دراسة فريد أمعضشـو - الرواية المغربية والمجتمع المدني ("سيرة للعته والجنون" لجلول قاسمي أنْمُوذجاً)

لم تبْعُد الرواية العربية – وضمنها الرواية المغربية – عن المجتمع المدني العربي، بل ارتبطت به ارتباطاً واضحاً؛ فعبّرت عن انشغالاته ونضالات مكوِّناته، وصوّرت واقعَه، ونقلت تطلًّعاته، ولاسيما في اللحظة الآنية . والثابتُ أن حضور هذا المجتمع في المُنْجَز الروائي المغربي المعاصر لم يكن بنفس الدرجة من حيث التأثير والفعّالية؛ لأنّا نجد روايات يبرُز فيها أثرُ هذا المجتمع، بخلاف أخرى يَفتُر فيها حُضُورُه. كما أن تأثيرَه هذا في حياة الناس لا يكون، دائماً، إيجابياً، بل يجيء، أحياناً، في متون روائية، مُعاكِساً لآمال المجتمع الذي انبثق منه، ومُنحازاً إلى صفّ فئات أخرى مستغِلّة ومعارضة لنضاله، وساعياً إلى تحقيق مصالح فردية ضيّقة. ولا يسَعُنا المقام، ها هنا، للوقوف عند جميع الأعمال الروائية المغربية ذات الصلة بمجتمعنا المدني، دراسةً ومقارَبَةً، ولكشْف تجلّيات ذلك المجتمع وآثاره فيها. لذلك، كان علينا اختيار أحدها ممّا يستحقّ أن يكون موضوعاً للتحليل والمعالجة.. وقد وقع الاختيار على رواية "سيرةٌ للعَتَه والجُنون" للروائي المغربي المتألِّق د. جلّول قاسمي، الذي استطاع، في غُضون سنوات قليلة، أن يسجّل اسمه، بأحرُف بارزة، ضمن خارطة الرواية بالمغرب، وأن يفرض وجودَه إلى جَنْب روائيّينا المعاصرين الكبار، وأنْ يُغْنيَ الخزانة الروائية المغربية، إلى حد الآن، بأربع روايات توافَرَت لها العديدُ من مقوِّمات الفَرادَة والتميُّز في مضامينها وصياغتها الفنية معاً؛ أولاها هي المذكورة، من قبلُ، أصدَرَها عام 2002، وثانيتها صادرة، عام 2003، بعنوان "سوانح الصمت والسراب"، وثالثتها موسومة بـ"مدارج الهبوط" (2005)، وأحْدثُها جميعاً هي روايته "العابر" التي صدرت له عامَ 2009. وقبل مباشَرَة تحليل المتْن الروائي المُختار، لتبيُّن مظاهر حضور المجتمع المَدَني المغربي فيه، وكذا أبعاده وتأثيره، يحسُن بنا البدْءُ بتحديد مفهوم "المجتمع المَدَني"، وتعرُّف تاريخ ظهوره في الغرب وفي العالم العربي، وإثارة بعض القضايا المتمحِّضة له بإيجازٍ.
لقد أضحى "المجتمع المدني" واحداً من المفاهيم المحورية التي يكثر تداوُلها، اليومَ، في خطاباتنا وكتاباتنا، إلى حدٍّ قد يُشعِر بعضَنا بوضوح مدلوله لدى مُستعْمِليه. ولكنّا حين نعود إلى ما ألِّف حوله، نتبيَّن حجم الاختلاف بين المفكرين والعلماء والباحثين في تعريفه، وضبْط مفهومه، منذ قرون ثلاثة، على الأقلّ، في أوربا. واستمرّ الاهتمامُ به، وبصورة أكبر، منذ أواسط القرن المنصرم، وسيتزايَد ذلك الاهتمامُ، حتماً، فيما يُستقبَل من الأيام، وذلك بالنظر إلى "ما يقدّمه إلى الديمقراطية من قاعدة متينة، وإلى إعطائه عُمقاً لمبدإ المُواطَنَة المَبْنية على المشاركة الفاعلة." ومما لا ريب فيه أن التطرق إلى دراسة هذا المفهوم انطلق من الفكر الأوربي الحديث، تحديداً، قبلَ أنْ يَقتحم مجالات أخرى، وقبل أن ينتقل إلى بِيئات ثقافية أخرى خارج مَنشَئِه الأصلي.
أطلق بعضُهم مصطلح "المجتمع المدني" على كل مجتمع تجاوز حالة الطبيعة، بما يسودها من فوضى وانعدام القوانين الضابطة للسلوط والعلاقات وغيرها، ليؤسس أركانه على قاعدة التعاقد الاجتماعي بين الأفراد والدولة (هوبز)، وليتمَوْقع بين هذين الطرفين؛ فلا يكون فردياً أو عائلياً يجمع أفرادَه رباطٌ قَرابي إرْثيّ، ولا يكون تجمُّعاً تابعاً للكِيان الدَّوْلتي وأجهزته الرسمية (هيجل).
ويرى جون لوك أن جوهر المجتمع المدني يكمُن في أنه مجتمعُ المدينة والتمدُّن وسُمُوّ القانون فوق الجميع، بوصفه ضامنَ الحرية ومنظِّمَها، وليس مُعرْقِلها والحادَّ منها. وهو بذلك، يتميز من المجتمع السياسي، لا من الدولة كما عند فريدريك هيجل، بحُكم أنه ينظم السلطة، ويحدد حرية الأفراد والجماعات. وينشأ المجتمع المدني، في نظر هذا الفيلسوف الإنجليزي، حين ينتظم عددٌ من الأفراد في إطار جماعة واحدة، يتنازَلون لها – بموجب ذلك – عن حقهم في التصرف، وتنفيذ العقاب على النحو الذي كان يسود حالة الطبيعة (قبل قيام الدولة)، ويعْهَدون إليها بمهمة الحفاظ على أملاك الأفراد، وحماية وجودهم، وبناء علاقاتهم على أساس القانون، الذي هو نَتاج "عقد جماعي" بينهم وبين مَنْ يختارونه لممارسة السلطة وَفق القانون . الأمرُ الذي يتيح للمجتمع المدني، هنا، التحررَ من سلطة الروحي والمقدَّس، المنحدِر من إرث العصر الوسيط المسيحي الكَنَسيّ، والذي طالما عدَّ ممارساته السلطوية، المُستبِدّة في الغالب، تفويضاً إلهياً لا يقبل الجدال ولا النقاش، بل يَسْتوْجِبُ الخُنوعَ والرضوخ له.
ويلاحِظ الناظر في تراث كارل ماركس الفكري أن بالإمكان الحديث عن أكثر من مفهوم للمجتمع المدني فيه، وأن حديثه ذاك لم يخرج عن نطاق تصوره العام لمسألة الصراع الطّبَقي. ففي كتابات ماركس "الشابّ" أنّ هذا المفهوم، الذي استعاض عنه، في وقت ما، بالحديث عن "المجتمع البورجوازي"، يشير إلى مجالٍ تتضارَبُ فيه المصالح الاقتصادية حسب القيم البورجوازية. ويجعل ماركس، في مؤلفات ما بعد الشباب، مفهوم المجتمع المدني أدْخَلَ فيما أسْماه "البنية التحْتية"، بوصفها الأساسَ الواقعي للدولة، والقاعدة التي تحدد طبيعة البنية الفَوْقية بما فيها من نُظُم وعقائد ونحوها . وقد حمل مشعلَ التيار الماركسي، بعد زعيمه المذكور، المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي أعاد النقاش، بقوة، مِنْ حول هذا المفهوم، بعد الحرب العالمية الأولى، وتناوله جنباً إلى جنْب مع الدولة أو المجتمع السياسي، وأوْضَح أن العلاقة بين قسيميْ هذه البنية نِزاعية صراعية؛ لأن كُلاّ منهما يسعى إلى السيطرة على الآخر، وإنْ كانت طبيعة الهيمنَة المقصود تحقيقها مختلفة لديهما؛ ذلك بأن المجتمع المدني يسعى إلى فرْض هيمنته عن طريق الثقافة والإيديولوجيا، على حين يتوخّى المجتمع السياسي الهيمنة عن طريق الإكراه وسلطة العُنف. مؤدّى هذا أننا أمام سلطة وسلطة مُضادّة، ولعلّ الجديدَ في مفهوم المجتمع المدني، في التصور الغرامشي، أن هذا المجتمع قد صار مجالاً للتنافُس الإيديولوجي، وليس مجالاً للتنافس الاقتصادي المادي؛ كما كان الشأن لدى ماركس.
