قصة قصيرة جاك لندن - في غابات الشمال.. قصة - ت: علي سالم

في رحلة ممهورة بالضجر ، تمتد خلف آخر الأجمات وبقايا الغياض المبعثرة ، وتنغرز في قلب الأرض العقيمة التي يُفترض أن الشمال الشحيح قد سلبها بهائها ومجدها ، توجد ثمة مساحات شاسعة من الغابات وإمتدادات بلا حصر من الأراضي الواعدة التي تكاد تكون مجهولة للجميع ، عدا نفر من المستكشفين القلائل ، الذين كانوا يتوغلون في أعماقها بين الحين والحين ، لكن لم يحدث أبداً لأحدهم أن عاد لسرد وقائع الحكاية .
و لكن ماهي هذة الأرض العقيمة وماهي قصتها ؟ حسناً ، إنها أراض القطب الشمالي السيئة الصيت ، أنها صحارى الدائرة القطبية البيضاء ، الوطن القاتم والمرير لثيران المسك ، وذئاب السهوب المنجمدة الرشيقة . هكذا وجدها إيفري فان برانت ، كئيبة وبلا شجر ، ومتلفعة بلباس مهلهل وبائس من الطحالب والأشنات ، قذىً لعين الناظر. على الأقل هكذا كانت في البداية ، قبل أن يتوغل في الفراغات البيضاء الخاوية الموجودة على الخريطة ، ليجد نفسة في أحضان غابات صنوبر غنية لاتخطر حتى في الأحلام وقبائل إسكيمو لم يسجلها التاريخ من قبل . لقد كان في نيتة ، (وسعيه من أجل الشهرة) ، أن يكسر رتابة تلك الفراغات البيضاء ، ويحبرها بالعلامات السوداء التي تمثل سلاسل الجبال ، والأغوار والمنخفضات ، ومجاري الأنهار المتعرجة ؛ وإنها لفرحة مضاعفة أن يفكر بتلك الأحزمة المتراصة من الغابات وقرى الأهالي المتناثرة هناك .
أيفري فان برانت ، أو البروفيسور أي . فان برانت ، لو شئنا إيراد أسمة ولقبة العلمي بالكامل ، العامل في دائرة المساحة الجيولوجية ، كان الشخصية الثانية في قيادة البعثة ، والأولى في قيادة البعثة الثانوية التي إنفصلت عن البعثة الأم وإنطلقت في جولة جانبية إمتدت لمسافة نحو خمسمئة ميل على أحد فروع نهر ثيلون والتي كان يقودها الآن متجهاً إلى واحدة من القرى غير المسجلة على الخريطة. خلفة كان يسير بتثاقل عبر الثلج ثمانية رجال ، منهم اثنان من الأدلاء ينتميان الى مقاطعات فرنسا الكندية ، والباقون ستة رجال أشداء من قبيلة كري العائدة لمنطقة مانيتوبا – وي . أما هو فقد كان السكسوني الوحيد القح في هذة المجموعة ، وكان دمه يهدر داخل عروقة وهو يسير تبعاً لتقاليد أسلافة. خلفة كان يسير كلايف وهاستينغز ، ودريك ، وهنغست و هورسا . لقد كان أول القادمين من سلالتة لهذة القرية النائمة في أصقاع نورثلاند ، وكانت هذة الفكرة تبث فية شعوراً بالمجد والنشوة ، جعل رفاقة يلاحظون كيف غادرت وعثاء السفر قدمية ، وراحتا تنهبان الطريق بخفة ونشاط .

خرجت القرية عن بكرة أبيها ، ووتدفق منها لإستقباله حشد من عناصر مختلفة من الرجال والنساء والأطفال ، وكان الرجال في المقدمة ، حاملين أقواسهم ورماحهم بشكل مهدد ، وخلفهم سارت النساء والأطفال بخطى خجولة متعثرة . رفع فان برانت ذراعه اليمنى ورسم إشارة السلام ، وهي إشارة يفهمها الجميع ، وأجابة القرويون بالمثل . ولكنة إغتم لبروز رجل ملفع بلباس من الجلد ، ركض إلى الأمام ، وحياة بالانكليزية قائلاً "مرحباً ". كان رجلاً ملتحياً ، مسفوع الخدين والجبين بلون برونزي ، وشاهد فان برانت بأنة لم يكن من الأهالي . فامسك بيدة الممدودة وسألة
"من أنت؟ أندريه؟".
"من أندريه؟". أعاد الرجل علية السؤال .
أمعن فان برانت النظر فية، ثم صاح "بحق الإلة ، لقد مكثت هنا زمناً طويلاً ".
أجاب الرجل " خمس سنوات" وشع وميض خافت من الفخر في عينية. وأضاف " لكن هيا ، دعنا نتحدث " ثم قال عندما شاهد فان برانت ينظر الى جماعتة " دعهم يخيمون الى جانبي ، سوف يعتني بهم تانتلاش العجوز، والآن هيا بنا."
وإستدار وأخذ يسير بخطى عريضة وتبعة فان برنت بين بيوت القرية المتناثرة. كانت الخيام المصنوعة من جلود أيائل الموظ تنتشر على أرض القرية بشكل غير نظامي ، حسب ماتسمح بة طبيعة الأرض ، وطافت بالخيام عين فان برانت المدربة وراحت تحسب.

"مائتا خيمة ، ناهيك عن الصغيرة منها ". قال مخمناً .

أومأ الرجل موافقاً " تخمين سليم . لكنني أقطن هنا ، بعيداً عن الزحمة، كما تعلم ، ثمة خصوصية أكثر في ذلك . إجلس ، سنآكل معاً عندما يعد لنا رجالك شيئاً من الطعام . لقد مرت علي خمس سنين هنا نسيت فيها مذاق الشاي ... وكذلك مذاق ورائحة التبغ .... هل لديك شيء منة ؟... آه ، شكراً ، وهل لديك غليون ؟ جيد. والآن لنشرع بالتدخين ونرى إن كان التبغ مايزال يحتفظ بجاذبيتة العتيقة الماكرة ".

وأشعل عود ثقاب بعناية حطاب ، وحمى شعلتة الصغيرة بيدية كما لو انها كانت آخر شعلة نار في العالم ، وسحب أول أنفاسة العميقة من الدخان ، وأحتفظ بة داخل فمة لبعض الوقت ، وهو يشعر بحالة من التأمل الحالم ، ثم شرع ينفث الدخان ببطء وأناة من بين شفتية المطبقتين وكأنة لايريدة أن يفارق فمة . وتسلل الى وجهه نوع من السكينة والسلام وهو يستند بظهرة الى الوراء ، وغطت عينية غشاوة ناعمة من الإحساس بالرضا والإرتياح . تنهد بإرتياح شديد ، وبسعادة ، وإحساس لايوصف بالرضا والسرور ، ثم قال فجأة :
" يآلهي ! إنة طيب المذاق الى أبعد الحدود !"
أومأ فان برانت برأسة تعاطفاً " قلت لي خمس سنوات ؟"
" خمس سنوات ". تنهد الرجل مرة أخرى . " أفترض إنك ترغب بمعرفة كيف تم ذلك ، كونك تملك حباً فطرياً للإستطلاع ، كما أن هذا الوضع الغريب جداً يثير شهيتك . ولكنة ليس بتلك الغرابة. لقد جئت من أدمونتون بحثاً عن ثيران المسك ، ومثل بايك والبقية ، نلت حصتي من سوء الحظ ، وفقدت رفاقي وعدتي . وعشت نفس تفاصيل القصة القديمة ، المجاعة والمشقة ، نفس الحكاية ، كما تعلم ، وكنت الناجي الوحيد من بين كل رفاقي ، حتى وصلت أخيراً الى قرية تانتلاش هذة زحفاً على اليدين والركبتين ".
" خمس سنوات " ، غمغم فان برانت ، وكأنة يريد التأكد من صحة الرقم في ذهنه .
" نعم ، خمس سنوات في هذا المكان منذ أواخر شباط / فبراير الماضي . عبرت بحيرة غريت سليف أوائل أيار / مايو"
صاح فان برانت " هل أنت... فيرفاكس ؟ " .
أومأ الرجل برأسة موافقاً .
"دعني أرى ... أعتقد إن إسمك جون ، جون فيرفاكس".
وتساءل فيرفاكس بكسل ، وهو شبة غائب في لوالب الدخان المنبعثة من فمة في الهواء الساكن " كيف عرفت ؟ ".
" كان ذلك الشغل الشاغل للصحف حينها . بريفانش -"
جلس فيرفاكس وقد دب فية النشاط فجأة " بريفانش ! . لقد ضاع في جبال سموكي ".
"نعم ، لكنه خرج منها سالماً ".
إسترخى فيرفاكس ثانية وواصل إطلاق لوالب الدخان من فمة . "أنا سعيد بسماع ذلك ،" قال بصوت حزين . " كان بريفانش يتنمر عندما يحدث أن يكون لدينا أفكار مشتركة عن سيور الرأس ، لكنة نجا ، ذلك الشحاذ ، كما تقول ؟ حسناً ، يسعدني سماع ذلك "
خمس سنوات . . . ظلت هذة العبارة تطوف في ذهن فان برانت مرات ومرات، وبطريقة ما بدا أن وجه إميلي ساوثويث يصعد من قلب العدم ، ويتجسد كاملاً أمامة . لقد مرت خمس سنوات على إفتراقهما . . . وأطلق سرب من الطيور البرية كان يطير على شكل إسفين صياحاً خافتاً فوق رؤوسهم ، وعندما شاهد المخيم إنحرف بسرعة نحو الشمال بإتجاة الشمس الهامدة . وعجز فان برانت عن متابعة خط طيرانه، وأخرج ساعته . كانت الساعة تشير الى الواحدة بعد منتصف الليل. وشعت الغيوم التي تجمعت أقصى الشمال بلون أحمر دموي، وإنطلقت خيوط حمراء داكنة من الاشعة نحو الجنوب ، مطلقة نحو الغابات المعتمة سهاماً من نور شاحب. كان الهواء شديد السكون، وقفت فية إبر الصنوبر جامدة بلا حراك ، وأضحت الأصوات القليلة الصادرة من المخيم واضحة جداً ودقيقة مثل صوت بوق . وإستسلم الكيريون والأدلاء لروح السكون التي إنبثت في ثنايا المكان ، وراحو يتكلمون باصوات خفيضة حالمة ، وتحرك الطاهي بحذر محاولاً جهدة ألا ترتطم مقلاتة بقدرة إجلالاً للسكون. ومن مكان ما إنطلق صوت طفل يبكي ، ومن اعماق الغابة ، صعد صوت إمرأة ما ، مثل خيط من الفضة ، مولولاً بحزن : " أووووو هااهاه أووا واوا أُووهاهاها أُوواواوا "Ooooooa "O-o-o-o-o-o-a-haa-ha-a-ha-aa-a-a, O-o-o-o-oo-a-ha-a-ha-a."-
إرتجف فان برنت ومسد ظاهر يدية بنشاط . وسالة رفيقة ببطء " إذاً حسبوني ميتاً ؟"
" ذلك لأنك لم تعد ، لاأنت ولا أصدقائك "
أطلق فيرفاكس ضحكة مجلجلة وقال " آة لقد نسيت "
" لماذا لم تعد ؟"
" أظن لعدم رغبتي بذلك أولاً وثانياً لأني كنت أعيش ظروفاً قاهرة . لقد كان تانتلانتش مصاباً في أحدى ساقية عندما التقيتة لأول مرة . كان يعاني من كسر كرية وقد عالجتة حتى شفى . ومكثت بعض الوقت لأسترد قواي. لقد كنت أول رجل أبيض يراة في حياتة ، وبالطبع بدوت لة حكيماً جداً وإقتنع أبناء قبيلتة بأن علمي لاحدود لة. لقد علمتهم على سبيل المثال ، فن التكتيك العسكري، وساعدهم ذلك على إخضاع قرى القبائل الأربعة الأخرى ، التي لم ترها بعد ، وأصبحوا أسياد المنطقة . وجعلة ذلك بالطبع يقدرني كثيراً ، بحيث لم يعد يسمح لي بتركهم . لقد أكرموا وفادتي ، في الواقع . وعينوا حراساً علي يراقبوني ليلاً ونهاراً . ثم بدأ تانتلاتش يقدم لي المغريات ، وبما أن بقائي معهم من عدمة لم يعد مهماً بالنسبة لي ، فقد وطنت نفسي على البقاء ."
" لقد كنت أعرف شقيقك في فرايبورغ. أنا فان برنت " .
مد فيرفاكس يدة الى الأمام وصافحة " إذاً أنت صديق بيلي، أليس كذلك ؟ بيلي المسكين لقد كان يتحدث عنك كثيراً ".
وأضاف قائلاً وهو يلقي بنظرة شاملة على المشهد البدائي ومصغياً للحظة لنبرات صوت المرأة النادبة " يالة من مكان غريب للقاء".
" زوجها قتلة دب، ولم تستطع تحمل الصدمة".
وكشر فان برنت تكشيرة تنم عن الإمتعاض وقال " إنها حياة بدائية ، أعتقد بأن طعم الحضارة سيكون لذيذاً بعد إغتراب خمس سنوات، مارأيك؟"
وإكتسى وجة فيرفاكس بتعبير بليد " لاأدري بالضبط، إنهم على الأقل أناس صادقون ويعيشون على فطرتهم . إنهم بسطاء بشكل يثير الدهشة، خالين من العقد تماماً، وواضحين في التعبير عن عواطفهم . لايكذبون إذا أحبوا، أو خافوا أو غضبوا أو شعروا بالسعادة. قد تكون حياتهم أقرب الى حياة الوحوش ، لكنها حياة من السهل أن تُعاش. لاغزل ولاخلاعة. إن أحبتك إمرأة ، فلن تتردد في إخبارك بذلك. وإن كرهتك، ستقول لك ذلك ، ثم إذا شعرت برغبة بضربها ، فبإمكانك أن تفعل ذلك ، لكن المهم إنها تعلم بالضبط ماذا تقصد أنت من وراء ذلك، وأنت تعرف بالضبط ماذا تقصد هي. لاوجود للأخطاء، لاوجود لسوء الفهم. هذة الحياة تسحرني ، بعد أن مللت من حمى الحضارة المتقطعة. هل تفهم ماأعني؟".
