نقوس المهدي
كاتب
فرنسا يوم السبت إيفنينغ بوست آذار / مارس -- 31 ،1945
بعد أن إلتهم نصف علبة من لحم الخنزير وصفار البيض ، وضع الفتى رأسه مرة أخرى على الأرض المخضلة بالمطر، وانتزع بألم خوذته من على رأسة ، أغلق عينية ، وسمح لعقلة بإفراغ محتوياتة من ألف ثقب، كما تفرغ محتويات برميل من النبيذ، ونام على الفور تقريباً. عندما استيقظ ، وجد أن الساعة قد شارفت على العاشرة .. من زمن الحرب ، زمن الجنون، زمن لا أحد .. وفي هذة الأثناء كانت السماء الفرنسية الباردة ، الرطبة قد بدأت تظلم. إضطجع هناك ، فاتحاً عينيه ، تاركاً افكار الحرب الصغيرة ، التي لا يمكن نسيانها ، والتي لايمكن أن تكون خاوية بشكل يجعل المرء يشعر بالإمتنان ، تنسل عائدة ببطء وثبات الى رأسة ، مثل قطرات ماء نازلة ببطء في خزان. وعندما إمتلا خزان عقلة التعس عن آخرة بتلك الأفكار، طفت فوق سطحه رغبة كئيبة، كدرة كالليل: إبحث عن مكان للنوم. إنهض على قدميك. إحضر بطانيتك. لايمكنك النوم هنا.
رفع الفتى الجزء العلوي القذر، والكريه الرائحة ، والمتعب من جسدة، ومن وضعية الجلوس ، ودون النظر إلى أي شيء ، وقف على قدميه مرتعشاً. إنحنى ، التقط خوذتة ولبسها. مشى مترنحاً الى شاحنة الأغطية، ومن نضدة بطانيات ملفوفة وملوثة بالوحل إستل بطانيتة الخاصة. تأبط تحت ذراعة اليسرى حملة الخفيف غير الدافيء، وشرع يسير على طول محيط الميدان المغطى بالأجمات. مر بهركن الذي كان يحفر، متصبباً عرقاً، موضعاً، ولاهو ولاهركن نظرا الى بعضهما بأي إهتمام يذكر. توقف حيث كان إيفيز يحفر، وقال لإيفيز، " هل ستقوم بالحراسة هذة الليلة ياإيفيز؟" . رفع إيفيز بصرة وقال
" نعم" ولمعت قطرة عرق وفصلت نفسها من طرف أنفة الفيرمونتي الطويل.
قال الصبي لإيفيز " أيقظني لو حدث شيء" وأجاب إيفيز" كيف سأعرف أين ستكون؟" وأخبرة الفتى: "سأناديك عندما أصل الى هناك."
لن أحفر الليلة ، فكر الفتى، وهو يواصل السير. لن أجهد نفسي بآلة حفر الخنادق اللعينة هذه الليلة. لن أصاب. لا تدعوني أصاب. غداً ليلاً سوف أحفر حفرة كبيرة، أقسم على ذلك. أما الليلة ، وفي هذة اللحظة بالذات، حيث يؤلمني كل شيء ، دعوني فقط أجد مكاناً أرقد فية. فجأة شاهد الفتى موضعاً، ألمانياً، أخلاه بشكل لا لبس فيه أحد الكراوات * خلال فترة ما بعد الظهر الطويلة المتفسخة.
حرك الصبي ساقيه المتعبتين بسرعة أكبر، متجهاً نحو الموضع. عندما وصل الى هناك نظر الى داخله، وأنّ عقله وجسده كله تقريباً عندما رأى سترة عسكرية قذرة مطوية بعناية وموضوعة في قاع الموضع، تأكيداً لعائدية ذلك الموضع لصاحب السترة حسب الطريقة المتفق عليها. واصل الفتى السير ورأى موضعاً كراوتياً آخر. وسار نحوة بخطى سريعة خرقاء. وعندما نظر فيه ، رأى بطانية كراوتية صوفية رمادية اللون، نصفها مبسوط ، والنصف الآخر مبعج فوق أرض الموضع الرطبة. كانت بطانية رهيبة تمدد عليها مؤخراً أحد الألمان ونزف وربما مات.
أسقط الصبي لفة بطانيتة على الأرض بجوار الموضع ، أزاح بندقيته ، وقناع الغاز خاصتة ، صرتة العسكرية وخوذته. ثم إنحنى بجوار الموضع، جثا على ركبتيه ، مد يدة أسفل الموضع ورفع بطانية الكراوت الثقيلة ، الدموية ، التي لم يرثي أحد لصاحبها. خارج الموضع، لف هذا الشيء جاعلاً منة كتلة بلامعنى ، ثم التقطه ورماه داخل وشيع كثيف من الشجيرات خلف الموضع. نظر اسفل الموضع مرة أخرى. شاهد بأن الأرضية الموحلة كانت مفعمة بفوضى ما كان سائدا في طيتين من طيات غطاء الكراوت الثقيل. إلتقط الفتى عدة الحفر من صرتة، ونزل في الموضع، وبدأ بأطراف متصلبة يحفر الأماكن السيئة منة.
عندما أنتهى خرج من الموضع ، فك لفة بطانيتة وبسط البطانيتين واحدة فوق الأخرى . وكما لو أنهما كانتا بطانية واحدة، طوى البطانيتين طولياً طية واحدة ، ثم رفع هذا السرير غير المألوف ، كما لو أنة كان مزوداً بعمود فقري من نوع ما ، الى الموضع وأنزلة بعناية بعيداً عن الأنظار.
راقب كتل التراب تسقط وتندس بين طيات بطانيتيه . ثم إلتقط بندقيته ، وقناع الغاز والخوذة ، ووضعهن بعناية على سطح الأرض الطبيعية عند رأس الموضع.
رفع الفتى الطيتين العلويتين من بطانيتيه، فارق بينهما قليلاً، ثم إندس بحذائه الموحل داخل سريره. وهو واقف، نزع سترة الميدان ، كورها بعدة لكمات، وبعدها إضطجع إستعداداً للنوم. كان الموضع صغيراً جداً. ولم يستطع أن يتمدد من دون ثني ساقيه بشكل حاد عند الركبتين. غطى نفسه بالطيات العليا لبطانيتية ، ووضع رأسه القذر على سترة الميدان الأكثر قذارة . تطلع الى السماء الداكنة ، وأحس بقليل من كتل التراب الصغيرة الوضيعة تنزل في ياقة قميصه ، بعض منها أقام هناك ، والبعض الآخر واصل نزولة أسفل ظهره. ولم يفعل أي شيء بشأنها.
فجأة عضتة نملة حمراء عضة مؤلمة، لاهوادة فيها، في ساقة ، فوق طماقه تماماً. دس إحدى يدية تحت الأغطية لقتل هذا الشيء، إلا أن الحركة توقفت، عندما هس الصبي صائحاً من الألم ، شاعراً للمرة الثانية ومتذكراً ألم ذلك الصباح الذي فقد فية إظفراً كاملاً.
بسرعة سحب الأصبع النابض بالألم قريباً من عينية وتفحصة في النور المتلاشي. ثم وضع اليد بأكملها تحت طيات البطانيتين، بعناية تليق بمريض وليست بإصبع متقرح، وشرع يتلو لنفسة نوعاً من التعاويذ المألوفة والخاصة بالجنود المقاتلين.
"عندما أخرج يدي من هذا الغطاء ،" فكر "سينمو لي إظفر جديد، وستكون يداي نظيفتان. وجسدي أيضاً . سألبس سراويل نظيفة ، وملابس داخلية نظيفة ، وقميصاً أبيض، وربطة عنق زرقاء منقطة من نوع بولكادوت . سأرتدي بذلة رمادية مخططة، وسأكون في البيت، غالقاً الباب بالترباس. سأضع شيء من القهوة على الموقد ، وبعض التسجيلات الموسيقية على الفونوغراف ، ولن أفتح الباب. سأقرأ كتبي وأحتسي قهوتي وأستمع إلى موسيقاي ، وبابي موصد. سأفتح النافذة ، وأدعو فتاة لطيفة هادئة الى الدخول .. لن تكون فرانسيس، ولا أي واحدة من اللواتي عرفتهن من قبل .. سأقفل الباب جيداً وأطلب منها أن تقرأ لي شيئاً من قصائد أميلي ديكنسون لي .. تلك القصيدة التي تتحدث عن أن يكون المرء بلادليل .. وسأطلب منها أن تقرأ لي أيضاً شيئاً من وليم بليك .. قصيدتة التي يقول فيها أيها الحمل الصغير من سواك .. وسأوصد الباب من الداخل . ستكون فتاتي ذات صوت أمريكي، ولن تطلب مني لباناً أو حلوى البونبون، وسأكون في غرفتي وبابي موصد بالترباس من الداخل".
أخرج الصبي يدة المتألمة خارج الأغطية فجأة، متوقعاً حدوث تغيير، لكن لاتغيير ، ولاسحر. ثم فك زر غطاء جيب قميصة المبقع بالعرق والمجعد بالوحل ، وأخرج كتلة مبللة من قصاصات الصحف. وضع القصاصات على صدره ، ورفع القصاصة العليا وقربها من عينة. كانت عموداً صحفياً من برودواي، وشرع يقرأ في الضوء الخافت:
الليلة الماضية .. لم أكد أصدق مارأتة عيناي .. ذهبت الى الوالدورف لرؤية جيني باورز ، النجيمة الجميلة ، التي جاءت الى هنا لحضور العرض الأول لفلمها الجديد، وهج الصاروخ الأحمر. (لا تدعوة يفوتكم ، أيها الناس ، إنه عظيم). سألت الجميلة التي تتغذى على الذرة القادمة من ولاية أيوا ، والتي تزور هذة المدينة الكبيرة لأول مرة في حياتها الفاتنة ، ما هو الشيء الذي تودين أن تفعليه أكثر من غيرة هنا. "حسنا" ، قالت الجميلة للوحش "، عندما كنت في القطار ، قررت بأن كل ما أريدة حقاً في نيويورك هو موعد غرامي مع جندي حقيقي وصادق! وماذا حدث برأيك؟ بعد ظهيرة أول يوم لي هنا ، وفي بهو فندق والدورف بالذات صادفت بوبي بيمس ! إنة رائد في العلاقات العامة الآن، ومكان عملة في نيويورك ! أليس ذلك حظاً سعيداً؟" ... حسناً مراسلكم لم يقل لكم كل شيء. لكن يالحظ بيمس، فكرت ب...
جعّد صبي الموضع قصاصة الجريدة مثل كرة ندية، ورفع بقية القصاصات من على صدرة، حرر نفسة منهن ، وألقى بهن جميعاً على الأرض الطبيعية بجانب الحفرة.
حدق بالسماء ثانية، السماء الفرنسية ، الفرنسية دون أدنى شك، وليست الأميركية. وقال بصوت عال لنفسه ، بصوت نصفه ضحك ، ونصفه الآخر نحيب ، "أوو لا ، لا!"
فجأة ، وبشكل مستعجل، أخرج الصبي مظروفاً قديماً متسخاً من جيبة. وبسرعة إنتزع الرسالة من داخلة وبدأ يعيد قراءتها للمرة الثلاثين تقريباً :
ماناسكوان، نيوجيرزي 5 يوليو / تموز 1944
أخي الحبيب الغالي،
ماما لا تزال تعتقد إنك في إنكلترا ، لكني أظن أنك في فرنسا. هل أنت في فرنسا؟ بابا يقول لماما إنه يعتقد إنك لا تزال في إنكلترا ، ولكني أعتقد إنه يعتقد إنك في فرنسا أيضا. هل أنت في فرنسا؟
هبط ا آل بنسون إلى الشاطئ في وقت مبكر هذا الصيف ، وجاكي في المنزل طوال الوقت. جلبت ماما كتبك معنا لأنها تعتقد إنك ستكون في المنزل هذا الصيف. طلبت جاكي إستعارة قصة السيدة الروسية وكتاب آخر من كتبك التي كنت تحتفظ بها فوق مكتبك. أعرتها الكتابين لأنها قالت إنها لن تطوي الصفحات أو أي شيء من هذا القبيل. وقالت لها ماما إنها تدخن كثيراً ، ووعدت بأنها ستقلع عن التدخين. لقد تسممت قبل أن نأتي نتيجة للحروق التي سببها لها جلوسها الطويل في الشمس. إنها تحبك كثيراً. وقالت إنها قد تذهب للعمل في الإذاعة.
رأيت فرانسيس وأنا على الدراجة قبل مغادرتنا المنزل. ناديت عليها، لكنها لم تسمعني. إنها متغطرسة على العكس من جاكي. كما إن شعر جاكي أجمل من شعرها أيضا .
الفتيات على الشاطئ أكثر من الفتيان هذا العام. بالكاد ترى أي منهم . الفتيات يلعبن الورق كثيراً ، ويضعن الكثير من الزيت على ظهور بعضهن البعض ويتمددن في الشمس للحصول على بشرة سمراء، لكنهن يغطسن في الماء أكثر من المعتاد. لقد تشاجرت فرجينيا هوب وباربرا غيزر حول شيء ما ولاتجلسان الآن جنب بعضهما البعض على الشاطيء. ليستر بروغان مات في الحرب في المكان الذي يوجد فية اليابانيون، ولذلك لم تعد السيدة بروغن تنزل الى الشاطيء عدا أيام الآحاد بصحبة السيد بروغان، حيث يجلسان على الشاطيء دون أن يفعلا شيئاً، وانت تعلم بأن السيد بروغان سباح ماهر ، لكنة لايقترب من الماء ويكتفي فقط بالجلوس على الشاطيء. أتذكر عندما أخذتني أنت وليستر الى العوامة مرة. أذهب الآن الى العوامة بنفسي. ديانا شولتز تزوجت جندياً من سيغيرت وذهبت معة الى كاليفورنيا لمدة أسبوع، لكنه ذهب الآن وعادت هي لتتشمس على الشاطيء لوحدها.
قبل مغادرتنا المنزل ، توفي السيد أولينغر ، وقد ذهب أخي تيمرز الى ورشتة ليطلب منه إصلاح دراجتة لكنة وجدة ميتاً خلف النضد، فركض باكياً طوال الطريق الى دار القضاء، وكان السيد تيمرز مشغول بالحديث مع المحلفين ، لكن ذلك لم يمنع الأخ تيمرز من الذهاب الية صائحاً " ابتي ، أبتي ، مات السيد اولينغر !"
نظفت لك سيارتك قبل مغادرتنا للشاطئ، ووجدت الكثير من الخرائط وراء المقعد الأمامي وهي من بقايا رحلتك الى كندا، فحملتها ووضعتها في مكتبك. وجدت كذلك مشط للفتيات، وأعتقد أنه مشط فرانسيس فوضعتة في مكتبك أيضاً. هل أنت في فرنسا؟
تقبل حبي
ماتيلدا
ملاحظة : هل يمكن لي الذهاب معك إلى كندا في المرة القادمة؟ لن أصدع رأسك بالحديث كثيراً ، وسأؤرث لك سجائرك دون الحاجة الى تدخينها فعلاً .
المخلصة ماتيلدا
إشتقت لك. أرجوك عد الى الوطن سريعاً.
حبي وقبلاتي ، ماتيلدا.
أعاد صبي الموضع الرسالة الى داخل المظروف القذر البال بعناية ، ووضعه مرة أخرى في جيب قميصه. ثم رفع جذعة داخل الموضع قليلاً وصاح" ياإيفيز ، أنا هنا !"
وعبر الحقل شاهدة إيفيز وأومأ لة برأسة.
هبط جسد الصبي داخل الموضع مجدداً وصاح بصوت عال موجهاً كلامة الى الفراغ ، " أرجوك عد الى الوطن سريعاً ." ثم غرق في النوم ، معقوف الساقين ، مثل كومة مهشمة.
* Kraut
الكراوت لقب تحقيري للجندي الألماني إستخدمة الجنود الأمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية.