتكأ تحت القلب هذا الإسم " كريستينا" كان قد نقش هذا أحد العمال الأجانب ثم سافر على ألا يعود ثانية....
ولم تكن " كريستينا" لتنام في الحجرات التي فوق الحظيرة والمعدة للعمال، وإنما كانت تنام مع وصيفتي السيدة فوق سطح الدار، حيث كان لها ثم حجرة صغيرة لها بعض النوافد المغطاة بستائر كثيفة، وبها مصباح حوله ستارة كثيفة من نفس نوع ستائر النوافذ...
وقد كانت "" كريستينا هذه فلاحة مكلفة بجلب الماشية، بينما كانت الوصيفتان من المدينة ومن ثم فقد كانتا تنظران إلى " كريسينا" نظرات ليس فيها تقدير، ولم تكن لتعيرهما أي إهتمام، ولم يكن ينام في الحجرات التي فوق الحظيرة غير الرجال وبعض النساء العجائز ممن لايخشى من بقائهن خطر... وكانت سيدة الدار تهتم بالجانب الخلقي كثيرا كسيدة قد ودعت الشباب. ولم يكن لها على عمال المزرعة سلطان، ولو أنه كان يسرها أن تراهم تحت إمرتها، فكانت تقول: آه... لو كان هؤلاء الخبثاء خاضعين لسلطاني.. وكانت إذا أخذت على أحدهم شيئا أبلغته لزوجها، ولكن كانت تصيب قليلا من النجاح في ذلك بوجع عام.
أما زوجها الشيخ- وقد كان طائشا أيام شبابه-فقد كان يقول دائما في شيء من الجدية والموافقة: بالرغم من أن العيد قد إنتهى " أوه...نتهم الربيع" ثم يدق الأرض بعصاه دقات خفيفة: كما لو كان مشغولا، أو ينقر بأصبع يديه على جانبي المقعد الذي يجلس عليه في حركة شبه موسيقية، وبتلك الأصابع القوية، أصابع فلاح، حيث كان يحمل خاتم الزواج، وخاتما آخر ضخما من الحديد، كان من اسباب شهرته أيام شبابه، فقد إستطاع بوساطته أن يحطم أضراس ابن عمه" جييرمو" في لطمة وجهها إليه، وكان كثيرا ما يروي هذا ثم يخرج ليدور دورة حول تلك الأشجار الضخمة المحيطة بالدار فإذا مر بإحدى الفتيات حياها مبتسما.
وقد صاح ذات يوم مناديا " كريستسنا" التي وجدها في ذلك الطريق الفرعي المؤدي إلى البناء المرتفع ذي القبة، وجعل يتكلم معها، والله وحده يعلم ماذا قال لها، غير أن إحدى وصيفتيه السيدة و تدعى ( كريستينا) وحدها ومن غير أن تقول شيئا لأحد، وجعلت تسير في الحقل ثم توجت رأسها ببعض الأزهار البيضاء والصفراء وثبتت فوق صدر غصنا صغيرا من النبات... وكان السيد قد خرج يتمشى فلما أبصرته( مارجاريتا) حيته بتحية الصباح، فتوقف في منتصف الطريق ورد عليها تحيته وبقيا صامتين... ثم سألها السيد عن ما إذا كانت لاتحس بالبرد وهي تسير في ثياب خفيفة؟ وفي المساء كانت " مارجاريتا" تضحك وهي تقص ما وقع لها على الوصيفة الأخرى للسيد والمسماة " إسيرانثا".
أما " مريستينا" فقد كانت تتقلب في فراشها، ولما لم يداعب النوم جفونها فقد نهضت من فراشها قلقة ثم لبست حذاءها وخرجت نحو الحقل، ولم يكن الجو باردا ولذا فقد إكتفت بأن تلبس " بلوزا" فوق القميص فقط، وكانت تحاكي غناء بعض الطيور وهي تسير، ولم تمض خمس دقائق حتى كانت مأخوذة من يدها صاعدة نحو البناء المرتفع ذي لبقبة، وهنالك طوق وسطها بيده... فقالت : إن الرجال يخيفونني... إنني اليوم عجيبة، ولم يجبها هو.. وعند رجوعها إلى المنزل خلعت حذاءها وهي صاعدة نحو غرفتها حتى لاتحدث صوتا، وبالرغم من إن المساء كان معتدلا، إلا انها أحست بالبرد لخفة الثياب التي ترتديها..
-2-
تجمعت الطيور فعمرت أغصان الشجر، ثم أخذت تغرد، كإنما ودت أن توقظ النهار بتغريدها، وخرج الحطابون نحو الغابة، هذا يحمل فأسه على كتفه، وذان يحملان فيما بينهما منشارا كبيرا، أوة يضعانه فوق عربة يجرها ثور، يلأخذون طريقهم بين حقول الفول والبطاطا...
هبطت "كريستسنا" حاملة فوق خاصرتها جرة كبيرة، وسارت في الطريق الفرعي المؤدي على الطريق العام... إنها ذاهبة لحلب الماشية فرحة مبتهجة، ولم تكن لتنظر تجاه الأشجار الملتفة حول الدار حيث الطيور تغرد في أغصانها، وحيث الزروع النامية حول مصادر الماء، ثم وصلت إلى حظيرة الماشية وبدأت تحلب بقراتها وهي جالسة على مقعد خشبي ذي ثلاثة أرجل كان قد صنعه لها ذلك الأجنبي الذي رحل على الا يعود. ولم تكن لا " مارجاريتا" ولا " إسييرانثا" قد نهضتا بعد نومهما، إذن إن سيدهما لم يكن من عاتها ات تبكر، أما السيد فإنه يستيقظ مبكرا، ويرى متنقلا من مكان إلى آخر بين العمال ببطنه الكبير وحزامه الجلدي، ومع أن عمره قد جاوز الستين، إلا أنه كفلاح كان نظيفا، لحيته ممشوطة دائما بعناية، ويداه مغسولتان كل صباح.
أما إبنة السيد فلم تكن كذلك لتبكر شأنها شأن أمها، وقد كانت فارغة سمينة حمراء مثل أمها كذلك، وتحمل نفس الإسم الذي تحمله أمها، وهي تقل عن أمها بأربعين عاما، وفرق ما بينها وبين أمها في السن قد جعل عادتها تخالف عادات أمها، عمر الفتاة إثنان وعشرون عاما، وهذا لايعني أن أمها كانت تكبر أباها نوعا ما.. وكان من عادة الفتاة أنها عندما تستيقظ من نومها ترتعش في قميصها نوعا ما، ولاتغادر فراشها بل تتقلب فيه ثم تلف نفسها جيدا بالغطاء ثم تتابع نومها كأشفة وجهها ناظرة إلى النافذة، مستمعة إلى زقزقة العصافير، وكان من عادتها كذلك أن تدع النافذة الخشبية مفتوحة بينما تغلق زجاحها إذ كان يسرها أن تشهد مولد النهار كل صباح...
وصل السيد إلى حظيرة الماشية متوكأ على عصاه، وقد سال " كريستسن" عن الماشية وأجابته هذه بأنها جيدة، وقد إحمر وجه " كرسيتينا" نوعا ما، ثم تابع سيره نحو الغابة ليرى كيف يسير العمل، ولقد إبتسم لمنظر نوع من الثياب رآه غريبا، ثم تابع سيره، فقد كان رجل عمل لايعرف التعب إليه سبيلا، أما " كريستينا" فقد بكت لشيء ما قاله لها السيد، ولكنها الان سوف لاتقصه على " مارجاريتا" وأخذت شيئا من الثمر وضعته في فمها ثم تابعت حلب الماشية حتى فرغت من ذلك.. فرفعت الجرة ووضعتها بعناية فوق رأسها، وبدأت سيرها عائدة نحو المنزل.
وكان للسيد إبن شاب غائر العينين، شاحب اللون، ممتليء الوجه بحبوب صغيرة، يصغر أخته بقليل، وكانت أمه دائما أثناء طعام الإفطار تقول له: إنه شيء غريب، رياضة بدنية أكثر مما ينبغي، وعلى نحو ينهك الجسم هكذا..شيء غريب وكان الفتى يرتعش لسماعه هذا، لأنه وحده.. هو الذي يعلم إلى ابن تذهب " إسييرانثا" كل مساء، وكان والده دائما ينبري للدفاع عنه قائلا: نحيف.. عيناه غائرتان هو شيء طبيعي.. طبيعي جدا.. إن الفتى في عمر الـ...ثم يبتسم السيد قبل أن يختم حديثه بقوله: أوه... نتهم الربيع.
كان الفتى يهرب من " كريستسنا" لأنه يرى أنها خشنة أكثر من اللازم.. أما الراعي فلم يكن ليهرب منها لأنه كان خشنا مثلها، وكان قد أفضى إليها منذ زمن قليل بشيء ثم إحتضنها، وتركته هي يحتضنها ثم قالت له: لا... ووضعت شيئا من الثمر في فمها.
كان هذا الراعي مختبئا بين زروع مجاورة، ثم خرج وأخذ " كريستينا" من يدها، وتركا جرة اللبن على الأرض، ثم حمل هو لها الجرة مسافة طويلة، وذهبت بعد إلى المنزل مسرورة جدا تواثب كالغزال، ولكن عندما وصلت المنزل أحست بقشعريرة في ظهرها وبقيت منهمكة في تفكير، فقد خيل إليها إن كل العيون تلحظها بنظرات فيها ظنة..
أمر السيد بأن يسرج له فرسه وذهب إلى المدينة، وكان على السيدة أن تضاعف حراستها للخدم، لأن زوجها لم يعد بجوارها لكي يساعدها على رعاية النظام، ولأن أولئك الخادمات لسن شيئا آخر أكثر من طائشات، ولأن العمال في كثير من الأحيان يعوزهم الحياء.. ولكن " كريستينا" قد أحبت أن تخرج في المساء لتشتم روائح الزهر مع الآخر...مع الحطاب الذي يخرج مرتديا أبهى ثيابه، وكانت تعتمد على كتفه وهي تسير نحو البناء المرتفع ذي القبة لكي تتأمل القمر.....
أما " مارجاريتا" فستبقى نائمة إذ من المعروف إن السيد ليس موجودا، ولكن عندما يعود من المديتة سيحضر لها قطعة من القماش نقشت عليها ورود حوراء لكي تصنع منها ثوبا، وقد قدم لها من قبل مثل ذلك..
وأما " اسييرانثا" فهي تخرج دائما مستخفية عندما تبدأ الصراصير في غنائها الذي يظل متتابعا رتيبا طول الليل، حتى إن الشخص الذي يتعود سماعه يبدو له أنه لايسمع شيئا ,انه صدى لهدوء الليل..
وصل الطبيب فربط فرسه من لجامه في شجرة من تلك الأشجار الضخمة المحيطة بالمنزل، واتجه يمينا نحو المنزل ثم جعل يعد.. واحد.. إثنان.. ثلاثة.. أربعة. ولما كان الليل حالك السواد فإنه قد أخطأ ودق بأصابعه دقات خفيفة على زجاج النافذة، وجعل ينادي بصوت خافت.. " ماريا".. ماريا.. ولم يكن في حاجة إلى أن يرفع صوته لأنها هي جيدة السمع، ولقد تعجبت السيدة لسماه صوت يناديها من خلف النافذة، ففتحت الزجاج وإذا برجل يتسلق عليها النافذة وينزل عندعا في الحجرة، ثم يقول لها: " أنظري.. كيف إن هذا هو أفضل مكان.." ولكن السيدة لم تقل شيئا، لأنها أرادت أن تعرف نهاية الشوط الذي سينتهي إليه الطبيب، ولو أنها إستنكرت بحواسها الخمس ذلك الموقف، ولم تكن بحاجة إلى أكثر...ومع ذلك فقد عرفت بغريزة المرأة كل شيء... ولكن شيطان البدن...
ثم قالت في فزع: ماهذا؟.. لا...ليس من الممكن.. فقد أرادت أن تعرف إلى أي حد ستصل بالطبيب جرأته...
وفي حجرة مجاورة كانت الفتاة- إبنتها- ترتعد في قميصها مع أن رأسها يستنكر خوفها المصطنع ثم قالت لنفسها: لم يستطع أن يأتي إلى هنا...
ولقد أدرك الطبيب حينا أنه قد أخطأ الهدف فقال للسيدة: لا ادري كيف إستطعت أن أبقى هنا وقتا أكثر مما ينبغي من غير أن أحسب لذلك حسابا.. في الحقيقة هو واجب يميليه الضمير، لقد قلت : أين سأستطيع أن أرى " ماريا" لكي أخبرها؟ وحينا فكرت ...في حجرتها، فقالت له السيدة: ومن أجل ذلك قلت لي عند دخولك: " الاترين كيف أن هذا هو أفضل مكان؟" فقال: نعم، كما قلت لك في الحقيقة أنه واجب.. زوجك.. فقالت زوجي؟ قال: نعم زوجك.
فقالت: ماذا؟ أن رأيتهما، قال ذلك عندما رأى نفسه محرجا، ثم خرج من النافذة أيضا.
وبحث جيدا هذه المرة ثم دق بأصابعه عل النافذة الأخرى، وكان قلقا نوعا ما.. أما فرسه فلكثرة ما نازع اللجام المربوط به في الشجرة، تقطع ذلك اللجام وانطلق الفرس كالشعاع وصادف إن كان السيد عائدا من المدينة ممتطيا فرسه فذعر الفرس ووثب فسقط السيد على جانب الطريق، فقال وهو مطروح على ألرض: " أوه.. نتهم الربيع".
أما " كريستينا" فقد خرجت مع الحطاب وهو ممسك بيدها وهي تتأمل القمر في طريقها إلى البناء المرتفع ذي القبة، وهنالك إستنشقت روائح الأزهار العطرة..
كما خرجت "مارجاريتا" كذلك لتتجول أمام الحظيرة، مصعدة هابطة زهاء عشر دقائق ثم قالت لبائع الخبز لقد تأخرت عن موعدك، وفي مثل هذه الساعات الباردة من الليل يصيبني الزكام.
طلب الحطاب مقابلة السيدة وقال لها: إن الذي يجب أن يخرج من المنزل ليس " كرستينا" وإنما أنا، وجاها أن تغفر له، ولكن " كريستينا" كانت قد جمعت ثيابها بعد أن سكبت بحرا من الدمع، وخرجت فسلكت الطريق الفرعي المؤذي إلى الطريق العام..
