نقوس المهدي
كاتب
عندما توفيت الآنسة إميلي جريرسن، اشتركت مدينتنا كلها في تشييع الجنازة : أما الرجال فكأنهم شعروا في ذلك اليوم بشيء من العطف الممزوج بالاحترام نحو أثر من الآثار المفقودة، وأما النساء فقد دفعهن إلى ذلك بصورة خاصة، فضولهن ورغبتهن في مشاهدة ما يوجد داخل دارها التي لم يشاهدها أحد منذ عشر سنوات، باستثناء خادم عجوز يقوم بأعمال الطبخ والبستنة في نفس الوقت.
إنها دار كبيرة مربعة الشكل، مصنوعة من الخشب، ولعلها كانت في السابق بيضاء اللون. وهي مزينة بقباب وأقواس وبولكونات بديعة الصنع. وهندسة بنائها مسرفة في التكلف، كالتي كانت موجودة في السنوات السبعين الأخيرة. وترتفع هذه الدار في الحي الذي كان يعد فيما مضى أفخم شارع عندنا.
ولكن مستودعات السيارات والآلات الغازلة للقطن كانت قد بدأت تتسع رقعتها، فقضت على كل ما عداها، بل حتى على أسماء الشوارع اللامعة الموجودة في ذلك الحي، ولم يبق من ذلك كله سوى دار الآنسة إميلي، تلك الدار التي ترفع في السماء هيكلها العنيد، الجميل، فوق عربات القطن ومستودعات البنزين وفي المدة الأخيرة لم تعد هذه الدار هي وحدها التي تلفت النظر. وها هي الآنسة إميلي قد فارقتها لتلتحق بممثلي تلك الأسماء اللامعة في المقبرة الهادئة تحت الأشجار حيث ينامون في القبور المصطفة التي لا يعرف أصحابها على وجه التحديد، تلك القبور التي تضم رفات جنود الاتحاد والفيدرالية، الذين سقطوا في ساحة المعركة، معركة جيفرسن.
حينما كانت الآنسة إميلي على قيد الحياة، كانت قدوة لغيرها في المحافظة على التقاليد والقيام بالواجب والشعور بالمسؤولية. لقد كانت بالنسبة للمدينة مثل الحمل الثقيل الموروث منذ عام 1894، حينما أعفاها العقيد سارتوريس ـ والعقيد سارتوريس هو رئيس البلدية وواضع القرار الذي يمنع الزنجيات من الخروج إلى الشوارع من غير مئزر الطبخ ـ أعفاها من دفع الضرائب، وهذا الإعفاء يرجع عهده إلى يوم وفاة والدها ويمتد إلى اللانهاية. وليس معنى هذا أن الآنسة إميلي قبلت في يوم من الأيام مساعدة من أحد، ولهذا اضطر العقيد سارتوريس إلى أن يخترع قصة معقدة، خلاصتها أن والد الآنسة إميلي كان قد قدم إلى المدينة قرضا وأن المدينة ـ لأسباب اقتصادية ـ قد اضطرت إلى أن تعيد القرض بهذه الطريقة. ولم يكن من الممكن لأي واحد من ذلك الجيل أن يتخيل مثل هذه القصة، باستثناء العقيد سارتوريس، ولم يكن يوجد سوى امرأة واحدة لكي تصدق ذلك.
وحينما جاء الجيل اللاحق بأفكاره العصرية وانتخب رؤساء البلدية وأعضاء مجلسها، فإن هذا الإعفاء آثار بعض السخط. وفي اليوم الأول من شهر كانون الثاني بعثوا إليها بورقة الضرائب. وحل شهر شباط من غير أن ترسل إليهم جوابا. وبعثوا إليها رسالة رسمية وطلبوا منها أن تحضر إلى مكتب المسؤول عن الأمن متى شاءت. وفي الأسبوع اللاحق تدخل رئيس البلدية بنفسه، وعرض عليها أن يأتي عندها أو أن يبعث شخصا ليحضرها إلى منزله بواسطة السيارة. وكان جواب ذلك أن تلقى ورقة ذات شكل غريب وخط لا يكاد يفهم وأخبرته فيها بأنها لن تخرج من دارها أبدا. وأرفقت جوابها بورقة الضرائب من غير تعليق.
وعقد المجلس البلدي جلسة غير عادية، وذهب وفد منه إلى منزلها وقرع الباب التي لم تفتح أمام أي زائر منذ أن انقطعت عن إعطاء دروس الرسم على البرسلين، أي منذ ثماني أو عشر سنوات. وأدخل الزنجي العجوز الوفد إلى غرفة مظلمة يوجد فيها سلم يختفي تماما في زاوية أكثر ظلمة من الغرفة. وكانت رائحة الغبار والأشياء المهملة تسود في أرجاء الغرفة: إنها رائحة الرطوبة والأشياء التي لم تعرف النور منذ زمن بعيد. وقادهم الزنجي إلى غرفة الاستقبال: كان أثاثها ثقيلا على النظر، وكانت مقاعدها مكسوة بالجلد. وحينما أزاح الزنجي ستائر إحدى النوافذ شاهدوا بأن الجلد به خدوش. وحينما جلسوا ارتفعت سحابة صغيرة من الغبار حول أفخاذهم وظهرت ذرات الغبار بأشكال متماوجة في شعاع الشمس الوحيد الذي نفذ من خلال النافذة. وكان يوجد بالقرب من الموقد صورة والد الآنسة إميلي مرسومة بقلم الرصاص، وقد وضعت على مسند خشبي باهت اللون.
ونهضوا من مجالسهم حينما دخلت. كانت صغيرة الجسم، ضخمة الهيئة، وكانت ترتدي لباسا أسود اللون بالإضافة إلى سلسلة من الذهب تتدلى إلى أن تصل إلى خصرها ثم تختفي في حزامها.
وكانت تتكئ على عصا ذات مقبض ذهبي زال عنه اللمعان. وكانت عظامها ناعمة وضعيفة، ولعل هذا هو السبب في أن مظهرها يوحي بالتضخم، بينما ذلك قد يوحي بالصحة عند غيرها من النساء.
كانت تبدو منتفخة مثل الجثة التي بقيت مدة طويلة من الزمن في المياه الراكدة. ثم إن لون وجهها أصفر. وحينما كانت تستمع إلى زائريها وهم يشرحون لها دعواهم، كانت تجيل عيونها من وجه إلى آخر تلك العيون التي تشبه قطعتين صغيرتين من الفحم، محشوتين في كرة من العجين، وتكاد تختفي في تجاعيد وجهها.
ولم تدع أحدا منهم إلى الجلوس بل اكتفت بالوقوف أمام العتبة، وهي تنتظر بكل هدوء انتهاء خطاب الناطق باسم الوفد الذي كان يتلعثم في كلامه وحينذاك سمعوا أصوات الساعة المخيفة المربوطة إلى السلسلة الذهبية.
كانت لهجتها جافة وباردة :
ـ لن أدفع الضرائب في مدينة جيفرسن. لقد شرح لي ذلك العقيد سارتوريس. ولعل أحدكم يستطيع أن يراجع سجلات المدينة لكي تتأكدوا من ذلك.
ـ ولكننا فعلنا ذلك. ونحن نمثل السلطة في المدينة يا آنسة إميلي. ألم يصلك إخطار من المسؤول عن الأمن يحمل توقيعه؟
فقالت الآنسة إميلي :
ـ نعم لقد وصلتني منه ورقة. وكأني به يعتقد بأنه هو المسؤول عن الأمن. لن أدفع الضرائب في مدينة جيفرسن.
ـ ولكن لا يوجد في السجلات أي شيء يبرر ذلك. يجب أن..
ـ عليكم بمقابلة العقيد سارتوريس. لن أدفع الضرائب في مدينة جيفرسن.
ـ يا آنسة إميلي، ولكن..
ـ عليكم بمقابلة العقيد سارتوريس (لقد مات العقيد منذ عشر سنوات تقريبا) لن أدفع الضرائب في مدينة جيفرسن. يا طوب.
وحضر الزنجي.
ـ رافق هؤلاء السادة إلى الباب.