وواصل الحديث بعد وقفة صغيرة " كلا، إنها حياة جيدة جداً، جيدة بالنسبة لي على الأقل، وأنوي الإستمرار عليها".
طأطأ فان برنت رأسة وراح يفكر وطفت فوق محياة إبتسامة غامضة . لاغزل ولاخلاعة، ولاسوء فهم. كان فيرفاكس يعاني من صدمة هو الآخر، لأن دباً آخر كان قد إختطف حياة أميلي ساوثويذ بالصدفة . ولم يكن هذا الدب سيئاً أيضاً، لأنة كان يدعى كارلتون ساوثويذ.
قال فان برنت بترو " لكنك ستأتي معي"
" كلا ، لن افعل ذلك"
" نعم ستأتي"
قال فيرفاكس بحزم " هنا الحياة سهلة جداً. أفهم كل شيء ، وهم يفهموني . الصيف والشتاء يتعاقبان كتعاقب نور الشمس عبر أوتاد السياج، والفصول لطخة من النور والظل، والزمن ينقضي، والحياة تنقضي، ثم لايبقى شيء غير العويل داخل الغابة ، والظلام. إصغ!".
ورفع يدة الى الأعلى، وصعد الخيط الفضي لأحزان المرأة عبر الصمت والسكون، وإنضم فيرفاكس الى هذة الترنيمة الحزينة، وراح يردد بصوت خافت " أو- و- و – و – و- و- و- هاا- ها- آه- ها- آه- ه- ه، أو- و- و – و – و- و- و هاا- ها- آه- ها- آه- ه."
" ألاتستطيع سماع ذلك؟ ألاترى كيف تندب تلك المرأة وتنشد نشيد الحداد . البياض يجلل ضفائري بالوقار . وفرائي على بساطتة يغلفني ببهاء. حربة صيدي الى جانبي. فمن ذا الذي يشك بأني لست بخير ؟"
نظر الية فان برنت ببرود وقال " أنت أحمق. إن خمس سنوات من العيش في هذا المكان كافية لجعل المرء يفقد عقلة، أنت في وضع مريض وغير صحي تماماً. بالإضافة الى ذلك فإن كارلتون ساوثويذ قد مات."
ملأ فان برنت غليونة بالتبغ وشرع يدخن ، وراقب خلسة وبمهارة حرفية تقريباً عينا فيرفاكس اللتان لمع فيهما ضوء غريب عندما سمع بخبر وفاة كارلتون، فنهض قليلاً ليرخي عضلات جسدة المشدودة ، ثم جلس وقد تغلف وجهة بمسحة من الكآبة والقلق. في هذة الاثناء صاح مايكل الطباخ بأن الطعام قد أصبح جاهزاً للأكل، لكن فان برنت طلب منة أن يتريث قليلاً. كان الصمت قد ران ثقيلاً على المشهد، وشرع فان برنت يحلل الروائح العديدة التي كانت تملأ الجو من حولة. الروائح العطرية المنبعثة من الغابة، والروائح العفنة المتصاعدة من قلب التربة والنباتات المتفسخة، المختلطة بعبير إبر وأكواز الصنوبر والنكهة العطرية لأدخنة المخيم العديدة.
رفع فيرفاكس رأسة مرتين، لكنة لم يقل شيئاً، ثم قال أخيراً :
" وماذا عن أميلي؟"
" إنها أرملة منذ ثلاث سنين ، ولاتزال كذلك."
حلت فترة أخرى من الصمت الطويل، عاد بعدها فيرفاكس الى الحديث بإبتسامة ساذجة " أعتقد بأنك على حق ، يافان برنت ، سأذهب معك."
وضع فان برنت يدة على كتف فيرفاكس وقال " كنت أعلم بأنك ستفعل. بالطبع لايمكن للمرء أن يجزم، لكني أتخيل نفسي في مكانها، ماذا يمكن لإمرأة في مثل وضعها أن تفعل ، خصوصاً بعد أن تقدم البعض لطلب يدها"
قال فيرفاكس مقاطعاً " متى ستشرع بالرحيل ؟ "
" حالماً ينال الرجال قسطاً قليلاً من النوم. وهذا يذكرني بأن مايكل قد بدأ يغضب، هيا نتناول شيئاً من الطعام."
وبعد العشاء ، عندما إالتف الادلاء ورجال كري ببطانياتهم، وشرعوا بالشخير، لبث الرجلان جالسين بجانب النار المحتضرة.
كان ثمة الكثير من الشجون، شجون الحرب والسياسة والإستكشافات، شجون الرجال ومشاغل الحياة ، شجون الأصدقاء المشتركين، شجون الزواج، شجون الموت ، بإختصار كل ماحدث خلال خمسة أعوام من الغياب.
"وهكذا حُشر الأسطول الإسباني في سانتياغو،" عندما إنتهى فان برنت من قولة تقدمت إمرأة شابة بخطى وئيدة نحوهم ووقفت بجانب فيرفاكس. ونظرت الى وجههة نظرة خاطفة ، ثم أخذت تحدق بوجة فان برنت بعينين مليئتين بالقلق.
قال فيرفاكس موضحاً وقد إكتسى وجهة بحمرة إرتباك صادقة " إنها إبنة تانتلاتش، بمثابة أميرة لدى قومها، وواحدة من المغريات التي قُدمت لي لتشجيعي على البقاء. ثوم ، دعيني أعرفك بصديقي فان برنت"
مد فان برنت يدة، لكن المرأة لم تحرك ساكناً، وظلت تعاينة بجمود وتصلب بنظرات حادة ، مباشرة ، مفعمة بالأسئلة الحائرة.
ضحك فيرفاكس قائلاً " إنها تفهم الكثير، إنة لقائها الأول، كما تعلم. لكن إكمل حديثك لي عن ورطة الأسطول الإسباني في سانتياغو"
قرفصت ثوم بجانب زوجها، بلا حراك كتمثال من البرونز، فقط عيناها كانتا تومضان بين وجة وآخر في بحث دائب. وشعر أيفيري فان برنت، وهو يتحدث بلا إنقطاع، بإحساس متزايد من القلق نتيجة لنظراتها الجامدة المسلطة على وجهة. وعندما كان يصف مشاهد المعارك الدامية ، كان يشعر بنار تلك العينين السوداوين تحرق وجهة ، مما كان يجعلة يتعثر ويرتبك وهو يحاول الإمساك بخيط القصة من جديد. وكان فيرفاكس الذي كان يجلس شابكاً يدية على ركبتية ومستغرقاً في تدخين غليونة، يحثة على الإستمرار في الكلام ، كلما لمس منة تردداً، لكي يستعيد صورة العالم الذي ظن بأنة قد نساة.
