جبران الشداني
كاتب
عادة وعندما نستلّ كتابًا، أيّ كتابٍ تقع يدنا عليه، هناك حركة لاشعوريّة، عفويّة نتشارك فيها (نحن محبّو وقارئو الكتب): نسارع لقراءة ما كُتب على غلافه الأخير: ملخّص أو مقتطفات، وفي أكثر الأحيان شهادات لنقّاد أو كتّاب أو أساتذة كبار في مادة الأدب... يعطون رأيهم في العمل (بالإضافة طبعاً إلى ملخّص عن سيرة الكاتب وإصداراته).
أمام رواية "الساعة الرمليّة" انتفت الحاجة لهكذا طقس. إنّها رواية لـ"مي منسّى"، (وخلص). هذا ما فعلته. قرأت الإسم فخطفت الكتاب المعروضَ أمامي للبيع.
أعرف مي منسّى ليس فقط من خلال مسيرتها الادبيّة أو الصحافيّة... حتى قبل أن أقرأ كلمة واحدة من الكتاب، كنت فرحًا بهذا اللقاء وكأنني أجالسها على فنجان قهوة...
أو كأنني قد التقيت لتوّي بابتسامتها وبنظراتها المملوءة حباً للحياة (...) هكذا، وعلى غرار كلّ مرّة كنت ألتقيها في محل البقالة في الحيّ الذي نسكن.
تستشهد مي منسّى في كتابها بقول لـ"أينشتاين": "الصدفة هي الله يتنزه خفية". وأيّ صدفة هي تجربتي مع روايتها. إنها قصّة عائلة لبنانيّة تمتد على ثلاثة أجيال. حكاية عائلة (كتبت) "لا بقلم الرصاص القابل للامحاء، بل بالحبر الثابت الذي يتعذّر محوه" (كما كتبت في روايتها).
إنّها قصّة "مرجان" التي اعتادت بعد موت زوجها أن تعيش حصرًا في قريتها. قرية (كما تصفها مي منسّى) "مرفوعة على كتف تلّة مطلّة من جهة الغروب على الوادي المستمدِّ حياتَه من النهر الهادر الحامل من منبعه في المغاور الصخريّة خرافات البلدة وحكاياتها، ومن الشروق جبلاً عاليًا يؤخّر طلعات الشمس على كرومها وبساتينها". (وأيّ وصف يا الله).
إنها أيضًا قصّة ابنتها "هند" التي ستتزوّج "غصبًا عن أمّها" الشاب نادر. (للأسف ليس من "خيرة شباب البلدة ثراء وجاهًا وأسرة"...)
وقصّة سارة ابنتهما والتي بدورها "ستعيد" ترميم صورة الأب (نادر). تعبر إلى عالم أسراره عندما تقرّر "التسلّل إلى هذا الممنوع من حقيبة جلديّة"، تتفحص "كتابات منقوشة على أوراق صفراء بخط مسنون ومتوتّر أبداً"... إلى قصّة حياته، حياة بدأت يومًا في كيليكيا وفي جبال القوقاز... تتحرّى عن "ظلّ ماضي" هذا الأب، "بتأنّي الساعاتي المدقّق في الوقت".
ماذا أفعل وأيّ مغامرة هذه أن تتحدّث عن كتاب لـ"مي منسّى". أوليست هي من علّمنا قواعد النقد الأدبي بعد أن حوّلته إلى "معزوفة" موسيقيّة خاصة بها؟.. وقد أرست نهجًا ومذهبًا ومدرسة، وهي منذ أكثر من ثلاثين سنة ما زالت تكتب عن "الآخرين" عندما يكتبون أو يرسمون أو ينحتون أو يعزفون ... أو يحيون (الذين يحيون وهم قلة).
منذ اللحظة الأولى، صُعقت بأسلوبها في الوصف.
لا يعود القارئ يقلب صفحات الكتاب لاهثاً وراء حبكة الرواية.
تراه زائراً في متحف بحالة انخطاف أمام لوحة.
أو مراهق في صالة سينما أمام مشاهد تنساب، وقد صوّرتها "المخرجة" مي منسّى... لتوّها بعدسة "تلتقط اللامرئي" (على حدّ قولها).
تعالوا نشاهد مثلاً كيف يهبط الليل الدامس في روايتها:
"ظلال تزحف على الأرض وتنساب على الجدران ولا تحدث شغبًا"
(تتابع): "وكنّا نتحوّل إلى ظلال ذواتنا".
في الرواية أيضًا "نفتضح" قصّة غرام بين "مي منسّى" وآلة البيانو.
البيانو في الرواية مركزي أو محوري، (وكأنّه ما يعرف في علم النفس بالـ"Objet Transitionnel") أو هذا الرابط العاطفي بين الإبنة هند وأمّها مرجان... لا بل هو الرابط العاطفي بين الجميع – يصبح وسيلة "تخاطب" ما – (un signifiant) وأحيانًا وسيلة ابتزاز عاطفية.
تنجح هند بأن تكون عازفة بيانو جدّ موهوبة، وكم من مرّة نظرت إلى الجمهور علّها تلمح بين الحضور أمّها "مرجان".
البيانو رفيق سهرات "هند"، "رفيق سهراتها المنوّرة بالأصدقاء".
يعزف أغنية "يا لورُ حبّك قد لوّع الفؤاد"... أغنية سترافقنا عبر الرواية.
سيسمح لـ"هند" بالتعرّف إلى نادر... البيانو هديّته الأولى لها في منزلهما الزوجي حتى قبل باقي "العفش".
تفترق "هند" عن البيانو لأجل ابنها ألكسندر. تبيعه (...) لكي يستطيع هذا الأخير متابعة تحصيله العلمي وتخصصه في الخارج.
وأخيرًا، حتى في الأفلام الصامتة كان يرافق العرض عزف على البيانو، وها هي مي منسّى وقد عدلت روايتها أحيانًا إلى (برنامج) عزف على هذه الآلة Répertoire : (عزفت لنا في القصّة):
- Nocturne لـ Chopin
- Scène d’enfants (مشاهد طفولة) لـSchumann
- "رقصة السيف" تحفة فنّان الشعب الأرمني آرام خاتشودوريان.
- "موسيقى صغيرة لليل" لـ Mozart...إلخ
وهنا تجدر الإشارة إلى ملاحظة أخرى. حصّة الأسد لم تكن فقط من نصيب الموسيقى في الرواية. لقد "نهلت" مي منسّى- مجدّدًا - من الإرث الثقافي العالمي.
حاولت ولم تستطع. سقطت مرّة أخرى في التجربة. وها هي تشاركنا فلسفتهم وآراءهم وأفكارهم... وحتى همساتهم (الدفينة): عبر في رواياتها، القديس أوغسطينوس، أينشتاين، كافكا، غوستاف فلوبير، سانت إيكزيبوري (كتابه الأمير الصغير)، هوميروس، "إغرست" (العالم في الفيزياء والرياضيّات)، سيغموند فرويد، مارون عبود، توفيق عوّاد، توفيق الحكيم، جبران خليل جبران...
وطبعًا إلى جانب لائحة لا تنتهي من الممثّلين والممثّلات والمخرجين السينمائيين.
الخاتمة:
أحببت الرواية. آلمتني كثيرًا.
لنضع جانبًا جدليّة التماهي مع أبطال الروايات. الموضوع شخصي وذاتي وخاص. لقد نجحت مي منسّى منذ صفحات الكتاب الأولى... في أخذ القارئ بيده في رحلة اكتشاف لذاته - كـ أركيولوج - ولكن بالأخص كمعالجة نفسانيّة:
تقول: " أجمل من الأرض، المعول الذي ينكش به الإنسان ليطّلع على ما في جوفها" ... (صفحة 77)
سأعبّر عن هذه الفكرة أو عما أسلفت بكلماتها هي على امتداد صفحات الكتاب الـ227:
إنها تعاني- تفتّش "بين النفايات على أثر عنها هناك" (صفحة 14) وعلى غرار كافكا، "تصوّر الأشخاص والأشياء كي تطردها من فكرها"... (صفحة 52).
فلا "أحد يزول، لا أحد يموت ما دام حيًّا في ذاكرتنا" (صفحة 83)... إذا كان ماضينا أبدًا حاضراً...لا شيء يزول:
"فكل كلمة قيلت أو دمعة كرجت "قجّة" ندّخر فيها ذكريات للمستقبل البعيد... حين بدا الحنين إلى الأمس" (صفحة 15) فالماضي نسمّد به (أبداً) تربة الحاضر" (صفحة 168). وإذا ما تماهت هي يومًا مع عالم هوليوود - بائعة الأحلام - ذلك لأنّها كانت في "عمر يتوقّع فيه الولد من الأحلام أن تتدخّل لا محالة في نسيج الحياة فتلوّنها بما يشتهيه خياله" (صفحة 14)...
الكتاب ليس عبثياً ولا بالمتشائم:
فالخواء الذي عبّرت عنه و"الذي كان يصفر في داخلها كرياح قطبيّة صار على ورقها صراخاً، رثاءً، غناءً غجريًّا..." (صفحة 185).
حياتها لم تعد " مؤجّلة إلى يوم آخر" (صفحة 178).
ولم يعد "المكان المثالي للكتابة هو السجن" (صفحة 117). خرجت منه، وانحنت على الطفل الذي فيها، عملاً بتلك العبارة الربانيّة التي تقول "مبارك ذلك الذي ينقذ من قعر المأساة الطفل الكامن في قلبه" (صفحة 189).
وهنا أصل إلى بيت القصيد (أقله عندي). "مي"، "هند" أو "ساره" تصالحن مع الجميع... مي منسّى وبجملة واحدة... عبّرت عن هذه العلاقة "العلاجيّة" والتي تربط بين من يبحث عن ذاته وبين محلّله النفسسي... وفي هذا تلخيص- بجملة ربما - لموسوعات في علم النفس. تقول في روايتها: "كانت أمّي بحيلها الحذقة وحبّها للحياة تجنّبنا ذبذبات أبي السلبيّة" (صفحة 8)، أوليس هذا ما يأخذه على عاتقه الطبيب النفسي...
وهذا ما نبحث أبدًا عنه في الحياة... وكم من مرّة فتّشنا عن /محدّث/ يمكن أن يكون "طفل" أسوة بالطفل الكامن فينا (كما تقول منسّى عندما تتحدّث عن الأم "هند" في كتابها.
وفي النهاية... "ثمّة كتب تغلق عالمًا هي نقطة النهاية لكل شيء. كما هناك كتب تفتح لنا أبواب بلد، بلدنا" (صفحة 224).
وهذا باختصار ما فعلته وتفعله رواية "الساعة الرمليّة".
أمام رواية "الساعة الرمليّة" انتفت الحاجة لهكذا طقس. إنّها رواية لـ"مي منسّى"، (وخلص). هذا ما فعلته. قرأت الإسم فخطفت الكتاب المعروضَ أمامي للبيع.
أعرف مي منسّى ليس فقط من خلال مسيرتها الادبيّة أو الصحافيّة... حتى قبل أن أقرأ كلمة واحدة من الكتاب، كنت فرحًا بهذا اللقاء وكأنني أجالسها على فنجان قهوة...
أو كأنني قد التقيت لتوّي بابتسامتها وبنظراتها المملوءة حباً للحياة (...) هكذا، وعلى غرار كلّ مرّة كنت ألتقيها في محل البقالة في الحيّ الذي نسكن.
تستشهد مي منسّى في كتابها بقول لـ"أينشتاين": "الصدفة هي الله يتنزه خفية". وأيّ صدفة هي تجربتي مع روايتها. إنها قصّة عائلة لبنانيّة تمتد على ثلاثة أجيال. حكاية عائلة (كتبت) "لا بقلم الرصاص القابل للامحاء، بل بالحبر الثابت الذي يتعذّر محوه" (كما كتبت في روايتها).
إنّها قصّة "مرجان" التي اعتادت بعد موت زوجها أن تعيش حصرًا في قريتها. قرية (كما تصفها مي منسّى) "مرفوعة على كتف تلّة مطلّة من جهة الغروب على الوادي المستمدِّ حياتَه من النهر الهادر الحامل من منبعه في المغاور الصخريّة خرافات البلدة وحكاياتها، ومن الشروق جبلاً عاليًا يؤخّر طلعات الشمس على كرومها وبساتينها". (وأيّ وصف يا الله).
إنها أيضًا قصّة ابنتها "هند" التي ستتزوّج "غصبًا عن أمّها" الشاب نادر. (للأسف ليس من "خيرة شباب البلدة ثراء وجاهًا وأسرة"...)
وقصّة سارة ابنتهما والتي بدورها "ستعيد" ترميم صورة الأب (نادر). تعبر إلى عالم أسراره عندما تقرّر "التسلّل إلى هذا الممنوع من حقيبة جلديّة"، تتفحص "كتابات منقوشة على أوراق صفراء بخط مسنون ومتوتّر أبداً"... إلى قصّة حياته، حياة بدأت يومًا في كيليكيا وفي جبال القوقاز... تتحرّى عن "ظلّ ماضي" هذا الأب، "بتأنّي الساعاتي المدقّق في الوقت".
ماذا أفعل وأيّ مغامرة هذه أن تتحدّث عن كتاب لـ"مي منسّى". أوليست هي من علّمنا قواعد النقد الأدبي بعد أن حوّلته إلى "معزوفة" موسيقيّة خاصة بها؟.. وقد أرست نهجًا ومذهبًا ومدرسة، وهي منذ أكثر من ثلاثين سنة ما زالت تكتب عن "الآخرين" عندما يكتبون أو يرسمون أو ينحتون أو يعزفون ... أو يحيون (الذين يحيون وهم قلة).
منذ اللحظة الأولى، صُعقت بأسلوبها في الوصف.
لا يعود القارئ يقلب صفحات الكتاب لاهثاً وراء حبكة الرواية.
تراه زائراً في متحف بحالة انخطاف أمام لوحة.
أو مراهق في صالة سينما أمام مشاهد تنساب، وقد صوّرتها "المخرجة" مي منسّى... لتوّها بعدسة "تلتقط اللامرئي" (على حدّ قولها).
تعالوا نشاهد مثلاً كيف يهبط الليل الدامس في روايتها:
"ظلال تزحف على الأرض وتنساب على الجدران ولا تحدث شغبًا"
(تتابع): "وكنّا نتحوّل إلى ظلال ذواتنا".
في الرواية أيضًا "نفتضح" قصّة غرام بين "مي منسّى" وآلة البيانو.
البيانو في الرواية مركزي أو محوري، (وكأنّه ما يعرف في علم النفس بالـ"Objet Transitionnel") أو هذا الرابط العاطفي بين الإبنة هند وأمّها مرجان... لا بل هو الرابط العاطفي بين الجميع – يصبح وسيلة "تخاطب" ما – (un signifiant) وأحيانًا وسيلة ابتزاز عاطفية.
تنجح هند بأن تكون عازفة بيانو جدّ موهوبة، وكم من مرّة نظرت إلى الجمهور علّها تلمح بين الحضور أمّها "مرجان".
البيانو رفيق سهرات "هند"، "رفيق سهراتها المنوّرة بالأصدقاء".
يعزف أغنية "يا لورُ حبّك قد لوّع الفؤاد"... أغنية سترافقنا عبر الرواية.
سيسمح لـ"هند" بالتعرّف إلى نادر... البيانو هديّته الأولى لها في منزلهما الزوجي حتى قبل باقي "العفش".
تفترق "هند" عن البيانو لأجل ابنها ألكسندر. تبيعه (...) لكي يستطيع هذا الأخير متابعة تحصيله العلمي وتخصصه في الخارج.
وأخيرًا، حتى في الأفلام الصامتة كان يرافق العرض عزف على البيانو، وها هي مي منسّى وقد عدلت روايتها أحيانًا إلى (برنامج) عزف على هذه الآلة Répertoire : (عزفت لنا في القصّة):
- Nocturne لـ Chopin
- Scène d’enfants (مشاهد طفولة) لـSchumann
- "رقصة السيف" تحفة فنّان الشعب الأرمني آرام خاتشودوريان.
- "موسيقى صغيرة لليل" لـ Mozart...إلخ
وهنا تجدر الإشارة إلى ملاحظة أخرى. حصّة الأسد لم تكن فقط من نصيب الموسيقى في الرواية. لقد "نهلت" مي منسّى- مجدّدًا - من الإرث الثقافي العالمي.
حاولت ولم تستطع. سقطت مرّة أخرى في التجربة. وها هي تشاركنا فلسفتهم وآراءهم وأفكارهم... وحتى همساتهم (الدفينة): عبر في رواياتها، القديس أوغسطينوس، أينشتاين، كافكا، غوستاف فلوبير، سانت إيكزيبوري (كتابه الأمير الصغير)، هوميروس، "إغرست" (العالم في الفيزياء والرياضيّات)، سيغموند فرويد، مارون عبود، توفيق عوّاد، توفيق الحكيم، جبران خليل جبران...
وطبعًا إلى جانب لائحة لا تنتهي من الممثّلين والممثّلات والمخرجين السينمائيين.
الخاتمة:
أحببت الرواية. آلمتني كثيرًا.
لنضع جانبًا جدليّة التماهي مع أبطال الروايات. الموضوع شخصي وذاتي وخاص. لقد نجحت مي منسّى منذ صفحات الكتاب الأولى... في أخذ القارئ بيده في رحلة اكتشاف لذاته - كـ أركيولوج - ولكن بالأخص كمعالجة نفسانيّة:
تقول: " أجمل من الأرض، المعول الذي ينكش به الإنسان ليطّلع على ما في جوفها" ... (صفحة 77)
سأعبّر عن هذه الفكرة أو عما أسلفت بكلماتها هي على امتداد صفحات الكتاب الـ227:
إنها تعاني- تفتّش "بين النفايات على أثر عنها هناك" (صفحة 14) وعلى غرار كافكا، "تصوّر الأشخاص والأشياء كي تطردها من فكرها"... (صفحة 52).
فلا "أحد يزول، لا أحد يموت ما دام حيًّا في ذاكرتنا" (صفحة 83)... إذا كان ماضينا أبدًا حاضراً...لا شيء يزول:
"فكل كلمة قيلت أو دمعة كرجت "قجّة" ندّخر فيها ذكريات للمستقبل البعيد... حين بدا الحنين إلى الأمس" (صفحة 15) فالماضي نسمّد به (أبداً) تربة الحاضر" (صفحة 168). وإذا ما تماهت هي يومًا مع عالم هوليوود - بائعة الأحلام - ذلك لأنّها كانت في "عمر يتوقّع فيه الولد من الأحلام أن تتدخّل لا محالة في نسيج الحياة فتلوّنها بما يشتهيه خياله" (صفحة 14)...
الكتاب ليس عبثياً ولا بالمتشائم:
فالخواء الذي عبّرت عنه و"الذي كان يصفر في داخلها كرياح قطبيّة صار على ورقها صراخاً، رثاءً، غناءً غجريًّا..." (صفحة 185).
حياتها لم تعد " مؤجّلة إلى يوم آخر" (صفحة 178).
ولم يعد "المكان المثالي للكتابة هو السجن" (صفحة 117). خرجت منه، وانحنت على الطفل الذي فيها، عملاً بتلك العبارة الربانيّة التي تقول "مبارك ذلك الذي ينقذ من قعر المأساة الطفل الكامن في قلبه" (صفحة 189).
وهنا أصل إلى بيت القصيد (أقله عندي). "مي"، "هند" أو "ساره" تصالحن مع الجميع... مي منسّى وبجملة واحدة... عبّرت عن هذه العلاقة "العلاجيّة" والتي تربط بين من يبحث عن ذاته وبين محلّله النفسسي... وفي هذا تلخيص- بجملة ربما - لموسوعات في علم النفس. تقول في روايتها: "كانت أمّي بحيلها الحذقة وحبّها للحياة تجنّبنا ذبذبات أبي السلبيّة" (صفحة 8)، أوليس هذا ما يأخذه على عاتقه الطبيب النفسي...
وهذا ما نبحث أبدًا عنه في الحياة... وكم من مرّة فتّشنا عن /محدّث/ يمكن أن يكون "طفل" أسوة بالطفل الكامن فينا (كما تقول منسّى عندما تتحدّث عن الأم "هند" في كتابها.
وفي النهاية... "ثمّة كتب تغلق عالمًا هي نقطة النهاية لكل شيء. كما هناك كتب تفتح لنا أبواب بلد، بلدنا" (صفحة 224).
وهذا باختصار ما فعلته وتفعله رواية "الساعة الرمليّة".