وبهذه الطريقة انهزموا أمامها مثلما انهزم آباؤهم منذ ثلاثين سنة في قضية الرائحة الكريهة.
لقد حدث ذلك بعد وفاة والدها بسنتين، وقبل أن يهجرها عاشقها الذي كنا نعتقد بأنه سيتزوجها. وبعد وفاة والدها لم تكن تخرج من المنزل إلا قليلا، أما بعد هجران عاشقها فلم يشاهدها أي إنسان على الإطلاق.
وقد تسلحت بعض السيدات بالشجاعة، فذهبن لزيارتها، ولكنها رفضت أن تستقبلهن، ولم يشاهدن أي إنسان في الدار باستثناء الزنجي الذي كان في ذلك الوقت لا يزال شابا، وكان يدخل ويخرج من المنزل حاملا سلة لقضاء الأغراض من السوق. وكانت السيدات يرددن:
ـ أليس غريبا أن يقوم هذا الرجل بشؤون الطبخ؟
ومن أجل هذا فإن الناس لم يندهشوا حينما انتشرت الرائحة الكريهة. ومن ذلك الوقت أصبح الناس يعتقدون بأن الفساد والانحلال قد أصابا أسرة جريرسن القوية المتمتعة بنفوذ كبير.
وذهبت إحدى الجارات لكي تشتكي إلى رئيس البلدية، القاضي ستيفنس، الذي كان يبلغ عمره حينذاك ثمانين سنة. فقال لها :
ـ ماذا تريدين مني يا سيدتي أن أفعل؟
فقالت المرأة:
ـ ابعث إليها كلمة حتى تضع حدا لهذا الأمر ـ ألا يوجد هناك قانون؟
فقال القاضي ستيفنس:
ـ إني متأكد أن ذلك لن يكون ضروريا، ومما لا شك فيه أن مصدر الرائحة إما أن يكون أفعى ميتة أو جرذا قتله الزنجي في ساحة الدار. سأبعث إليهما كلمة حول ذلك.
وفي اليوم التالي، تلقى شكايتين إحداهما جاءته من رجل تقدم نحوه خجولا متوسلا:
ـ يا سيدي القاضي، يجب عليك أن تقوم بعمل ما. وأنا، وإن كنت لا أنوي أن أزعج الآنسة إميلي إلا أنه يجب أن نقوم بعمل ما.
ذلك المساء، اجتمع المجلس البلدي. ويتركب هذا المجلس من ثلاثة شيوخ وشاب ينتمي إلى الجيل الجديد. فقال هذا الأخير:
ـ إن الأمر بسيط. ما عليكم إلا أن ترسلوا إليها من يخبرها بضرورة تنظيف منزلها. أعطوها مهلة كي تقوم بذلك. وإذا لم..
فقال القاضي ستيفنس:
ـ يا سيدي، هل من اللياقة في شيء أن تقابل سيدة وتقول لها بأن رائحتها كريهة؟
وفي الليلة التالية، بعد منتصف الليل بقليل، اجتاز أربعة رجال حديقة الآنسة إميلي، وظلوا يطوفون حول المنزل مثل اللصوص، وهم يشمون الروائح التي تنبعث من قاعدة المنزل ومن القبو، وظل أحدهم طوال تلك المدة، يقوم بنفس الحركة التي يقوم بها من يبذر الحب. وحطموا باب القبو ونثروا فيه وفي ملحقاته الكلس. وحينما عادوا أدراجهم عبر الحديقة، شاهدوا نورا في النافذة التي كانت حتى ذلك الحين مظلمة. لقد كانت الآنسة إميلي جالسة وقد أدارت ظهرها للنور، وكانت ساكنة في جلستها مثل التمثال. واجتازوا الحديقة بهدوء، وتسللوا داخل أشجار الأكاسيا التي تصطف على جانبي الطريق. وبعد مرور خمسة عشر يوما تقريبا، انقطعت الرائحة.
وعند ذلك بدأ الناس يشعرون نحوها بالشفقة. إن سكان المدينة الذين لا يزالون يذكرون عمتها التي فقدت عقلها تماما، أصبحوا يعتقدون بأن أسرة جريرسن متكبرة، ومن غير أن يكون في ماضي هذه الأسرة ما يبرر هذا الكبرياء. إن هذه الأسرة تعتقد بأنه لا يوجد في المدينة شاب جدير بالآنسة إميلي. وكنافي بعض الأحيان نتخيل هذه الأسرة مثل الشخصيات التي نشاهدها في اللوحات الفنية : ففي خلفية اللوحة تبدو الآنسة إميلي رفيعة القامة في لباسها الأبيض. وفي الأمام يبدو والدها وقد أدار لها ظهره وفرع رجليه وأمسك بيده سوطا. وكلاهما واقف ضمن الإطار الذي يرسمه الباب المفتوح على مصراعيه. ومن أجل هذا، فحينما بلغت الآنسة إميلي الثلاثين من دون أن تتزوج، شعرنا بأننا قد أخذنا منها ثأرنا، وإن كنت لا أعني أن ذلك قد أدخل في أنفسنا السرور. ولا شك أنها لم تكن لترفض سائر عروض الزواج التي من المحتمل أن تكون قد قدمت إليها رغم إصابة هذه الأسرة بالجنون.
حينما توفى والدها شاع الخبر بأن الدار هو كل ما بقي لها من متاع. وشعر الناس بشيء من السرور لهذا الأمر، إنهم يستطيعون الآن أن يضمروا للآنسة إميلي شيئا من العطف. إن الوحدة والشقاء قد جعلا منها بشرا سويا. إنها الآن ستعرف مثل غيرها من البشر هذه الفرحة وهذا اليأس الذي عرفه البشر منذ القديم، حينما يكسب قرشا أو يضيع منه ذلك القرش.
بعد مرور يوم على وفاة والدها، استعدت سائر السيدات لزيارتها من أجل عرض مساعدتهن وتقديم عزائهن، كما جرت العادة بذلك. واستقبلتهن الآنسة إميلي على العتبة. ولم تغير ثيابها كما أنه لم يبد أي أثر للألم على وجهها. وقالت لهن بأن والدها لم يمت. واستمرت تكرر ذلك مدة ثلاثة أيام، في الوقت الذي كان فيه رجال الدين والأطباء يأتون لزيارتها، على أمل أنهم سيقنعونها بأن تسمح لهم بأخذ الجثة. وحينما هموا بالالتجاء إلى القوة والقانون، استسلمت. وعلى أثر ذلك دفنوا والدها بمنتهى العجلة.
وحينئذ لم يقل أحد بأنها مجنونة : لقد كنا نعتقد بأن ما فعلت هو ما كان يجب أن يفعل في مثل هذه المناسبة، لأننا نعلم بأنه من الطبيعي، بعد ما فقدت كل شيء، أن تتشبت بوالدها، كما يفعل سائر الناس.
ولزمها المرض مدة طويلة. وحينما رأيناها من جديد، كان شعرها قصيرا، مما كا يجعل مظهرها يشبه فتاة أو ملاكا من الملائكة المرسومة على زجاج الكنائس : إنه شيء يمتزج فيه الهدوء بالمأساة.
لقد أبرمت المدينة منذ عهد قريب، تعاقدا من أجل تبليط الأرصفة. وفي الصيف الذي تلا وفاة والد الآنسة إميلي ابتدأ العمل. وجاءت شركة الإنشاءات مع الزنوج والبغال والآلات، ومع متعهد أعمال اسمه هو مربارون، وهو أمريكي من الشمال، كبير الجثة، أسمر اللون، صارم في رأيه، غليظ الصوت، وعيناه أكثر صفاء من لون بشرته. وكان الأطفال يترسمون خطاه لكي يسمعوه حينما يسب الزنوج، أولئك الزنوج الذين لا ينقطعون عن ترديد الإغاني وهم يرفعون الفؤوس ويهوون بها إلى الأرض. وسرعان ما تعرف على سائر الناس في المدينة. وكلما سمع الناس ضحكات عالية تتعالى في ساحة المدينة، إلا وكانوا متأكدين أن هو مر بارون موجود في وسط المجموعة. وبعد مرور أيام قلائل، أصبح الناس يشاهدونه في أوقات الظهر من يوم الأحد مع الآنسة إميلي، على عربة مكرية ذات دواليب صفر، يجرها فرسان.
