نقوس المهدي
كاتب
في النصف الأول من القرن الثالث الهجري رسم الجاحظ كيفية انهيار مكانة القصّاص في الأدب العربي القديم، أو ما اصطلح عليه بـ «فساد عرق القصّاص» فقد أرّخ لمجتمع القصّاص في البصرة، حيث بدأت تظهر، منذ وقت مبكر، أهمية هذه الجماعة التي اجتذبت إليها الأسماع، وقد بيّن لنا ابن عون، وهو من رجالات النصف الأول من القرن الثاني، كيف كان مسجد البصرة يغصّ بحلقات القصاص، حتى اختفت حلقات الفقه، وتوارت، فلم تبق إلا واحدة، لم يعد أحد يجلس إليها، أما الجاحظ المعمّر، والبصري الأصيل، فهو من كبار شهود العيان على تحولات القصّاص، والبخلاء، والظرّف، والجواري، والموالي، والقيان، وعموم المهمّشين في البصرة حيث نشأ وسط تلك الجماعات، وتعلّم طقوس القص، وأصغى بعمق إلى القصّاص
كانت البصرة المكان الأول للترجمة قبل أن تنتقل إلى بغداد نحو نهاية القرن الثاني بعد أن امتصّت العاصمة معظم الكتاب والشعراء والعلماء إليها، وهنالك تعرّف الجاحظ على التداخلات الأولى للثقافات العربية، والفارسية، والهندية. لم يخبُ وهج البصرة بظهور بغداد، وكانت تبلورت فيها من قبل أهم اتجاهات الفكر، والأدب، واللغة، والرواية، وأسهمت في ذلك أعراق كثيرة، وهذه الخلفية تضيء لنا تفسير الجاحظ للانكسار العام الذي لحق بالقصّ، حينما اختار لذلك أعرق سلالات القصّ، عائلة الرقّاشي الكبيرة، وهي سلالة مارست الخطابة والقصّ عبر القرون منذ عهد الأكاسرة إلى العصر العباسي، وعرفت التحولات العرقية والثقافية والدينية
رأس الأسرة الرقاشية، هو الجد الأعلى، وكان من خطباء كسرى، ولما انهار ملك الأكاسرة جرى تحوّل كبير في حال السلالة لكنها حافظت على القصّ. ظهر أول شخص معروف في ظل الثقافة العربية - الإسلامية، وطُمست الجذور القديمة بطمس ثقافة أهلها ودورهم. هذا الشخص هو أبان الرقاشي الذي عاش في وقت مبكر من القرن الأول، وأنجب ولدين: عيسى ويزيد، وكل منهما مضى يعمّق مسار الأسرة، وهو احتراف القصّ والخطابة. كان يزيد من أصحاب أنس بن مالك والحسن البصري، وكان يقصّ، ويعظ، ويتكلّم، في مسجد البصرة في حدود نهاية القرن الأول، فالحسن توفي في نهاية العقد الأول من القرن الثاني، وُصف يزيد بن أبان بأنه كان زاهداً عابداً، وعالماً، وقاصاً مجيداً، أما الأخ الآخر عيسى بن أبان فأعظم مآثره الخالدة إنجاب الفضل، القاص والسجّاع الذي أذهل البصريين بقصصه، ووصفه الجاحظ بأنه قاص، ومتكلّم مجيد
نشأ الفضل الرقاشي وسط الجدل الثقافي الخصب الذي أدى إلى ظهور الاعتزال، وتشبّع بالقصص، وكان من أشهر قصّاصي عصره، أثرى وجوده عالم القص المزدهر، وأورث تلك الموهبة لابنه عبدالصمد الذي كان من معاصري الجاحظ، وقد ذهل الجاحظ وعامة البصريين من عبدالصمد الرقاشي؛ لأنه كان يضمّن قصصه معلومات تفصيلية ترد في سياق الاعتبار بخلق الكائنات، شغل بالحديث مرة عن «خلق البعوضة» واستغرق منه ذلك ثلاثة مجالس قصصية تامة. رأى الجاحظ، وهو من المهتمين بشأن الحيوانات، ذلك ميزة متفرّدة من قاص خصّص ثلاثة مجالس لخلق البعوضة. كان استعراض المعلومات من تقاليد التفوق، يُذهل التوسع، والإغراق في التفاصيل، جمهوراً يترقب المعرفة، ويهيم بالتخيلات
جرى طوال قرنين الحفاظ على تماسك سلالة القصّاص بصون حرفتها، على رغم التحولات الجذرية من الحقبة الكسروية إلى الإسلامية إلى الأموية إلى العباسية، فما الذي جرى لتخور السلالة ويلحقها الفساد؟ يجيب الجاحظ: كان الرقاشيون الأوائل «خطباء الأكاسرة، فلما سُبوا، وولد لهم الأولاد في بلاد الإسلام، وفي جزيرة العرب، نزعهم ذلك العرق، فقاموا في أهل هذه اللغة كمقامهم في أهل تلك اللغة، وفيهم شعر وخطب، وما زالوا كذلك حتى أصهر الغرباء إليهم، ففسد ذلك العِرق، ودخله الخور». يكمن مفتاح فكرة الجاحظ في جملة «أصهر الغرباء إليهم». قلّة من الكتاب القدماء استخدموا هذا التعبير، والفعل أصهر نادر الاستعمال، بعض مشتقاته وردت في القرآن والحديث النبوي، وهو يحيل على الذوبان، والتلاشي، والقرب، والاندماج. فسد القصّ حينما غزاه الأدعياء من القصّاص، أولئك الذين أغرتهم جاذبية القص، ولم يكونوا مؤهلين له. وفي المأثور تحذير من فساد العِرق، ثمة تعارض بين الدعوة لصفاء العِرق، وبين الانصهار والتهجين، انتهكت أصالة عِرق القصاص، وهي حرفة القص، حينما أصهر الغرباء إلى سلالة الرقاشي، أي دنوا منهم، ولبسوا لبوسهم، وامتزجوا فيهم. انتهكت تقاليد القص، فخارت السلالة وسقطت
حامى الجاحظ عن آل الرقاشي، وتتبّع تاريخهم المجيد منذ حقبة الأكاسرة، لكنه لم يأت على أخطار التحولات التي عرفتها السلالة، فهي لا تقاوم التغيرات، فتتكيّف مع كل عهد، وكل عصر، وكل ثقافة. القص فن عابر للثقافات، واللغات، والأعراق، لكن الفساد يطاول القص حينما يقع تخريبه من الداخل، من أولئك القصاص الذين لم يُعدّوا لتولّي هذه المهمة الكبيرة. انطلق الجاحظ من دائرة ضيقة: أسرة الرقاشي العريقة، ليتوسع في تفسير الأمر. ودافع حرفة القص، ومجتمع القصّاص. يصاب القص بالفساد، ويلحقه الخور، حينما يتخطّى الحدود المرسومة له أدعياء يحتمون به. الخور هو الضعف والانكسار، ذلك ما انتهى إليه أمر القص في نهاية عمر الجاحظ، فارتسمت للقاص صورة مشوّهة في المخيال العام، صورة المخرّب، والمرائي، والمفسد، والمبدع الذي يختلق التوهمات، فيهدم ركائز اليقين في النفس والعقيدة، إنه لا يريد الامتثال للنسق الصارم لا في الإسناد، ولا في المتون المحتملة الوقوع، ولهذا ظهر على هامش الثقافة التقليدية، كمنعش للفتن، ومتسبّب للمروق عن الاستقامة الاعتبارية للموروث السائد
رأى القصّاص أنه لا يمكن المضي إلى النهاية في مسار خاطئ، فالقص فن يقوم على الاختلاق والتوهم، وهو سلسلة متراكمة من المرويات المتخيلة التي تقوم بتمثيل الأحداث وليس توثيقها، ويمكن وظائفها أن تكون اعتبارية، كما كان الأمر في العصر الجاهلي والقرنين الأول والثاني. وجود القصّ يتلاشى شيئاً فشيئاً، إذا ظل مقيداً بشروط التوثيق المباشر، وخدمة الدين، ولا بد من أن ينفصل عن تلك الشبكة المتلازمة من الموضوعات المقدّسة، لينهل من أحداث الحياة والتاريخ بطرق رمزية متعددة الأساليب والاتجاهات، لكن استقلال القص يضرب المركزية الدينية في الصميم، تلك المركزية التي رسخها الوحي، وفسّرت تفسيراً داعماً لهذه الفكرة. وبالإجمال، وقع صدام في البنية النسقية بين الحديث النبوي، والقص، ورجّحت الكفة الأولى لأنها تستند في دعواها إلى قوة الدين، في حين وصم القصّاص بالمروق، وطوردوا، ونُكّل بكثير منهم، وظلوا مدة طويلة خارج مجال الوعي الرسمي للثقافة العربية، فلا نجد تقديراً، ولا وصفاً لأعمالهم، إلا في سياق الذم والانتقاص، وباستثناء إشارتين أو ثلاث، لا توجد طوال ألف سنة تقريباً، إلا إشارات انتقاصية، لعيون المرويات السردية، كما هو الأمر بالنسبة الى «ألف ليلة وليلة»، والسير الشعبية
دفعت الثقافة المتعالمة، بمرور الزمن، المتخيلات السردية إلى الوراء، وحجزتها خلف ستار سميك ليحوم الشك الكامل حولها، فغزت تلك المرويات أوساط العامة، ولا تُعرف بالضبط التطورات البنيوية والأسلوبية والدلالية لها في ذلك الوسط الغامض في القرون الوسطى الإسلامية، طوال المرحلة الشفوية التي كانت عليها؛ لأن التواريخ الرسمية لم تعط نفسها الحق بالانحدار إلى عالم الحضيض لتصوير التلقّفات الحارة لتلك المرويات بين العموم، سوى إشارات مترفعة وعابرة - لابن كثير والمسعودي وابن النديم - فليس من اللائق ذكر أي شيء عن الفئات المهمّشة ومروياتها المدنّسة بالفحش والركاكة، لكن نظرة عجلى إلى تلك المرويات، بعد أن استقرت في مدونات ضخمة في القرون المتأخرة، تكشف أنها خُصّبت بالتخيلات الجامحة، والرغبات المؤجلة، فسَرَتْ فيها أحلام كثيرة حول العدالة والحق والبطولة والحب والإباحية، وتحرّرت من ضغط الخاصة حينما التجأت إلى وسط خاص أضفى عليها قيمة تداولية، فأصبحت كناية عن استبطانات رمزية رافضة للتفكير النمطي الذي أشاعته في الثقافة والفكر والأدب التفسيراتُ المغلقةُ للدين، وتُعدّ لذلك تمثيلات إغوائية، ساخرة، لما يمور في الأوساط الشعبية، ويمكن تأويلها على أنها معارضة تهكمية للأطر الخطية الفاعلة في الثقافة العربية والإسلامية، وتفسيراتها المغلقة. وبسبب ذلك وصمت بالدونية، تلك الدونية التي تحرص عليها المجتمعات التقليدية في تقسيمها الناس إلى عامة وخاصة، وتحرص أكثر في تكريس الثنائية نفسها في الفكر والآداب والفنون.