وقد نشأ المجتمع المدني في أوربا، في سياق خاصّ تميَّز بالصراع السياسي والاجتماعي والفكري الذي خاضه الأوربيون، منذ بواكير عصر النهضة، مدعومين بالبورجوازية المتنوِّرة الناشئة، وبالوعي الذي كان آخِذاً في الانتشار بينهم بفضل عدة عوامل، ضدَّ الكنيسة التي فرضت سلطانها الروحي طَوالَ العصور الوسطى، وضدَّ الفيوداليّين أو الإقطاعيّين الذين استأثروا بالثروة والنفوذ والسلطة الزمنية، واستغلوا قطاعاً واسعاً من المجتمع الأوربي خدمةً لمصالحهم، وضدَّ كل أجهزة التعسُّف التي توسّلت بجميع الوسائل لاستعباد الناس، وتركيعهم وتفقيرهم واستتباعهم. كما استفاد أبناء أوربا – في سياق سعْيهم إلى تثبيت دعائم المجتمع المدني في بلدانهم – من جملةِ تحولاتٍ شهدتها أوربا منذ عصر الأنوار، في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها؛ أبرزها "تبلوُر النظام الرأسمالي، وتهيِْكُل الدولة المركزية، واستقلال المجال السياسي، وتأطير شعور الفرد (= المواطن) بفرْدانيته وبحقوقه المختلفة، والفصْل بين السُّلط..."
ومن مَوْطِنه الأصلي بأوربا، انتقل مفهوم "المجتمع المدني" إلى سائر أنحاء المعمورة عبر فترات، حتى أضحى، الآن، مفهوماً كوْنياً يتردد على ألسُن الناس، وفي كتاباتهم، في أي مكان، على غرار مفاهيم أخرى من قبيل "الديمقراطية"، و"الحداثة"، و"حقوق الإنسان"، و"الدستور". بل إن بعضهم يتحدث، اليوم، عن مفهوم "المجتمع المدني الدَّوْلي" الذي ارتبط ظهوره بتيار العولمة الجارف الرامي إلى تنميط العالم، واقتحام أي شِبْر فيه بأيْسَر السُّبُل، والتعامُل معه بوصفه "قرية كَوْكَبيّة" تنتفي الحواجز بين كِياناته القُطْرية. يقول الباحث التونسي الحبيب الجنحاني عن هذا المفهوم إنه "وُلد في خضمّ الصراع العالمي، وبعد استغلال الليبرالية الجديدة المتطرِّفة لظاهرة العولمة خدمةً لمصالحها الاقتصادية، وفرْض أمَمِيةِ رأس المال". ويزعم أن هذا المجتمع العالمي الجديد إنما هو "ولادة لأممية جديدة تخلصت من دوغمائية الأمميات القديمة، وقد تحوّلت يومئذٍ إلى جهاز من أجهزة الدولة السّتالينية."
ونستطيع تحديد المجتمع المدني بأنه مجموعُ العلاقات والهيْآت والتنظيمات التي يُنشئها الأفراد في مجتمع ما، بإرادتهم الحُرّة وبنِيّة العمل تطوُّعاً، للإسهام في ترقية مجتمعهم، وتنميته وخدمته في كافة المجالات والقطاعات. ولا يَشِي منشؤُه هذا بأنه ذو طابع فردي أو قرابي؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى المجتمع الأهلي، بل يشترَط فيه العمل الجماعي المنظم، والتضامن والتعاون بين مكوناته، والاشتغال بطرق ديمقراطية تشارُكية بعيداً عن أي علاقات مبنية على قيَم غير الديمقراطية والقانون والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف، والانضباط لمجموعة من المعايير والنواميس المحددة والمتفق عليها. ويمتاز المجتمع المدني، علاوة على ما سبق، بالاستقلالية عن المؤسسات الحُكومية الدائرة في فلك الدولة؛ هذه الاستقلالية يجعلها بعضُهم عنصراً أساساً مميّزاً للمجتمع المدني مِمّا سِواه من أشكال المجتمعات. يقول أحد السوسيولوجيين معرِّفاً هذا المجتمع بأنه "كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكُّن من الخيرات والمنافع العامة دون تدخل أو توسُّط الحكومة" . ولا مناص من التنبيه، هنا، إلى أن القول باستقلال المجتمع المدني، إلى حد بعيد، عن إشراف الدولة المباشر ليس معناه أنه يشكل سلطة مضادّة مُعادية للكيان الدولتي وأجهزته، وأنه يقع على النقيض تماماً منه، بل إن العلاقة بين الطرفين تقوم، أو يجب أن تقوم، على التكامل والتلازم؛ بحيث لا يحلّ أحدُهما محلَّ الآخر في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، ولا يستغني أيٌّ منهما عن الآخَر.و"لا يمكن أن ينهض المجتمع المدني، ويؤدي رسالته في المناعة والتقدم بدون دولة قوية تقوم على مؤسسات دستورية ممثَّلة تمثيلاً حقيقياً، وتعمل على فرْض القانون. كما أنه من الصعب أن نتصور دولةً وطنية قوية يلتفّ حولها أغلبية المواطنين بدون مجتمع مدني يسْندها، وإلا فإنها تتحول إلى دولة معزولة قد تؤدي دورَها من خلال أجهزتها البيروقراطية، ولكنها تنهار في نهاية المَطاف فينهار معها المجتمع" . ويضطلع المجتمعُ المدني بأداء أدوار أخرى، من غير المساندة، تُجاه الدولة في العالم المتطور، أبرزها المشاركة والإسهام في كافة مجالات تدخُّلها، ومراقبة أداء أجهزتها الرسمية، والمعارضة البنّاءة في حال تبيَّنَ لتنظيماته المدنية زَيَغان الدولة عن مسارها الصحيح في خدمة مواطِنيها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. وتختفي هذه الأدوار الحيوية في المجتمعات القامِعة المتخلفة التي تُؤْثِر العيش على بقايا الاستبداد والإقطاع وفرض السيطرة بالعنف وقوة السلاح وإرهاب الناس، وتعمِد إلى الاستئثار بالسلطة والانفراد بالقرار في كافة الميادين، دون اعتبار الإسهامات المُمكنة لهيآت المجتمع المدني ومنظماته التي يمكنها أن تكون عناصر فعّالة دافعة لعجلة النماء والتقدم في بلدانها لو أتيحت لها الفرصة، واعْتُرِف لها بأدوارها الحقيقية في الواقع. لقد أصبحت الدولة في هذه المجتمعات المتخلفة، حسب المفكر السوري برهان غليون، "مؤسسة خاصة توظف سيطرتها المطلقة وتغلغُلها في كل ثنايا المجتمع من أجل خدمة مصالح الفئة الحاكمة، وليس من أجل تنظيم المصالح العامة، وصارت تنظر إلى أي حركة أو إشارة تصدُر عن المجتمع المدني على أنها معارَضة سياسية، ورفْضٌ لسلطة الدولة، وتهديد مباشر لوجود الأمة والقومية والثورة. ودَفَعَها ذلك إلى الانكفاء، بشكل أكبر، على نفسها وقُواها الرَّدْعية الخاصة وتنميتها، وبالتالي تخصيص القسم الأكبر من موارد الدولة لا لتوفير حاجات المجتمع، وإنما لتعظيم وسائل القضاء عليه" ؛ كما حدث في كثير من البلاد العربية، على امتداد العقود التي تلت منتصف القرن العشرين، والتي كشفت ثورات شعوبها الآن، في إطار ما يُعرف بـ"الربيع العربي"، حجمَ إنفاقها في شراء الأسلحة وتكديسها في مخازن تحت الأرض وفوقها، والعَمْد إلى استخدامها في قمع شعوبها المنتفِضَة رفضاً للظلم الذي مورس عليها عقوداً من الزمن، على الرغم مما تختزنه الأراضي العربية من ثروات هائلة كان يمكن أن توفر لأبنائها، لو استغلّت بعدلٍ، ظروف الرّفاه والعيش الرغيد، وتعْفيهم من المخاطرة بأرواحهم أملاً في الوصول إلى أقطار دول الشمال.