وفي البداية شعرنا بالغبطة حينما شاهدنا الآنسة إميلي قد أصبحت تعير اهتماما للحياة.
أما السيدات فقد أصبحن يقلن :
ـ من الطبيعي أن المرأة التي تنتمي إلى أسرة جريرسن لا يمكن أن تكون جادة في علاقتها مع رجل من الشمال يشتغل باليومية.
ولكن كان هناك ءاخرون أكبر سنا يقولون بأن المصائب لا ينبغي أن سيدة جديرة بالاحترام بأن نبل الأصل يفرض على الإنسان واجبات. هذا مع العلم بأنهم لم يكونوا يعترفون لها بنبل الأصل.
وكانوا يكتفون بالقول :
ـ مسكينة.. الآنسة إميلي.. يجب على أقاربها أن يساعدوها.
لقد كان لها أقارب في مقاطعة الاباما، ولكن والدها كان فيما مضى قد تخاصم معهم بسبب وراثة السيدة العجوزة وأيت المجنونة. وانقطعت الأسرتان منذ ذلك الوقت عن تبادل الزيارات. وفي اليوم الذي شيعت فيه الجنازة لم يحضر منهم أحد.
وبمجرد أن بدأ الناس يقولون : مسكينة.. الآنسة إميلي.. منذ ذلك الوقت بدأوا يتناقلون حديثا مكتما فيما بينهم :
ـ ماذا.. هل أنت متأكد أن..
ـ طبعا، طبعا. وإلا فما هو السبب في أن..
ويضع الناس راحة اليد أمام الفم تكتما. وفي أوقات الظهر من أيام الأحد المشمسة تتطلع السيدات من وراء النوافذ المغلقة بفساتينهن المصنوعة من الحرير والساتين، لمشاهدة العربة التي يجرها فرسان والتي تمر سريعة ومدوية. مسكينة، الآنسة إميلي..
كانت دائما ترفع رأسها عاليا، بل حتى في الأوقات التي كنا نعتقد أنها قد بلغت الحضيض. وكان يخيل إلينا أنها تطالبنا بأن نعترف لآخر عضو من أعضاء أسرة جريرسن بالكرامة.
إن هذا الضعف الإنساني في طبيعتها كان يجعلها بالنسبة إلينا أكثر غموضا. ومثال ذلك حينما ذهبت لتشتري السم الذي يقتل الجرذان أي الزرنيخ.
لقد حدث ذلك بعد مرور عامين على اليوم الذي بدأ فيه الناس يقولون: مسكينة الآنسة إميلي.. وحينما كانت بنتا عمها تسكنان معها في الدار. فقالت للصيدلي:
ـ أريد شيئا من السم.
ـ طيب يا آنسة إميلي. أي نوع من السم تريدين؟ هل تريدين سما من أجل قتل الجرذان أو شيء آخر من القبيل؟ إني أنصحك باستعمال..
ـ إنس أريد أحسن نوع يوجد عندك. ولا يهمني شيء آخر.
وشرع الصيدلي في عد بعض هذه الأنواع.
ـ إن كل هذه الأنواع التي ذكرتها تستطيع أن تقتل فيلا، ولكنك يا سيدتي تريدين..
ـ سم الزرنيخ. هل هو قوي المفعول؟
ـ هل تريدين الزرنيخ؟.. حاضر يا سيدتي.. ولكن طلبك..
ـ إني أريد الزرنيخ.
ونظر إليها الصيدلي. وتطلعت إليه بنظرة جامدة. فقال الصيدلي :
ـ طبعا يا سيدتي، سأحضره إذا كان ذلك حقا هو ما تريدين. ولكن القانون يفرض عليك أن تذكري وجه الاستعمال..
واكتفت الآنسة إميلي بأن حدقت فيه وقد أمالت رأسها إلى الوراء حتى تستطيع أن تركز عينيها في عينيه. وطال بها الأمر على هذه الحالة حتى اضطر في الأخير أن يحول عنها نظره وأن يذهب لكي يحضر لها الزرنيخ الذي وضعه في ورقة. وحمل الزنجي إليها هذه البضاعة ولكن الصيدلي لم يرجع. وحينما وصلت إلى الدار وفتحت الرزمة، شاهدت بأنه قد كتب على الصندوق، تحت الجمجمة والعظام المتصالبة: من أجل الجرذان.
ولهذا فإن سائر الناس أصبحوا يقولون في اليوم التالي: أنها ستنتحر. وكنا نعتقد أن ذلك هو أفضل ما يمكن أن تقوم به. لقد تعودنا أن نقول في بداية علاقتها مع هومر بارون: أنها ستتزوجه. ولكننا فيما بعد أصبحنا نقول أنها ستجعله يقدم على الزواج بها في آخر الأمر. والسبب في ذلك أن هومر نفسه كان قد أدرك أنه ليس ممن يتزوجون، فقد كان يحب صحبة الرجال، وكان من المعروف أنه يتعاطى شرب الخمر مع أصغر أعضاء نادي « الك ». ثم صرنا نقول: مسكينة، إميلي. نقول ذلك من وراء النوافذ، حينما يمران في وقت الظهر من يوم الأحد، فوق العربة اللامعة. أما هي فرأسها مرفوع في السماء، وأما هو فقبعته مائلة على أذنه والسيجارة بين أسنانه، والأعنة والسوط في قفاز أصفر اللون.
وحينئذ صارت بعض سيدات المدينة يقلن بأن هذا عار للمدينة وأنه يعد مثلا سيئا للشباب.
ولم يجرؤ الرجال على التدخل في القضية، ولكن السيدات أرغمن في آخر الأمر الخوري على أن يذهب إلى بيتها، لأن أسرة إميلي تنتمي إلى الكنيسة الأنكليكانية، ولم يشأ الخوري أن يكشف عما دار في هذه المقابلة، ولكنه رفض أن يعود مرة أخرى. وفي يوم الأحد التالي خرجا كعادتهما على العربة وبعد ذلك بيوم واحد كتبت زوجة الخوري رسالة إلى أقارب إميلي في مقاطعة الأباما.
ونتيجة لذلك، فقد اضطرت الآنسة إميلي أن تستقبل في دارها بعض الأقارب واستعد سائر الناس لتتبع الحوادث، غير أنه في البداية لم يحدث أي شيء ثم تيقنا أنهما سيتزوجان، فقد علمنا أن الآنسة إميلي ذهبت إلى صائغ المجوهرات، كما أنها أمرت بتحضير بعض اللوازم للرجال، على أن توضع الأحرف الأولى : هـ. ب. على كل قطعة منها. وبعد مرور يومين اشترت جهازا كاملا من ملابس الرجال، بما فيها ثوب النوم، وقلنا في أنفسنا: إنهما ولا شك متزوجان؟ وكنا مسرورين من ذلك. ومما زاد سرورنا أن بنتي عمها كانتا تشرفان أسرة جريرسن أكثر مما فعلت الآنسة إميلي.
ولهذا فإننا لم نندهش حينما غادر هومر بارون المدينة بعد أن تم تبليط شوارع المدينة بمدة قليلة. لقد شعرنا بخيبة الأمل بعض الشيء بسبب عدم إقامة أية حفلة ولكن كنا نعتقد بأنه قد غادر المدينة لكي يهيء بيتا يستقبل فيه الآنسة إميلي أو أنه كان ينوي أن يساعدها على التخلص من بنتي عمها. (لقد كان رأينا موحدا حول هذه المسألة، وكنا جميعا حلفاء للآنسة إميلي حتى تطرد بنتي عمها). ولكن من المؤكد أنهما غادرتا المدينة بعد مرور أسبوع. ولم تكد تمر ثلاثة أيام حتى رجع هومر بارون، حسبما توقعنا. وقد رآه أحد الجيران ذات أمسية في وقت المغيب، حينما أدخله الزنجي إلى الدار من خلال باب المطبخ.
ومنذ ذلك الحين، لم نعد نرى هومر بارون كما أنا انقطعنا مدة من الزمن عن رؤية الآنسة إميلي. وكنا نشاهد الزنجي داخلا إلى الدار وخارجا منها، وهو يحمل سلة لقضاء الأغراض من السوق. ولكن باب الدخول ظل مسدودا. وكنا نشاهدها بين الحين والآخر في النافذة، حيث تقضي بعض الوقت، مثلما حدث في الليلة التي ذهب فيها الرجال لكي ينثروا الكلس في دارها، ولكنها انقطعت عن الظهور في الشوارع مدة شتة أشهر. وأدركنا أن ذلك كان من الطبيعي أن يحدث، فوالدها كان يمنعها من أن تتمتع بالحياة كسائر النساء، ولكن أنوثتها كانت أقوى وأعنف من أن تموت.
وحينما أتيح لنا أن نرى الآنسة إميلي من جديد، لاحظنا بأنها تضخمت وأن شعرها قد خطه الشيب.
وعلى مر السنين ازداد شعرها بياضا إلى أن اتخذ لونا رماديا تمتزج فيه ألوان الحديد والبهار والملح.
وعنذئذ لم يعد لونه يتغير. واحتفظ شعرها بلون الحديد الرمادي، إلى أن وافتها المنية بعد ما بلغت الرابعة والسبعين من العمر، كما احتفظ شعرها بقوته، مثل شعر رجل في عنفوان شبابه.
وابتداء من تلك الفترة من حياتها ظل باب دارها مغلقا، باستثناء مدة من الزمن تتراوح بين الست والسبع سنوات كانت خلالها تعطي دروسا في الرسم على البورسلين، حينما كان عمرها يبلغ الأربعين تقريبا. وكانت قد أقامت في إحدى غرف الطابق الأرضي مرسما تتردد إليه بنات وحفيدات معاصري العقيد سارتوريس، ويواظبن على ذلك مثلما يواظبن على الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، وفي يد كل واحدة منهن خمسة فلوس تسلم يعد نهاية كل درس. ولكنها كانت معفية من الضرائب.
ثم أصبح الجيل الجديد عماد المدينة وروحها وكبرت تلميذات دروس الرسم وتفرقت بهن السبل ولم تعد بناتهن يترددن على المرسم بعلب الألوان والريشات المزعجة والصور المقتطفة من مجلات السيدات. وانغلق الباب بعد تخرج آخر تلميذة وظل كذلك نهائيا. وحينما حصلت المدينة على حق توزيع البريد مجانا كانت الآنسة إميلي هي الوحيدة التي رفضت أن يسجل رقم فوق باب دارها وأن يثبت فوقه صندوق للرسائل. وفشلت سائر المحاولات لإقناعها.
وكنا، في كل يوم وفي كل شهر وفي كل سنة، نشاهد الزنجي حينما يدخل إلى الدار ويخرج منها حاملا سلة لقضاء الأغراض من السوق، وشعره خلال تلك المدة كلها يزداد بياضا، وظهره يزداد تقوسا. وفي شهر كانون الأول كنا دائما نرسل إليها ورقة الضرائب، ولكن إدارة البريد كانت تعيدها إلينا مع هذه الملاحظة : لم يأت لاستلامها أحد. وكنا نشاهدها بين الحين والآخر في إحدى نوافذ الطابق الأرضي ـ كانت طبعا قد أغلقت الطابق الأول ـ وكانت تبدو لنا مثل القسم العلوي من صنم منحوت موضوع في مشكاة ولم نكن ندري فيما إذا كانت تنظر إلينا أم لا. وهكذا بقيت على مر الأجيال، عزيزة الجانب، غامضة، محافظة على هدوئها وغرابة أطوارها.
ثم ماتت. لقد أصيبت بالمرض في الدار التي امتلأت بالظلال والغبار ولم يكن ليساعدها سوى الزنجي الذي نفذت قواه. ولم نسمع حتى بمرضها فقد انقطعنا منذ زمن بعيد عن تلقي أخبارها من الزجي الذي لم يعد يكلم أحدا، وربما لم يعد يكلمها هي أيضا لأنه قد بح صوته وجش من قلة الاستعمال.
وجاء الزنجي إلى الباب ليستقبل أولى السيدات فأدخلهن ـ بأصواتهن المنخفضة ونظراتهن السريعة الخاطفة ـ ثم اختفى عن الأنظار : لقد اجتاز الدار كلها وأخرج من الجانب الخلفي، ولم نعد نراه أبدا.
ووصلت بنتا العم في الحين، فقامتا بتنظيم مراسيم الدفن في اليوم الثاني. وجاء سكان المدينة بأسرهم، لمشاهدة الآنسة إميلي التي كانت مسجاة تحت كومة من الأزهار. وكانت صورة والدها تبدو فوق النعش وكأنها مستغرقة في الأحلام. وأما السيدات فقد كان يتبادلن الأحاديث عن الموت بصوت منخفض، وأما الرجال المسنون فقد ملأوا البهو والحديقة وكان البعض منهم قد ارتدى بدلات الكونفدرالية الأنيقة، وكانوا يتحدثون عن الآنسة إميلي كما لو أنها كانت معاصرة لهم وهم يتخيلون أنهم راقصوها في صباها أو ربما غازلوها. وهم إنما يفعلون ذلك لأنهم فقدوا الشعور بفكرة الزمن وبتقدمه المستمر، كما يفعل سائر الشيوخ الذين يعتقدون بأن الماضي لا يشبه طريقا يتناقص في الطول، بل هو على العكس من ذلك عبارة عن مرج واسع لا يصل إليه فصل الشتاء. ولكن السنوات العشر الأخيرة من حياتهم كانت قد فصلتهم عن هذا المرج. وكم تشبه تلك السنوات العشر الأخيرة عنق القنيتة الضيق!
كنا نعلم بأنه توجد في الطابق الأول غرفة لم تفتح منذ أربعين سنة، وأنه يجب علينا أن نحطم بابها. وانتظرنا قبل فتحها أن يتم دفن الآنسة إميلي بالشكل اللائق.
وحينما حطمنا الباب بدفعه عنيفة وجدنا أن الغرفة مملوءة بغبار أخذ بخناقنا من كل جانب.
وخيل إلينا أن مدخنة ذات رائحة قوية مخرشة قد أفرغ ما فيها ونثر على كل ما يوجد في هذه الغرفة التي زينت وأثنت وكأنها قد أعدت لليلة العرس: على الستائر الدمشقية ذات اللون الوردي الباهت، وعلى مصابيح الأباجورات الوردية، وعلى طاولة الزينة وعلى الأدوات الناعمة المصنوعة من البلور وعلى العلبة التي توجد فيها أدوات الحلاقة بغطائها الفضي الباهت، بل إن لون الغطاء باهت إلى درجة أن الأحرف التي رسمت عليه لا تكاد تظهر. وكانت توجد أيضا داخل هذه العلبة قبة قميص وربطة عنق، وكانت موضوعة بشكل يجعل الإنسان يعتقد بأن صاحبها قد خلعها منذ وقت قريب. وحينما رفعناها من مكانها، تركت في الغبار أثرا أصفر اللون. أما الثوب فقد طوي بعناية ووضع فوق الكرسي. وكانت الجوارب والأحذية مرمية تحت الكرسي، وكانت بكماء لا تحير كلاما.
وأما الرجل بالذات، فقد كان نائما على السرير. وبقينا مدة طويلة جامدين، ونحن ننظر إلى ضحكته الساخرة العميقة التي ارتسمت على الفم الخالي من اللحم. ومما لاحظناه أن جسمه كان لابد أنه اتخذ بعض الوقت وضعية العناق، ولكن النوم الأخير الذي يبقى بعد الحب، النوم الذي استطاع أن ينتصر على ضحكة الحب، هذا النوم أخذه على حين غفلة. وما بقي من ذلك الجسد الذي تفسخ تحت بقايا قميص النوم، أصبح يشكل وحدة واتصالا مع التخت الذي نام عليه. وتشكلت فوقه وفوق الوسادة بالقرب منه، طبقة متساوية السمك من الغبار العنيد.
ولاحظنا حينذاك أن أثر رأس قد شكل حفرة في الوسادة الأخرى. وأمسك أحدنا فوق الوسادة شيئا ما، وحينما انحنينا وبدا الغبار الناعم الممتنع عن اللمس يملأ خياشيمنا برائحته الجافة المخرشة، لاحظنا بأن ذلك الشيء هو شعرة، شعرة طويلة لونها رمادي كلون الحديد.
إنها دار كبيرة مربعة الشكل، مصنوعة من الخشب، ولعلها كانت في السابق بيضاء اللون. وهي مزينة بقباب وأقواس وبولكونات بديعة الصنع. وهندسة بنائها مسرفة في التكلف، كالتي كانت موجودة في السنوات السبعين الأخيرة. وترتفع هذه الدار في الحي الذي كان يعد فيما مضى أفخم شارع عندنا.
ولكن مستودعات السيارات والآلات الغازلة للقطن كانت قد بدأت تتسع رقعتها، فقضت على كل ما عداها، بل حتى على أسماء الشوارع اللامعة الموجودة في ذلك الحي، ولم يبق من ذلك كله سوى دار الآنسة إميلي، تلك الدار التي ترفع في السماء هيكلها العنيد، الجميل، فوق عربات القطن ومستودعات البنزين وفي المدة الأخيرة لم تعد هذه الدار هي وحدها التي تلفت النظر. وها هي الآنسة إميلي قد فارقتها لتلتحق بممثلي تلك الأسماء اللامعة في المقبرة الهادئة تحت الأشجار حيث ينامون في القبور المصطفة التي لا يعرف أصحابها على وجه التحديد، تلك القبور التي تضم رفات جنود الاتحاد والفيدرالية، الذين سقطوا في ساحة المعركة، معركة جيفرسن.
حينما كانت الآنسة إميلي على قيد الحياة، كانت قدوة لغيرها في المحافظة على التقاليد والقيام بالواجب والشعور بالمسؤولية. لقد كانت بالنسبة للمدينة مثل الحمل الثقيل الموروث منذ عام 1894، حينما أعفاها العقيد سارتوريس ـ والعقيد سارتوريس هو رئيس البلدية وواضع القرار الذي يمنع الزنجيات من الخروج إلى الشوارع من غير مئزر الطبخ ـ أعفاها من دفع الضرائب، وهذا الإعفاء يرجع عهده إلى يوم وفاة والدها ويمتد إلى اللانهاية. وليس معنى هذا أن الآنسة إميلي قبلت في يوم من الأيام مساعدة من أحد، ولهذا اضطر العقيد سارتوريس إلى أن يخترع قصة معقدة، خلاصتها أن والد الآنسة إميلي كان قد قدم إلى المدينة قرضا وأن المدينة ـ لأسباب اقتصادية ـ قد اضطرت إلى أن تعيد القرض بهذه الطريقة. ولم يكن من الممكن لأي واحد من ذلك الجيل أن يتخيل مثل هذه القصة، باستثناء العقيد سارتوريس، ولم يكن يوجد سوى امرأة واحدة لكي تصدق ذلك.
وحينما جاء الجيل اللاحق بأفكاره العصرية وانتخب رؤساء البلدية وأعضاء مجلسها، فإن هذا الإعفاء آثار بعض السخط. وفي اليوم الأول من شهر كانون الثاني بعثوا إليها بورقة الضرائب. وحل شهر شباط من غير أن ترسل إليهم جوابا. وبعثوا إليها رسالة رسمية وطلبوا منها أن تحضر إلى مكتب المسؤول عن الأمن متى شاءت. وفي الأسبوع اللاحق تدخل رئيس البلدية بنفسه، وعرض عليها أن يأتي عندها أو أن يبعث شخصا ليحضرها إلى منزله بواسطة السيارة. وكان جواب ذلك أن تلقى ورقة ذات شكل غريب وخط لا يكاد يفهم وأخبرته فيها بأنها لن تخرج من دارها أبدا. وأرفقت جوابها بورقة الضرائب من غير تعليق.
وعقد المجلس البلدي جلسة غير عادية، وذهب وفد منه إلى منزلها وقرع الباب التي لم تفتح أمام أي زائر منذ أن انقطعت عن إعطاء دروس الرسم على البرسلين، أي منذ ثماني أو عشر سنوات. وأدخل الزنجي العجوز الوفد إلى غرفة مظلمة يوجد فيها سلم يختفي تماما في زاوية أكثر ظلمة من الغرفة. وكانت رائحة الغبار والأشياء المهملة تسود في أرجاء الغرفة: إنها رائحة الرطوبة والأشياء التي لم تعرف النور منذ زمن بعيد. وقادهم الزنجي إلى غرفة الاستقبال: كان أثاثها ثقيلا على النظر، وكانت مقاعدها مكسوة بالجلد. وحينما أزاح الزنجي ستائر إحدى النوافذ شاهدوا بأن الجلد به خدوش. وحينما جلسوا ارتفعت سحابة صغيرة من الغبار حول أفخاذهم وظهرت ذرات الغبار بأشكال متماوجة في شعاع الشمس الوحيد الذي نفذ من خلال النافذة. وكان يوجد بالقرب من الموقد صورة والد الآنسة إميلي مرسومة بقلم الرصاص، وقد وضعت على مسند خشبي باهت اللون.
ونهضوا من مجالسهم حينما دخلت. كانت صغيرة الجسم، ضخمة الهيئة، وكانت ترتدي لباسا أسود اللون بالإضافة إلى سلسلة من الذهب تتدلى إلى أن تصل إلى خصرها ثم تختفي في حزامها.
وكانت تتكئ على عصا ذات مقبض ذهبي زال عنه اللمعان. وكانت عظامها ناعمة وضعيفة، ولعل هذا هو السبب في أن مظهرها يوحي بالتضخم، بينما ذلك قد يوحي بالصحة عند غيرها من النساء.
كانت تبدو منتفخة مثل الجثة التي بقيت مدة طويلة من الزمن في المياه الراكدة. ثم إن لون وجهها أصفر. وحينما كانت تستمع إلى زائريها وهم يشرحون لها دعواهم، كانت تجيل عيونها من وجه إلى آخر تلك العيون التي تشبه قطعتين صغيرتين من الفحم، محشوتين في كرة من العجين، وتكاد تختفي في تجاعيد وجهها.
ولم تدع أحدا منهم إلى الجلوس بل اكتفت بالوقوف أمام العتبة، وهي تنتظر بكل هدوء انتهاء خطاب الناطق باسم الوفد الذي كان يتلعثم في كلامه وحينذاك سمعوا أصوات الساعة المخيفة المربوطة إلى السلسلة الذهبية.
كانت لهجتها جافة وباردة :
ـ لن أدفع الضرائب في مدينة جيفرسن. لقد شرح لي ذلك العقيد سارتوريس. ولعل أحدكم يستطيع أن يراجع سجلات المدينة لكي تتأكدوا من ذلك.
ـ ولكننا فعلنا ذلك. ونحن نمثل السلطة في المدينة يا آنسة إميلي. ألم يصلك إخطار من المسؤول عن الأمن يحمل توقيعه؟
فقالت الآنسة إميلي :
ـ نعم لقد وصلتني منه ورقة. وكأني به يعتقد بأنه هو المسؤول عن الأمن. لن أدفع الضرائب في مدينة جيفرسن.
ـ ولكن لا يوجد في السجلات أي شيء يبرر ذلك. يجب أن..
ـ عليكم بمقابلة العقيد سارتوريس. لن أدفع الضرائب في مدينة جيفرسن.
ـ يا آنسة إميلي، ولكن..
ـ عليكم بمقابلة العقيد سارتوريس (لقد مات العقيد منذ عشر سنوات تقريبا) لن أدفع الضرائب في مدينة جيفرسن. يا طوب.
وحضر الزنجي.
ـ رافق هؤلاء السادة إلى الباب.
وبهذه الطريقة انهزموا أمامها مثلما انهزم آباؤهم منذ ثلاثين سنة في قضية الرائحة الكريهة.
لقد حدث ذلك بعد وفاة والدها بسنتين، وقبل أن يهجرها عاشقها الذي كنا نعتقد بأنه سيتزوجها. وبعد وفاة والدها لم تكن تخرج من المنزل إلا قليلا، أما بعد هجران عاشقها فلم يشاهدها أي إنسان على الإطلاق.
وقد تسلحت بعض السيدات بالشجاعة، فذهبن لزيارتها، ولكنها رفضت أن تستقبلهن، ولم يشاهدن أي إنسان في الدار باستثناء الزنجي الذي كان في ذلك الوقت لا يزال شابا، وكان يدخل ويخرج من المنزل حاملا سلة لقضاء الأغراض من السوق. وكانت السيدات يرددن:
ـ أليس غريبا أن يقوم هذا الرجل بشؤون الطبخ؟
ومن أجل هذا فإن الناس لم يندهشوا حينما انتشرت الرائحة الكريهة. ومن ذلك الوقت أصبح الناس يعتقدون بأن الفساد والانحلال قد أصابا أسرة جريرسن القوية المتمتعة بنفوذ كبير.
وذهبت إحدى الجارات لكي تشتكي إلى رئيس البلدية، القاضي ستيفنس، الذي كان يبلغ عمره حينذاك ثمانين سنة. فقال لها :
ـ ماذا تريدين مني يا سيدتي أن أفعل؟
فقالت المرأة:
ـ ابعث إليها كلمة حتى تضع حدا لهذا الأمر ـ ألا يوجد هناك قانون؟
فقال القاضي ستيفنس:
ـ إني متأكد أن ذلك لن يكون ضروريا، ومما لا شك فيه أن مصدر الرائحة إما أن يكون أفعى ميتة أو جرذا قتله الزنجي في ساحة الدار. سأبعث إليهما كلمة حول ذلك.
وفي اليوم التالي، تلقى شكايتين إحداهما جاءته من رجل تقدم نحوه خجولا متوسلا:
ـ يا سيدي القاضي، يجب عليك أن تقوم بعمل ما. وأنا، وإن كنت لا أنوي أن أزعج الآنسة إميلي إلا أنه يجب أن نقوم بعمل ما.
ذلك المساء، اجتمع المجلس البلدي. ويتركب هذا المجلس من ثلاثة شيوخ وشاب ينتمي إلى الجيل الجديد. فقال هذا الأخير:
ـ إن الأمر بسيط. ما عليكم إلا أن ترسلوا إليها من يخبرها بضرورة تنظيف منزلها. أعطوها مهلة كي تقوم بذلك. وإذا لم..
فقال القاضي ستيفنس:
ـ يا سيدي، هل من اللياقة في شيء أن تقابل سيدة وتقول لها بأن رائحتها كريهة؟
وفي الليلة التالية، بعد منتصف الليل بقليل، اجتاز أربعة رجال حديقة الآنسة إميلي، وظلوا يطوفون حول المنزل مثل اللصوص، وهم يشمون الروائح التي تنبعث من قاعدة المنزل ومن القبو، وظل أحدهم طوال تلك المدة، يقوم بنفس الحركة التي يقوم بها من يبذر الحب. وحطموا باب القبو ونثروا فيه وفي ملحقاته الكلس. وحينما عادوا أدراجهم عبر الحديقة، شاهدوا نورا في النافذة التي كانت حتى ذلك الحين مظلمة. لقد كانت الآنسة إميلي جالسة وقد أدارت ظهرها للنور، وكانت ساكنة في جلستها مثل التمثال. واجتازوا الحديقة بهدوء، وتسللوا داخل أشجار الأكاسيا التي تصطف على جانبي الطريق. وبعد مرور خمسة عشر يوما تقريبا، انقطعت الرائحة.
وعند ذلك بدأ الناس يشعرون نحوها بالشفقة. إن سكان المدينة الذين لا يزالون يذكرون عمتها التي فقدت عقلها تماما، أصبحوا يعتقدون بأن أسرة جريرسن متكبرة، ومن غير أن يكون في ماضي هذه الأسرة ما يبرر هذا الكبرياء. إن هذه الأسرة تعتقد بأنه لا يوجد في المدينة شاب جدير بالآنسة إميلي. وكنافي بعض الأحيان نتخيل هذه الأسرة مثل الشخصيات التي نشاهدها في اللوحات الفنية : ففي خلفية اللوحة تبدو الآنسة إميلي رفيعة القامة في لباسها الأبيض. وفي الأمام يبدو والدها وقد أدار لها ظهره وفرع رجليه وأمسك بيده سوطا. وكلاهما واقف ضمن الإطار الذي يرسمه الباب المفتوح على مصراعيه. ومن أجل هذا، فحينما بلغت الآنسة إميلي الثلاثين من دون أن تتزوج، شعرنا بأننا قد أخذنا منها ثأرنا، وإن كنت لا أعني أن ذلك قد أدخل في أنفسنا السرور. ولا شك أنها لم تكن لترفض سائر عروض الزواج التي من المحتمل أن تكون قد قدمت إليها رغم إصابة هذه الأسرة بالجنون.
حينما توفى والدها شاع الخبر بأن الدار هو كل ما بقي لها من متاع. وشعر الناس بشيء من السرور لهذا الأمر، إنهم يستطيعون الآن أن يضمروا للآنسة إميلي شيئا من العطف. إن الوحدة والشقاء قد جعلا منها بشرا سويا. إنها الآن ستعرف مثل غيرها من البشر هذه الفرحة وهذا اليأس الذي عرفه البشر منذ القديم، حينما يكسب قرشا أو يضيع منه ذلك القرش.
بعد مرور يوم على وفاة والدها، استعدت سائر السيدات لزيارتها من أجل عرض مساعدتهن وتقديم عزائهن، كما جرت العادة بذلك. واستقبلتهن الآنسة إميلي على العتبة. ولم تغير ثيابها كما أنه لم يبد أي أثر للألم على وجهها. وقالت لهن بأن والدها لم يمت. واستمرت تكرر ذلك مدة ثلاثة أيام، في الوقت الذي كان فيه رجال الدين والأطباء يأتون لزيارتها، على أمل أنهم سيقنعونها بأن تسمح لهم بأخذ الجثة. وحينما هموا بالالتجاء إلى القوة والقانون، استسلمت. وعلى أثر ذلك دفنوا والدها بمنتهى العجلة.
وحينئذ لم يقل أحد بأنها مجنونة : لقد كنا نعتقد بأن ما فعلت هو ما كان يجب أن يفعل في مثل هذه المناسبة، لأننا نعلم بأنه من الطبيعي، بعد ما فقدت كل شيء، أن تتشبت بوالدها، كما يفعل سائر الناس.
ولزمها المرض مدة طويلة. وحينما رأيناها من جديد، كان شعرها قصيرا، مما كا يجعل مظهرها يشبه فتاة أو ملاكا من الملائكة المرسومة على زجاج الكنائس : إنه شيء يمتزج فيه الهدوء بالمأساة.
لقد أبرمت المدينة منذ عهد قريب، تعاقدا من أجل تبليط الأرصفة. وفي الصيف الذي تلا وفاة والد الآنسة إميلي ابتدأ العمل. وجاءت شركة الإنشاءات مع الزنوج والبغال والآلات، ومع متعهد أعمال اسمه هو مربارون، وهو أمريكي من الشمال، كبير الجثة، أسمر اللون، صارم في رأيه، غليظ الصوت، وعيناه أكثر صفاء من لون بشرته. وكان الأطفال يترسمون خطاه لكي يسمعوه حينما يسب الزنوج، أولئك الزنوج الذين لا ينقطعون عن ترديد الإغاني وهم يرفعون الفؤوس ويهوون بها إلى الأرض. وسرعان ما تعرف على سائر الناس في المدينة. وكلما سمع الناس ضحكات عالية تتعالى في ساحة المدينة، إلا وكانوا متأكدين أن هو مر بارون موجود في وسط المجموعة. وبعد مرور أيام قلائل، أصبح الناس يشاهدونه في أوقات الظهر من يوم الأحد مع الآنسة إميلي، على عربة مكرية ذات دواليب صفر، يجرها فرسان.
وفي البداية شعرنا بالغبطة حينما شاهدنا الآنسة إميلي قد أصبحت تعير اهتماما للحياة.
أما السيدات فقد أصبحن يقلن :
ـ من الطبيعي أن المرأة التي تنتمي إلى أسرة جريرسن لا يمكن أن تكون جادة في علاقتها مع رجل من الشمال يشتغل باليومية.
ولكن كان هناك ءاخرون أكبر سنا يقولون بأن المصائب لا ينبغي أن سيدة جديرة بالاحترام بأن نبل الأصل يفرض على الإنسان واجبات. هذا مع العلم بأنهم لم يكونوا يعترفون لها بنبل الأصل.
وكانوا يكتفون بالقول :
ـ مسكينة.. الآنسة إميلي.. يجب على أقاربها أن يساعدوها.
لقد كان لها أقارب في مقاطعة الاباما، ولكن والدها كان فيما مضى قد تخاصم معهم بسبب وراثة السيدة العجوزة وأيت المجنونة. وانقطعت الأسرتان منذ ذلك الوقت عن تبادل الزيارات. وفي اليوم الذي شيعت فيه الجنازة لم يحضر منهم أحد.
وبمجرد أن بدأ الناس يقولون : مسكينة.. الآنسة إميلي.. منذ ذلك الوقت بدأوا يتناقلون حديثا مكتما فيما بينهم :
ـ ماذا.. هل أنت متأكد أن..
ـ طبعا، طبعا. وإلا فما هو السبب في أن..
ويضع الناس راحة اليد أمام الفم تكتما. وفي أوقات الظهر من أيام الأحد المشمسة تتطلع السيدات من وراء النوافذ المغلقة بفساتينهن المصنوعة من الحرير والساتين، لمشاهدة العربة التي يجرها فرسان والتي تمر سريعة ومدوية. مسكينة، الآنسة إميلي..
كانت دائما ترفع رأسها عاليا، بل حتى في الأوقات التي كنا نعتقد أنها قد بلغت الحضيض. وكان يخيل إلينا أنها تطالبنا بأن نعترف لآخر عضو من أعضاء أسرة جريرسن بالكرامة.
إن هذا الضعف الإنساني في طبيعتها كان يجعلها بالنسبة إلينا أكثر غموضا. ومثال ذلك حينما ذهبت لتشتري السم الذي يقتل الجرذان أي الزرنيخ.
لقد حدث ذلك بعد مرور عامين على اليوم الذي بدأ فيه الناس يقولون: مسكينة الآنسة إميلي.. وحينما كانت بنتا عمها تسكنان معها في الدار. فقالت للصيدلي:
ـ أريد شيئا من السم.
ـ طيب يا آنسة إميلي. أي نوع من السم تريدين؟ هل تريدين سما من أجل قتل الجرذان أو شيء آخر من القبيل؟ إني أنصحك باستعمال..
ـ إنس أريد أحسن نوع يوجد عندك. ولا يهمني شيء آخر.
وشرع الصيدلي في عد بعض هذه الأنواع.
ـ إن كل هذه الأنواع التي ذكرتها تستطيع أن تقتل فيلا، ولكنك يا سيدتي تريدين..
ـ سم الزرنيخ. هل هو قوي المفعول؟
ـ هل تريدين الزرنيخ؟.. حاضر يا سيدتي.. ولكن طلبك..
ـ إني أريد الزرنيخ.
ونظر إليها الصيدلي. وتطلعت إليه بنظرة جامدة. فقال الصيدلي :
ـ طبعا يا سيدتي، سأحضره إذا كان ذلك حقا هو ما تريدين. ولكن القانون يفرض عليك أن تذكري وجه الاستعمال..
واكتفت الآنسة إميلي بأن حدقت فيه وقد أمالت رأسها إلى الوراء حتى تستطيع أن تركز عينيها في عينيه. وطال بها الأمر على هذه الحالة حتى اضطر في الأخير أن يحول عنها نظره وأن يذهب لكي يحضر لها الزرنيخ الذي وضعه في ورقة. وحمل الزنجي إليها هذه البضاعة ولكن الصيدلي لم يرجع. وحينما وصلت إلى الدار وفتحت الرزمة، شاهدت بأنه قد كتب على الصندوق، تحت الجمجمة والعظام المتصالبة: من أجل الجرذان.
ولهذا فإن سائر الناس أصبحوا يقولون في اليوم التالي: أنها ستنتحر. وكنا نعتقد أن ذلك هو أفضل ما يمكن أن تقوم به. لقد تعودنا أن نقول في بداية علاقتها مع هومر بارون: أنها ستتزوجه. ولكننا فيما بعد أصبحنا نقول أنها ستجعله يقدم على الزواج بها في آخر الأمر. والسبب في ذلك أن هومر نفسه كان قد أدرك أنه ليس ممن يتزوجون، فقد كان يحب صحبة الرجال، وكان من المعروف أنه يتعاطى شرب الخمر مع أصغر أعضاء نادي « الك ». ثم صرنا نقول: مسكينة، إميلي. نقول ذلك من وراء النوافذ، حينما يمران في وقت الظهر من يوم الأحد، فوق العربة اللامعة. أما هي فرأسها مرفوع في السماء، وأما هو فقبعته مائلة على أذنه والسيجارة بين أسنانه، والأعنة والسوط في قفاز أصفر اللون.
وحينئذ صارت بعض سيدات المدينة يقلن بأن هذا عار للمدينة وأنه يعد مثلا سيئا للشباب.
ولم يجرؤ الرجال على التدخل في القضية، ولكن السيدات أرغمن في آخر الأمر الخوري على أن يذهب إلى بيتها، لأن أسرة إميلي تنتمي إلى الكنيسة الأنكليكانية، ولم يشأ الخوري أن يكشف عما دار في هذه المقابلة، ولكنه رفض أن يعود مرة أخرى. وفي يوم الأحد التالي خرجا كعادتهما على العربة وبعد ذلك بيوم واحد كتبت زوجة الخوري رسالة إلى أقارب إميلي في مقاطعة الأباما.
ونتيجة لذلك، فقد اضطرت الآنسة إميلي أن تستقبل في دارها بعض الأقارب واستعد سائر الناس لتتبع الحوادث، غير أنه في البداية لم يحدث أي شيء ثم تيقنا أنهما سيتزوجان، فقد علمنا أن الآنسة إميلي ذهبت إلى صائغ المجوهرات، كما أنها أمرت بتحضير بعض اللوازم للرجال، على أن توضع الأحرف الأولى : هـ. ب. على كل قطعة منها. وبعد مرور يومين اشترت جهازا كاملا من ملابس الرجال، بما فيها ثوب النوم، وقلنا في أنفسنا: إنهما ولا شك متزوجان؟ وكنا مسرورين من ذلك. ومما زاد سرورنا أن بنتي عمها كانتا تشرفان أسرة جريرسن أكثر مما فعلت الآنسة إميلي.
ولهذا فإننا لم نندهش حينما غادر هومر بارون المدينة بعد أن تم تبليط شوارع المدينة بمدة قليلة. لقد شعرنا بخيبة الأمل بعض الشيء بسبب عدم إقامة أية حفلة ولكن كنا نعتقد بأنه قد غادر المدينة لكي يهيء بيتا يستقبل فيه الآنسة إميلي أو أنه كان ينوي أن يساعدها على التخلص من بنتي عمها. (لقد كان رأينا موحدا حول هذه المسألة، وكنا جميعا حلفاء للآنسة إميلي حتى تطرد بنتي عمها). ولكن من المؤكد أنهما غادرتا المدينة بعد مرور أسبوع. ولم تكد تمر ثلاثة أيام حتى رجع هومر بارون، حسبما توقعنا. وقد رآه أحد الجيران ذات أمسية في وقت المغيب، حينما أدخله الزنجي إلى الدار من خلال باب المطبخ.
ومنذ ذلك الحين، لم نعد نرى هومر بارون كما أنا انقطعنا مدة من الزمن عن رؤية الآنسة إميلي. وكنا نشاهد الزنجي داخلا إلى الدار وخارجا منها، وهو يحمل سلة لقضاء الأغراض من السوق. ولكن باب الدخول ظل مسدودا. وكنا نشاهدها بين الحين والآخر في النافذة، حيث تقضي بعض الوقت، مثلما حدث في الليلة التي ذهب فيها الرجال لكي ينثروا الكلس في دارها، ولكنها انقطعت عن الظهور في الشوارع مدة شتة أشهر. وأدركنا أن ذلك كان من الطبيعي أن يحدث، فوالدها كان يمنعها من أن تتمتع بالحياة كسائر النساء، ولكن أنوثتها كانت أقوى وأعنف من أن تموت.
