نقوس المهدي
كاتب
اصغى كاسكوش العجوز بنهم الى الأصوات المحيطة به. لقد كان رغم ذهاب بصره منذ أمد بعيد، يتمتع بحاسة سمع حادة، وأقل نأمة كان يسمعها كانت تتغلغل الى داخل شعلة الذكاء اللامع التي كانت ماتزال متوهجة خلف تجاعيد جبهته الذابلة، والتي لم تعد تتطلع الى أشياء العالم. آها ! انها ست – كوم – ها، تصب لعناتها على الكلاب بصوتها اللاذع وهي تسرجها قسراً بالزلاجات. كانت ست – كوم – ها ابنة ابنته، لكنها كانت مشغولة جداً بعملها ولا وقت لديها للتفكير بجدها المحطم، الجالس وحده هناك في الثلج، منسياً وعاجزاً. كان يعلم أن القبيلة كانت على وشك الرحيل وان طريق الرحيل الطويل المعفر بالثلج يقف في الانتظار، لكن النهار القصير يرفض ان يتريث. انها استجابة القبيلة لشؤون الحياة وواجباتها وليس الموت وشؤونه التي سيتركونها خلفهم مع العجوز الذي كان قريباً جداً من الموت الآن.
جعله التفكير بالموت يشعر بشيء من الذعر للحظة، ومد يداً مشلولة الى الأمام وتحسس بأصابع مرتعشة كومة الحطب الموجودة الى جانبه. وبعدما تأكد من وجود الحطب الى جانبه، عادت اليد الى مخبئها الفرائي القذر، وأستأنف هو تسليته الوحيدة المتمثلة بالاستماع الى دبيب الاصوات الدائرة من حوله. اخبرته الخشخشة الحزينة لصوت الجلود شبه المتجمدة بأن خيمة الزعيم المصنوعة من جلد الموظ قد أُنزلت، ويجري الآن طيها لتكون سهلة الحمل. كان زعيم القبيلة ابنه، شاباً قوي البنية وصياداً عظيماً. واصلت النساء القيام بعملهن الشاق، وارتفع صوت الزعيم الشاب، موبخاً اياهن على التقاعس وتضييع الوقت. اصاخ كاسكوش العجوز السمع. ستكون تلك هي المرة الاخيرة التي سيسمع فيها ذلك الصوت. هاهي خيمة جيهاو تحط على الأرض! ثم خيمة توسكن ! سبعة، ثمانية، تسعة؛ خيمة الشامان فقط لاتزال منصوبة. هاهم قد شرعوا ينزلونها الآن اذن. سمع صوت الشامان المتهالك وهو يضع خيمته في الزلاجة. شرع أحد الأطفال يبكي، وأخذ صوت نسائي يهديء من روعه بتهويدة ذات اصوات حلقية ناعمة. كو – تي الصغير، فكر الرجل العجوز، كو – تي الدائم البكاء، النزق، العليل دوماً. ربما لن يمر وقت طويل حتى يموت، وسوف يحرقون ثقباً في الاديم المتجمد ويواروا جسده العليل الثرى ثم يغطونه بالصخور حتى لاتصل اليه الذئاب.
حسنا، ماذا يهم؟ بضعة سنين على أفضل تقدير، شبعت البطون أم جاعت، في النهاية الموت. الموت المتربص دوماً وبطنه الجائعة التي لاتدانيها بطن ابداً."
ماهذا الصوت؟ آه انه صوت الرجال الذين شرعوا يربطون السيور الجلدية القوية حول زلاجاتهم. انصت الى وقع الاصوات، عارفاً بانه سيسمعها للمرة الاخيرة. زمجرت السياط الجلدية وراحت تنهش بالكلاب. انصت العجوز الى انينها. كم تكره هذه الكلاب العمل وسحب الزلاجات. لقد شرعت القبيلة بالرحيل. وراحت الزلاجات تمخض الثلج ببطء، مبتعدة واحدة عنه تلو الاخرى لتختفي داخل غيابات السكون الجليدي. لقد رحلوا. لقد غادروا حياته، وتركوه يواجه آخر الساعات المريرة لحياته بمفرده. كلا. ثمة خف من جلد المقسين يدوس على الثلج محدثاً جلبة؛ وقف رجل الى جواره واستقرت بلطف يد حانية على رأسه الأشيب. لايليق هذا الصنيع الجميل بأحد غير ابنه الطيب. وتذكر رجال آخرين من كبار السن لم يتخلف ابنائهم بعد رحيل القبيلة للاطمئنان على آبائهم. لكن ابنه فعلها. سرح به الخيال إلى حقول الماضي البعيد لبرهة من الوقت حتى اعاده صوت ابنه الى حيث كان.
" هل انت على ما يرام؟" قال ابنه.
وأجاب الرجل العجوز، "نعم على ما يرام".
قال الابن " ثمة حطب إلى جانبك، ونار موقدك تشتعل على نحو حسن. النهار بلا شمس والبرد قد حل في الأرض، وثمة ثلج وشيك في الهواء، لا بل انه قد بدأ يهطل بالفعل وانا احدثك الآن."
" نعم، انه يهطل الآن."
" لقد رحلت القبيلة. أحمال ابنائها ثقيلة وبطونهم خاوية من الجوع، والطريق طويل وعليهم أن يسيروا بسرعة. سأذهب الآن. هل كل شيء على ما يرام؟ "
" نعم على ما يرام. أراني مثل آخر ورقة من اوراق العام الماضي لاتزال معلقة برفق في ساق شجرة. وسيطيح بي أول نفس من انفاس الريح. صوتي أمسى صوت عجوز شمطاء. وعيناي غير قادرتين على انارة الطريق لقدمي الثقيلتان، انني متعب، لكن كل شيء على ما يرام."
ترك رأسه يتدلى فوق صدره عرفاناً بالجميل لآخر صوت أصدره الثلج الشاكي تحت وقع خطى الأبن المرتحل. لقد عرف بان ابنه لن يعود الآن أبداً ومد يده على عجل الى الخارج ليتحسس الحطب الذي اضحى الشيء الوحيد الذي يقف بينه وبين الأبدية التي فغرت فاهها لابتلاعه. لقد أصبحت أخيراً عيدان الحطب التي ستذهب جميعاً، واحدة تلو الأخرى لاطعام النار ميزان لقياس ماتبقى من حياته، وعندما سيبدأ الحطب يتناقص شيئاً فشيئاً، سيقترب منه الموت خطوة خطوة، كل خطوة لكل عود من الحطب تلتهمه النار. وعندما تسلم آخر قطعة من الحطب مافي اعماقها من سخونة الى النار، يبدأ الصقيع يستجمع قواه. في البداية، سوف تستسلم قدماه؛ ثم، يداه، وبعد ذلك سيطوف الخدر، ببطء، في جميع ارجاء جسده، مرتحلاً في البداية من الاطراف الى سائر الجسد. سوف يميل رأسه الى الامام ويستقر بين ركبتيه، وعندها سوف يشعر بالراحة. انه أمر سهل ... فكل البشر يموتون.
لم يتذمر من الحالة التي كان عليها. انها في النهاية سنة الحياة، وهي سنة عادلة. انه ابن هذه الارض التي عاش لصيقاً بصدرها الحاني، وليس ثمة مايدهش في سننها وقوانينها. انها سنة الجسد الذي لاتبالي به الطبيعة ولاترحمه. انها لاتعير بالاً لذلك الكيان المادي المدعو بالفرد، لأن جل اهتمامها منصب على الجماعة، على العرق، على النوع. استغرق العجوز في هذه الأفكار. انها المرة الأولى التي يتسنى لعقله الذي رضعته البرية أن يستغرق في مثل هذه الأفكار المجردة. لقد جعلته هذه الأفكار التي لاحت له فجأة يشعر بشيء من السلوى وقرر عدم التخلي عنها والتمسك بها بقوة. لقد شاهدها متجسدة في امثلة كثيرة طوال حياته. شاهدها في صعود النسغ في الشجرة؛ في تفجر الخضرة في برعم الصفصاف، في سقوط الاوراق الصفراء الذابلة ... انها صور يتجسد من خلالها تاريخ الحياة كله. لقد كلفت الطبيعة الفرد بمهمة وحيدة، ان لم ينجزها مات وان انجزها مات ايضاً. الطبيعة لاتبال؛ وثمة الكثير ممن يذعن لها، لكن في النهاية لابد للمرء من الاذعان، شاء أم أبى. لقد كانت قبيلة كاسكوش قبيلة عريقة جداً، وقد حدثه الأجداد الذين شهدهم في صباه عن آبائهم الراحلين عن اسلافهم الذين درست قبورهم منذ احقاب سحيقة بأن استمرار وقوف القبيلة على قدميها من جيل الى جيل هو نتيجة لاذعان أفرادها لسنة الطبيعة، لأن أي فرد منهم لم يكن له أي اعتبار بحد ذاته. انه مجرد حلقة في سلسلة، أو غيمة سرعان ما تنقشع وتزول كما تنقشع الغيوم من سماء الصيف. هو نفسه كان حلقة من هذه الحلقات، غيمة من تلك الغيوم وسوف ينقشع ويزول. الطبيعة لا تبال. لقد عينت للحياة مهمة وحيدة وسنت لها قانوناً واحداً. لقد منحت للحياة وظيفة الديمومة، وسنت الموت قانوناً لها. الفتاة العذراء مخلوقة يطيب للمرء تملي طلعتها، ممتلئة النهدين وقوية البنية، ينبجس الربيع من تحت خطاها وينبثق النور من عينيها، لكن أوان شروعها بمهمتها التي اوكلتها لها الطبيعة لم يحن بعد. وبمرور الوقت يزداد النور في عينيها القاً، وتتسارع خطاها، تارة تراها تتصرف بجرأة مع الصبيان وتارة بخفر وحياء، ناقلة اليهم شيئاً من اضطرابها وحيويتها. وتظل العذراء تزداد حلاوة على حلاوة ويزهو منظرها في عين من يراها، حتى يأتي اليوم الذي يشعر فيه صياد ما بأنه لم يعد قادراً على منع نفسه عنها، فيأخذها الى خيمته لتطبخ له وتجهد نفسها في خدمته وتنجب له اولاداً. وعندما يأتي الاطفال يغادر البهاء طلعة العذراء، وتبدأ تجرجر اقدامها وتسير بتثاقل، وتتسلل العتمة الى عينيها ويعشو بصرها وتغدو عجوزاً لايهتم بها غير الصغار الذين يتمتعون بملامسة خدها الذابل وهي تجلس قبالة النار. هنا تكون قد وصلت الى نهاية المطاف وتكون مهمتها قد تمت. لكن بعد قليل عندما تعضها اول مجاعة، أوعندما تجد نفسها مضطرة للانخراط في أول ارتحال طويل، تُترك، كما تُرك هو الآن تماماً، في الثلج، مع كومة صغيرة من الحطب. هذا هو القانون وهذه سنة الطبيعة. القم النار بأناة عوداً آخر وواصل تأملاته. لامفر من هذا القانون، انه في كل مكان، ولايسلم من سطوته اي شيء. انه القانون الذي يحكم البعوضة ويجبرها على الاختفاء عند أول الصقيع. انه القانون الذي يجعل السناجيب البرية تزحف بحثاً عن مثواها الأخير عندما تحين النهاية، انه القانون الذي يصيب الأرانب عندما تشيخ بالترهل وبطء الحركة لتصبح بذلك فريسة سهلة لأعدائها الذين تتفوق عليهم عادة بسرعة الجري. حتى الايائل الضخمة المرقطة الوجوه لاتسلم من سطوة هذا القانون، لأنها عندما تشيخ، تصبح خرقاء وعمياء ومشاكسة، وفي النهاية تغدوا صيداً سهلاً لحفنة من كلاب الاسكيمو الشرسة. تابع شريط الذاكرة الذي أعاده الى ذلك اليوم الذي تخلى فيه هو نفسه عن والده في احدى بقاع كلوندايك العليا ذات شتاء غابر، وهو الشتاء الذي سبق وصول المبشر بكتبه وصندوق ادويته. تذكر كيف كان لعابه يسيل لمنظر ذلك الصندوق، لكن لعابه لم يعد يسيل داخل فمه الذي جف منذ امد بعيد. كان يحب الدواء الذي يسميه المبشر " مخفف الآلام" بشكل خاص رغم شعوره بالقرف من ذلك المبشر الذي لم يجلب يوماً اللحم الى المخيم وكان يأكل بشراهة تثير ضغينة الصيادين. رغم كل ذلك لم يسلم ذلك المبشر من قانون الحياة الذي قاده في النهاية الى مصيره عند ضفة نهر مايو حيث تجمد الهواء في رئتيه وتتبعت الكلاب رائحتة الفائحة من بين الصخور لتتقاتل فيما بينها على عظامه.
وضع كاسكوش خشبة اخرى في النار وارهف اسماعه بعمق للصوت القادم من أعماق الماضي. عادت به الذكرى الى زمن المجاعة الكبرى، عندما كان الشيوخ يجثمون ببطون خاوية امام النار، ويسردون للصغار ذكرياتهم الباهتة عن مالاقوه في الأيام الخوالي عندما كان نهر يوكون يجري بكل عنفوانه مدة ثلاث شتاءات، ثم ينجمد لمدة ثلاثة فصول من فصول الصيف. لقد فقد امه في تلك المجاعة. كانت هجرة السلمون قد توقفت في الصيف، ولم يكن امام القبيلة حل آخر غير الانتظار لحين قدوم الشتاء وتأمل عودة الوعول والأيائل. وحل الصيف ولم يحدث شيء مما توقعوه. لم يحدث مثل هذا الأمر من قبل، حتى في أيام اسلافهم الغابرين. وحلت السنة السابعة، لكن الوعول لم تأت، والارانب لم تتكاثر، وغدت الكلاب تشبه صرراً من العظام. تذكر ظلام سنين القحط الدامس وكيف كان الاطفال ينتحبون ويموتون من الجوع، مثلهم مثل النساء والشيوخ، حتى كادت المجاعة أن تقضي على كل شيء، ولم يتبق من القبيلة غير العُشر من ابنائها ممن كُتب له أن يرى وجه الشمس عندما عادت في الربيع. تلك كانت مجاعة حقيقية!
لكن حياة كاسكوش لم تكن مطرزة فقط بصور المجاعة والقحط، فقد شهدت أيام خصب ورخاء أيضاً، حين كان اللحم يفسد في أيديهم، والكلاب بدينة وكسولة من كثرة الطعام ... في تلك الأيام كانوا يمتنعون عن الصيد ويتركون الطرائد تسرح وتمرح اذ لاحاجة بهم لقتلها؛ تلك الأيام كان الخصب ليس في الأرض وحدها بل حتى في أرحام نسائهم اللواتي كن ينجبن العديد من الأطفال ويعمرن المنازل المنتشرة في كل مكان والتي يمرح بين أرجائها اليافعين من الذكور والأناث. في أيام الرخاء تلك كانت بطون الرجال ترتفع لتوقظ في نفوس أصحابها أحقادها النائمة التي كانت تدفعهم لعبور الأنهار وقتل الأعداء من قبائل البيلي، اوتجعلهم يتحركون جنوباً ليخمدوا نيران مواقد قبيلة تانانا. تذكر عندما كان صغيراً، خلال فترة من تلك الفترات التي ساد فيها الرخاء، ذلك اليوم الذي شاهد فيه آثار معركة بين الذئاب وأحد الأيائل. كان بصحبة رفيق صباه زينغ – ها الذي تمدد معه في الثلج لمراقبة مشاهد المعركة ... لقد أصبح زينغ – ها فيما بعد من أمهر الصيادين، وانتهت حياته داخل جوف دوامة من دوامات نهر يوكون، وعثروا على جثته متجمدة على الثلج في اليوم التالي بعد أن كان قد شق طريقه خارج ماء النهر الصقيعي.
في اليوم الذي شاهدا فيه ساحة المعركة كانا قد خرجا ليلعبا لعبة الصيد على غرار ماكان يقوم به آباهما. وفي قاع الجدول عثرا على آثار أيل لم يمض عليها وقت طويل، تتبعها آثار مجموعة كبيرة من الذئاب. "انه أيل عجوز،" قال زينغ – ها " وهو غير قادر على اللحاق ببقية القطيع. لقد عزلته الذئاب عن رفاقه، ولن تتركه يذهب بسلام." وهذا ماحدث فعلاً. فقد كان ذلك ديدن الذئاب في الليل وفي النهار، اذ لايستكينون ابداً، ولسوف يظلون يزمجرون في أعقابه، وينهشونه من أنفه، ولن يخلوا سبيله حتى النهاية. تذكركم شعر هو وزينغ – ها بشهوة الدماء وحرارتها التي راحت تفور في عروقهما عندما تخيلا مشهد النهاية! ستكون النهاية مشهداً لاينسى!
تتبعا آثار المطاردة بخطى ملؤها اللهفة. كان كاسكوش قليل الخبرة وضعيف البصر قياساً برفيقه لكن وضوح الأثر كان كافياً بالنسبة اليه لكي يصل الى ضالته حتى لو أُجبر على أن يسير معصوب العينين. لقد كان الأثر واضحاً للعيان تماماً.
تعقبا المطاردة بشكل محموم، وهما يقرءان سطور المأساة المحزنة التي وجدا حروفها مكتوبة على كل خطوة من خطى الطريق. شاهدا الثلج الذي دعكته الحوافر والأقدام ونثرت منه كميات كبيرة في جميع الاتجاهات بعيداً عن أماكن تساقطه المعهودة. في الوسط كان ثمة آثار مفلطحة لأظلاف الطريدة التي كانت تحاول الفرار، تحيط بها آثار اقدام الذئاب الأخف وزناً. كانت المجموعة كبيرة مما دعا قسم منها الى التلكؤ قليلاً طلباً للراحة، تاركين لبقية الرفاق مهمة مواصلة الهجوم على الطريدة. كانت بصمات الأجساد الذئبية على الثلج تبدوا واضحة تماماً وكأن أصحابها تركوها هناك للتو. لقد بدا واضحاً أن أحد أفراد المجموعة قد تعرض الى دعسة قوية قادته الى حتفه. يشهد على ذلك ماتبقى من عظامه القليلة التي عُريت عن اللحم تماماً.
توقفا مرة اخرى، عندما شعرا بانهما وصلا الى محطة الصراع التالية. في هذا المكان تبين لهما بأن الحيوان الكبير قد قاتل قتالاً مستميتا دفاعاً عن حياًته. كان قد أُحيط به من كل جانب وأُطيح به أرضاً مرتين، حسبما قالت لهما الآثار المطبوعة على الثلج، لكن يبدو انه تمكن في تلك المرتين من تفريق مهاجميه والوقوف ثانية بثبات على قدميه. لقد أتم المهمة التي وضعتها الطبيعة على عاتقه منذ زمن طويل، لكنه رغم ذلك كان لايزال متشبثاً بالحياة حتى النفس الأخير. قال زينغ – ها بأنه أمر غريب أن ينهض أحد الأيائل ثانية بعد سقوطه أرضاً؛ لكن دون شك، يبدو أن هذا الأيل كان قد فعلها حقاً. سيرويان للشامان هذه الحادثة وسيرى في ذلك علامات غريبة وعجائب.
وتابعاً الأثر حتى وصلا الى المحطة الثالثة من الصراع الذي دارت رحاه على أحد الضفاف العالية، حيث حاول الايل تسلق الضفة للوصول الى الأشجار النابتة عند رأسها قبل أن يتمكن المطاردون من اللحاق به. وتبين لهما أن المسكين لم يفلح في ذلك لأن اعدائه كما يبدو كانوا قد تمكنوا من اللحاق به ومهاجمته من الخلف، مجبرينه على التراجع. جعله هذا التراجع القسري يسقط فوق الفريق المهاجم الذي فقد اثنين من أعضائه حيث دُفنا تحت ثقل الأيل العجوز في الثلج. رغم ذلك بدا واضحاً ان الذئاب قد امست تسيطر على الموقف، رغم حدوث مواجهتين اخريين في مكانين متقاربين. كانت ساحة الصراع مصطبغة بلون الدم، وبدا أن خطى الأيل العريضة قد بدأت تقصر وتتقارب. كان المكان يفوح برائحة النهاية حتى شعرا بأنهما يكادان يسمعان أصوات المعركة ... ليست بالطبع تلك الأصوات العالية المنطلقة من عدة حناجر دفعة واحدة مثلما يحدث اثناء المطاردة حيث تفصل بين القاتل والضحية مسافة ما، بل أصوات النباح والعواء شبه المكتوم الناتج عن تقلص تلك المسافة أو انعدامها نتيجة لانطباق الأنياب على اللحم. زحف زينغ – ها على بطنه في الاتجاه المعاكس لحركة الريح، وزحف الى جانبه كاسكوش، الذي سيصبح زعيماً للقبيلة في الأعوام القادمة. أزاحا معاً أغصان شجرة تنوب صغيرة وتطلعا الى ساحة النزال الأخير وأدركا بسهولة لمن كانت الغلبة في النهاية.
كانت معالم المشهد، مثل كل معالم الطفولة التي لم تبارح ذاكرته، واضحة، وشرعت عيناه الكفيفتان المتعبتان تتمثلان تلك المعالم المنبعثة من وديان الماضي السحيق وتتمليانها وكأنها تحدث الآن. اندهش كاسكوش من ذلك، لأنه في الأيام التي تلت تلك الحادثة، أي حين أصبح زعيماً للقبيلة ورئيساً لمجلسها الاستشاري، كان قد قام بالعديد من المآثر التي جعلت اسمه يتردد كاللعنة في أسماع اعدائه، ناهيك عن تغلبه على رجل أبيض صرعه في قتال بالسكاكين حتى الموت، لكن صورة القتال المرير الذي خاضه الأيل حتى النهاية كانت هي الأقوى.
ظل عقله يجوس في زوايا حياته الماضيه لفترة طويلة، حتى هفتت النار وبدأ البرد يتسلل الى مسامات جسده. وضع قطعتين من الحطب ليحافظ على حيوية النار ولم يتبق لديه غير قطعتين أثنين فقط، سوف تقرران ماتبقى له من حياة.
فكر العجوز لماذا لم تتذكر ست – كوم – ها جدها وتجمع له كمية أكبر من الحطب، لو كانت فعلت ذلك لساعدته على اطالة امد السويعات القليلة المتبقية من حياته ولكان وضعه الآن أسهل بكثير. لكنها كانت دوماً صبية لا أبالية لاتقدر قيمة اسلافها وازدادت لااباليتها سوءاً على سوء منذ أن وقعت عيناها على حفيد زينغ – ها. حسناً وماذا يهم كل ذلك الآن؟ الم يفعل هو نفس الشيء في صباه؟ انصت لفترة قصيرة الى دبيب الصمت، وفكر بابنه. قد يرق له قلب ابنه، ويعود اليه ويأخذه مع بقية افراد القبيلة الى مرابع الوعول ذات الاجساد المثقلة بالشحوم.
اصاخ السمع، وتوقف ذهنه القلق عن التفكير للحظات. لم تلتقط أسماعه أي شيء غير طنين السكون والصمت. كان السكون مطبقاً ولم يكن بوسع العجوز سماع شيء غير انفاسه هو. شعر بالوحدة وبالوحشة تنز من المكان المحيط به وتغلف روحه. مزق فجأة صوت بعيد غلاف السكون الموحش الذي أحاط بروحه. ماهذا الصوت؟ واعترت جسده رعدة. وانداح في الفراغ صوت عواء طويل يشبه العويل، عويل طرق أسماعه من قبل مرات ومرات . أخذ العويل المنساب اليه من مكان غير بعيد يوقظ في ذاكرته صورة الايل العجوز من جديد ... خاصرتاه الممزقتان الداميتان، عرفه المخرم بالانياب، وقرناه العظيمان المتشعبان وجسده المندحر المتلوي حتى النهاية في قعر الجدول المنجمد. شاهد الاشكال الرمادية اللامعة، وعيونها المشتعلة كالمصابيح، وألسنتها الطويلة الرطبة وأنيابها الحادة التي يسيل منها اللعاب. شاهد الطوق العنيد الذي ضربته حول ضحيتها يضيق ويضيق حتى صار نقطة سوداء وسط البياض المدعوك.
مس انف بارد ورطب وجهه، واستفز هذا الأتصال روحه وأعادها الى الحاضر. اندفعت يده الى النار وأستلت منها عوداً مشتعلاً. تراجع الحيوان الى الوراء، مدفوعاً بخوفه الغريزي من الانسان، وأودع الهواء عواءاً طويلاً داعياً اشقائه وأخوته الى الحضور؛ ولبى أشقائه النداء بجشع، وحضروا جميعاً حتى تشكلت منهم حلقة من الاجساد الرمادية ذات الأشداق المفتوحة التي يقطر من أنيابها اللعاب وضربت طوقاً حول الرجل العجوز. أصغى الهندي العجوز الى صوت الدائرة التي راحت تضيق من حوله ولوح بعصاه المشتعله بعنف، وتحولت أصوات التشمم الصادرة من قلب الدائرة الى زمجرات وحشية جعلت الحيوانات اللاهثة تضيق خناقها على كاسكوش. في تلك اللحظة، دنى منه احدهم، بحذر، كما لو انه كان يختبر قوة الرجل العجوز. تبعه آخر، ثم آخر، وراحت الدائرة تزداد ضيقاً شيئاً فشيئاً، حتى انتظم الجميع في حلقة محكمة.
لماذا يتمسك بالحياة؟ سئل نفسه والقى بعصاه المشتعلة في الثلج. انبعث من العصا صوت أزيز خافت وانطفأت. ند عن دائرة الذئاب صوت يدل على الاضطراب لكنها أحكمت طوقها عليه اكثر من ذي قبل. مرة أخرى شاهد كاسكوش صورة الأيل وهو يخوض معركته الأخيرة، وطأطا رأسه باجهاد بين ركبتيه. وماذا يهم؟ اليست هذه هي سنة الحياة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت لأول مرة في مجلة مكلور، المجلد 16، مارس، 1901