نقوس المهدي
كاتب
لا شيء جميل في حد ذاته. الجميل هو المنعكس.
من الأشياء في الصور والأصداء
من الطبيعة في الفن.
من الماضي في الذاكرة
نعرف منذ أرسطو أن كل منعكس جميل، حتى القبيح.
غير أن الفن اليوم ليس علاقة خارجية بين الشيء والصورة بل هو علاقة داخلية بين عناصر الصورة نفسها. وجمال الفن حين يعكس بعضه بعضا لا حين يعكس الخارج.
الفن نحويا هو خلق إمكانية لعودة الضمير، ذلك أن الشعر في العمل الفني هو الضمير العائد: صويت صغير مبهم لا معنى له في حد ذاته، ولا معنى له خارج الجملة، ولكن تمهد له وتخدمه، هو معناها الذي يبلورها، هو روحها، أو هو الجني الذي يسكن واو الروح، على حد تعبير شاعر تونسي.
القصة جملة فنية، والشعر فيها شبكة من الضمائر العائدة المتصارعة، يمكن أن نقاربها من ثلاث زوايا:
ا - الإيقاع: الذي يعتمد في القصة على عنصرين:
1- الميلوديا: وتتجلى في الأصوات المترددة، ذلك أننا، ونحن نكتب، نهتم أولا بالتلفظ الساعي إلى الإبلاغ، التلفظ الفارق بين الأصوات من أجل الدلالة، ولكننا حين نتقدم في الكتابة نهتم أيضا بالتصويت: ترديد الأصوات وتكرارها ولغلة الكلام كالأطفال والطيور، لما في تجانس الأصوات وترددها من جمالية خاصة. ويدهشنا أننا في طريقنا الصوتي نحو جمال الدلالة، خلقنا طريقا دلاليا نحو جمال الصوت.
2- الهارمونيا: وتتجلى في الوقفات والفواصل، التي لا تتشابه صوتيا، ولكنها تتوافق فيزيائيا ونفسيا، لأن السجع كالزليج أبكم، وأن الإيقاع القصصي في القطار لا في المحطات، ولأن لوقفات القصة زمنا ليس كالزمن الميلودي للجناس والقوافي والأسجاع، بل هو زمن هارموني يتحدد بالوظيفية والتعالق، يربط بين الآفاق الرحبة المتباعدة، وتتسم آناته السريعة بالدقة والرهافة. ولكن بالوضوح والصلابة والحدة، وقفات دقيقة صارمة صلبة كقرون الوعول في ضوء الشمس، أو كأنامل راقصات الباليه تحت أضواء المسرح.
إن الضمير الشعري في الإيقاع يعود أفقيا إلى ما سبق من الأصوات المتجانسة والوقفات المنتظرة.
ج - الإيحاء: ومن مكامنه اللانهائية في القصة:
1- تعدد الدلالة واحتمالات التأويل في العنصر الواحد.
- كالهويات المختلفة للشخصية الواحدة (راو وبطل ومساعد وعائق..الخ) مثلا، أو الهوية الملتبسة لشخصية شاحبة لا تدخل إلى القصة كالشخصيات الأخرى في موكب من الضجيج الإعلامي، لا تدخل بحكاية جديدة أو تحت عنوان جديد أو بتكرار لازمة.. تبقى على العتبة لاى تدخل ولا تغيب. تراها هناك مرة كلما سقط عليها ضوء فنار السرد، لا تضحك ولا تبكي ولا تحكي ولا تقول ولا تتحرك، فقط تبتسم أو تهمس أو تشرد أو ترتعش. حتى إذا انتهت القصة عرفنا أنها قد تكون أم العروس: التي تطبخ طعام العرس وتنسج فرحته، لتموت حين تكتمل القصة العروس وتبدأ حياتها المستقلة، ليست هي الراوي ولا المؤلف ولا البطل...الخ هي مجرد قبة ترد الأصداء أعمق من أصواتها وأحفل بالسر وأخفى.
- وكالدلالات المختلفة للكلمة الواحدة، فحين يقول بورخيس عن إحدى شخصياته النسائية:" كانت تعرف تقدر فكر أصدقائها، وحتى صديقاتها" تتصادى المعاني المختلفة لكلمة "حتى" هنا:
- معنى هو أن النساء أقل اعتبارا في الفكر من الرجال.
- ومعنى هو أن المرأة والرجل سواء في الفكر، ولكن المرأة لا تقدر فكر المرأة.
- ومعنى هو أن المسألة ليست مسألة تقدير، بل مسألة معرفة كيفية التقدير، مسألة رهافة نسائية خاصة في الإحساس لها سلم من الدرجات تعكسه كلمة " حتى"
- وأخيرا ربما كانت " حتى" هنا زائدة كما يحلو لبعض النحاة أن يقولوا عن بعض الأدوات، أو أن وظيفتها صوتية لا دلالية : بناء تمساك صوتي محض للجملة في اللغة الإسبانية، تفقده أو تفقد بعضه في الترجمة.
ولكن هذه الدلالات على تعددها تتعايش كالضرائر في نفس
الغرفة الصغيرة "حتى" ويعكس بعضها بعضا ويذكر بعضها ببعض .
2 ـ التركيب الجيولوجي للقصة:
إن القصة لا تبدأ من البداية إلى النهاية كما يوحي بذلك مظهرها الخطي، ولا تبدأ من النهاية إلى البداية كما قد يوحي بذلك منطقها السردي.
ربما كانت القصة لا تسير بل تصير:تولد كاملة منذ اللحظة الأولى،ثم تبدأ في التحول والتشكل بالحذف والإضافة،وكل لمسة ريشة، تفجر تفاعلا كيماويا بغير البنية كلها أجهزة ووظائف وعلاقات ويعيد بنيتها من جديد في كل مرة.
ولكنها تحتفظ في نسختها النهاية بآثار من حيواتها المتناسخة السابقة إن المسودات لا تمزق أو تحرق أو ترمي كما يتخيل الكتاب، بل ترسب في قاع القصة إلى الأبد مكونة لاشعورها وغرائزها البدائية، أين تظهر هذه الحيوات؟ في شكل تفاصيل صغيرة ينسى الكاتب-أو يخيل له أنه نسي – حذفها من الشكل النهائي للقصة رغم أنها لا تتسق مع نظامه ورغم أنها تبدو-حين تطفر فجأة في منعرج جملة-ناشزا شاذة غير طبيعية كالأحلام. هذه التفاصيل الصغيرة الخارجة عن النسق هذه الثقوب السوداء، هي التي تبرز النسق وتحـيـيه،ويجعلنا مجرد وجودها نحس نفاسته وعراقته وتقويمه الأحسن بالنسبة للأنواع التي انحدار منها فإذا قيض لها ناقد ستراوسي، تحولت من كلام إلى لغة، ومن نشاز إلى نسق وحولت معها الجرم الصغير للقصة إلى عالم أكبر.
3 ـ الغواية
إتاحة الفرصة للقارئ لارتكاب الشر، أي لتحقيق أحلامه الخبيثة في إطار من إبراء الذمة ينسبها للكاتب.
هذا ما يسميه هيمنجواي (الإغفال) حين يقول عن إحدى قصصه:
" كانت قصة بسيطة أغفلت ذكر نهايتها الحقيقة، وهي أن الشيخ شنق نفسه، أغفلت ذلك حسب نظريتي بأن بوسعك إغفال ذكر أي شئ، إن كنت تعلم أنك تغفله، وأن الجزء المغفل سيقوي القصة ويجعل الناس يحسون بشئ هو أكثر مما فهموا.
وهكذا يقف الكاتب أحيانا ويطلب منا أن نتابع السير وحدنا بعد أن يعطينا مصباحا طبعا، وفي شكل تفاحة ربما .
يقول الشاعر الروسي الكبير بوشكين في إحدى قصصه القصيرة "وشيئا فشيئا استسلمت لحلم وفكرت… ولكن هل من الممكن أن نحدد بدقة ما فكرت به آنسة في السابعة عشرة" وهي وحيدة في الغابة، في الساعة السادسة، من صباح ربيعي؟" ذلك كل ما يقوله بوشكين عما فكرت به الفتاة ولكن ماذا عساه يقول أكثر من ذلك ؟ كناطور طيب سلم لنا التفاحة، وعلينا نحن أن نكمل الباقي.
إنها الطريقة التي كان الشاعر العربي القديم يعبر عنها بكلمة صغيرة مرهفة هي "ما" : " ما الغاوية":
دعتني أخاها أم عمر ولم أكن
أخاها - ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعدما كان بيننا
من الأمر ما لا يفعل الأخوان
وماذا كان بينها؟ يجيب شاعر آخر بنفس الـ"ما" أي بغواية أخرى :
وكان ما كان مما لست أذكره
فظن ماشئت، لاتسأل عن الخبر
4 ـ الموضوع:
القصة لا تصنع من مواد خام، بل تركب من مواد مصنعة. وعلى أي حال، فالكتاب أيضا لم يغادروا من متردم.
حين أبدأ الكتابة عن القريب اللدود، عن العلاقات الخطرة بين أفراد العائلة، أتذكر قابيل وهابيل، يوسف وإخوته، الإخوة كارامازوف – الصخب والعنف – ثلاثية نجيب محفوظ … حتى يذوب الموضوع تماما، ويصبح موضوع القصة أخيرا هو المعالجات السابقة للموضوع، هو زاوية النظر لا المنظر.
وحين أقرأ في محمد خضير :"على جانبي النافذة كانت جواري السجادتين المعلقتين، تبارك اشتياق القلب المدمر على مرآة منضدة الزينة" أكاد أصاب بالدوار. فكل من النافذة والسجادة المصورة و مرآة منضدة الزينة مطال مركبة: شرفات أطل منها على مطال أخرى.
ثم إن الكاتب نفسه يقول في قصة أخرى:
"تحت أقدام الأسد الهائج في سجادة الحائط فوق السري"، فأتصور أن السجادة المصورة عند محمد خضير ثيمة لا أداة. هذه الرؤية إلى الأشياء في الفن لا في الحياة، هاجس الوجود المنعكس، هذا هو الذي يبعث في سطور الكاتب العراقي جده القديم أبا نواس الذي يقول:
تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مها تدريها بالقسثي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
5 ـ الفوضـى:
إشعال النار في أنظمة إدراك القارئ للقوانين الطبيعية والاجتماعية والمعرفية والأدبية، من خلال عناصر الخرق والحلم والعبث وتراسل الأجناس. وبذلك تختلط مجالات المعرفة و تتلاقح، قبل أن تفترق من جديد، بأسماء جديدة، على طريقة المغاربة في إعطاء النبات اسما إذا أرادوا أن يأكلوه.
وهكذا تتعدد الأسماء بتعدد القراء، وتعتبر القصة بهذه الأسماء: فنا راقيا أو محاولة تجريبية أو تخريبية، أو لغوا وسخافة حسب قيمة الخسائر التي أحدثها الحريق في أقبية القراء.
إن الضمير الشعري في الإيحاء، يعود عموديا إلى المداليل الأبعد والطبقات الأعمق، والبؤر الأغور.
ب ـ البناء
1 ـ بناء الكاتب للقصة:
وتبدو شبكة الضمائر العائدة من هذه الزاوية، تكون القصة أجزاء متمارية أو خطابات متماهية أو أجناسا أدبية متداخلة أو لغات بعضها (ميتابعض). وهنا يدق الطريق حتى يضارع الصراط. لأن كل جزء ينبغي أن ينعكس في مرآة الجزء الآخر دون أن يرى نفسه فيها، دون أن يشعر القراء بأنه يعي أنه يصور. ما أن يرى نفسه حتى يصبح حجرا … يجف الماء وتفشل القصة.
2 ـ بناء القصة للكاتب:
يقول فرناندو أرابال:
"نادرا ما حدث لي وأنا ذاهب إلى الشاطئ
أن قرأت على الماء كلمة: "بحر".
ونادرا ما حدث لي وأنا أقترب من الجبل
أن رأيت على جانبيه كلمة : "جبل".
لكن، كلما جلست لأكتب، أرى على الورقة البيضاء ثلاثة أحرف كبيرة"أنا".
والكاتب يشتغل على هذه الأحرف الثلاثة الكبيرة : نحتا وحذفا وتشطيبا ومحوا وإعادة بناء. إن قوس نصر القصة يرتفع فوق مقبرة للشهداء. هؤلاء الشهداء هم الأجزاء العميقة من نفس الشخص الذي يتحول كاتبا:
فلو أنها نفس تموت جميعة
ولكنها نفس تساقط أنفسا
ولكن: ماذا تستفيد يا سقراط من العزف على القيثارة، مادامت ستموت؟ يجيب سقراط: العزف على القيثارة.
لم انظر فيما سبق إلى الشعر في القصة كأبيات تتخلل السرد، بل حاولت أن أنظر إليه كحركة بين أطراف القصة، كهرباء بين قطبيها، كفرح شيلري. يقول شيلر عن الفرح:
"هو الشهوة في الحشرة
وهو الله في الملاك"
وهكذا أيضا الشعر في القصة: المكر والشيطنة والخروج الصبياني عن الأنظمة والولع المرضي بالفوضى والنشاز والنقص. وذلك أن كمال القصة في نظري هو توازن نقائصها.
أما الذين يطالبون القصة وينتظرون منها أن تكون بدون نقائص فإننا نقول لهم ما قاله ديمتري كارامازوف لرهبان الدير:
" الكيمياء تتقدم … أفسحوا الطريق…".