جبران الشداني
كاتب
تبدو هذه الرواية، للوهلة الأولى، تمرينًا ذهنيًا مبسَّطًا لإحدى نظريات سيغموند فرويد الأكثر شهرة في الأدبيات الإنسانية في القرن العشرين، وهي ما يعرف على نطاق واسع بعقدة "الكترا". خرافة إغريقية تقدم فيها هذه الأخيرة على قتل أمها لاستدراج والدها إلى عالمها الضيق تمهيدًا لمصادرته بالكامل. والأرجح أن هذا الشغف بالوالد يفترض منظومة من القيم الاجتماعية والأخلاقية مغايرة لمثيلتها السائدة منذ أقدم الأزمنة، من بينها الحكم النهائي المبرم على بطلان أبوة الأب واستبدالها بالضرورة بشخصية أخرى لحملها على الاستجابة إلى مقتضيات الغريزة وتبعاتها ومشاعرها. هذا هو العنوان الظاهري العريض لهذه النظرية التي تقشعر لها الأبدان نتيجة لما توحي به من احتمال انفجار الغرائز في معقلها العميق وتدفق حممها من جحيم الأنا إلى خارجها في إشارة إلى تصدع المجتمع المتمدن وانهيار النموذج الإنساني على وجه البسيطة. والأغلب أن فرويد لم يكن في وارد الكشف عن هذه المعادلة المخيفة فقط، بل كان يستهدف دق ناقوس الخطر من احتمال أن تبلغ الثقافة الأوروبية المعاصرة نهاياتها المحتومة. أن يجري استهلاكها على نحو انتحاري فتذهب إلى حتفها الاختياري مؤذنة قيام ثقافة أخرى تتمثل باستيقاظ الغرائز الهمجية من سباتها الموقت لتتحكم بمصير البشرية.
ومع ذلك، لعل الكاتبة الراحلة أمل جراح شاءت أن تختبر هذا التوجه المخيف في روايتها التي كانت وضعتها في ستينات القرن الماضي، وظلت حبرًا على ورق حتى صدورها حديثًا عن "دار الساقي" في بيروت بعنوان الرواية الملعونة. ولعلها كذلك، لم تجد حائلاً من دون الإفادة من الثقافة الفرويدية التي كانت شائعة في الوطن العربي منذ مطلع العقد الخامس من القرن من أجل توظيفها على نحو درامي لافت في صوغ عمل أدبي كان الأجدر بها لو اتخذت قرارًا حاسمًا بنشره في تلك الأثناء. بدا فرويد في ذلك الزمن القريب نسبيًا أحد المفاتيح الجوهرية التي عثر عليها المثقفون العرب، كتَّابًا وروائيين ومفكرين، من أجل استيعاب الوقائع الاجتماعية والسياسية المستجدة ومن ثم استثمارها، على النحو الأمثل، بغية فهم التطورات الاجتماعية في الوطن العربي والمساهمة في تغييرها. والأرجح أن أمل جراح، رحمها الله، لم تشذ عن هذه القافلة التي كانت تحجز مكانًا مضمونًا لمن يشاء أن يلتحق بها. ولربما كان لديها أسباب نفسية وثقافية أخرى تدعوها إلى قرع باب الرواية من هذه الزاوية الحادة التي تظهر الإنسان عاريًا من مكتسباته الثقافية، مستباحًا، على نحو مذهل، لقانون الغريزة وهو ينهض من جديد من تحت أنقاض الحضارة. غير أنها كانت من دون شك ابنًا بارًا لثقافة العصر وتلميذًا مبهورًا بالمعلم فرويد.