وحينما أتيح لنا أن نرى الآنسة إميلي من جديد، لاحظنا بأنها تضخمت وأن شعرها قد خطه الشيب.
وعلى مر السنين ازداد شعرها بياضا إلى أن اتخذ لونا رماديا تمتزج فيه ألوان الحديد والبهار والملح.
وعنذئذ لم يعد لونه يتغير. واحتفظ شعرها بلون الحديد الرمادي، إلى أن وافتها المنية بعد ما بلغت الرابعة والسبعين من العمر، كما احتفظ شعرها بقوته، مثل شعر رجل في عنفوان شبابه.
وابتداء من تلك الفترة من حياتها ظل باب دارها مغلقا، باستثناء مدة من الزمن تتراوح بين الست والسبع سنوات كانت خلالها تعطي دروسا في الرسم على البورسلين، حينما كان عمرها يبلغ الأربعين تقريبا. وكانت قد أقامت في إحدى غرف الطابق الأرضي مرسما تتردد إليه بنات وحفيدات معاصري العقيد سارتوريس، ويواظبن على ذلك مثلما يواظبن على الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، وفي يد كل واحدة منهن خمسة فلوس تسلم يعد نهاية كل درس. ولكنها كانت معفية من الضرائب.
ثم أصبح الجيل الجديد عماد المدينة وروحها وكبرت تلميذات دروس الرسم وتفرقت بهن السبل ولم تعد بناتهن يترددن على المرسم بعلب الألوان والريشات المزعجة والصور المقتطفة من مجلات السيدات. وانغلق الباب بعد تخرج آخر تلميذة وظل كذلك نهائيا. وحينما حصلت المدينة على حق توزيع البريد مجانا كانت الآنسة إميلي هي الوحيدة التي رفضت أن يسجل رقم فوق باب دارها وأن يثبت فوقه صندوق للرسائل. وفشلت سائر المحاولات لإقناعها.
وكنا، في كل يوم وفي كل شهر وفي كل سنة، نشاهد الزنجي حينما يدخل إلى الدار ويخرج منها حاملا سلة لقضاء الأغراض من السوق، وشعره خلال تلك المدة كلها يزداد بياضا، وظهره يزداد تقوسا. وفي شهر كانون الأول كنا دائما نرسل إليها ورقة الضرائب، ولكن إدارة البريد كانت تعيدها إلينا مع هذه الملاحظة : لم يأت لاستلامها أحد. وكنا نشاهدها بين الحين والآخر في إحدى نوافذ الطابق الأرضي ـ كانت طبعا قد أغلقت الطابق الأول ـ وكانت تبدو لنا مثل القسم العلوي من صنم منحوت موضوع في مشكاة ولم نكن ندري فيما إذا كانت تنظر إلينا أم لا. وهكذا بقيت على مر الأجيال، عزيزة الجانب، غامضة، محافظة على هدوئها وغرابة أطوارها.
ثم ماتت. لقد أصيبت بالمرض في الدار التي امتلأت بالظلال والغبار ولم يكن ليساعدها سوى الزنجي الذي نفذت قواه. ولم نسمع حتى بمرضها فقد انقطعنا منذ زمن بعيد عن تلقي أخبارها من الزجي الذي لم يعد يكلم أحدا، وربما لم يعد يكلمها هي أيضا لأنه قد بح صوته وجش من قلة الاستعمال.
وجاء الزنجي إلى الباب ليستقبل أولى السيدات فأدخلهن ـ بأصواتهن المنخفضة ونظراتهن السريعة الخاطفة ـ ثم اختفى عن الأنظار : لقد اجتاز الدار كلها وأخرج من الجانب الخلفي، ولم نعد نراه أبدا.
ووصلت بنتا العم في الحين، فقامتا بتنظيم مراسيم الدفن في اليوم الثاني. وجاء سكان المدينة بأسرهم، لمشاهدة الآنسة إميلي التي كانت مسجاة تحت كومة من الأزهار. وكانت صورة والدها تبدو فوق النعش وكأنها مستغرقة في الأحلام. وأما السيدات فقد كان يتبادلن الأحاديث عن الموت بصوت منخفض، وأما الرجال المسنون فقد ملأوا البهو والحديقة وكان البعض منهم قد ارتدى بدلات الكونفدرالية الأنيقة، وكانوا يتحدثون عن الآنسة إميلي كما لو أنها كانت معاصرة لهم وهم يتخيلون أنهم راقصوها في صباها أو ربما غازلوها. وهم إنما يفعلون ذلك لأنهم فقدوا الشعور بفكرة الزمن وبتقدمه المستمر، كما يفعل سائر الشيوخ الذين يعتقدون بأن الماضي لا يشبه طريقا يتناقص في الطول، بل هو على العكس من ذلك عبارة عن مرج واسع لا يصل إليه فصل الشتاء. ولكن السنوات العشر الأخيرة من حياتهم كانت قد فصلتهم عن هذا المرج. وكم تشبه تلك السنوات العشر الأخيرة عنق القنيتة الضيق!
كنا نعلم بأنه توجد في الطابق الأول غرفة لم تفتح منذ أربعين سنة، وأنه يجب علينا أن نحطم بابها. وانتظرنا قبل فتحها أن يتم دفن الآنسة إميلي بالشكل اللائق.
وحينما حطمنا الباب بدفعه عنيفة وجدنا أن الغرفة مملوءة بغبار أخذ بخناقنا من كل جانب.
وخيل إلينا أن مدخنة ذات رائحة قوية مخرشة قد أفرغ ما فيها ونثر على كل ما يوجد في هذه الغرفة التي زينت وأثنت وكأنها قد أعدت لليلة العرس: على الستائر الدمشقية ذات اللون الوردي الباهت، وعلى مصابيح الأباجورات الوردية، وعلى طاولة الزينة وعلى الأدوات الناعمة المصنوعة من البلور وعلى العلبة التي توجد فيها أدوات الحلاقة بغطائها الفضي الباهت، بل إن لون الغطاء باهت إلى درجة أن الأحرف التي رسمت عليه لا تكاد تظهر. وكانت توجد أيضا داخل هذه العلبة قبة قميص وربطة عنق، وكانت موضوعة بشكل يجعل الإنسان يعتقد بأن صاحبها قد خلعها منذ وقت قريب. وحينما رفعناها من مكانها، تركت في الغبار أثرا أصفر اللون. أما الثوب فقد طوي بعناية ووضع فوق الكرسي. وكانت الجوارب والأحذية مرمية تحت الكرسي، وكانت بكماء لا تحير كلاما.
وأما الرجل بالذات، فقد كان نائما على السرير. وبقينا مدة طويلة جامدين، ونحن ننظر إلى ضحكته الساخرة العميقة التي ارتسمت على الفم الخالي من اللحم. ومما لاحظناه أن جسمه كان لابد أنه اتخذ بعض الوقت وضعية العناق، ولكن النوم الأخير الذي يبقى بعد الحب، النوم الذي استطاع أن ينتصر على ضحكة الحب، هذا النوم أخذه على حين غفلة. وما بقي من ذلك الجسد الذي تفسخ تحت بقايا قميص النوم، أصبح يشكل وحدة واتصالا مع التخت الذي نام عليه. وتشكلت فوقه وفوق الوسادة بالقرب منه، طبقة متساوية السمك من الغبار العنيد.
ولاحظنا حينذاك أن أثر رأس قد شكل حفرة في الوسادة الأخرى. وأمسك أحدنا فوق الوسادة شيئا ما، وحينما انحنينا وبدا الغبار الناعم الممتنع عن اللمس يملأ خياشيمنا برائحته الجافة المخرشة، لاحظنا بأن ذلك الشيء هو شعرة، شعرة طويلة لونها رمادي كلون الحديد.