إن الدولة الحديثة المُؤمنة بمبادئ الديمقراطية والتشارك وسيادة القانون والمؤسسات تدرك، جيداً، أهمية المجتمع المدني، بوصفه عنصراً حاسماً في معادلة التنمية والنهضة الشاملة؛ لذا، تبادر إلى استشارته والإنصات إلى وجهات نظر تنظيماته ومكوِّناته الجمْعَوية، وتأخذه في الحُسبان في كل مشاريعها التنموية وخططها الاستراتيجية، وتعدُّه إحدى ركائز بناء دولة قوية فاعلة عصرية قادرة على التنافس الدولي، في كل المجالات الحياتية. كما أن المجتمع المدني، من جهته، لا يتوانى في تقديم يد العَوْن والسَّند والمَشُورة، وفي وضْع خبْراته وتجاربه ومعارفه رهْن إشارة دولته الديمقراطية المنفتحة للإفادة منها. إن هذا التعاون والتكامل سيرة ملحوظة، بجلاء، اليومَ، في العالم المتقدم، في أوربا وأمريكا وغيرهما، على حين أنها ما تزال غائبة في كثير من بلدان العالم الثالِث التي لم تشأ، فيما يبدو، ترْك تخلفها وتحجّرها للأخْذ بأسباب المدنية والنماء الحقيقي.
ويمتاز المجتمع المدني بغِنى مكوناته، وتنوع تنظيماته ما بين الأحزاب السياسية، والنقابات، والاتحادات المِهْنية، والجمعيات الحقوقية، وجمعيات حماية المستهلكين، والنوادي الثقافية، والمنظمات المهتمة بالطفولة والنساء والشباب والمُسِنّين، وغيرها من المؤسسات والعلاقات والتنظيمات المدنية على اختلافها. وتقع في الوسَط ما بين التنظيمات العائلية القرابية والمؤسسات الحكومية كما ذكرنا آنفاً، وترمي إلى تحقيق أهداف موحّدة محددة، يقف في مقدمتها خدمة الوطن والمواطن. ولا شك في أن المحرك الأساس لها جميعِها هو النخبة المتعلمة المثقفة، التي "تمثل اليوم دعامة صلبة ضمن قوى المجتمع المدني؛ إذ إن رسالتها تبرز أساساً في تجذير الوعي المدني، وغرْس روح العمل السياسي، والاهتمام بالشأن العام" . ويُعِينُها على ذلك استغلالها الإعلام الحرّ، واستثمارها نتائج التطور التكنولوجي الحديث. وقد توسّع بعضهم في مفهوم المجتمع المدني ليشمُل، إلى جانب ما ذُكِر، الحُكومةَ والمؤسسات الحكومية ! ولا يخفى على أحدٍ ما ينطوي عليه هذا الرأي من شُذوذ عما تعارَف عليه الباحثون المهتمون بدراسة المجتمع المدني، وقبلهم المنظِّرون له في الغرب أساساً. وإن "العلاقات في المجتمع المدني أفقية، وليست رأسية، أو عمودية؛ مثل العلاقة بين الأجير والمؤجر، أو بين السلطة والمواطن، أو بين الكَهَنوت الديني والأتباع. وهو – بالتالي – مجتمع الإبداع في أرْحب معانيه."
ويلاحَظ أن مفهوم "المجتمع المدني" بدأ ينتشر، بقوة، في أدبيات الفكر السياسي العربي، وعلى ألسنة رجالاته، منذ سبعينيات القرن الماضي، مستفيداً من النقاش المثمر والغني المُثار من حوله في المشهد الثقافي الغربي المعاصر، خصوصاً، ومن التحولات التي عرفتها بعض الأقطار العربية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، منذئذٍ، في اتجاه إرساء دولة القانون والمؤسسات، وتبنّي خيارات الحداثة والتحديث والانتقال الديمقراطي. كما أدركت هذه البلدان السائرة في طريق التغيير والنماء أن المجتمع المدني لم يعُدْ مجرد تقليعة أو شعار رنّان وَقْتيّ، بل هو، الآن، "ضرورة للوقوف سدّاً منيعاً أمام موجات الرّدّة والرداءة، وللتصدّي لكل محاولات احتكار السلطة، والانفراد بصُنع القرار في قضايا مصيرية تمَسّ مصلحة الوطن، وشؤون المجتمع" . ولكن تصور هذا المفهوم في أذهان الدارسين العرب، فيما يبدو، ما يزال يكتنفه اللّبْس والغموض اللذان تنمّ عنهما أبحاثهم حوله، وتحديداتهم له، التي تتعدد – بتعدد دارسيه وتبايُن وجهات نظرهم وإدراكهم له – تعدداً يصل، أحياناً، حدَّ التضارُب البَيِّن ! والواقعُ أن حداثة المفهوم المذكور في أدبيات الفكر السياسي المعاصر، لدى العرب، ليس معناها أن تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يخلو من إرْهاصات وملامح لهذا المجتمع. بل إنه، كما يؤكد دارسون كُثرٌ، عرف هذا المجتمع بأشكال مختلفة، وعرف ممارسات وتنظيمات تدخل في صميم المجتمع المدني بامتياز. يقول الجنحاني إن "مفهوم المجتمع المدني دخيلٌ على الفكر السياسي العربي الإسلامي، ولكنّ ذلك لا يتناقض مع وجود خبرة تاريخية في المجتمع العربي الإسلامي تلتقي مع بعض جوانب المجتمع المدني، ويمكن أن نُفيد منها اليومَ في دعْمه، وترسيخ أسُسه في تربتنا الحضارية؛ مثل خبرة مؤسسة الوقْف" . والحق أن المجتمع المدني لم يبرُز، بوصفه واقعاً ملموساً، في العالم العربي، وبالأحرى في أقطار منه قطعت أشواطاً ملحوظة في الانفتاح والتحديث والنهوض، إلا في العقود الأربعة الماضية، تحت تأثير عوامل عدة؛ منها "توسيع مجال التعليم، وبروز فئات وُسطى، والهجرة من البادية إلى المُدُن، وعمل الأحزاب التقدُّمية في طرْح مطالب الديمقراطية ومعارضة السياسة السائدة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، والتأثير الخارجي عن طريق وسائل الإعلام أو مختلِف وسائل الاتصال، دون أن نُغفِل عاملَ الهجرة إلى الخارج."
