نقوس المهدي
كاتب
في اللحظة التي قررت فيها الإيواء الى السرير، رنّ التلفون . كنت قد رتبت البيت وأطفأت الأضوية في غرفة الإستقبال ، وتركت فقط التلفزيون مفتوحاً ليغسل الغرفة بوهج أزرق . التقطت التلفون بعد الرنة الأولى ، خشية أن تستيقظ العائلة .
لم أسمع صوتاً من الجانب الآخر ، سوى خشخشة التلفون وحفيف الريح الناعم .
قلت : نعم ، من يتكلم ؟
لاجواب . وخطر لي إنهم ربما كانوا لصوصاً ، يتصلون للتأكد من وجود أحد في البيت أم لا .
وسألت من هذا ؟
لكن لاجواب هذة المرة أيضاً . أخفظت صوت التلفزيون بالريموت . وخيل لي إني سمعت صوت أنفاس . كانت أنفاسا خافتة تصدر من فم قريب جداٌ من سماعة التلفون في الجانب الآخر . لكني كنت في شك من أمرها ، حقيقة هي أم خيال ، أم مجرد خشخشة في الخط .
قلت سأقفل الخط الآن ، ولبثت واقفة في مكاني .
أنتظرت وأذني متحفزة لسماع أقل نأمة . كان التلفزيون يعرض فيلما إعلانيا يصور نحلة تحط على زهرة ، ثم سيارة تسيرعبر أحد الصحارى و عارضة أزياء بشعر طويل أشقر تسير على منصة لعرض الأزياء . كانت جميع اللقطات تتحرك ببطء مع قطعات سريعة .
بدت لي مشاهدة الإعلان التلفزيوني دون صوت شيء يبعث على الأستغراب . لقد رأيت هذا الإعلان آلاف المرات وأعرف بالضبط ماذا سيقولون أويفعلون ، كنت أستطيع قراءة الكلمات على شفاههم رغم غياب الصوت .
قلت سأغلق الخط .
لكني عندما هممت بغلق الخط فعلاً سمعت صوتاً مألوفاً .
قال الصوت هذا أنا .
قلت ياآلهي لقد أخفتني . من أي مكان تتصل ؟
سألني ألا تستطيعين الكلام ؟
قلت بلى أستطيع . زوجي نائم . نوبة عملة في النهار وذهب لينام مبكراً . كنت أشاهد فيلماً في التلفزيون ، وأطالع صحيفة .
سألني كيف حالك ؟
كان يتحدث بصوت خفيض يشوبة الغموض ، وكأنة كان ينبعث من مكان سحيق .
قلت لاأدري ، كالعادة ، وأنت ؟
قال لاأدري ، كالعادة .
. وضحكنا
كيف كانت السفرة ؟
جيدة . جيدة جداً .
حل بيننا صمت ، لم يبددة أي منا . لكني كنت أسمع حفيف الريح وأتخيل نبضات الهاتف وهي تسري في الأسلاك عبر المسافات الممتدة من دبلن الى هنا .
أين تسكن ؟
في فندق يُدعى فنبار .
كيف تجدة ؟
مكب نفايات . مكب نفايات حقيقي . لو ترينة ستنكرية .
هل تطل نافذتك على منظر ؟
نعم .
قل لي ماذا ترى الآن ؟
أوة ... إنها دبلن القذرة العجوز . أمامي نهر ، وكذلك رصيف السفن . ومحطة كنغزبردج . وثمة عاشقان تحت مظلة . إنها تمطر . تمطر كما هو شأن سماء دبلن دائماً .
قلت أنا أحب الفنادق . إنها عامرة بالحياة .
لكني لا أعتقد إنك ستحبين هذ الفندق .
تخليتة في غرفة فندقة في دبلن ، يقف بجانب النافذة . وخيوط المطر تسيل على الزجاج . وفي الخارج تتنفس دبلن الغامضة ، بروائحها الغريبة ورنين أصواتها المختلفة . تمنيت أن أكون معة هناك ، لأمسك بيدة وأخرجة من غرفتة وأنزل بة الى ردهة الفندق ، ومنها الى المدينة ، الى دبلن الغافية تحت المطر .
قلت لقد أشتقت اليك .
لم يجب . وفي هذة اللحظة بدأ التلفزيون يعرض مسلسل جديد . مجموعة من سيارات الشرطة تطارد سيارة فورد فضية مهشمة النوافذ ومبعّجة .
ظل صامتاً .
قل شيئاً ، أرجوك ، لاتظل صامتاً هكذا ...
أجاب لاأدري ماأقول .
ثم سكت .
ند عن غرفة الأطفال صوت سعال . ثم سمعت جارنا الساكن فوقنا يجرجر قدمية على أرضية شقتة . وصوت سيارة في الشارع تبتعد مسرعة .
قال أخيراً أتعلمين ، عندما غادرتُ ذلك الصباح ، شممت رائحتك على يدي ...
جلست على الكرسي الموجود بجانب التلفون ، ونقلت السماعة من يسراي الى يمناي ، وتناهى الي صوت أنفاسي اللاهثة ، كان يحدثني عن سفرة في طائرة تغص برجال الأعمال ، وقال : عندما جلست كانت رائحتك تضوع من كفّي ، كل تفاصيلك ، شعرك ، عطرك ، جلدك ...
ثم أمسك عن الكلام . أردت أن أقول شيئاً ، أي شيء ، لكني لم أجد ماأقول .
قال مازلتِ هناك ؟
قلت نعم .
طوال الطريق المؤدي الى فندق فنبار ظلت رائحتك تفوح مني .
بلعت ريقي ، وسحبت نفساً عميقاً .
ثم نزلت الى المدينة ، وسرت تحت المطر . وشيئاً فشيئاً بدأت رائحتك تختفي .
سألتة والآن؟
الآن أستطيع فقط شم رائحة المطر ، رائحة الدخان ورائحة أكلة السمك والبطاطا .
قلت أفتقدك . أريدك أن تعود .
قال لن أعود . لاأستطيع .
كيف ذلك ؟
لقد فات الأوان .
حدقت بالتلفزيون ، ورحت أبدل القنوات بالريموت كمن في غيبوبة . على الشاشة رجل يقبل إمرأة ثم يطوق أحدهما الآخر ويختفيان في شارع ماطر كثيف
الضباب .
قال من الطرف الآخر لخط التلفون ليلة سعيدة .
قلت ليلة سعيدة .
لكن لم يجرؤ أي منا على غلق الخط . ومكثنا كل في مكانة ، مصغين لصفير الخط ، مصغين لصمتينا .
قلت لاتقفل السكة .
ثم أنقطع الإتصال .
لبثت جالسة في مكاني ، ولاحظت إن قلبي كان يدق بعنف ، وسمعت أحد ما يفتح صنبور ماء في الطابق الأعلى . كان بإمكاني سماع صوت الماء بوضوح حتى من مكاني هنا في الطابق الأرضي . نهضت لأطفيء التلفزيون ، وسمعت التلفون يرن للمرة الثانية .
رفعت السماعة .
قلت نعم .
وأجابني الصمت .
سألتة هل هذا أنت ياحبيبي .
لاجواب ، غير صفير الخط الأثيري نفسة .
قلت لاتقفل الخط هذة المرة ، أرجوك ، لاتقفلة ...
قال أردت فقط أن ... أنا ...
وأمسك عن الكلام .
ثم قال إذهبي الى النافذة .
سألتة ماذا؟
وكرر قولة : إذهبي الى النافذة . هل يسمح لك سلك التلفون بالحديث قرب النافذة ؟
سألتة لماذا ؟
فقط نفذي ماأقول ، هل السلك طويل ؟
قلت سأرى إن كان بوسعي فعل ذلك .
كان طول السلك يكفي للوقوف بجانب النافذة . فوقفت حاملة التلفون بيد والسماعة باليد الأخرى . ورأيت وجهي منعكساً على زجاج النافذة ، يغطية وهج التلفزيون الأزرق .
قال أفتحي أحد المصابيح . أريد أن أرى وجهك .
أين أنت ياعزيزي ؟
فقط إفعلي ماأقول . أضيئي المصباح . أريد أن أراك .
وأضئت أحد المصابيح الأرضية .
وسألتة أين أنت ؟
الآن أستطيع رؤيتك .
أين أنت ؟
في سيارة واقفة في المرآب .
قلت هذا غير ممكن . أنت تمزح .
قال لست مازحاً . أنا جالس في سيارة تقف خارج البناية . أستطيع الآن رؤيتك .
لاأصدقك أنت غير موجود هنا. أنت في فندق فنبار في دبلن .
عدت أمس . عدت لأراك . كدت أجن في فندق فنبار .
ثم حل الصمت .
بعدها قال أتدرين إني كنت أتبعك طوال اليوم .
غير معقول . لاأصدقك . أنت غير موجود هنا . غير موجود هنا .
قال لوحي لي بيدك .
حدقت في الظلام بقوة . لكني لم أرشيئاً غير أودا الغارقة في العتمة ، وأنوار مصابيح الشارع الصفراء ، ووجهي المنعكس على زجاج النافذة .
لكني لاحظت شبح رجل . ولم يكن ذلك الشبح سوى جارنا الذي خرج ليدخن وينظر الى السماء .
قلت أنت غير موجود هنا .
أنا هنا .
أثبت ذلك .
لقد ذهبت ِ اليوم الى طبيب الأسنان ، ثم الى مقهى دوموس .
قت آة ... ياآلهي ، ياآلهي، ياآلهي ...
رفعت لة يدي ولوحت .
قال أستطيع أن أراك تلوحين .
وواصلت يدي التلويح الى صورتة النابتة وسط العتمة .
قال أتعلمين بأن ذراعيك تلك تذكراني بالمطعم الذي شهد لقائنا الأول .
قلت نعم أذكر ، وكيف أنسى .
قال أتذكر الآن وهج شمس الخريف ، أتذكر كنزتك الصوفية ، تلك الرمادية ، القصيرة الأكمام ، هل تعرفينها ؟ لقد عشقت ذراعيك ، وهما يسترخيان على قماش الطاولة الأبيض ، ذراعيك الجميلتين المكسوتين بالزغب الناعم .
ملت برأسي نحو النافذة ، وشعرت ببرودة الزجاج على جبيني الساخن . كان بوسعي الوقوف على هذا النحو حتى الأغماء ، حتى السقوط والغياب في الهاوية .
أريني ذراعيك ، ياحبيبتي !
لم أدري ماأفعل . وضعت التلفون على حافة النافذة ، ورفعت ذراعي أمام نافذة الليل المعبأة بالصمت والظلمة ، ولبثت على تلك الحال لزمن لاأدري ماطولة .
وأخيراً أنزلت ذراعي ، والتقطت سماعة التلفون ثانية .
سألتة أين أنت؟ لاأستطيع رؤيتك .
لم يجب . أطفئت النور والتلفزيون ، وغرقت غرفة الإستقبال حالاً في الظلام ، رغم ذلك عجزت عن رؤيتة .
قلت أخرج من السيارة . أخرج من السيارة حتى أراك ياحبيبي .
لكنة لم يجب . وخشيت أن يغلق الخط ثانية . سمعت الأطفال يسعلون ، وصوت نبضاتي وهي تطرق بعنف داخل عروقي .
كدت أفقد توازني ، وسقطت سماعة التلفون من يدي ، وراحت تتدلى من حافة النافذة ، مهتزة كالرقاص جيئة وذهاباً في الفضاء المظلم . وظل صوتة يراودني وكأنة قادم من عمق سحيق .
كان يقول أخرجي وقابليني ، أخرجي وقابليني .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دخل فرودة غريتّن Frode Grytten المولود عام ١٩٦٠عالم القصة من بوابة الصحافة ، عندما نشر ديوانة الأول ، البداية ، ليتبعه بمجاميع من القصص القصيرة وروايتين وكتابين للأطفال . نشأ في مدينة أُدا الصناعية الصغيرة الواقعة على الساحل الغربي للنرويج ، والتي تشكل مسرح أحداث معظم كتاباتة . تتمتع شخصياتة بحس عميق من الفكاهة والعطف ، وتميل قصصة الى الفنطازية والسخرية . من رواياتة أغاني بوب ، وأغنية القفير . فاز ورشح لعدد من الجوائز الأدبية المهمة وترجمت أعمالة لعدة لغات .
علي سالم