نقوس المهدي
كاتب
شرب هركول بوارو جرعة من مشروبه وتأمل في مشهد "بحيرة جنيف".
تنهّد.
وكان قد أمضى صبيحة ذلك النهار في مفاوضات مع بعض الشخصيات الديبلوماسية، وكانوا جميعهم في حال من الهيجان القوي، وشعر انه متعب. لأنه اعترف لنفسه بأنه لم يتمكن من خدمتهم لحل بعض مشكلاتهم.
كان العالم على وشك الانهيار: وكل الدول كانت على وتيرة "من يعش" وفي حال من الإنذار الشديد.
من دقيقة الى أخرى، كانت المقصلة على وشك الانقضاض وأوروبا كلها ستجد نفسها ثانية غارقة في الحرب.
ثم توقف لحظة وفكّر بكل حسّه اللاتيني بأن كل الأفكار التي تضرب في رأسه غير مجدية. وغير قادرة على الوصول الى أي نتيجة. من ناحيته، لم يكن يوماً يمتلك موهبة ايقاظ الحمية. أما اختصاصه فكان بكل تواضع الذكاء. ومع هذا، فإن الرجال الذين يمتلكون ذكاءً حاداً لا ينجحون في ان يكونوا قادة أو خطباء عظماء. ربما لأنهم يتمتعون بالحيلة والذكاء الكافيين لعدم الوقوع في تصديق خطاباتهم.
"أخيراً... لنتصرّف ونفكّر كالفلاسفة، قال لنفسه هركول بوارو. الطوفان لم يأتِ بعد. وبالانتظار، أجد ان هذا المشروب لذيذ، وان الشمس تلمع، كما ان البحيرة زرقاء والاوركسترا جيدة. وماذا سأطلب أكثر من ذلك؟ (...)
في مساء اليوم التالي، دعا الدكتور كايسرباخ هركول بوارو الى الغرفة الفخمة التي ينزل فيها.
تذوق الرجلان مشروب كونياك رائعاً وتبادلا أحاديث غير مهمة.
وبعد لحظة، بادر كايسرباخ الى القول:
ـ بالأمس، سيد بوارو، صديقتنا المشتركة والساحرة (ن.د.ل.ر) أو الكونتسة فيرا روسكوف) قالت أشياء مهمة عنكَ.
ـ آه، أصحيح هذا؟
ـ لقد تلفظت بالجملة التالية: انه قادر حتى على إقامة الموتى وإعادة إحيائهم (...)
كانت ردة فعل هركول بوارو سريعة بعض الشيء.
ـ وهل ستطلب مني ان أجعل ميتاً يعود الى الحياة؟
ـ ربما، وإذا طلبت، ماذا ستقول؟
قام هركول بوارو بحركة من كتفيه.
ـ الموت، يا سيدي، يسير في اتجاه واحد.
ـ ليس دائماً.
ـ أصبحت عينا هركول ذات اللون الأخضر أكثر تركيزاً.
ـ إذاً أنت تريدني أن أعيد الى الحياة إنساناً ميتاً، أهو رجل أم امرأة؟
ـ انه رجل.
ـ ومن هو (...)
ـ في دقيقة، ستفهمون. في البداية، أنا لا ادعى كايسرباخ. لقد استخدمت هذا الاسم لأمرّ من دون ان يلحظني أحدهم.
اما أسمي الحقيقي فمشهور للغاية. على الأقل، هو مسموع بكثرة منذ نحو الشهر: لوتزمان.
تلفظ الأسم بنبرة قوية وهو يتصفح في الوقت نفسه الانفعالات على وجه بوارو.
ـ لوتزمان؟ ردد المحقق وهو يبدي استغرابه ثم سرعان ما استدرك الأمر، فأضاف بصوت يقارب اللامبالاة: هانز لوتزمان؟
فأعلن الثاني بصوت حاد وعلى شيء من القسوة:
ـ هانز لوتزمان كان ابني...
ولو أنك سألت، قبل شهر على الأقل، لأي بريطاني عن المسؤول عن كل الاضطرابات في أوروبا، لأجابك وبكل تأكيد: "هرتزلين".
وبالتأكيد، كان هناك أيضاً بوندوليني، لكن المخيلة الشعبية كانت تصبّ كلها على أوغست هرتزلين.
كان مثالاً للديكتاتور. أما تصريحاته الحربية فكانت تثير حماسة شباب وطنه وشباب البلدان الحليفة.
كان هو الذي وضع أوروبا الوسطى في النار والدم وكان هو من جعلها في موقع الفوران.
وخلال أحاديثه وخطاباته الشعبية، كان موهوباً في جعل الحشود الهائلة تتفاعل وتشرقط بحماسة هائلة. كان صوته العالي والقادر على التبدّل والتحوّل يجعله يملك سلطة لا مثيل لها على مستمعيه.
أما الأشخاص الذين كانوا على بيّنة من كل الأمور كانوا يشرحون للآخرين ان هرتزلين لم يكن القائد الأول في تلك الامبراطوريات المركزية (...)
وكانت تسري بعض الشائعات المتفائلة هرتزلين مصاب بداء السرطان وحالته لا شفاء منها، ولم يبقَ.
ولم يبق له أكثر من ستة أشهر في الحياة
ولكن على رغم كل هذه الشائعات، لم يَمت هرتزلين اثر أزمة قلبية، ولا مات بسبب داء السرطان ولا هو دخل الى دير، ولا هو هرب مع روسية يهودية.
بل استمر في تحريض الحشود، وعلى مراحل متقطعة، كان يضع على لائحته بلداناً جديدة ستدخل وتضاف الى الامبراطوريات المركزية والوسطية. ومن يوم الى يوم، بدأ شبح الحرب يسيطر على أوروبا. (...) ثم مرّ أسبوع لم يتطرق فيه هرتزلين الى الخطابات الشعبية، فتوطد الأمل من جديد في نفوس الناس بأن إحدى الشائعات هي ربما حقيقية.
ثم، جاء خميس اسود، تحدث فيه هر هرتزلين اثر لقاء له مع "اخوة الشباب" (...)
بدأ الخطاب كالمعتاد. وبأن الخلاص سيأتي من التضحيات ومن قوة السلاح. وكان على الرجال ان يؤدوا واجب الموت من أجل بلدانهم، وإلا ستكون حياتهم مذلّة. أما البلدان الديموقراطية، وفي خضم جبنها، فقد كانت خائفة من الحرب ولم تكن تستحق الحياة. وأمام هذا الواقع، فهي تستحق الخراب والدمار بقوة الشباب المنتصرة!
قاتلوا! قاتلوا! أيضاً وأيضاً لتحصلوا على النصر ولترثوا الأرض!
وعند اندفاعه وأمام قوة انفعالاته، ابتعد هرتزلين من وراء مخبئه المحصّن. وفي لحظة، انطلقت رصاصة... وسقط الديكتاتور مصاباً برصاصة في رأسه.
وفي الصف الثالث من بين الجمهور المحتشد، كان ثمة شاب يحمل المسدس بيده وسرعان ما قطّعه الحشد من حوله إرباً. كان ذاك الشاب مجرد طالب يدعى هانز لوتزمان.
وفي خلال أيام، استعاد العالم الديموقراطي الأمل.
مات الديكتاتور. والآن، هل سوف نشهد السلام يعمّ العالم؟ ولكن للأسف، سرعان ما سقط الأمل في الظلمة. لأن ذاك الذي مات أصبح رمزاً، شهيداً، قديساً (...)
أما أولئك الذين كانوا من دعاة السلام، فهم فهموا في لحظة ان موت هرتزلين لم يخدم في شيء. بل على عكس ذلك، فقد سرّع في مجيء ذاك اليوم المقدّر.
والعمل الذي قام به لوتزمان صار بكل بساطة الوسيط الذي أوصل الى الهدف المنشود. (...)
-----------------
تقديم وترجمة: كوليت مرشليان
ذات يوم ذكرت الأديبة البريطانية المبدعة آغاثا كريستي (1890 1976): "من أكثر الأمور التي لم تسترعِ انتباهي في حياتي الكتابية هي السياسة"، وقد قالت ذلك في مقابلة في العام 1970. لكن يبدو ان هناك استثناء وهو نص: "أسيرة حارس شرس" وهو تكملة للمجموعة القصصية (وعددها 11 قصة قصيرة) نشرتها ضمن سلسلة "من أعمال هركول" في مجلة "ستراند" بين العام 1930 والعام 1940.
و"اسيرة حارس شرس" هي القصة رقم 12، كتبتها عام 1939 ولم تنشرها لسبب بسيط وهو ان بطلها في القصة هو صورة طبق الأصل عن الفوهرر هتلر، أما كل تفاصيل القصة فهي تتطابق مع مسيرته السياسية وخطاباته.
عام 2004، وبعد موت روزاليند، الأبنة الوحيدة لصاحبة "عشرة عبيد صغار"، وبعد تحويل منزل الكاتبة الى متحف تمّ العثور على المخطوط المذكور من بين 73 مخطوطاً. وكل هذه الكتابات غير منشورة وفيها لائحة هائلة من الشخصيات المدروسة بشكل جانبي من قبل المؤلفة الى جانب أوراق أخرى فيها دراسات لأمكنة القصص وتفاصيل الجرائم وغيرها... أما نص "أسيرة حارس شرس" فقد درسه الباحث جون كوران لفترة أربعة أعوام وأصدره بعنوان "دفاتر آغاثا كريستي السريّة"، نقتطف منه بعض الفصول وننقلها الى العربية:
* (أعمال هركول، xii)