جلس السيد منقبضا وقد افهمته إبنته ما وقع، ثم دخلت السيدة وجلست على طرف الفراش مبتسمة وقالت: إن صديقة السيد قد طردت إلى الطريق- وكانت توجه الحديث لزوجها-فقطب السيد ما بين عينيه، ثم نظر إلى الحقيبة التي أحضر فيها الثوب الأحمر لمارجاريتا وفكر.. كيف يصير هذا ممكنا وقد رآها منذ عشر دقائق تمر، فعادت السيدة تقول- وهي مازالت مبتسمة-: إنني عرفت أن الحطاب قد جعلك أكثر إطمئنانا فقال: من قال لك هذا؟ فقالت: هو نفسه، لقد كان معي منذ قليل، ولكن .. لا.. لا... أقول ذلك.. اقول إسم الأخرى. فقد كان الطبيب مساء في حجرتي.. وكانت إبنتها داخلة تحمل طعام الإفطار لأبيها، فاضطربت لسماع كلمة " الطبيب" وسقط الطعام من يدها، وقالت: إن نوبة عصبية قد أصابتها، وكان عليهم أن ينادوا الطبيب، ولكن السيد لم يحب أن يراه، وقال لزوجته: لقد خدعك الطبيب ببساطة، ليست " كريستينا" إنها أخرى، فابحثي عنها إن شئت.. وإزاء هذا أرادت السيدة أيضا أن تعيد النظر فيما قال، ولكن أرادت أن تطمئن نفسها، فقد إختلت بابنتها واستطاعت أن تزيل عنها النوبة بطريقة أصيلة تعرفها النساء.
وصل الراعي يحمل غطاء رأسه في يديه، وتقدم إلى الموضع الذي فيه السيدة، وقد سعل قليلا ثم قال: إن كريستينا بريئة يا سيدتي، وأقسم لك على ذلك.. وكانت السيدة قد تغيرت فكرتها، فأمرت بالبحث عن " كريستينا" وقد أصبح المتهم الوحيد في نظرها الآن هو زوجها، أما أخطء الآخرين فلم تعد تهمها.
رجعت " كريستينا" فرحة مبتهجة، وقبلت إقدام سيدتها، ثم أمرت السيدة بنداء " اسييرانثا" وقالت لها: حسن يا " اسيرانثا" لكي نتعرف على شيء من السر-.. لقد قررت العفو ولكن عليك أن تقولي لماذا السيد..؟ فانخرطت " اسييرانثا" في البكاء وقالت: آه يا سيدتي.. إبنك.. فقالت السيدة: كيف إبني..؟ فقالت " اسييرانثا": لقد أمر به أن يرسل إلى مدرسة داخلية ولكن في الطريق قد أنقذ من ذلك طبقا لأوامر والد، وأبعد غلة تلك الدار الخلوية الصغيرة الواقعة في الجانب الآخر من الوادي، ولما كانت السيدة قد ابعدت " لسييرانثا" فقد عهد السيد إلى هذه أن تعني بشؤون ابنه.. وحينئذ أمرت السيدة باحضار" مارجاريتا" واتهمتها بالتآمر ضد سعادة المنزل، فقالت لها "مارجاريتا" بغير إكثراث: حسن.. قولي ما تشائين فأنا لن أعير قولك هذا الإهتمام، وأمام هذا طردتها السيدة وألقت بها إلى الطريق، فذهبت لكي تعيش هناك... في الضيعة التي تقع بعيدا عن المنزل- والتي يملكها السيد- ولكن السيد عندما أطمأنت له الأمور لم يتركها بل نقلها إلى تلك الدار الخلوية الصغيرة الواقعة في الجانب الآخر من الوادي، وأصبح من الملائم التفكير في إصلاح تلك الدار والعناية بحديقتها، كما أصبح السيد يتردد عليها.. وهكذا يستطيع أن يراقب إبنه جيدا..
أما إبنته فقد أصبحت تعاني أزمات عصبية متوالية، وقد نصح لها الطبيب أن تغير الجو، وأن تذهب مثلا إلى الدار الخلوية الصغيرة حيث تستشفي وحيث تستطيع أ تعنى بأبيها الشيخ.. وهكذا جعل الطبيب يزورها بصفة مستمرة، أما الأزمات العصبية التي كانت تنتابها...
-4-
مر الزمن وانقضت أيام الربيع، وأقبلت أيام الشتاء التي تجلب رعشة الأبدان وانكماشها وماتت السيدة، وحملت لتدفن في المقبرة المجاورة للكنيسة، وإن المطر لم ير مثله قد هطل بغزارة فبلل المشيعين.