مرت ساعة، أو ساعتين، ونهض فيرفاكس على مضض وقال " قلت بأن كونجي قد حوصر، أليس كذلك؟ حسناً، إنتظرني دقيقة فقط ، علي الذهاب لزيارة تاتلنتش. إنة يحب التحدث اليك، وساقوم أنا بترتيب اللقاء بينكما بعد الفطور. سيكون ذلك حسناً، أليس كذلك؟" ثم تركهما وغاب وسط أشجار الصنوبر، ووجد فان برنت نفسة وحيداً في مواجهة عينا ثوم الساخنتين. وفكر بأن سنها الآن يقارب العشرين عاماً، أي قبل خمس سنوات لم يكن عمرها أكثر من خمس عشرة سنة. إنها مخلوقة رائعة، ويُفترض بها ، كفتاة من تنتمي الى شعوب الإسكيمو ، أن يكون لها أنف مفلطح، أو عريض ، لكنها لاتملك لاهذا ولاذاك، لأن أنفها أعقف، ولة منخرين دقيقين وجميلين كمنخري فتاة بيضاء. لاتخف منها يافان أيفيري برنت، إنها لاتعض ، ليست سوى فتاة عادية، ولها حظ من الجمال. جمالها أقرب الى جمال الشرقيات منة الى جمال بنات الإسكيمو. العينان كبيرتان والمسافة بينهما كبيرة ولاتملكان من الإنحراف الذي يميز عيون المنغوليات الا القليل. ثوم أنت شاذة عن القاعدة. أنت لاتنتمين الى هذا المكان الذي تقطنة قبائل الإسكيمو، حتى لوكان والدك واحداً منهم. الى أي اصول تنتمي أمك؟ أو جدتك؟ أنت جميلة ياثوم، لكن جمالك بارد ومتجمد ، وفي دمائك تجري حمم آلاسكا، كفي عن النظر الي على هذا النحو ، أرجوك.
ثم ضحك ونهض واقفاً على قدمية. لقد أربكتة نظراتها الملحاحة. وكان ثمة كلب يجوس مفتشاً بين أكياس الطعام عن شيء من الأكل. سيقوم بنهرة وطردة من المكان ووضع الأكياس في مكان آمن لحين عودة فيرفاكس. لكن ثوم مدت ذراعها وأوقفتة قائلة بنبرة من التحدي بلسان أهل الدائرة القطبية الذي يختلف قليلاً من مكان لآخر من منطقة غرينلاند الى منطقة بوينت بارو " أنت؟ أنت؟"
وأكملت تعابير وجهها السريعة ماكانت كلمة " أنت" تحملة من دلالات ومطاليب متعلقة بسبب وجودة هنا وعلاقتة مع زوجها وكل شيء.
فأجابها بنفس لسانها، محركاً يدة تجاة الجنوب " نحن أخوين، أنا وزوجك ".
هزت راسها وقالت " أنا غير مرتاحة لوجودك هنا."
" سأغادر بعد ( نوم) واحد."
فقالت بصوت يرتجف لهفة " وماذا عن زوجي؟ "
هز فان برنت كتفية بلامبالاة. وأحس بداخلة بشعور من العار خفي ، عار غير مشخصن وغضب تجاة فيرفاكس. واحس بالدماء الحارة تتدفق الى وجهة وهو ينظر الى وجة هذة الشابة المتوحشة. لقد كانت مجرد إمرأة. إمرأة تحتوي على كل التفاصيل المألوفة التي تحدد معنى كلمة إمرأة، وتعيد تمثيل نفس القصة القديمة القذرة ، مرة تلو الأخرى، بدءاً من حواء وإنتهاءاً بآخر عشيقة.
وراحت تردد بإلحاح وقد إسودّ وجهها من الإنفعال، وثبتت عيناها اللتان أطلت منهما تلك الرقة القاسية لروح المرأة الأبدية، الأنثى الزوجة " زوجي! زوجي! زوجي!"
" ثوم " قال بالإنكليزية بصوت وقور " لقد ولدت في غابة نورثلاند ، وأكلت السمك واللحم، وتحملت الصقيع والمجاعة، وعشت حياة بسيطة طوال عمرك. ثمة أشياء كثيرة، وهي في الواقع ليست بسيطة،لاتعرفينها ولاتستطيعين أن تفهمينها.أنت لاتعرفين مامعنى أن يتوق المرء الى أماكن اللهو البعيدة، إنك لاتستطيعين أن تفهمي معنى أن يشتاق المرء لإمرأة جميلة من جنسة ، والمرأة التي أعنيها جميلة ياثوم جميلة الى حد النبل . لقد كنت طوال حياتك زوجة لهذا الرجل، وقد كرست كل مالديك من أجل راحتة، لكن كل ذلك لايكفي بالنسبة له ، لأن كل مالديك قليل جداً وشديد السذاجة. قليل وساذج جداً، وهو رجل غريب.وأنت لم تعرفية على حقيقتة، ولن يكون بوسعك أن تفعلي ذلك أبداً. لأن هذة هي مشيئة الاقدار. أنك تمسكينة بين ذراعيك، لكنك لم تتمكني من الإمساك بقلبة، إنة رجل ذو فصول غير واضحة وأحلام ذات نهايات بربرية. أحلام ، وغبار أمنيات كل مايمثلة هذا الرجل لك. لقد كنت تمسكين بصورة، وتقبضين على ريح، لقد منحت نفسك لرجل لكنك كنت ترقدين مع شبح . وأنا لاأحب ياثوم أن ارى جون فيرفاكس يصحو بعد فوات الأوان ليجد الى جانبة ليس تلك التي مجدت الشمس شعرها بلونها الذهبي، بل ظفائر سوداء لفتاة منسية في غابات الشمال."
رغم إنها لم تفقة شيئاً من حديثة، إلا إنها راحت تصغي إلية بإهتمام بالغ ، كما لو أن وجودها نفسة كان يعتمد على ماكان يفوة بة من كلمات. ومن بين جميع الكلمات التي قالها تشبث عقلها بكلمة واحدة وهي أسم زوجها "فيرفاكس" فأنطلقت تصرخ بهذا الأسم بقوة بلغة الأسكيمو قائلةً" نعم! نعم! فيرفاكس ! زوجي!"
" أيتها الحمقاء المسكينة، أنُى لة أن يكون زوجك؟"
لكنها لم تفهم لسانة الإنكليزي، وحسبت ذلك إستخفافاً منة بها، فتملكها غضب عارم ، وبدت لة كما لو أنها كانت تستعد للإنقضاض علية كلبوة شرسة. فأخذ يدمدم لنفسة بصوت خافت وينظر الى لهيب الغيظ الذي إشتعل في حنايا وجهها يخبو وينطفيء ، مخلفاً وراءة ذلك الوهج اللامع الذي يكتسي بة عادة وجة أمرأة مهيضة الجناح لاتملك من أمرها غير التوسل والإستعطاف .
قالت بصوت رقيق " إنة رجلي . إنة الرجل الوحيد في حياتي. ولاينبغي لي إتخاذ غيرة بعلاً لي ، ولاينبغي لة هو أيضاً أن يغادرني ويرحل".
صاح لي فان برنت بصوت حاد ينوس بين الغضب والشعور بالعجز عن إيصال مايريد" من قال إنة سيغادرك ويرحل؟".
قالت بصوت خافت، موشى بالدموع " أنت من يقرر إن كان سيتركني أم لا".
رفس فان برنت جمر الموقد المشتعل بقوة وجلس على الأرض.
" أنت من يقرر بقائة أو رحيلة. إنة زوجي . زوجي أنا من دون جميع النساء. أنت كبير ، وقوي ، وليس بوسع إمرأة ضعيفة مثلي مجاراتك. فأنظر الي بعين العطف ، أتوسل اليك، وأركع بين قدميك ، لأنك أنت من سيقرر مصير حياتي ، أنت وحدك فقط".
قال فان برنت وهو يرفع جسدها المنبطح المنكسر من على الأرض بخشونة "إنهضي ! أنت إمرأة ، ولايليق بك التمرغ بتراب هذا المكان ، أو غيرة، ولايليق بك أيضاً أن تركعي أمام أي رجل مهما كان".
" إنة رجلي."
فصاح فان برنت بصوت مفعم بالتأثر " إذاً فليسامح الرب جميع الرجال !"
لكنها ظلت تردد متوسلة على نحو متكرر" إنة رجلي ، إنة رجلي,".
أجاب فان برنت " إنة أخي".
" إنا بنت الزعيم تاتلانتش ، وهو زعيم لخمسة قبائل. وسأطلب منة أن يبحث لك عن أفضل إمرأة من بنات هذة القبائل الخمسة ، حتى يتسنى لك البقاء هنا بجانب أخيك".
" ساغادر بعد (نوم واحد)".
" وماذا عن زوجي ؟"
" إنة قادم الآن . أنظري !".
وإنبعث من وسط ظلام إشجار الصنوبر الداكنة صوت فيرفاكس مترنماً .
وكما يطفيء بحر الضباب وهج النهار، أطفئت ترنيمتة النور في وجهها.
قالت" إنة يغني بلسان بني قومة، لسان بني جلدتة".
ثم إستدارت برشاقة حيوان صغير ودخلت الغابة.
قال فيرفاكس عندما وصل " لقد تم كل شيء، وسيستقبلك جلالتة بعد الفطور".
سال فان برنت" هل أخبرتة؟"
" كلا. لن أخبرة حتى يحين موعد الرحيل".
القى فانت برنت نظرة حزينة على رفاقة الغارقين بالنوم، وقال" سأكون سعيداً لو تمكنا من قطع مئة فرسخ على طريق عودتنا بعيداً عن هذا المكان".
رفعت ثوم سجف خيمة والدها المصنوعة من الجلد . كان ثمة رجلان يجلسان معة ، ونظر الثلاثة الى وجهها بإهتمام عاجل . لكن وجهها لم ينطق بشيء وهي تدخل وتجلس على الأرض بهدوء ، ودون كلام . وطرق تانتالاتش ببراجم أصابعة على نصل رمح كان يضعة متصالباً فوق ركبتية ، وتطلع بكسل الى عمود النور الذي شق طريقة عبر ثقب في نسيج الخيمة ورسم خيطاً لامعاً عبر فضاء الخيمة الداكن . على يمينة كان يجلس شوغونغات، عراف القبيلة أو شامانها . كان كلا الرجلين قد بلغا من العمر عتياً، وكانت ظلال السنين الطويلة التي عاشاها معاً تتراقص في عيونهما الحزينة. لكن في الجهة المقابلة، جلس كين، وهو محارب شاب يتمتع بحظوة كبيرة لدى الزعيم. كان يقظاً وسريع الحركة، وكانت عيناة السوداوان، تتنقلان بسرعة خاطفة من وجة الى آخر بسيماء واضحة من اليقظة والتحدي.
ران الصمت على المكان، وتتخللة بين الحين والآخر ضجة عابرة كانت تنطلق من المخيم ، تخالطها صيحات الأولاد الحادة النائية التي كانت كان يحملها الهواء من بعيد الى داخل الخيمة. بعد حين والجميع جالسون في حضرة الصمت، دس كلب برأسة الى داخل الخيمة، وجعل يبحلق بوجوههم بعينين ذئبيتين وشدق مفتوح عن إنياب عاجية تريل لعاباً لزجاً . كان ينتظر إشارة منهم تدل على السماح لة بإحتلال حيز صغير من المكان. وبعد أن شعر بأنة لايمكن لة الفوز بشيء من هذة الوجوة الجامدة ، المغلفة بالصمت ، أطلق زمجرة خفيفة على سبيل التجربة ، في محاولة لجس النبض ، لكنة أيقن بعد ذلك بلاجدوى مايفعل، فطأطأ رأسة وعاد من حيث أتى.
تطلع تانتلاتش الى إبنتة وقال ببرود " كيف تسير الأمور بينك وبين زوجك؟".
أجابت ثوم قائلة" إنة يترنم بغناء غريب ، وثمة نظرة جديدة تغطي وجهة" .
" إذاً، فقد تحدث اليك؟" .
" كلا. لكن ثمة نظرة جديدة تغطي وجهة، ونور جديد في عينية، إنة لايفعل أي شيء سوى الجلوس بالقرب من نار الموقد والحديث مع القادم الجديد دون إنقطاع".
وهنا أخذ شونغونغاتا يهمس في أذن سيدة ، ومال كين بجسدة الى الأمام ليسمع مايقال.
لكن ثوم واصلت الحديث " ثمة شيء ينادية من بعيد، وهو لايفعل شيئاً سوى الجلوس والإصغاء لهذا النداء والرد علية بالترنم والغناء بلسان قومة".
ومرة أخرى همس شوغونغات في أذن الزعيم ، و مد كين عنقة الى الأمام متنصتاً لمايقولان، وتوقفت ثوم عن الكلام حتى أومأ لها أبيها بمواصلة الحديث .
قالت ثوم " ليكن معلوماً لديك ياتانتلانش ، بأن طيور الوز البري والبجع والبط الصغير المطوق تولد هنا في هذة الأراضي المنخفضة، لكنها تهاجر من موطنها قبل حلول الصقيع الى أماكن مجهولة. وليكن معلوماً لديك أيضاً بأنها دائماً تعود مع عودة الشمس الى الأرض حيث تتحرر مجاري الأنهار من قبضة الجليد. إنها تعود دوماً الى مواطنها الأصلية، لكي تستمر الحياة في السير على نهجها القديم. إنة نداء أرضها الأم ، ولامفر لها من تلبية ذلك النداء . والآن ثمة أرض أخرى تنادي ، وندائها هذا موجة الى زوجي ، أنها الأرض التي ولد عليها ، أرضة الأم، وهو الآن يفكر بلتبية نداء أمة . رغم إن ذلك لايغير من حقيقة إنة زوجي ، ملكي أنا قبل كل النساء".
قال شوغونغات بصوت ملحاح يفوح برائحة تهديد" هل هذا حسن، ياتانتلانتش ؟ هل هذا حسن ، برايك؟".