تدور الرواية بمجملها حول فتاة في ربيع العمر، توفيت والدتها منذ قرابة السنتين، فإذا بها يخيل إليها أن والدها، المحامي العصامي ذا السمعة الحسنة، هو فارس أحلامها المرتقب الذي وضعه القدر في طريقها في اللحظة المناسبة، تسقط عليه في لحظة من تفكك القيم وانحلالها وتبعثرها في الذاكرة المريضة ما كان ينبغي أن تسقطه على شاب بمقدوره أن يتشارك وإياها نمطًا من التطلعات تحيل حياتها ضربًا مشروعًا من الاطمئنان المتبادل. ولطالما سعت هذه الشخصية وهي تترجم أوهامها، من خلف أسوار الصمت الخبيث، إلى الاعتقاد بأن سعادتها القصوى لم تتحقق ما لم تتمكن من تفكيك والدها ومن ثم إعادة تركيبه على نحو عجائبي. ليتلبس هو نفسه دور العاشق المهووس بعشيقته. والأغلب أنها أرادت بذلك أن تعيد اختراعه من جديد ضاربة بعرض الحائط مادته الصلبة العصية على تشكيل هجين من هذا النوع. نزعة انتحارية تنطوي عليها هذه الشخصية المتآكلة حتى العظم في داخلها. تختار ضحاياها، على الأرجح، من بين الذين تتوسم فيهم احجامًا عن مقاومتها قد يصل حد العجز المطلق. لا تتلمس فيهم قيمة إنسانية تذكر ما خلا استعدادهم المسبق للانصياع الأعمى لهوس الغريزة. بدا والدها في هذا السياق ضحية نموذجية قابلة للذهاب إلى المحرقة حتى ولو لم يرغب في ذلك. وفي المقابل، كانت ترى في هذا الاستسلام الأبوي لها دعوة صريحة لتنتفض على هذه الفريسة سهلة المنال باعتبار أنها من ممتلكاتها التي لا يحق لأحد غيرها التصرف بها. وبين الفينة والأخرى، كانت تتذكر من البعيد أن علاقة كهذه "محرمة وشاذة وملعونة". غير أن التفاتة مفاجئة كهذه لم يكن من شأنها أن تحدث انقلابًا جذريًا في هذه المعادلة التي يتوزع طرفيها الجلاد والضحية إذ سرعان ما كانت تتذرع بالأسباب والحجج التي تزيل من طريقها العوائق للاستيلاء على ضحيتها بسهولة.
بدت الكاتبة محتاطة لشيء كثير من مرتكزات النظرية الفرويدية، وتقتضي هذه الأخيرة، لتكتمل الفاجعة في أكثر مشاهدها ترويعًا واستنفارًا لغريزة القتل، أن تقدم الإبنة على الاجهاز التام على والدتها بالإرادة المتعمدة، لكي تستحق بذلك امتلاك والدها بما اقترفت يداها. الاستيلاء على الأب، في هذه الحال، لا يتم بشكل مجاني، بل بإراقة الدماء حتى لا يكون ثمة مجال للعودة إلى الوراء والتغاضي عن هذا الفعل الدموي. هذا في الخطوط العريضة للنظرية، خصوصًا في سياقها المتوحش. وقد يتخذ قتل الأم شكلاً رمزيًا، على الأغلب، وفقًا لأحداث الرواية. نقرأ في دلالات الحوارات الصامتة، التي كانت تلجأ إليها هذه الشخصية مرارًا وتكرارًا في فضاء الرواية، شيئًا كثيرًا من هذا القبيل. كانت، على سبيل المثال، تتعمد بدهاء أن تخفي صورة والدتها عن أنظار أبيها لتوحي لنفسها بأن الأب لم يمح من ذاكرته زوجته فحسب، بل استبدلها بالضرورة بحبيبة أخرى هي الابنة هذه المرة. ثمة مشهد رمزي في هذا السلوك يشير إلى فعل القتل غير المتعمد. تتوهم هذه الشخصية بأن القدر تولى قتل الأم بالإنابة. وفَّر عليها هذا العناء مختصرًا المراحل نحو مصادرة الأب بالطريقة التي تقتضيها الغريزة وهي تصحو من تحت ركام الثقافة المتصدعة. غير أنها، وهي تفعل ذلك، كانت تستهدف والدها أيضًا بالمصير عينه في حال امتناعه عن الاستجابة لمشروعها الغرائزي المغلق. علمًا أن تطورًا دراماتيكيًا كهذا لم يحصل في الرواية. لم يكن مستغربًا، في هذا الإطار، أن تتوهم هذه الفتاة بأنها باتت بعد وفاة والدتها السيدة المطلقة في المنزل. تمارس رغبتها الجامحة في التسلط والاستمتاع به من خلال إقدامها المفاجئ على تغيير ديكور مكتب والدها. لم تبقِ شيئًا من محتوياته في مكانها المعهود. بساعات قليلة جدًا قلبته رأسًا على عقب. أزالت بصمات والدتها من الوجود. بدأت بمصادرة المكان أولاً تمهيدًا لمصادرة والدها بعد ذلك.
كم تبدو هذه الشخصية مصرة على قتل والدتها من جديد. وكأنها لم ترتوِ بحكم القضاء والقدر. أرادت أن يكون لها يد في القضاء على ما تبقى من ملامح والدتها في منزل والدها.
يكتمل توظيف نظرية فرويد دراميًا في هذا المشهد الرمزي لفعل القتل من دون إراقة نقطة دم واحدة. ولكن، من ناحية أخرى، بمحاولة موغلة في متاهة التوحش لاستبدال أبوة الأب بالحبيب العاشق. بدا هذا التوجه واعدًا جدًا للفتاة إلى درجة أنها كانت تعد الساعات والأيام بفارغ الصبر قبل أن يسقط والدها في هذا الفخ المحكم. والأغلب أنها كانت على يقين مطلق بأن والدها لن يتمكن أبدًا من النجاة بنفسه. ولعلها لم تترك خيارًا له في قرارة نفسها. كانت تعتبر أن الاستيلاء القسري عليه أمر من شأنه أن ينقله من حالة متدنية إلى حالة أرقى بطبيعة الحال. كانت ترسم له ذاكرة جديدة. وتنسج له مستقبلاً من صنعها هي لا حيلة له فيه. ترتفع الستارة بذلك عن مشهد قديم حديث للإنسان الهش الذاهب بقيمه ومعتقداته إلى ظلمة الموت.
ومع ذلك، وعلى الرغم من الإعداد الجيد لهذا السيناريو الجهنمي، بدا مشروع الفتاة مهددًا، منتهكًا، مخترقًا برمته على أيدي الأقدار عينها التي خيل إليها أنها باتت تستجيب لها على نحو يدعو إلى الاطمئنان. تظهر عليها بوادر الإصابة بمرض خطير في القلب وهي تظن أنها على قاب قوسين أو أدنى من الايقاع المحتوم بضحيتها. والأغلب أن هذا التحول الدراماتيكي بأحداث الرواية هو الأكثر خطورة وأهمية وتاثيرًا في انكشاف شخصياتها على حقائق لا تبدو غريبة على فضاء الرواية بشكل عام. لقد استدعى هذا القصور في عمل القلب ما لم تضعه الفتاة في حسبانها ولم تدرجه في قائمة أولوياتها. ينتقل المأزق على الأرجح من ضفة إلى أخرى، من محو آثار الوالدة واستئصال ذكرياتها وصورتها والاستئثار بالمنزل ومحاولة ضم الأب إلى مقتنيات الابنة، إلى وقوفها وحيدة، ضعيفة، مستلبة الإرادة، مهددة بالموت أمام جبروت الأقدار وسطوتها التي لا ترد... كان يمكن لهذا التحول المروع الذي استحوذ على الصفحات الأخيرة من الكتاب أن يشكل العنصر الدرامي الأكثر طغيانًا وإثارة للجدل واستدراجًا لمصير الإنسان وهو يسير وحيدًا حزينًا منكسرًا في العراء المخيف. حبذا لو استخدمت الكاتبة هذا السيناريو المشوق مبكرًا في الرواية دلالة على بدء التجاذب مبكرًا بين الإنسان وأقداره الغامضة. غير أنها آثرت أن تختتم بهذا السيناريو الغامض روايتها على عجل. قد يعزى هذا الأمر، بشكل أو بآخر، إلى اصطدامها هي نفسها بالطريق المسدود، أو أنها اكتفت بايصال هذه العلاقة المحتملة "المحرمة والملعونة" بين الابنة وأبيها إلى حدودها الضيقة فقط، من خلال اضطرار الأولى للسفر إلى المانيا لإجراء عملية عاجلة في القلب.
تسدل الستارة على المشهد الأخير في الرواية في اللحظة عينها التي تنقل فيها الفتاة إلى غرفة العمليات. هنا ينقطع السياق لتنفتح الرواية على أفق مكشوف غير محدد المعالم. تجنبت الكاتبة أن تضع نهاية محددة لحدث روائي لا ينطوي بالضرورة على خاتمة تقليدية، باستثناء أن الفتاة لم تتخل عن مشروعها حتى وهي في طريقها إلى مبضع الجراح. ومع ذلك كانت تنتابها موجات من القلق العاصف بأن إصابتها في القلب، على هذا النحو الخطير، قد تبدو عقابًا حقيقيًا لها على إمعانها في التوغل عميقًا إلى متاهة هذه الحلقة الملعونة. بدت الفتاة في اللحظات الأخيرة للرواية جبلاً من الجليد ينهار قطعًا هشة إلى القاع. والأغلب، في هذا السياق المأسوي، أنها كانت تفتقر إلى ذلك النمط من الذرائع المطلوبة في حالتها، لتصنع لنفسها موقعًا مختلفًا على خارطة أوهامها وهي تظن أن أقدارها التي اختطفت والدتها لن تخذلها أبدًا، وأن أقدارها التي كادت أن تقدم لها والدها على طبق من فضة لن تسترده من جديد. ثمة على الأغلب ما لم تفهمه هذه الشخصية الجهنمية، فأعلنت الكاتبة نيابة عنها أن الوقت حان لايقاف الرواية عند هذا الحد الغامض. ولربما بدا هذا الفهم متعذرًا لدى الكاتبة والفتاة في آن معًا. ولعل الكاتبة أرادت بذلك أن تمنح الأب فرصة أخرى للخروج الموقت أو النهائي من سجن الاذعان للغريزة العمياء.
ورد في غلاف الرواية أن الكاتبة ترددت في نشر هذا العمل أثناء حياتها. وهي لم تطلق عليه اعتباطًا عنوان الرواية المعلونة، كانت تستهدف بذلك القبض على شخصيتها الرئيسية بالجرم المشهود، على الأرجح. وإلا لأطلقت عليها تسمية أخرى. ومع ذلك، أغرتها التجربة وأخذتها الرغبة في أن تستكشف من خلال هذه الشخصية مخاطر السير على حافة الهاوية في وقت تتراقص فيه حمم الجحيم من تحتها. ومع ذلك، لم تدفع بهذه الشخصية إلى التراجع عن مشروعها المستهجن، ربما لأنها لم تعد تمتلك مشروعًا آخر للحياة. وضعتها في مهب الريح وجهًا لوجه أمام السقوط مضرجة بالمأساة.
*** *** ***
المستقبل، الأربعاء 19 أيار 2010، العدد 3656، ثقافة وفنون، صفحة 20
ومع ذلك، لعل الكاتبة الراحلة أمل جراح شاءت أن تختبر هذا التوجه المخيف في روايتها التي كانت وضعتها في ستينات القرن الماضي، وظلت حبرًا على ورق حتى صدورها حديثًا عن "دار الساقي" في بيروت بعنوان الرواية الملعونة. ولعلها كذلك، لم تجد حائلاً من دون الإفادة من الثقافة الفرويدية التي كانت شائعة في الوطن العربي منذ مطلع العقد الخامس من القرن من أجل توظيفها على نحو درامي لافت في صوغ عمل أدبي كان الأجدر بها لو اتخذت قرارًا حاسمًا بنشره في تلك الأثناء. بدا فرويد في ذلك الزمن القريب نسبيًا أحد المفاتيح الجوهرية التي عثر عليها المثقفون العرب، كتَّابًا وروائيين ومفكرين، من أجل استيعاب الوقائع الاجتماعية والسياسية المستجدة ومن ثم استثمارها، على النحو الأمثل، بغية فهم التطورات الاجتماعية في الوطن العربي والمساهمة في تغييرها. والأرجح أن أمل جراح، رحمها الله، لم تشذ عن هذه القافلة التي كانت تحجز مكانًا مضمونًا لمن يشاء أن يلتحق بها. ولربما كان لديها أسباب نفسية وثقافية أخرى تدعوها إلى قرع باب الرواية من هذه الزاوية الحادة التي تظهر الإنسان عاريًا من مكتسباته الثقافية، مستباحًا، على نحو مذهل، لقانون الغريزة وهو ينهض من جديد من تحت أنقاض الحضارة. غير أنها كانت من دون شك ابنًا بارًا لثقافة العصر وتلميذًا مبهورًا بالمعلم فرويد.
الوالد الضحية
تدور الرواية بمجملها حول فتاة في ربيع العمر، توفيت والدتها منذ قرابة السنتين، فإذا بها يخيل إليها أن والدها، المحامي العصامي ذا السمعة الحسنة، هو فارس أحلامها المرتقب الذي وضعه القدر في طريقها في اللحظة المناسبة، تسقط عليه في لحظة من تفكك القيم وانحلالها وتبعثرها في الذاكرة المريضة ما كان ينبغي أن تسقطه على شاب بمقدوره أن يتشارك وإياها نمطًا من التطلعات تحيل حياتها ضربًا مشروعًا من الاطمئنان المتبادل. ولطالما سعت هذه الشخصية وهي تترجم أوهامها، من خلف أسوار الصمت الخبيث، إلى الاعتقاد بأن سعادتها القصوى لم تتحقق ما لم تتمكن من تفكيك والدها ومن ثم إعادة تركيبه على نحو عجائبي. ليتلبس هو نفسه دور العاشق المهووس بعشيقته. والأغلب أنها أرادت بذلك أن تعيد اختراعه من جديد ضاربة بعرض الحائط مادته الصلبة العصية على تشكيل هجين من هذا النوع. نزعة انتحارية تنطوي عليها هذه الشخصية المتآكلة حتى العظم في داخلها. تختار ضحاياها، على الأرجح، من بين الذين تتوسم فيهم احجامًا عن مقاومتها قد يصل حد العجز المطلق. لا تتلمس فيهم قيمة إنسانية تذكر ما خلا استعدادهم المسبق للانصياع الأعمى لهوس الغريزة. بدا والدها في هذا السياق ضحية نموذجية قابلة للذهاب إلى المحرقة حتى ولو لم يرغب في ذلك. وفي المقابل، كانت ترى في هذا الاستسلام الأبوي لها دعوة صريحة لتنتفض على هذه الفريسة سهلة المنال باعتبار أنها من ممتلكاتها التي لا يحق لأحد غيرها التصرف بها. وبين الفينة والأخرى، كانت تتذكر من البعيد أن علاقة كهذه "محرمة وشاذة وملعونة". غير أن التفاتة مفاجئة كهذه لم يكن من شأنها أن تحدث انقلابًا جذريًا في هذه المعادلة التي يتوزع طرفيها الجلاد والضحية إذ سرعان ما كانت تتذرع بالأسباب والحجج التي تزيل من طريقها العوائق للاستيلاء على ضحيتها بسهولة.
بدت الكاتبة محتاطة لشيء كثير من مرتكزات النظرية الفرويدية، وتقتضي هذه الأخيرة، لتكتمل الفاجعة في أكثر مشاهدها ترويعًا واستنفارًا لغريزة القتل، أن تقدم الإبنة على الاجهاز التام على والدتها بالإرادة المتعمدة، لكي تستحق بذلك امتلاك والدها بما اقترفت يداها. الاستيلاء على الأب، في هذه الحال، لا يتم بشكل مجاني، بل بإراقة الدماء حتى لا يكون ثمة مجال للعودة إلى الوراء والتغاضي عن هذا الفعل الدموي. هذا في الخطوط العريضة للنظرية، خصوصًا في سياقها المتوحش. وقد يتخذ قتل الأم شكلاً رمزيًا، على الأغلب، وفقًا لأحداث الرواية. نقرأ في دلالات الحوارات الصامتة، التي كانت تلجأ إليها هذه الشخصية مرارًا وتكرارًا في فضاء الرواية، شيئًا كثيرًا من هذا القبيل. كانت، على سبيل المثال، تتعمد بدهاء أن تخفي صورة والدتها عن أنظار أبيها لتوحي لنفسها بأن الأب لم يمح من ذاكرته زوجته فحسب، بل استبدلها بالضرورة بحبيبة أخرى هي الابنة هذه المرة. ثمة مشهد رمزي في هذا السلوك يشير إلى فعل القتل غير المتعمد. تتوهم هذه الشخصية بأن القدر تولى قتل الأم بالإنابة. وفَّر عليها هذا العناء مختصرًا المراحل نحو مصادرة الأب بالطريقة التي تقتضيها الغريزة وهي تصحو من تحت ركام الثقافة المتصدعة. غير أنها، وهي تفعل ذلك، كانت تستهدف والدها أيضًا بالمصير عينه في حال امتناعه عن الاستجابة لمشروعها الغرائزي المغلق. علمًا أن تطورًا دراماتيكيًا كهذا لم يحصل في الرواية. لم يكن مستغربًا، في هذا الإطار، أن تتوهم هذه الفتاة بأنها باتت بعد وفاة والدتها السيدة المطلقة في المنزل. تمارس رغبتها الجامحة في التسلط والاستمتاع به من خلال إقدامها المفاجئ على تغيير ديكور مكتب والدها. لم تبقِ شيئًا من محتوياته في مكانها المعهود. بساعات قليلة جدًا قلبته رأسًا على عقب. أزالت بصمات والدتها من الوجود. بدأت بمصادرة المكان أولاً تمهيدًا لمصادرة والدها بعد ذلك.
كم تبدو هذه الشخصية مصرة على قتل والدتها من جديد. وكأنها لم ترتوِ بحكم القضاء والقدر. أرادت أن يكون لها يد في القضاء على ما تبقى من ملامح والدتها في منزل والدها.
القتل الزمني
يكتمل توظيف نظرية فرويد دراميًا في هذا المشهد الرمزي لفعل القتل من دون إراقة نقطة دم واحدة. ولكن، من ناحية أخرى، بمحاولة موغلة في متاهة التوحش لاستبدال أبوة الأب بالحبيب العاشق. بدا هذا التوجه واعدًا جدًا للفتاة إلى درجة أنها كانت تعد الساعات والأيام بفارغ الصبر قبل أن يسقط والدها في هذا الفخ المحكم. والأغلب أنها كانت على يقين مطلق بأن والدها لن يتمكن أبدًا من النجاة بنفسه. ولعلها لم تترك خيارًا له في قرارة نفسها. كانت تعتبر أن الاستيلاء القسري عليه أمر من شأنه أن ينقله من حالة متدنية إلى حالة أرقى بطبيعة الحال. كانت ترسم له ذاكرة جديدة. وتنسج له مستقبلاً من صنعها هي لا حيلة له فيه. ترتفع الستارة بذلك عن مشهد قديم حديث للإنسان الهش الذاهب بقيمه ومعتقداته إلى ظلمة الموت.
ومع ذلك، وعلى الرغم من الإعداد الجيد لهذا السيناريو الجهنمي، بدا مشروع الفتاة مهددًا، منتهكًا، مخترقًا برمته على أيدي الأقدار عينها التي خيل إليها أنها باتت تستجيب لها على نحو يدعو إلى الاطمئنان. تظهر عليها بوادر الإصابة بمرض خطير في القلب وهي تظن أنها على قاب قوسين أو أدنى من الايقاع المحتوم بضحيتها. والأغلب أن هذا التحول الدراماتيكي بأحداث الرواية هو الأكثر خطورة وأهمية وتاثيرًا في انكشاف شخصياتها على حقائق لا تبدو غريبة على فضاء الرواية بشكل عام. لقد استدعى هذا القصور في عمل القلب ما لم تضعه الفتاة في حسبانها ولم تدرجه في قائمة أولوياتها. ينتقل المأزق على الأرجح من ضفة إلى أخرى، من محو آثار الوالدة واستئصال ذكرياتها وصورتها والاستئثار بالمنزل ومحاولة ضم الأب إلى مقتنيات الابنة، إلى وقوفها وحيدة، ضعيفة، مستلبة الإرادة، مهددة بالموت أمام جبروت الأقدار وسطوتها التي لا ترد... كان يمكن لهذا التحول المروع الذي استحوذ على الصفحات الأخيرة من الكتاب أن يشكل العنصر الدرامي الأكثر طغيانًا وإثارة للجدل واستدراجًا لمصير الإنسان وهو يسير وحيدًا حزينًا منكسرًا في العراء المخيف. حبذا لو استخدمت الكاتبة هذا السيناريو المشوق مبكرًا في الرواية دلالة على بدء التجاذب مبكرًا بين الإنسان وأقداره الغامضة. غير أنها آثرت أن تختتم بهذا السيناريو الغامض روايتها على عجل. قد يعزى هذا الأمر، بشكل أو بآخر، إلى اصطدامها هي نفسها بالطريق المسدود، أو أنها اكتفت بايصال هذه العلاقة المحتملة "المحرمة والملعونة" بين الابنة وأبيها إلى حدودها الضيقة فقط، من خلال اضطرار الأولى للسفر إلى المانيا لإجراء عملية عاجلة في القلب.
تسدل الستارة على المشهد الأخير في الرواية في اللحظة عينها التي تنقل فيها الفتاة إلى غرفة العمليات. هنا ينقطع السياق لتنفتح الرواية على أفق مكشوف غير محدد المعالم. تجنبت الكاتبة أن تضع نهاية محددة لحدث روائي لا ينطوي بالضرورة على خاتمة تقليدية، باستثناء أن الفتاة لم تتخل عن مشروعها حتى وهي في طريقها إلى مبضع الجراح. ومع ذلك كانت تنتابها موجات من القلق العاصف بأن إصابتها في القلب، على هذا النحو الخطير، قد تبدو عقابًا حقيقيًا لها على إمعانها في التوغل عميقًا إلى متاهة هذه الحلقة الملعونة. بدت الفتاة في اللحظات الأخيرة للرواية جبلاً من الجليد ينهار قطعًا هشة إلى القاع. والأغلب، في هذا السياق المأسوي، أنها كانت تفتقر إلى ذلك النمط من الذرائع المطلوبة في حالتها، لتصنع لنفسها موقعًا مختلفًا على خارطة أوهامها وهي تظن أن أقدارها التي اختطفت والدتها لن تخذلها أبدًا، وأن أقدارها التي كادت أن تقدم لها والدها على طبق من فضة لن تسترده من جديد. ثمة على الأغلب ما لم تفهمه هذه الشخصية الجهنمية، فأعلنت الكاتبة نيابة عنها أن الوقت حان لايقاف الرواية عند هذا الحد الغامض. ولربما بدا هذا الفهم متعذرًا لدى الكاتبة والفتاة في آن معًا. ولعل الكاتبة أرادت بذلك أن تمنح الأب فرصة أخرى للخروج الموقت أو النهائي من سجن الاذعان للغريزة العمياء.
ورد في غلاف الرواية أن الكاتبة ترددت في نشر هذا العمل أثناء حياتها. وهي لم تطلق عليه اعتباطًا عنوان الرواية المعلونة، كانت تستهدف بذلك القبض على شخصيتها الرئيسية بالجرم المشهود، على الأرجح. وإلا لأطلقت عليها تسمية أخرى. ومع ذلك، أغرتها التجربة وأخذتها الرغبة في أن تستكشف من خلال هذه الشخصية مخاطر السير على حافة الهاوية في وقت تتراقص فيه حمم الجحيم من تحتها. ومع ذلك، لم تدفع بهذه الشخصية إلى التراجع عن مشروعها المستهجن، ربما لأنها لم تعد تمتلك مشروعًا آخر للحياة. وضعتها في مهب الريح وجهًا لوجه أمام السقوط مضرجة بالمأساة.
*** *** ***
المستقبل، الأربعاء 19 أيار 2010، العدد 3656، ثقافة وفنون، صفحة 20
التعديل الأخير بواسطة المشرف: