دراسة جيمس م. ردفيلد - تحليل أرسطو طاليسي لـ "قصة الآنسة موبي".. ت: ياسين طه حافظ

هذا المقال مثال طيب للتحليل النقدي والامتاع الادبي وايضاً للعمل التربوي التثقيفي. الكاتب البروفيسور ردفيلد استاذ كبير محترم متخصص بالفكر الاجتماعي كما هو استاذ في اللغات القديمة والادب. يمنح هذا النص السردي القصير اهتمام الاستاذ ودرايته. انه يقدم درساً في تعليم الادب ومحبة النص، فلا تعالٍ ولا استعراض ولكن فهم وتحليل استاذ ذي دراية يقرأ السطر في النص بتواضع الاستاذ المجرب وابتسامته.
آليت على نفسي ترجمتة وانا في ضائقة من الوقت لكي ينال الناس حصتهم من كتابة جليلة القدر ما اردت الاستئثار بفائدتها.
ياسين طه حافظ




***

هكذا يرد نص "قصة الآنسة موبي" للكاتبة بيتريس بوتر Beatris Potter:-
هذه قطة تدعي موبي تظن انها سمعت فارا.
هذا هو الفار يسترق اليها النظر من وراء الدولاب
ويسخر من الآنسة موبي.
هو لا يخاف من القطة..
وها هي الآنسة موبي بعد قليل، تقفز،
هي تخطئ الفأر وتصدم رأسها بالدولاب
فكرت، انه دولاب صلب جدا..
الفأر يراقب الآنسة موبي من فوق الدولاب ..
الآنسة موبي تشدّ رأسها بقماشة منفضة الغبار..
وتجلس قبالة النار
الفأر رآها مريضة جداً فانزلق من مقبض الجرس المتصل بحبل،
الآنسة موبي تبدو أسوأ وأسوأ حالاً.
الفأر يقترب منها اكثر فاكثر
الآنسة موبي تمسك رأسها البائس بمخالبها،
تنظر اليه من خلال ثقب في قماشة المنفضة
الفأر يقترب جداً
وفجأة تقفز الآنسة موبي على الفأر.
ولآن الفأر ضايق الآنسة موبي بالسخرية منها
تفكر الانسة موبي بان تسخر منه
ولم يكن ذلك لطيفاً من موبي
لفته بالمنفضة وراحت تطوّح به مثل كرة
ولكنها نسي ت ان في المنفضة ثقباً
فحين فكتها، لم يكن هناك فأر !
لقد فلت منها الفأر، وها هو متمعجاً يجري،
وهو الآن يرقص "الجغ" فوق الدولاب..."


سأخضع الآن هذا العمل الى النقد الارسطوي احاول ان اعمل بكفاءة كافية فلا ادمر رقة هذا السرد الرقيق، فالنقد الارسطوي ميال لان يكون كابسة بخار او ثقّابة صخور. وهذه لا تناسب شيئاً رقيقاً مثل قصة الآنسة موبي. مع ذلك، علينا ان نبدي عناية كافية في قول شيء عن مصادر المعنى في أي سرد ناجح، ومن ذلك هذا السرد
في الدقائق القليلة القادمة سأستعير بعض الصيغ من كتاب الشعر لارسطو وسأتوسع بالعمل في التقليد الارسطوي، ذلك التقليد الذي يؤكد على الحبكة.
يقول ارسطو ان الشاعر اصلا صانع حبكات. الحبكة هي الشيء الذي يصنعه الشاعر. يبدو هذا محيراً لان ارسطو كان يكتب عن شعراء امثال هومر وسوفوكليس اللذين يعيدان رواية قصص معروفة.
لم يقصد ارسطو ان على الشاعر ان يصنع قصة، هو يستطيع ان يعيد رواية قصة. مثل اوديب او اوديسيوس، تماماً كما اعاد شكسبير رواية قصص مثل هاملت، لير ويوليوس قيصر . ارسطو يعني ان الشاعر يعيد رواية قصة بطريقة يعطيها فيها حبكة معينة، يعطيها شكلاً ومعنى، القصة تحتوي على شخوص واحداث وهذه قد تكون غير منتظمة وغير مفهومة. القصة تتحول الى حبكة حينما يرصدها الشاعر وهو يعيد روايتها، الموضوعة السردية لها بداية ووسط ونهاية. ونحن يمكننا ان نكوّن رؤية من السرد الكلي لها تماماً كما نفهم قطعة موسيقية من كليتها، وان استغرق سماعها وقتاً. مبدأ الفن هذا يسمى احياناً Closure استخلاص، فحوى. فحين ينتهي العمل نخلص الى انه اعطى معنى وانه قد اكتمل او ادّى الاستخلاص الارسطوي فهذا هو الشكل Form. الاشياء تعمل لانها اكتملت والشكل يوجد لكي يؤدي العمل وظيفته. الاشياء ضمن شكل هي الوحيدة التي تعمل. في كتابة السايكولوجي Deanima يقول ارسطو: ان الروح هي شكل الجسد، الجسد الذي تشمله الروح هو الجسد الفاعل، الجسد الميت يبدو كياناً حياً ولكن لا قدرة له على اداء الكائن الحي هو كيان حي فقط حين تتحسسه اليد، لكن الشكل المخبر، المؤدي، لا نجده فيه.
يقول ارسطو في Deanima ايضاً: لو ان للفأس روحاً فانها بهذه الروح ستكون قاطعة، عمل الآله هو الذي يعطيها شكل شخصيتها. في كتاب الشعر يقول ارسطو ان روح العمل الشعري هي حبكته فالحبكة هي كلا الشكل والعمل – او الوظيفة. والفأس مصنوعة بذلك الشكل لكي تقطع والقصة تصنع جيداً لكي تمتلك حبكة، حين تكون لها حبكة تعمل، أو إذا استعملنا مجازاً ارسطوياً، نقول: تكون حية، حين تكون القصة مصنوعة بشكل سيء، تكون ميتة، هي فقط مطروحة في مكان. القصة السيئة لا تحمل حبكة سيئة، هي لا تحمل حبكة ابدأ، بعض القصص اكبر واكثر اقناعاً من سواها لكن المسألة ليس مسألة حجم. كل قصة جيدة هي وحدة حية، فاعلة، تماماً مثل الاميبا والحوت الازرق الكبير، كلاهما كائنان حيّان. استنتج من هذا ان "قصة الآنسة موبي" والتي هي نوع من الاميبا بين القصص، هي حبكة بهذا المعنى.
يقول ارسطو ايضاً ان اساس الوحدة Unity هي الاحتمالية، ويعني بهذا ان القصة تلتم لكي تشكل معنى. نحن نؤمن بهذا ونجد فيه نتيجة، وقد تكون الاحداث مقنعة وقد لا تكون احداث القصة هي الاحداث التي نتوقعها في الحياة الحقيقية. فلكي نصدق قصة الآنسة موبي لا يتوجب علينا ان نصدق بان الفأر يرتدي ثياباً وان القطة تستطيع ان تعقد قطعة من القماش. احتمالية القصة لصيقة بجميع المصادر التي تؤسسها القصة نفسها. فالقصة بمعنى آخر تؤَسَّس على مقدمات بعض المقدمات دالة اما لانها مقدمات الحياة الاعتيادية او لانها المقدمات التقليدية لمثل هذه القصص. "ايان فلمنجFleming " لايوضح لنا ان الماء رطب وان الطيارات تطير وان جيمس بوند شخص ذو قدرات ومرونة فائقة. بعض الممهدات تنشأ، اثناء مجرى القصة، كما هو الحال حينما يخبرنا فلمنج" ان قسماً كبيراً من العالم يهرب من البشاعة السرية في جبال البرنس، نحن نصدق القصة لاننا نجد فيها نوعاً من الحقيقة الممكن اعلانها. في البداية نرجئ تصديقها ثم نؤمن بما يعقب ذلك الذي ارجأنا تصديقه. اكثر من هذا، ان كانت القصة "وحدة" فيجب ان يستفيد تماماً من الممهدات ولا يُقَدَّم تمهيد غير ضروري للقصة. لايقدم من بعد شيء غير ضروري لها، هذا ما قصده ارسطو في قوله: في القصة المصنوعة جيداً لا يمكن اضافة شيء جيد إليها ولا رفع شيء جيد منها، هكذا تكون الاحتمالية اساساً للوحدة.
دعونا نستمر خلال "قصة الانسة موبي" ونرى ان كنا نستطيع متابعة تركيب الحبكة فيها:
هذه قطة اسمها الآنسة موبي
تظن انها سمعت فأراً.
شيء ما حدث تواً، تبدأ القصة في وسط، في midiadres طبعاً كل القصص تبدأ في "ميديادرس" كما هذا العالم يبدأ. لاتوجد بدايات او نهايات حقيقية الشاعر يلفت الانتباه الى هذه الحقيقة لكن يركز انتباهنا على حبكته. الكاتبة الانسة بوتر تقدمنا الى شخصية في وضع هذه القصة هُيّئت لتكون عن اشكالات الشخصية وهي في ذلك الوضع او الحال. هي قصة عن قطة وفأر القطة "مفترس" والفأر "فريسة" طبيعية اكثر من هذا ان القطط، (لا تشبه اكثر المفترسين)، تلعب بضحاياها الجريحة. وهذا عنصر من عناصر القصة. ميزة القطط الاخرى هي الجرأة وهذه ربما زادت من مهارات الصيد عندها او انها قوّت صفاتها الاخرى.
نحن على اية حال لا قطط ولافئران، ولا نستطيع تصور كيف يبدو العالم لتلك المخلوقات ولا احد منها كتب قصة عن فأر. القصص، مهما كانت شخصياتها، هي دائماً قصص ناس (لاحظ ايضاً ان لا احد يوماً كتب قصة عن الله – المبدأ نفسه).
العلاقة بين قطة وفأر، في أي قصة، هي استعارة لعلاقة إنسانيه معينة، ومن زمن الالياذة، في الاقل، وربما قبل هذا التاريخ بزمن طويل، العلاقة بين مفترس وضحية هي استعادة لصراع انساني في ضوء معين، كما هو الحال عن مينلاوس ، يشبه اسداً، ويهجم على "باريس" الذي بصورة غزال جريح، اكثر من هذا ان ما تقوم به القطة من لعب في الافتراس هو استعارة لنوع من القسوة التي لا مسوّغ لها والتي تظهرها لعبة القط بالفأر – حين تفتقد القطة فأراً تلعب بكرة من الخيوط او بقطعة جلد. وهذه واحدة من الصفات الجذابة للقطط. فالقطة اذن تقدم استعارة للعدوانية المتخفية في اللهو البشري.
هذه القطة على كل حال، ما تزال قطيطة Kitten، في الصورة التالية نحصل على منظر الفأر.
هذا هو الفأر يسترق النظر من
وراء الدولاب
ويسخر من الآنسة موبي
هو لايخاف من القطة
الفأر (يرتدي جاكيتاً اخضر ورباطاً..) هو يبدو قد كبر جداً. الآنسة موبي تضع شريطاً قرنفلياً، وهو مما يضعه الطفل على قطته – اللعبة. الفار شجاع لا يخاف هو يعيش في الفراغات، خلف الأثاث وفي شقوق الجدران، نوع من البلاد المتوحشة – مظلمة وغير مكتشفة بالنسبة لنا. الآنسة موبي تشعل الموقد. فضلاً عن ذلك، لها اسم ملائم يشير الى وضعها المنزلي، بينما الفأر غفل لا اسم له.
الكاتبة، الآنسة بوتر، اوجدت علاقة اساسية بين الاثنين. هذه العلاقة غير متماثلة بين المفترس والضحية وقدمت عدداً من الصفات الثانوية لتجعل لهذه العلاقة نوعاً من التكافؤ.
الآنسة موبي قطة، ولكنها صغيرة غير مجربة، انثى ومدللة، الفأر ناضج، شجاع، ذكر ومستقل. لذا كانت القصة ممتعة. فأية مجموعة من الصفات ستكون لها الغلبة، الاساسية ام الثانوية؟
من جهة ، يبدو نصر القطة محتملاً ومن جهة اخرى يبدو ان النصر للفأر. مكونات القصة تسمح بالنتيجتين، ونحن في شك. اكثر من ذلك ان القصة مازالت في حركة. اخفاق الانسة موبي في ان تكون قطة حقيقية، قاد الفأر لأن يكون اكثر من فأر. الخطوة التالية واضحة.
ها هي الآنسة موبي، بعد قليل،
تقفز
هي تخطئ الفأر وتصدم رأسها.
هذا ما يدعوه ارسطو Peripety او تحول الحظ، وهو تحول من نوع اكثر تأثيراً ودرامية البطل يعمل بطريقة تلائم طبيعته. وحين ارادت ان تعمل جيداً جلبت المصيبة على نفسها. وطبعاً ما دمنا امام بطل صغير جداً فالمصيبة صغيرة جداً.
فكرت: انه دولاب صلب جداً .







* عن المدى
 
أعلى