إن هذا الحضور البارز للمجتمع المدني في عدد من الأوطان العربية، ومنها المغرب، كان لا بد من أن يترُك آثاراً إيجابية في شتى مجالات الحياة، وأن يقتحم عدة ميادين، ويتفاعل معه أهل الأدب والإبداع تأثراً وتأثيراً؛ مثلما تفاعل معه وطَرَقَه دارسون من مختلف التخصصات حتى أشْبَعوه درْساً وتحليلاً منذ السبعينيات والثمانينيات. وكان الروائيون المغاربة من بين المُبدِعين الذين لم يغفلوا، في مُنجزهم الروائي، مجتمعهم المدني، بل عبروا عنه تشخيصاً وتحليلاً ونقداً في بعض الأحيان، وتعرّضوا إلى وصف انشغالات مكوناته المختلفة وتطلعاتها وتحدّياتها ونحْو ذلك. وسنحاول تبيُّن بعض ذلك التفاعل والتناول الإبداعي من خلال رواية "سيرة للعته والجنون" لجلول قاسمي.
هذه الرواية واقعية عُمّالية من ألفها إلى يائها, على الرغم من أن مبدعها نبَّهنا إلى أن أحداثها وماجرياتها المَحْكية بين ثناياها من نسْج خياله, وليست مستوحاةً من واقعه المعيش, وأن أي تشابه بينها وبين هذا الواقع إنما هو وليد الصدفة ليس إلاّ . وقد رام هذا العمل الإبداعي تصويرَ نضال العمال المغاربة وصراعهم مع أرباب العمل، ونقل معاناتهم اليومية، وذلك من خلال حكْي تجربة الشّغّالين بمنجم الفحم (الشّارْبُونْ) بمدينة "جْرَادَة" الواقعة شرقَ المغرب، وإبراز انعكاسات قراره القاضي بتوقيف عُمّاله على ساكنة البلدة جميعاً. وبما أن الرواية تتخذ من هذا المنجم فضاءً وتيمة مركزية، فقد وَسَمها الناقد المغربي الذي قدّم لها (نجيب العوفي) بـ"المَنْجَمية" . ويُعرَّف هذا النوعُ الروائي بأنه يُطلق على مجموع الروايات التي "تتخذ من المنجم فضاء للصراع الاجتماعي، وتجعل منه تيمة أساسية في تحْبيك الأحداث وتأزيمها" . وقد ظهرت، بادئ الأمر، في أوربا، خلال القرن التاسع عشر، لتصوِّر واقعَ البروليتاريا، وعملها داخل المناجم وأوراش الشغل، وما كانت تتعرض إليه من استغلال على يد أرباب العمل ومالِكي وسائل الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية الحديثة. وكان الروائيون الواقعيون، من أمثال تولستوي وغوركي وبلزاك، السّبّاقين إلى طَرْق هذه الموضوعة في إبداعاتهم، وتعد رواية "جيرمينال" (Germinal ) لإميل زولا – في نظر بعضهم – "أولَ رواية مؤلفة في الأدب المَنْجَمي، صَوّرت صراع العمال مع أرْباب المناجم من منظور فني طبيعي وتجريبي" . ولم تعرف الرواية المنجمية طريقها إلى الأدب العربي إلا حديثاً؛ لأن مجتمعاتنا لم تكن صناعية، ولم تعرف نشاطاً ذا بال في هذا الإطار إلا بعد تحقُّق استقلالاتها السياسية عن القُوى الإمبريالية الغربية التي كانت تَستعمرها، ومباشَرَتها جملة من الإصلاحات الشاملة لبناء كياناتها على أسس اقتصادية صلبة، واستفادتها من الآخَر المتقدِّم في كافة مجالات الحياة. هذا بخلاف القطاع الفلاحي الذي وَلَج عالم الرواية العربية منذ بدايتها، في أوائل القرن الماضي، بمصر (رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل). وتوالت، عقب ذلك، الروايات التي صوّرت طبقة الفلاحين، وتطرقت إلى مشاكلها وتطلعاتها وغير ذلك مما يتعلق بواقعها؛ من مثل "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، و"اللاّز" للطاهر وطّار. وليس في ريبرتوار الرواية العربية سوى عدد قليل جدّاً من الروايات ذات الطابع المنجمي؛ منها – في المغرب – ثلاثية محمد بنعلي الصادرة في التسعينيات (يوم الاقتراع – الصوت المبحوح – رحلة العطش)، ورواية "الجبال لا تسقط" للسعدية السلايلي (2006) التي نقلت لنا معاناة عمال منجم الرصاص بجبال الأطلس المتوسط بالمغرب، والرواية التي نحن بصدد قراءتها في هذا المقال، على أن الرواية المنجمية لدى الروائي جلول قاسمي تمتاز بعددٍ من السمات، مضموناً وشكلاً، أبرزها، حسب جميل حمداوي، "السُّخرية الكاريكاتورية، والمسْخ الشيطاني، والتصوير الأسود القاتم، والإغراق في الواقعية الصّحفية التي تمزج بين عدة أساليب؛ كالتوثيق الإخباري، واستخدام الأسلوب الأدبي الفني في المعالَجَة والنقل الدرامي، ووصْف العواطف البشرية، وتجسيد المأساة الإنسانية."
لقد استهلّ الكاتب روايته "سيرة للعته والجنون" بوضعيةِ انطلاقٍ (Position initiale ) عرضت بعض انشغالات السارد – البطل (ولْد مُحَنْد)، وزملائه في الغربة والعمل، ومشاكلهم ومعاناتهم، وهم يشتغلون في مؤسسة لضخّ المياه بعيداً عن بلدتهم الأمّ الواقعة إلى الجنوب من الشرق المغربي، والتي لم يكن حلم العودة إليها، والاستقرار بين جنباتها، يُفارق أذهانهم جميعاً. وذات يوم، انتهى إلى عِلم أحدهم، وهو عدنان وَلْد عِيشَة، نبأ صادمٌ أحْزَنَه وأثر فيه تأثيراً بدا واضحاً على مُحيّاه، وهو عزْم الإدارة العليا، المُشْرفة على منجم الفحم بتلك البلدة، على توقيف العمل به، وتسريح الشغالين بناءً على تطوع إجباري ! وقد كان يدرك، تماماً، انعكاسات ذلك القرار الوخيمةَ – فيما لو طُبِّق فعلاً – على ساكنة جْرَادَة كلها بوصْف منجمها مصدرَ رزق أغلب عوائلها الأصلية، فضلاً عن الوافدين عليها للاشتغال في المنجم.
كانت بلدة البطل في ديار بني مطهر، قبل حادث اكتشاف منجمها، تعيش الفاقة والبؤس، في منطقة قاحلة اعْتِيدَ على تصنيفها ضمن ما يعرف بـ"المغرب غير النافع" ! وذات يوم، فوجئ سكانُها بـ"وابل من الجرّافات والشاحنات الضخمة. معدّات لم يشهدوا مثلها منذ أن جاء الاستعمار. الجُنود يحوطونها خوفاً من الوطنيين" . وذلك استعداداً للشروع في استغلال منجم الفحم الحَجَري المُكتَشَف فيها من قبَل أجانب قَدِموا من وراء البحر، وكان ذلك الفحم من النوع الجيد كما يقول الخبراء (الأونتراسيت). وبادر المسؤولون عن المنجم إلى استقدام اليد العاملة من شتى أنحاء المغرب لعدم كفاية الشغالين المحليين، فأعدّوا لهم مساكن للإيواء في بقعة جغرافية داخل المدينة أطلقوا عليها اسم "الحي الوطني" ! وفي الجانب الآخر، أقيمت ﭭيلات ومساكن فخمة للنصارى ولكبار أطر الشركة المشرفة على إدارة المنجم وتسيير شؤونه، وانتقلت ملكية هذه المنازل، لاحقاً، إلى كوادر مغربية بعد تولّي مغاربة الإشراف الكلي على المنجم، محتفظةً بالاسم الذي أعطي لها، غداة إنشائها، وهو "منازل النصارى". وقد تزايد الوافدون على جرادة، الراغبون في العمل بمنجمها، من شتى المناطق، وكانوا من مختلِف الأعراق والألسنة والأعمار، إلا أنه كان يجمعهم أمرٌ واحد هو الفقر والحاجة. وظهرت، فيما بعدُ، ضمن هذه الطبقة العاملة فئة قليلة من الانتهازيين السّاعين إلى تحقيق مصالحهم الضيّقة، ولو على حساب كرامتهم وشرف أسرهم؛ بحيث كانوا يركبون كل المراكب للحصول على الثروة والنفوذ والامتيازات، والوصول إلى مناصب ومراتب. ومن الطرق التي كان يتقرّب بها بعضهم إلى أرباب العمل، مُتَّخِذينَها مطية إلى تحقيق مآربهم الخاصة، أن الواحد منهم كان يقصد ﭭيلا مهندس الوحدة التي يشتغل بها، تحت جنح الظلام، حاملاً ديكاً "بَلْدِياً" من أجود الديكة في السوق، يكتب تحت جناحيْه رقم تأجيره، ورقم بطاقته، ثم يطلقه خلف أسوار الـﭭيلا، وفي اليوم المُوالي ينال ذلك العامل الترقية والعلاوة، بل إن منهم مَن تبوّأ، بتزلُّفِه إلى المسؤولين، أرقى الدرجات، حتى صار "شَافاً" وذا ثروة وجاه، يشارك النصارى سهراتهم الأسبوعية السبْتية، مقلّداً إياهم في كثير من عوائدهم وتصرفاتهم، وإنْ كان أمّياً لا يستطيع "أنْ يفرق بين الألف وعصا سائق الشاة" (الحاج الزرايدي نموذجاً). ومن الشغالين مجموعة ظلت وفيّة لمبادئها، محافظة على أصالة أخلاقها وأعرافها، رغم الإغراءات والضغوطات التي تعرضت إليها؛ مثل "أحماد" السوسي أو الصحراوي الذي انتهى به الأمر، من أجل ذلك، معطلاً مطروداً من المنجم.
لقد عاش سكان البلدة والعاملون بمنجمها، عموماً، فترة من الرفاه والرخاء والاستقرار، بعد أن انطلق العمل به، واستأنس العمال بالأجواء الجديدة، وانسجموا مع رؤسائهم والوافدين على مدينتهم الصغيرة الهادئة. وكانت الغالبية العظمى من قاطنِيها تَعُدُّ المنجمَ المكتشَف مصدرَ رزقها الذي تعيل به أسرها، وتوفر المصاريف اللازمة لأبنائها الذين يتابعون دراستهم خارجها (مثلما هو الحال بالنسبة إلى البطل). ولكن الحدث الذي سيؤثر على حياة أولئك الشغالين وعائلاتهم، وسيؤزّم مسارَ الحكي في الرواية، هو إقدام الجهات المسؤولة عن ذلك المنجم على توقيفه وتسْريح عماله ! متعلِّلةً بغلاء ثمن مادة الفحم الحجري في السوق الوطنية، وتراجع حجم الطلب عليه من قبل المستهلكين المغاربة، وكذا الصناعة الفرنسية والأوربية عامة. وبذلك، سيتحوّل منجم جرادة من "نعمة" إلى "نقمة"؛ بالنظر إلى ما أثاره ذلك القرار أحادي الجانب من تداعيات سَلبية، وما سبّبه من مشاكل اجتماعية وصحية للشغالين قاطبة؛ بحيث التحق هؤلاء بركْب المعطلين، وفقدوا مورد رزقهم الأساس، وأخذوا يعيشون ظروفاً صعبة لكونهم مسؤولين عن أسَر وأطفال، وأصيب عديدون منهم بداء خطير تسبّبت فيه أدْخِنة المنجم وبعض مكونات فَحْمه، يسمى "السيليكوز"...
ولمّا علم السارد – البطل بخبر التوقيف، أحسّ بالأرض تضيق به على رحابتها، وتأثر تأثراً عميقاً، ولم يهدأ له بال منذ سماعه النبأ من صديقه في العمل (عدنان). وما كان عليه إلا أن أسرع بالعودة إلى بلدته، على متن أول حافلة قادمة إليها، ليعرف، من كثب، جديدَ مدينته، وحقيقة ما يجري في منجمها؛ "رمز الحياة" فيها. وقد وصفت لنا الرواية طريق الرحلة وصفاً دقيقاً ينمّ عن صعوبة العيش في مدينة البطل وضواحيها التي يسودها الجَدْب والحاجة والتهميش، ووصفت إحساس البطل العائد الذي رانَ عليه القلق والحزن. وممّنْ تعرّف إليه على متن الحافلة شخص ستيني أفنى زهرة شبابه عاملاً في منجم جرادة الفحمي، وخرج منه متقاعداً مريضاً بالسيليكوز، وهو "معمر" المغربي الأصيل الذي لم تنلْ منه مُغريات المستعمِر شيئاً، وظل متمسكاً بأخلاقه ومبادئه، وعليه فقد عاش على الكفاف والقناعة مع زوجاته، وآخرهنّ "عبّوش" السُّوسِية.
وبعد ساعات، وصلت الحافلة إلى وجهتها المقصودة، فنزل البطل، مغتمّاً متذمِّراً، ليجدَ أجواء بلدته قد تغيّرت تغيرا ملحوظاً، وخبرَ التوقيف منتشِراً بين الناس حتى صار على كل لسان، وبكل اللغات واللهجات. وكان أبرز ما لفت انتباهَه جماعة من الشغالين والسكان يتظاهرون وسط البلدة، رافعين شعارات مندِّدة بالأوضاع المُزرية التي نجمت عن التوقيف، ويتوسّطهم خطيبٌ يخطبُ في المتظاهرين، ويتوعّد المسؤولين بالتصعيد النضالي في حال استمرار مشاكل الشغالين مع الشركة المُشغِّلة. وعرف البطل من كلام هذا الخطيب، الذي لم يكن موضع ترحيب لدى بعض المحْتجّين، أنه قد شُكِّلت لجنة نقابية تمثل العمال، عُهِد إليها بمهمة التفاوُض مع المسؤول الحكومي الكبير، في المركز/ العاصمة، لإيجاد حلٍّ مُرْضٍ للجميع. ومما سمعه البطل من خطبة هذا الخطيب قوله: "طبْعاً سيكون موقفنا – كما عهدتم فينا دائماً – هو الرفض.. طبعاً الرفض؛ لأن مستقبَل المدينة لن يضيع بهذه السهولة..." وبعد إعلانه موقفَ الشغالين هذا، قال خطيب المتظاهرين موضِّحاً الإجراءَ الذي قام به ممثلو العمال لما انتهى إلى علمهم خبر التوقيف: "إننا حينما علمنا بالأمر شكّلنا لجنة من مختلف الشرائح الاجتماعية، رغبةً في عدم إقصاء أي طرف... ثم حاورْنا الإدارة، ونحن على علمٍ بأنهم سيتفهّمون الأمر، وحينما يتم التراضي بشأن الملفّ سنُخبر مَناديبَنا، وهم بدورهم سيشكّلون لجنة تتفرّع إلى لُجَيْناتٍ، واللجينات إلى لجيْنات، ولجيْنات اللجينات، ثم فروع لهاته اللجينات ! ... ثم تشكل مجموعة نهائية هي التي ستسافر إلى العاصمة، وتحاور الحكومة. ولا يُعقل أن تعود بخُفّي حُنين. إننا نفكر فيكم، فلا تخشوا شيئاً من هذا الجانب..."
إن هذه الإجراءات ورُدود أفعال الشغالين، ومعهم عامة سكان البلدة، تشي بدور فاعل للمجتمع المدني المحلي حِيال ما استجدّ في أعقاب اتخاذ قرار التوقيف؛ إذ تحرّكت بعضُ قُواه الحيّة، مسنودةً بالطلاب الذين عاد بعضهم إلى البلدة، بمجرد علمهم بذلك القرار، ليشاركوا في الاحتجاج والضغط، والتأمتْ في لِجان وتنظيمات تمثل مختلف أطياف المجتمع، يحرّكها وعْيٌ، وإنْ كان بسيطاً، ينمّيه الإحساسُ العميق بالمواطنة والغَيْرة على الأرض والاعتزاز بالانتماء. وسعت هذه الهيآتُ المدنية إلى محاورة المسؤول عن المنجم، وإبلاغه صوتَ الشغالين وانشغالاتهم، أملاً في التوصُّل إلى حلّ متوافَقٍ بشأنه بين شركة المنجم والعمال، يُجنّبهم المعاناة، ويَحُولُ دون اللجوء إلى تصعيد الاحتجاجات محلّياً ووطنياً. وقد تواصلت اللقاءات بين اللجنة المُنتدَبَة لتمثيل الشغالين وبين المسؤول الحكومي الكبير، وتكررت الزيارات إلى العاصمة، وأهلُ البلدة جميعاً يترقّبون بفارغ الصبر نتيجةَ تلك اللقاءات والمفاوَصات. يقول السارد واصفاً ذلك الترقب: "المدينة أشْبَه ما تكون بشخص تحمله عصوان، اجتمعت عليه كل العِلل، وليس بينه وبين حتْفه إلا أن تنكسر العصوان أو إحداهما فيخرّ دون حراك. الجسدُ المتهالك ما عاد يَقوى على المزيد. عَدِمَ المُعين، وافتقد السنَد. والعلة تسري منه مسْرى الدم.. لم تصبْ بعدُ سُويْداء القلب.. ! "
وعلى الرغم من توالي المفاوضات إلا أن أي نتيجة لم تتحقق لمصلحة الشغالين، بل تحسَّس البطلُ وجودَ صفقة بين طرفي التفاوض لإقبار الملف نهائياً، وتنفيذ قرار الشركة المشغِّلة ! وهو ما تبيَّن، بالفعل، فيما بعدُ؛ إذ كان يَجْري مَن انتدبه العمال للنيابة عنهم في الحوار مع الإدارة العليا بالعاصمة وراء مصالحهم الفردية أو الجماعية الضيّقة، وكانت مصلحة البلاد والعباد آخرَ ما "يناضلون" من أجله ! وتسرّبت إشاعاتٌ من تلك المفاوضات عن مخرج جرت بلورته فيها لإقناع الشغالين بقبول قرار التوقيف طوعاً، مقابل تسلم تعويض، وهو "أن المناجم قد استنفدت طاقتها، وأن سعر الفحم أكثر غلاءً لحدّ لا يتحمّله السوق الوطني" . ومن أولئك الانتهازيين الذين كانوا يتلاعبون بمصالح الشغالين، ويَجِدّون في تحقيق مآربهم الشخصية، وتقوية مراكزهم، وتنمية ثرواتهم على حساب الأجَراء المُسْتضْعَفين، "البدري" الذي كان شخصية نافذة في المجتمع الجْرَادي، ذا مكانة راقية فيه واعتبار خاصّ لدى أبناء المدينة الذين كانوا يجيبون حين يُسْألون عن البدري: "دعوة الشريف ليس بينها وبين الله حجاب ! " ، ولكنه، في الحقيقة، كان، كما يقول السارد، "يبيع ويشتري، وخيوط اللعبة مكشوفة" . إذ كان يجتمع بأطراف المفاوَضة، ليلاً، في حمّام الحيّ، الذي يملكه، لبحْث مخارج أزمة الشغالين بما يخدم مصالح المسؤولين عن الشركة والانتهازيين الذين يؤيّدونهم لقاءَ حصولهم على مكاسب، وذلك على حساب مصلحة العمال المتضرِّرين. ومما قام به ليَضْمَن التحكم في بعض مُنتدَبي الشغالين أنه جعل على رأس إحدى النقابات العمالية ابنه الأكبر !
يظهر، إذاً، أن بعض تنظيمات المجتمع المدني قد خرجت عن السكة الصحيحة، وأصبح دورها سلبياً، بدل أن يكون خدمة المواطن والصالح العامّ، والانتصار للمظلوم والمُسْتضْعَف. فهي، مجسَّدة في تلك النقابات التي أوكِل إليها الحديث باسم الشغالين، كانت تجتهد في تحقيق أهدافها ومصالحها المحدودة، وتُساوم وتُفاوض لنيْل مبتغاها مُمْتطيةً ظهْرَ الطبقة العاملة المتضررة من قرار التوقيف المفاجئ. وبعد توالي الأيام، بدأت تنكشف خيوط اللعبة للشغالين ومتنوِّري المدينة، الذين يئسوا من المفاوضات التي يقودها مَن اختاروهم لتمثيلهم، نقابياً، ولمحاورة المسؤول الحكومي الكبير باسمهم ! وكان متوقَّعاً، بناءً على حقيقة تلك اللقاءات، ألاّ يتحقق أي مكسب للعمال. الأمرُ الذي سيُفاقِمُ الأوضاع، ويزيدها تعقيداً وتأزيماً، ويُنذر بتصعيد احتجاجي وشيك.
وبينما كان أهلُ البلدة يعيشون أوْجَ الانتظار والقلق، فاجأتْهُم إدارة الشركة بتأخُّرها عن سَداد مرتّباتهم آخرَ الشهر، بل شمل ذلك، أيضاً، الشهر الذي تلاه ! وهو ما سيضرّ بهم، حتماً، لاسيما وأنهم فقدوا مصدر رزقهم الذي به يَعْتاشُون، ويُعيلون أُسَرَهُم. ولم تبقَ قوى المجتمع المدني المحلي مكتوفة الأيْدي حيال هذا المستجدّ الخطير، لذا قامت أشكالٌ من التضامن والتكافل بين أهالي البلدة البسطاء، وتكوّنت جمعياتٌ للتخفيف عنهم من وطأة الأزمة؛ كتلك التي كوَّنتْها عبّوش، بمساعدة عدد من مُحْسِني البلدة، لإقامة ولائمَ ووجباتِ غذاءٍ بسيطة بغية إطعام الجائعات وصغارهنّ وغيرهم من المحتاجين؛ بحيث كانت تُعِدُّ لهم وجبة شعبية معروفة، لدى أبناء الشرق المغربي، بـ"كارانْ". وقد دفع عبّوش إلى هذا التحرك الاجتماعي الإنساني تأثرُها العميق بمأساة أطفال البلدة، وضيق الحال بمُعيلهم، وإحساسها بضرورة أنْ تفعل شيئاً في مثل هذه الظروف العصيبة التي تمرّ بها جرادة، على الرغم من أنها كانت امرأة أمّية !
واختار بعض سكان جرادة بيع أثاث منازلهم، لتوفير حاجيات أبنائهم الأساسية، من قُوت وملبَس وتمريض، رغم محاولات عبّوش المتواصلة لثَنْيِهم عن ذلك، لاسيما وأنهم يعمِدون إلى بيعه بأبْخَس الأثمان ! ولكنّ الحاجة كانت أقوى، ولم يجدوا حلاّ سواه ! ولجأت نسبة مهمة منهم إلى طلب قروض من مُوسِري البلدة أو من المصارف، حتى صارت "ثقافة الاستيدان" منتشرة، بقوة، بين أبناء المدينة التي سُميت، لذلك، بـ"مدينة الاستيدان" بامتياز . وكان أصحابُ الدكاكين والمتاجر يشجعون الناس على شراء السلع والموادّ المختلفة، حتى وإنْ كانت أدْخلَ في باب الكماليات، على سبيل الدَّيْن، قائلين لهم: "ألِّي ماعَنْدُو كْرِيدِي ما عَنْدُو حَياةْ. مُولُ التّاجْ وْيَحْتاجْ. الدُّوَلْ لَكْبِيرَة وْفِيها لَكْريدِي" . والكلام بالدارجة المغربية، ومعناه أنْ لا حياةَ لمَن لا يَقترض من غيره، وأنّ الاستيدان شأنُ الجميع فقراءَ وأغنياء، بل إنه لا يُستثنى منه حتى الملوك والدول العظمى. واستلذ الناس طعْمَ الاستيدان، فأقبَلوا على اقتناء الأشياء دَيْناً، ومن الأثرياء مَن لجؤوا إلى حيلة خبيثة؛ وهي تقديم دُيون كبيرة، وأجهزة إلكترونية باهظة الثمن لطالِبِيها، مقابل أن يوقّعوا لهم شيكاتٍ على بياض ! وقد عاشوا النعمة، واستمتعوا بما ابْتاعوه مؤقتاً؛ لأنهم كانوا يراهنون على رفاهية العيش وإنْ قصُرت مدتها، بحيث كان الواحدُ منهم يردّد: "عَيّْشْني اليُومْ، واقْتَلْني غَدّا" (بالعامِّية المغربية). وقد تراكمت عليهم الديون، وشقّ عليهم أداؤها في حينها، لاسيما بعد تأخر تسلمهم أجورَهم؛ مما حذا ببعضهم إلى بيْع ما اشتراه لمَنْ كان البائع بنصف الثمن ! فاستفاد المُرابون، ونمت ثرواتهم، على حساب تأزُّم أوضاع المَدِينين.
ولما ضاقت الأحوال بالشغالين، وزادت أوضاعهم سوءاً، بعد تعنُّت الإدارة وعدم تلبيتها مطالبَهم، وبعد انقشاع تلاعُبات النقابيين الانتهازيين، قرّر هؤلاء الشغالون خوضَ شكل نضالي آخر أشدّ من التظاهُر داخل المدينة مدةً من الزمن، وهو الإضْراب والاعتصام الجماعي داخل ساحة المنجم إلى حين التوصُّل إلى حلّ للمشكل سَبَبِ كلِّ ما يُعانُونه من مشاكل. وقد وصفت الرواية هذا الاعتصام بأنه "عملية انتحارٍ جماعية، وقرار حاسِم بعدم العودة عمّا خُطِّط له..." . وشكلوا لُجَيْنَةً عُمالية تحسُّباً لأي حوار مرتقَب مع إدارة المنجم. يقول السارد في هذا الصدد: "اتفق الرجالُ أن يُنيبوا عنهم عشرة من ذوي الخبرة يتحدّثون بدلاً عنهم في حالة وجود مُحاور عن الطرَف المشغِّل... الترتيبات الدقيقة تعكس عُمق التفكير الجماعي.. حيث قضت بأن تتحصَّن الجُموعُ بمزيد من الدُّروع البشرية: رجال مترهِّلو الأجسام، متهالِكو البُنى، تنخُر العِلة العظْم ويجري صدأ الفحم منهم بمجْرى الدمّ.. في حالاتٍ مثل هذه يتشكل لدى الشغالين وَعْيٌ بسيط.. إحْساسٌ مُتعاظِم بالمسؤولية.. الفقر والجوع.. وحرب الأعصاب.. وبقايا أحاديث في الداخل تتنبّأ بغَليان اجتماعي على الأبواب.." . وتضامَن باقي أطياف المجتمع الجْرادي ومكوناته مع المُعْتصِمين، من نساء وصغار وتلاميذ وطلبة ومتقاعدين وغيرهم، لإدراكهم حجمَ خطورة مشكل التوقيف وتأخر تسْديد الشركة مستحقات عمالها الشهرية، على عموم ساكنة البلدة. وهنا يظهر الدور الإيحابي الفاعل للمجتمع المدني المحلي في التضامُن، ونُصرة المتضرر، والسعي إلى إحقاق الحق، والإيمان بنجاعة النضال السلمي في ممارسة الضغط وإرغام المحاوَرين على الإنصات لصوت المحتجّين. وكان يدفعُهم إلى ذلك الاعتقاد بعدالة قضية المحتجين، والإحساس بالمسؤولية، وكان تحركهم منظماً ومخطَّطاً له ينمُّ عن استبْطانهم وعياً متطوراً فطرياً في الغالب. وكان لكثير من مثقفي المدينة، المجسَّدين في القطاع الطلاّبي أساساً، إسهامٌ واضح في رَفْد "ثورة" الشغالين، ودعْمها من خارج مُعْتَصَمهم. واكتفى بعضهم بالتفرُّج على ما يجري، دون أن يبادر بفعل شيء في اتجاه تغيير الوضع وحلِّ مُشكلاته العالقة، ومنهم البطل الذي عَدَّ نفسَه سَلبياً، وليس مثقفاً عُضوياً، بالمفهوم الغرامشي، كما كان يُفترَض فيه أن يكون بحُكم أن ذويه مَعْنيون بتداعيات التوقيف، وأنه من متنوِّري مدينته الذين تُعلَّق عليهم آمالٌ عِراضٌ لخدمة أهلها، والوقوف بجنْبهم في الضّراء والسّراء معاَ !
لقد طالت مدة الاعتصام – وسط تجاهل المسؤولين ووسائل الإعلام شبه الكلي، مقابل تعاظم قلق الساكنة الجْرادية واستنفادها طاقتها على الجَلَد – حتى بلغت ثمانية أيام، بنهاراتها ولياليها. واستطاع المعتصِمون، بثباتهم هذا وصمودهم، أن يُجبروا المسؤول الحكومي الكبير على الجلوس إلى طاولة الحوار مع اللُّجينة النيابية التي شكلوها لدى انطلاق اعتصامهم. وممّا توصلت إليه تلك المحاورة ما صرّح به ذلك المسؤول قائلاً: "المفاوضات تلزم المشغِّلين إيفاء الشغالين القابلين لمبدإ التوقيف التطوعي واجبَ عشرين يوماً، كتعويض عن مرض مِهْني، أو حادثة شغل، وأن يتقاضوا أجوراً نهائية، مقابل مغادرتهم سوقَ الشغل..." . واتضح أن تلك اللجينة المُفاوِضة لم تسلمْ من ظهور انتهازيين فيها، قاصِري الفهم، عاجزين عن إدراك حقيقة ما يجري وأبعادِه العميقة. وبذلك، انزلق، مرة أخرى، هذا المكوِّن من مكونات المجتمع المدني عن مساره الصحيح، فدخل في مساومات مع إدارة المنجم العُليا، استفاد منها بعضُ الانتهازيين البراجماتيين المغفَّلين؛ مثل "بنعيسى"، جار معمّر، الذي كان أولَ المُستفيدين القابلين بخيار التوقيف التطوعي، مقابل تسلُّم التعويض الذي دشَّن صَرْفَه بطلاق أمِّ عياله، والتزوج بفتاة في سن ابنته الصغرى، على غرار ما فعله آخرون غيرُه من ذوي التفكير البسيط، والفهم القاصر لماجريات الأحداث، والذين لم يكونوا يَرَوْن في التوقيف المفروض عليهم "إلا جزأه الظاهر: نقود كثيرة.. زواج وطلاق.. خمر وأمْر، والبقية لن تأتي.." . ولم يكن جميع الشغالين قابلين الحلَّ الذي قدمه المسؤول الحكومي الكبير لتسوية ملفهم الشائك، بل انقسموا إلى فريقين؛ أحدهما رحّب بذلك الحل، وتسلم ثمن التطوع بترْك العمل في المنجم نهائياً، وأغلب أفراده رحلوا عن جرادة مباشرة، بعد ذلك، ليلتحقوا بأهاليهم في المناطق التي أتوا منها، أو ليقطنوا مدينة أخرى. وهؤلاء وصفهم الروائي، على لسان معمر يخاطب السارد، بالقول: "بني كلْبون.. هؤلاء الشغالون، يا ولدي، الرجل منهم حينما يجوع يأكل نفسَه، وحين يشبع يوزع الويسكي، ويغلق باب الدار... مدّعياً أن مَنْ فيه، وما فيه، هو تحت حسابه في تلك الليلة البيضاء... وكأنه حاتم الطائي.. في زمنٍ ولّى فيه الكرمُ الحاتميّ.. هؤلاء محكومٌ عليهم أنْ يظلوا "زلاليط" أبدَ الدهر.. ! " . على حين رفض الفريق الثاني، وأفرادُه قلة، تسلُّم التعويض، وأصرّ على الصمود والبقاء في البلدة، رغم صعوبة الحياة فيها بعد توقف منجمها نهائياً؛ مثل معمّر وزوجته الخامسة (عبّوش) اللذين لم يكونا من سكان جرادة الأصليين، بل وفدوا عليها من جنوب المغرب حين اكتُشِف بها ذلك المنجم. وبذلك، يتبدّى لنا تمزُّق شخصيات الرواية، وتضارُب مواقفها، وإنْ اتجه جلُّها إلى قبول الأمر الواقع، والاستسلام لقرار المُتحَكِّم في مصْدر رزقها. يقول أحد دارسي رواية جلول قاسمي، التي بين أيدينا، عن تلك الشخصيات إنها "شخصيات إنسانية فاعلة في واقعها ومنفعِلة به. إلا أن معظمها شخصيات إشكالية تعيش تمزقاً بين الذات والواقع، لتسقُط في الأخير في المصالحة مع الواقع، والتكيُّف معه، حينما اختارت التعويض حلاًّ لمصيرها، لتبقى الشخصيات الأخرى، ولاسيما المثقفة منها، شخصيات غير مُنْجَزة ينقصها الفعل التغييري، شاهدة على العَتَه والجُنون، دون أن تحرّك ساكناً أو تغيّر واقعها الذي فسّرته أيَّما تفسير."
إن المجتمع المدني، إذاً، حاضرٌ في روايتنا المدروسة مُمَثَّلاً، بصورة أساسية، في تلك اللُّجيْنات العُمّالية المشكَّلة لمُحاوَرة المسؤولين عن إدارة منجم "جْرادة" الفحْمي على المستويين المحلي والمركزي، وفي النقابات والأشكال النِّضالية والتحركات الشعبية المُحتجّة على سوء الأوضاع بعد صدور قرار إغلاق هذا المنجم وتسريح شغّالِيه، وفي الجمعيات التضامُنية التي تكوّنت بمبادرةٍ من بعض مكونات المجتمع المدني بجْرادة للتخفيف من آثار ذلك القرار القاسي على ساكنة البلدة. والواضحُ أن هذا المجتمع، في الرواية، لم يكن دوره إيجابياً، دائماً، بل انزلق، أحياناً، إلى معاكسة تطلعات الشغالين حين عمد بعض ممثلي العمال، الانتهازيين، إلى طرْق أبواب أخرى، في الخفاء، ليحققوا لأنفسهم الثروة والامتيازات والمناصب، مقابل التلاعُب بمصالح الطبقة العاملة الكادحة التي تضررت كثيراً بهذه التصرفات، وفقدت ثقتها بهؤلاء الممثلين؛ مما جعلها تقرر، في آخر المطاف، خوْض نضالات أكثر تصعيداً دون استشارة النقابات وممثِّلِيها السابقين !
الهوامـش:
* باحث من المغرب.
- صدر، مؤخراً، عن الدار العربية للعلوم، كتابٌ للأديب السوري نبيل سليمان، في هذا السياق، بعنوان "الرواية العربية والمجتمع المدني".
- أمين الجوطي: المجتمع المدني والمجتمع السياسي والدولة.. أية علاقة؟، جريدة "المساء"، المغرب، ع.1333، الأربعاء 5/1/2011، ص 8.
- ج. لوك: في الحكم المدني، تر: ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت، ط 1959، ص ص 189- 190.
- كمال عبد اللطيف: مفهوم المجتمع المدني، مجلة "آفاق"، اتحاد كتاب المغرب، ع.3/4، 1992، ص 216.
- محمد سبيلا: هل هي فكرة سابقة لأوانها؟، آفاق، ع.3/4، ص 229.
- الحبيب الجنحاني: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، من منشورات سلسلة "الزمن"، الرباط، ع.49، 2006، ص 85.
- B. Bertrand: Sociologie politique, P.U.F, Paris, 1979, P 105.
- الحبيب الجنحاني: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، ص 32.
- نقلاً من "آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي" لثناء فؤاد عبد الله، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط.1، 1997، ص 285.
- الحبيب الجنحاني: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، ص 57.
- محمد مورو وعبد الغفار شكر: المجتمع المدني ودوره في بناء الديمقراطية، دار الفكر، دمشق، ط.1، 2003، ص 107.
- الحبيب الجنحاني: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، ص ص 33- 34.
- نفســه، ص 55.
- نفســه، ص 82، بتصرف.
- فتح الله ولعلو: المجتمع المدني والتنميات الثلاث بالمغرب، آفاق، ع.3/4، ص 208، بتصرف.
- جلول قاسمي: سيرة للعته والجنون، تق: نجيب العوفي، مطبعة تريفة، بركان، ط.1، 2002، ص 8.
- نفســه، ص 13. (من التقديم)
- جميل حمداوي: (سيرة للعته والجنون) رواية منجمية، دراسة ضمن كتاب "ظلال الكاتب: مقاربات في تجربة جلول قاسمي الروائية"، محمد قاسمي، من منشورات كلية آداب وجدة، المغرب، نشْر شركة مطابع الأنوار المغاربية، وجدة، ط.1، 2011، ص 47.
- نفســه، ص 50.
- نفســه، ص 64.
 
أعلى