صاح كين بوقاحة " نعم حسن ، إنه نداء الارض لأبنائها ، وكما تعلم فإن كل أرض تنادي أبنائها للعودة الى أحضانها من جديد، وكما هو حال الوز البري والبجع وصغار البط المطوق ، كذلك حال هذا الرجل الغريب الذي حل بين ظهرانينا لحين من الدهر والآن يتوجب علية الرحيل. وليس ذلك وحدة فثمة نداء آخر يدعو هذا الرجل الى الرحيل، إنة نداء النوع الواحد، أنة نداء بنات جنسة الية . فكما يتزاوج الوز مع الوز ولايتزاوج مع البط الصغير المطوق ، كذلك هو حال هذا الرجل الغريب، الذي ليس من المستحسن أن يتزاوج مع نساء قبائلنا. لذلك أرى بأن الرجل يجب أن يرحل عنا، ويذهب مع قومة الى بلادة الأصلية".
أجابت ثوم " هذا الأمر يخصني وحدي، لأنة رجلي ، رجلي أنا ، وأنة لرجل عظيم".
رفع شوغونغات رأسة بعد أن أحس بفورة نشاط مفاجئة وقال " لقد أحسنت القول ياثوم، نعم ، إنة رجل عظيم، لقد منح ذراعك القوة ياتانتلاتش ، وجعلك مرهوب الجانب، وصار جميع من في البلاد يرتعد فرقاً من مجرد ذكر أسمك ، لقد فرض إحترامك وهيبتك على الجميع، إنة حكيم وعاقل ، ولاغنى لنا عن حكمتة وعقلة، لقد أفادنا كثيراً ، وبذلك فنحن مدينون لة بالكثير، مدينون لة لحيلتة الواسعة في فن الحرب، مدينون لة لأنة علمنا اسرار الدفاع عن قبيلتنا وقريتنا والإندفاع داخل الغابة ، علمنا كيف نجعل الخوف يشل إرادة الخصم في مجالس الحرب بالكلمات فقط وبالوعود الغليظة ، علمنا كيف نجمع الطرائد وكيف نصنع الفخاخ وكيف نحفظ الطعام، ونعالج المرضى وجرحى الحرب والمصابين. لاتنسى ياتاتنتلانتش بأنك نفسك كنت رجلاً عجوزاً ، وعليلاً ، لاحول لك ولاقوة ، حتى جاء إلينا هذا الغريب وشفاك من علتك. لقد كنا نهرع الية دوماً إذا إستعصى علينا أمر ما ، لأنة بحكمتة الواسعة كان يجعل الأمور تبدو أكثر وضوحاً وسهولة. وليست هذة النهاية فستواجهنا مثل هذة المسائل العويصة من جديد في المستقبل، سنحتاج لحلها الى مشورتة السديدة وحكمتة، لذلك لايسعنا التخلي عن هذا الرجل ، وليس من حسن التدبير أن ندعة يرحل".
واصل تانتلانتش الطرق بأناملة على نصل الرمح، وتظاهر بأنة لم يسمع شيئاً، وتفحصت ثوموجة أبيها بحثاً عن علامة تأييد تشد من أزرها ، لكنها لم تعثر على شيء. أما شوغونغات فقد بدا علية بأنة قد إنكمش وتقلص مستسلماً لعبء سنين حياتة الطوال الذي هبط على كاهلة من جديد.
وضرب كين صدرة ببسالة وقال " لاأحد يصطاد بالنيابة عني. أنا أصطاد طرائدي بنفسي . أنا سعيد بالعيش لأني أصطاد طرائدي بنفسي. عندما أزحف خلال الثلج لإصطياد الموظ الأعظم ، أكون سعيداً. وعندما أسحب قوسي ، هكذا بكل قوتي ، وأدفع بالسهم شرساً وسريعاً بإتجاة القلب، أكون سعيداً. لن يكون طعم لحم الطرائد لذيذاً إن لم تكن تلك الطرائد طرائدي . أنا سعيد بالعيش ، سعيد بمكري وقوتي ، سعيد بكوني أنا من يصنع أفعالة بنفسة ، من يصنع افعالة لنفسة. وهل ثمة سبب للعيش أكثر من ذلك؟ لماذا أعيش إذاً إن كنت لاأبتهج بنفسي وبأفعالي التي اقوم بها بنفسي ؟ وبسبب بهجتي وسعادتي بنفسي أنطلق لإقتناص الطرائد ولصيد السمك، ولكوني أنطلق للقنص ولصيد السمك تزداد حيلتي وقوتي . إن الرجل الذي يمكث في الكوخ قريباً من نار الموقد لا يصبح ماكراً ولاقوياً. ولن يجعلة لحم طرائدي سعيداً ، ولن يكون للبهجة مكان في حياتة. إنة لايحيا . ولهذا أقول بأن على هذا الغريب أن يرحل . إن حكمتة لاتجعلنا اكثر حكمة . وإن كان ماكراً ، فلاحاجة لنا أن نكون ماكرين . نحن نقتات على لحم طرائدة، لذلك فهي بلا طعم. نحن نتبجح بقوتة ، لكن قوتة لابهجة لها . نحن لانعيش ، عندما يقوم هو بصنع الحياة لنا . تسمن أجسادنا ونصبح كالنساء ، ونخشى العمل ، وننسى كيف نقوم بإعمالنا بأنفسنا. دع الرجل يذهب ، ياتانتلاتش، حتى يتسنى لنا أن نصبح رجالاً ! أنا كين ، أنا رجل ، يصطاد طرائدة بنفسة !"
سلط تانتلانتش علية نظرة تبدى فيها كل فراغ الأبدية . وإنتظر كين بفارغ الصبر أن يصدر قراراً ؛ لكن الشفتان لم تتحركا ، وادار الزعيم العجوز نظراتة الى إبنتة .
إنطلقت إبنتة تقول " إن مايمنحة المرء لايمكنة أن يستردة . لقد كنت مجرد فتاة صغيرة ، عندما حل بيننا هذا الرجل الغريب ، الذي أصبح زوجي الآن . ولم أكن قد عرفت الرجال قبلة، ولم أكن أعلم بما يصنع الرجال ، لأن قلبي كان يهفو الى اللهو واللعب كبقية الفتيات الصغار ، حتى ناديتني أنت ، ياتانتلانتش ، أنت ولا احد غيرك ، ودفعت بي دفعاً لأحضان هذا الرجل الغريب. أنت ، ياتانتلانتش ، وليس غيرك ؛ لقد منحتني لهذا الرجل ، ومنحت الرجل لي . أنة زوجي . بين ذراعي كان ينام ، ومن بين ذراعي لايمكن لأحد إنتزاعة".
تدخل كين بسرعة قائلاً " ياتانتلانتش ، حسن أن يتذكر المرء بأن مايُمنح لايمكن إستردادة"
إعتدل شوغونغات في جلستة وقال " من فمك الفتي ، ياكين ، تخرج كلماتك الفتية. أما بالنسبة لنا ، ياتانتلانتش ، فنحن كبار في السن ونفهم . نحن ، أيضاً ، نظرنا في عيون النساء ، وشعرنا بدمائنا تلتهب برغبات غريبة . لكن برد السنين حل فينا ، وعرفنا حكمة التشاور ، وألمعية اليد والرأس الباردين ، وعرفنا بأن القلب الساخن يكون أكثر سخونة وعرضة للإندفاع والعجلة . نحن نعلم بأن كين مغرم بعينيك . ونعلم بأن عهداً قد قُطع منذ الطفولة بأن تكون ثوم لة. لكننا نعلم بأن زماننا قد تغير ، بعد مجيء الرجل الغريب ، ونتيجة لحكمتنا ورغبتنا بالصالح العام ضاعت ثوم من كين وأُخلف الوعد ."
توقف الشامان العجوز عن الكلام ، ونظر بشكل مباشر الى المحارب الشاب.
" ولتعلم بأني أنا شوغونغات ، من اشار بذلك " .
قال كين مقاطعاً " وأنا كذلك لم آخذ الى سريري إمرأة أخرى ، وكنت أوقد ناري بنفسي، وأعد طعامي بنفسي ، وأصر على أسناني في وحدتي "
حرك شوغونغات يدة مشيراً الى أنة لم ينتة بعد من الكلام" أنا رجل عجوز ، وأتحدث من خبرتي وفهمي ، حسنٌ أن يكون المرء قوياً ، وساعياً للسلطة . لكن الأفضل ترك السلطة التي لايُرجى من ورائها خيراً. في الأيام الخوالي كنت أجلس الى جانبك ياتانتلانتش ، وكان صوتي مسموعاً في جميع أرجاء المجلس ، ومشورتي محل تقدير الجميع . وكنت قوياً وذو سطوة . وبرعاية تانتلانتش كنت الرجل الاعظم. ثم جاء الرجل الغريب ، ورأيت بأنة كان ماكراً وحكيماً وعظيماً. وبذلك فقد كان أكثر حكمة وعظمة مني ، وبدا واضحاً بأن النفع الأعظم سيأتي منة وليس مني . ووجدت كلماتي آذاناً صاغية لديك ، ياتانتلانتش ، ومُنح الرجل الغريب السلطة والمكانة الى جانب بنتك ، ثوم. وإنتعشت أحوال القبيلة في ظل القوانين الجديدة في الأيام الجديدة ، ولسوف تواصل إزدهارها وإنتعاشها طالما ظل هذا الغريب بين ظهرانينا . نحن كبار في السن ، نحن الإثنان، ياتانتلانتش ، أنت وأنا ، وهذا شأن من شؤون الرأس ، لا القلب، فإسمع كلماتي ، ولتدع الرجل يبقى."
كان ثمة صمت طويل . وراح الزعيم العجوز يفكر بيقين ألهي ثقيل ، وبدا على شوغونغات بأنة قد اخذ يغيب داخل سديم سنوات عمرة الطويل . ونظر كين بلهفة وشوق الى المرأة ، التي كانت غافلة عنة ، ونظراتها مثبتة بعناد على وجة ابيها. دفع الكلب الذئبي مرة أخرى بسجف الخيمة جانباً ، متشجعاً بالهدوء السائد في داخلها ، وتمدد على بطنة طلباً للدفء ، وتشمم بفضول يد ثوم الساكنة ، ورفع أذنية متحدياً شوغونغات ، ثم إنبطح على عجيزتة أمام تانتلانتش . قعقع نصل الرمح ساقطاً على الأرض ، فقفز الكلب جانباً ، وهو يطلق صيحة فزع ، ونهش الهواء ، وفي نفس اللحظة أخلى المدخل .
نظر تانتلانتش من وجه الى آخر ، متأملاً كل وجة على حده وبإمعان لفترة طويلة . ثم رفع رأسة ، بملوكية فظة ، وأصدر حكمة بصوت بارد ومسطح : " سيبقى الرجل . ليتجمع كل الصيادين . وليُرسل مبعوثاً الى القرية التالية لدعوة المقاتلين . لن أقابل القادم الجديد . تحدث أنت معة ياشوغونغات . وإخبرة بأن علية الرحيل فوراً ، إن أراد الرحيل بسلام . وإن إندلع قتال ما ، أقتلهم ، أقتلهم ، ثم أقتلهم ، حتى آخر رجل منهم ؛ لكن ليسمع الجميع بأن عليهم الحفاظ على سلامة صديقنا ، زوج إبنتي . هذا حسن ."
نهض شوغونغات وخرج من الخيمة مترنحاً؛ وتبعتة ثوم ، لكن عندما هم كين بالخروج ، أوقفة صوت تانتلانتش .
" ياكين ، حسن منك أن تنصاع لكلماتي . سيبقى الرجل ، فلاتدع أحد يؤذية ."
بسبب تعاليم فيرفاكس في فن الحرب ، لم يلقي رجال القبائل بأنفسهم في أتون المعركة بجرأة وصخب . وبدلاً من ذلك ، إرتضوا بالزحف على أعدائهم بكثير من التحفظ وضبط النفس ، متسللين من مخبأ الى آخر بصمت وحذر . وعلى ضفة النهر ، قرفص الكريس والأدلاء ، محتمين جزئياً بفضاء ضيق ومكشوف . لم يكن بإمكان عيونهم أن ترى شيئاً ، ولم تكن آذانهم قادرة على إلتقاط الأصوات إلا بشكل ضبابي وغير أكيد ، لكنهم شعروا بهزة الحياة تسري في أوصال الغابة ، حركة غير واضحة ، وغير قابلة للتعريف لجيش زاحف .
تمتم فيرفاكس " عليهم اللعنة . لم يواجهوا البارود من قبل ، لكني لقنتهم هذة الحيلة ."
ضحك إيفيري فان برنت ، ونفض الرماد عن غليونة ، ووضعة بحرص داخل كيس التبغ ، وأرخى رباط سكين الصيد من الغمد المشدود على فخذة .
قال " إنتظر ، سنصد الهجوم ، ونكسر قلوبهم ."
" سيتفرقون بسرعة ، إن تذكروا تعاليمي ."
" دعهم يفعلون ذلك . البنادق المخزنية خُلقت لتقتل . ستكون دمائهم أول الدماء ! المزيد من التبغ ، يالوون !"
كان لوون ، وهو من قبيلة كري ، قد إكتشف كتفاً عارية ، فأرسل لصاحبها طلقة حارقة لتعلمة بهذا الإكتشاف .
تمتم فيرفاكس قائلاً " لوكان بإمكاننا فقط أن نغريهم بالتقدم الى الأمام "
ولمح فان برنت رأساً يطل من وراء شجرة بعيدة ، وبطلقة سريعة طرح الرجل أرضاً وتركة يعالج سكرات الموت . وجندل مايكل ثالثاً ، وإشترك فيرفاكس والبقية في إطلاق النار ، مصوبين رصاصهم نحو كل رأس أو جسد مكشوف ، ونحو كل أجمة تدب فيها حركة مفاجئة . وظل خمسة من رجال القبائل منبطحين على وجوههم بعد عبورهم لمنخفض صغير مكشوف ، والى يسارهم حيث كانت المخابيء شحيحة ، نالت دزينة منهم حتفها . لكن هذة العقوبة لم تثن من عزمهم ، وواصلوا تقدمهم بعناد وحذر ، دون عجلة ولا إبطاء .
بعد عشر دقائق ، عندما أصبحوا قريبين جداً ، توقفت الحركة برمتها ، وتوقف الزحف فجاة ، وتلا ذلك صمت ثقيل مهدد . وإرتعشت الخضرة الذهبية للغابات والأحراش في أولى نفحات ريح النهار الخافتة . ورقشت شمس النهار البيضاء الواهنة وجة الأرض بظلال طويلة تخالطها خيوط من النور . ورفع رجل جريح رأسة وزحف بألم خارج المنخفض ، وتتبعة مايكل ببندقيتة لكنة أحجم عن إطلاق النار . وإنطلق على طول الخط الخفي الممتد من اليسار الى اليمين صوت صفير ، ثم حلق في الهواء سرب من السهام .
صاح فان برنت آمراً بصوت بدت فية رنة جديدة من الحزم والتحدي " إستعدوا ، الآن !"
غادروا مخبئهم دفعة واحدة . وسرت في أوصال الغابة روح جديدة وثابة . وإنطلقت صيحة تحدي عظيمة مزقت الهواء ، أجابتها لعلعة البنادق بروح لاتقل عنها تحدياً . كان الصف الأول من أبناء القبائل يعلمون بأنهم سيسقطون عند أول هجوم ، لكن إخوتهم إندفعوا فوق جثثهم في موجة بشرية هادرة لاتقاوم . وإندفعت ثوم على رأس هذة الموجة ، وكان شعرها يتطاير في الهواء وذراعاها يتحركان بحرية ، وهي تمرق كالسهم بين جذوع الأشجار ، وتقفز فوق الجذوع المقطوعة التي نصبت كحواجز لعرقلة تقدم المهاجمين . وصوب فيرفاكس فوهة بندقيتة عليها وسحب الزناد قبل أن يعرف من هي ثم صاح " لاتطلقوا النار ، إنها المرأة ، أنظروا إنها بلا سلاح " .
لم يسمع الكيريون ، ولا الدليلين مايكل وشقيقة ، ولافان برنت هذا النداء . لكن ثوم واصلت تقدمها دون أن تصاب بشيء ، خلف صياد ملفع بلباس جلدي كان قد إنحرف قبلها جانباً . وأفرغ فيرفاكس مخزنة في المهاجمين الذين كانوا يحفون بها من اليمين واليسار ، وإستعد لإطلاق النار على الصياد الضخم . لكن الرجل الذي بدا أنة كان يعرف فيرفاكس ، إنحرف جانباً وغرز رمحة في جسد مايكل . في هذة اللحظة كانت ثوم قد وصلت وطوقت عنق زوجها بذراعيها ، وراحت تتأرجح ، وتولول ، وتؤشر ، مما أدى الى تشتيت زخم هجوم المحاربين . وإندفع عشرون رجلاً على الجانبين ، ووقف فيرفاكس للحظة ينظر اليها والى جمالها البرونزي ، الفاتن ، المبهج ، الذي حملة الى أعماق مجهولة ، حبلى برؤى غريبة وأحلام أبدية . وطافت في رأسة في تلك اللحظة نتف من فلسفات العالم القديم ، ممزوجة بأخلاقيات العالم الجديد ، وأشياء أخرى حقيقية بشكل رائع ومتناقضة حد الفجيعة ؛ مشاهد الصيد ، سكون الغابات الجليل ، سهوب الثلج الصامتة ، وميض أنوار قاعات الرقص ، الغاليريات الكبرى وقاعات المحاضرات ، الوميض العابر لأنابيب الأختبار اللامعة ، الرفوف الطويلة الغاصة بالكتب ، نبض المكائن وهدير حركة المرور ، نتف من أغنية قديمة ، وجوة حبيبات وأصدقاء منسيين ، جدول وحيد بين القمم ، قارب محطم على شاطيء مفروش بالحصى ، حقول غافية تحت سنا القمر ، وديان مترعة بالحياة ، رائحة القش ....
وسقط محارب آخر أصيب بطلقة بين عينية ، وإنزلق جسدة فوق الثلج من شدة إندفاعه . ثاب فيرفاكس الى رشدة ، وشاهد بأن من تبقى على قيد الحياة من رفاقة قد تراجعوا الى الوراء خلف الأشجار . وسمع صيحات الحرب " هيا ، هيا " التي هتفت بها حناجر المحاربين وهم يحاصرون رفاقة ويقطعون أجسادهم ويغرزون فيها أسلحتهم المصنوعة من العظام والعاج . كانت صيحات رفاقة المحاصرين تنزل فوق هامتة كاللطمات . وعرف بأن المعركة قد إنتهت ، وبأن القضية التي قاتلوا من أجلها قد خسرت ، لكن تقاليدة وولائة العرقي ،أجبراه على على القتال حتى الموت من أجل أبناء جلدتة .
صاحت ثوم " زرجي! زوجي ! "
وحاول التملص منها ، لكن ثقل جسدها المتشبث بة سمرة في مكانة .
" لاحاجة للقتال ! لقد ماتوا جميعاً ، والحياة جميلة !"
لفت ذراعيها حول رقبتة وعانقتة بقوة ، وشبكت ساقيها حول ساقية حتى تعثر وكاد يسقط ، فإرتد الى الوراء بعنف ليتجنب السقوط ، لكنة تعثر ثانية ، وسقط الى الوراء على الأرض . إرتطم رأسة بعرق شجرة ناتيء ، وشعر بحالة من الذهول أضعفت مقاومتة . أثناء سقوطة كانت روث قد سمعت حفيف سهم مريش يمرق من فوق رأسيهما ، فغطت جسدة بجسدها، كما الدرع ، وشبكت ذراعيها حولة بقوة ، دافنة وجهها وشفتيها في رقبتة .
ثم نهض كين من خلف أجمة كثيفة على بعد عشرون قدماً. وتطلع حولة بحذر . كان القتال قد أتى على نهايتة ، وكانت صرخات آخر القتلى قد ذوت في الفراغ ، ولم يكن ثمة أحد هناك يمكن للعين أن تراة ، فوضع سهماً في القوس ونظر الى الرجل والمرأة . وتركزت نظراتة على جزء أبيض مكشوف من جسد الرجل مستكناً بين صدر ثوم وذراعيها. أحنى كين القوس وسحب السهم الى آخرة ، وكرر ذلك مرتين ، بهدوء وثقة ، ثم دفع بالقذيفة العظمية المسننة الى مبتغاها وسط تلك البقعة من اللحم الأبيض ، والتي بدت أشد بياضاً مماهي علية وسط ذلك العناق الاسمر للذراعين والصدر .



.
 

المرفقات

  • لندن.jpg
    لندن.jpg
    2.7 KB · المشاهدات: 356
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى