نقوس المهدي
كاتب
جلس جوزيف قبالة الآخرين. كان رجلاً مربوع القامة، ممتلئ الجسم، تبدو كلّ حركة يفعلها مفاجئة. وقد جاءه اللقب الذي يكنى به، أبو ڤيكتور، عندما ولد ابنه قبل خمس وعشرين سنة، تماماً كما أصبح والده قبل خمسين سنة، أبو جوزيف، عندما جاء جوزيف نفسه إلى هذا العالم. إنه أمر شائع في الأسرة.
تحلّق الرجال الأربعة حول الطاولة في الشرفة الصغيرة. كانت الشمس مائلة إلى الغروب. وذكّر نور الشمس الذي رسم خطاً شطر قالب حلوى الزفاف إلى شطرين وأحدث ظلّاً مائلاً فوق الورود التي تزيّن حواف القالب، أبو ڤيكتور بالساعة الشمسية. صرّت أرضية الشرفة الخشبية التي أعلن أنها بحاجة إلى ترميم، لكن المالك رجل فقير ولم يكن بوسعه إصلاحها. وفي النهاية، باع المالك البناية كلها في السنة الماضية إلى متعهد بناء. لذلك سينتقل أبو فيكتور وزوجته، نادية، في نهاية الشهر إلى شقّة أصغر في حيّ آخر. كان التوقيت ملائماً. وبخلاف جيرانهما في البناية، لم يعترضا على أمر الإخلاء.
لكن ماذا عن قالب الحلوى؟ تساءل أبو فيكتور عندما استيقظ فجأة قبل ليلتين. إن نادية ليست في البيت. إنها تزور أختها في ڤانكوفر. في أثناء غيابها، بدا سريرهما عريضاً وفي حالة فوضى، وبدا أنه أصبح مائلاً بحيث يجعله ينزلق إلى الأرض. نهض.
كانت الغرفة أشبه بفرن. بشيء من الدوار، توجّه أبو فيكتور إلى المطبخ وفتح باب مجمّدة الثلاجة. لم يعرف كم وقف أمام الثلاجة، حيث شعر بنسمة من الهواء البارد تهبّ على وجهه. أخرج أخيراً قالب الحلوى المغلّف بغطاء من البلاستيك الذي يقبع في المجمّدة منذ عام 2011. حمل القالب ووضعه على الطاولة.
انتظر حتى الساعة الخامسة صباحاً ليتصل بأعزّ أصدقائه، جورج.
“كارثة”. كان هذا كلّ ما استطاع أبو فيكتور أن يقوله في البداية. فقد خشي أنه إذا قال كلمات أخرى أن يُسحب السكين الخيالي من بطنه، ويجعله ينزف دماً خيالياً، ويموت موتاً متخيلاً.
“كارثة”.
«ماذا حدث؟”
«لا يمكننا أن نأخذ قالب الحلوى إلى الشقّة الجديدة، لكننا لا نستطيع أن نرميه أيضاً”.
“ماذا قالت زوجتك؟”
“لم تقل شيئاً. نادية لم تقل شيئاً”. أخذ يبكي وأمل ألا يشعر جورج بذلك. ثم أضاف، “لن تعود حتى عطلة نهاية الأسبوع”.
اقترح عليه صديقه حلّاً. في يوم الجمعة، سيحضر جورج وطوني وإلياس إلى بيت أبو فيكتور، وسيتناولون معاً قالب حلوى الزفاف.
بدا أن قالب الحلوى قد بدأ يتفتت وأصبح طرياً، وربما لم يعد صالحاً للأكل.
سحب أبو فيكتور قدمه اليمنى من نعله الجلدي، وحكّ كاحله الأيسر. لم يضع أطباقاً على الطاولة، لأنه لم يكن متيقناً حتى الآن، في ضوء عصر يوم الجمعة، من أن تناول قالب الحلوى فكرة جيدة.
في بيروت، قبل الحرب، كانوا هم الأربعة لا يزالون أطفالاً. كان طوني الذي كانت هيئته تشبه الصاروخ، زعيمهم. وكان جورج الذي فقد بصره بسبب تعرضه لحادث، يستخدم عكازاً. أما إلياس فكان متعجرفاً يتحدث اللغة الفرنسية في البيت، فقد أطلق على نفسه ذات يوم لقب الكولونيل. وأخيراً، جوزيف الذي تفوق في الرياضة. كانوا يعيشون في نفس البناية منذ أن ولدوا، وكانت أمهاتهم يحتسين القهوة معاً، وكان آباؤهم يكررون رواية النكات نفسها.
بعد عشرات السنين، وصلوا أربعتهم إلى كندا، كل بطريقته الخاصة، وهم يعيشون الآن في أحياء مختلفة في المدينة ذاتها. كما جذبت مونتريال عدداً من أصدقائهم وجيرانهم عبر البحار. فقد كانت الحرب مشتعلة هناك، وكيف يمكن لأيّ أسرة أن تعيش تحت وابل القنابل وتحت رحمة القنّاصين طوال خمس عشرة سنة؟ كان الأمر يبدو غريباً. ففي أحيان كثيرة كان أبو فيكتور يتساءل كم عدد مواطنيه اللبنانيين الذين غادروا البلد في عام 1990، عندما كانت الحرب على وشك أن تتوقف، بعد أن رأوا كلّ شيء، وعانوا ما عانوه.
حدث ذلك في عام 1990، عندما شاهد أبو فيكتور طوني يجتاز الشارع في وسط مدينة مونتريال. لقد أصبح طوني أطول قامة وزاد قليلاً على ستّة أقدام. كانت هيئته لا تزال تشبه الصاروخ، عيناه لا تزالان زائغتين. كان بوسع أبو فيكتور أن يتعرّف عليه أينما ذهب. نادى اسم صديقه. تعانقا. بكيا. ربت أحدهما على ظهر الآخر. سكرا إلى حد الثمالة، تحدّثا عن كلّ شيء وعن لا شيء. كان طوني على تواصل مع الكولونيل، وكان جوزيف قريباً من جورج. وهكذا بعد بضع ليالٍ، وجد الأربعة أنفسهم جالسين معاً في مطعم، وقد كبروا فجأة خمس وعشرين سنة، لا يجمعهم شيء سوى الطعام الذي يتكون من أربع قطع من شرائح اللحم التي تنزّ قليلاً من الدم، وشرب كل منهم ثلاثة كؤوس كبيرة من البيرة، بينما كان الكولونيل يحتسي كأساً عريضاً من الوسط من نبيذ شاتو مارغو.
ما نوع هذه الحياة، تساءل جوزيف آنذاك. يا لها من معجزة.
أحبّت النادلات جورج. لقد سحرتهن نظارته السوداء ووجهه المؤرق والعكاز الأبيض الذي يستخدمه بثقة، كسلاح. منجرفاً إلى الحنين إلى الماضي، ذكر جوزيف تلك الفجوة الضيّقة في أسفل البناية التي كانوا يقيمون فيها حيث كانوا يختبأون عندما كانوا أطفالاً، التي لم تكن تتسع إلا لطفل واحد في كل مرة، حتى بات التسلل إليها محفوفاً بالخطر بعد أن ازدادوا طولاً، وضخامة، فازداد خطر أن يعلقوا في فجوة الحائط.
قال طوني: “تصوروا. في تلك الأيام، حتى فخذي لم تكن تتسع فيها”.
حكى الكولونيل نكتة عن شيء آخر لا يتسع فيها.
كان جوزيف الشخص الوحيد المتزوّج والذي عنده طفل من بين الرجال الأربعة. رفع أصدقاؤه كؤوسهم وعمّدوه باسم “أبو فيكتور” الفخور، أبو فيكتور.
رفع جوزيف عينيه، ونظر إلى الساعة المعلقة على جدار المطعم ووجد أنه، على نحو لا يمكن تفسيره، يتنشق رائحة بشرة زوجته نادية، النظيفة، العطرة. نادية، نادية، نادية. فيكتور، فيكتور، فيكتور.
حول طاولة الشرفة، كان الكولونيل يضحك لنكتة حكاها جورج. دأب جورج على جمع النكات منذ طفولته. فقد كان يطوف بعكازه الأبيض في أرجاء الحيّ يتسول أو يستعير أو يسرق نكتة من أفواه الرجال العجائز الذين يجلسون إلى الأبد في المقاهي. ثمّ بدأ جورج يجمع النكات في الملاجئ. نكات كثيرة. كان يحلم في نشر كتاب يضم النكات التي جمعها، لكن كما كان يردد أبو فيكتور دائماً، أي حلم هذا بحقّ الجحيم؟
غابت الآن ثلاثة أرباع الشمس. في الشرفة المقابلة كان هناك طلاب جامعيون مقيتون. كانت أصوات ضحكاتهم المجلجلة تصل إلى آخر الشارع، تبعثر موجة بعد موجة من الطيور.
حدّق الكولونيل في الطلاب وقال: “بحق اللّه الذي في السموات، أريد أن أفقأ عيونهم”. كان الكولونيل يدرّس في جامعة مونتريال مختصاً بالمدرسة المشائية: أرسطو وستراتو وآخرون مثلهما، ثم أضاف، “في هذا البلد، عندما يكون الناس جدّيين فهم يتكلمون همساً، أما عندما يكونون عابثين فيتكلمون بأصوات عالية! إنهم يريدون أن تسمع تفاهاتهم”.
قال جورج: “هذا يشبه تلك النكتة، عندما دخل أبو العبد أحد المطاعم في برج حمود فسأله صاحب المطعم “.
قال طوني: “يبدو أن قالب الحلوى في حالة جيدة”.
“إن قوالب حلوى الأعراس تكون للزينة فقط”. كان صوت الكولونيل حاداً ومزعجاً. “ولن أكون قاسياً معك يا أبو فيكتور، يا أخي، لكنّك تحتفظ بها في الثلاجة منذ ثلاث سنوات”.
استرخى أبو فيكتور في كرسيه. فعلوا جميعهم ذلك. للحظة شعر بأنه قادر على أن يتحكم بكل واحد منهم، وبأن بوسعه أن يدفعهم إلى الأمام أو إلى الخلف مثل حبات المسبحة، ودون أن يدركوا، فإن كلّ ما يفعلوه هو نتيجة تصرف أو إيحاء منه. فهم يلجأون إليه كما تلجأ الأوراق إلى أغصانها. لو قفز من البلكون، فهل سيحذون حذوه؟ لكن متى تكدرت وجوههم، واستدارت أوراكهم، وتسطحت أقدامهم؟ متى أصبحوا جميعاً يشبهون أجدادهم؟ كان يعرف أن أصدقاءه يريدون مساعدته، بل إنهم يرغبون في التخفيف من حدة الكارثة. ألم يحاولوا التخفيف من كوارث الآخرين طوال فترة الحرب؟ إن إلقاء النكت شيء بطولي، لأنه يثبت عدم مبالاة الشخص. هذا النوع من العواطف – أن لا تبكي، أن لا تشدّ شعرك، أن لا تراودك أفكار بالانتحار – هو الذي يثبت أنك نجوت من الموت، ولم يصبك مكروه.
نقر جورج بعكازه عدة نقرات على الأرض بقوة، وقال: “أبو فيكتور، أظن أنك يجب أن تأخذ قالب الحلوى إلى الشقّة الجديدة. لا داعي أن تتصرف بها إلا بعد أن تكون جاهزاً للقيام بذلك”.
«نعم يا جورج. متى سأكون جاهزاً؟”
«لكن لماذا نتناولها كلها، حبيبي”، سأل الكولونيل.
كان السؤال منطقياً، لكن نوبة غضب اعترت أبو فيكتور. فقد تخيّل أنه ينحت فطيرة من الشوكولاته ويقدمها للكولونيل في صحن. إنها ستكسر أسنانه الثمينة.
قال طوني: “ربما يتعين علينا أن نلقي به في النار. ألا يفعل الطاويون ذلك؟ نقدم قرابين للنار”.
أثارت معرفة طوني بشيء عن الطاوية دهشتهم، ولم ينبس أحد منهم بشفة.
أخيراً تكلّم جورج، فقال: “لكن ممَ صنع قالب الحلوى هذا؟ من الممكن أن يستمر في الاحتراق طوال سبعة أيام بلياليها”.
«لماذا لا تتبرّع به إلى المشرّدين؟”
تجاهل أبو فيكتور سؤال الكولونيل وراح يحدّق في الشارع. لقد عاش هو وزوجته وابنه في هذه الشقّة حوالي عشرين سنة، وقد نشأ فيكتور فيها وكبر. كانت تخضع للإيجار المحدد لذلك بدأت تتهاوى. فقد بدأ الجص يتقشر وبدأت تظهر شقوق في الجدران كأن البناية تكتب لهم رسالة تحذير. خلال تلك الفترة، كانت الجارة التي تسكن في الطابق الثاني تكرهه. كانت تشتكي بأنه عندما يمشي، فإن قطعاً من الجص تتفتت وتسقط من سقفها. “ألا تستطيع أن تخلع حذاءك على الأقل؟”
فقال لها أبو فيكتور بحزن: “لا. لا أستطيع. هل تريدين أن تري الأكزيما في قدمي؟” لم يكن مصاباً بالأكزيما، لكن جدّه المرحوم كان مصاباً بها. فقد كان باطن قدمه المتشققة يؤلمه كثيراً، وفي بعض الأحيان لم يكد جدي المسكين يقوى على السير. “عليّ أن أدهن قدمي بالفازيلين طوال أربع وعشرين ساعة كل يوم، وإذا لم أنتعل هذا الخف، فقد أتزحلق وأكسر رقبتي. إن أهمية هذا الخف بأهمية العكاز الأبيض لرجل ضرير. إن علاقاتنا ليست مثالية، لكني لا أظن أنك تريدين أن تنزلي كارثة فوق رأسي. أليس كذلك؟”
كانت الجارة مهذبة للغاية، ولعلها لم تقل له إنه كذاب في وجهه بدافع الشفقة.
لكن زوجته لم تكن تفعل ذلك. فقد دأبت نادية على القول له إنه كذاب كلّ يوم في حياتهما معاً، أحياناً لاستفزازه، لكنها بدأت تقول له ذلك مؤخراً بدافع اليأس. هل حقاً كلّ يوم؟ حسناً. حتى لو كان يبالغ، أليس الحقّ معه؟ فالحزن داخل هذا البيت سيقتلهما كليهما. لم يكن يستطيع أن يتنفّس.
من بين كلّ الأماكن، جاء قالب حلوى الزفاف من مخبز ياباني في مونتريال. مخبر يوكي وهانك لصناعة حلوى الأعراس. كان القالب يبدو أشبه بأربع قبعات نسائية تعلو الواحدة منها الأخرى بأحجام تصغر تدريجياً. كان ابن أبو فيكتور، فيكتور، هو الذي اختار القالب مع خطيبته مي – يونغ. لم يكن من الشائع رؤية شاب لبناني مع صبيّة كورية. كانا يلتقيان منذ ست سنوات ويزمعان إقامة حفل زفاف صغير لا يتجاوز عدد المدعوين إليه ستين شخصاً.
كان قالب الحلوى يلمع في الشمس مثل سنّ عملاق. تخيّل فيكتور وهو في بدلته وبيده سكين لقطع قالب الحلوى وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة. إن تخيّل ابنه جعل أبو فيكتور يريد أن يمزق قلبه. ماذا بوسعه أن يطلب من أصدقائه؟ هل يمكن لصديق أن يبقيه تحت الماء؟ أي صديق يستطيع أن يساعده على أن يموت، أن ينقذ زواجه، أن يسلبه حياته ويمزّقها إرباً ثم يبدأ حياة جديدة؟
أدار طوني كرسيه عن طاولة الشرفة. راح يحدّق في الشارع ثم قال: في عصر يوم ربيعي في عام 1987، دخل إلى مقهى في مونتريال. جلس إلى طاولة وطلب قهوة إسبريسو وقطعة “كيك بابا بنكهة الرُم” للاحتفال بنهاية الحرب الأهلية اللبنانية. قال لنفسه، لكن ماذا لو كانت كلّها مجرد أكاذيب؟ ماذا لو كان كلّ ذلك مجرد مزحة؟ ربما لم تنته الحرب بعد. لكن لم يعد ذلك يهمني! كلّ مرة يقولون إنها انتهت، سأشتري لنفسي شيئاً أحبّه. لقد زاد وزنه عشر باوندات، ربما خمسة عشر باونداً، قبل أن يدرك أن خطته خاطئة. قال لنفسه، إن رجال المليشيا الخنازير هؤلاء يجعلونني بديناً. ماذا يجب أن أفعل حتى أبقى نحيفاً؟ يجب أن أحبّ. وهذا ما فعله.
«وهل أحببت؟” سأله الكولونيل.
«ألم أكن في حالة جيّدة آنذاك؟”
فقال جورج: “إنها مدينة من النساء الجميلات”.
«ألهذا السبب بقينا؟”
فقال الكولونيل: “تحدّث عن نفسك”.
لم يقل طوني إنه أُغرم بنادية. نادية الجميلة، المثيرة، بأصابعها الطويلة النحيلة التي تشبه أصابع عازفة بيانو، وشعرها الكثيف الذي تفوح منه رائحة عطرة. مع زوجة أبو فيكتور، أحس طوني أنه بدأ يصبح نوعاً آخر من الرجال. حاول أن يسرقها منه لكنّه لم يفلح. لقد مرّ زمن طويل على ذلك. أصبح تاريخاً قديماً. لكنه لماذا يقول أشياء كثيرة، ولماذا الآن أكثر من أي وقت مضى؟ عندما بدأ طوني يحكي القصّة، نسي النهاية. نسي أنه كانت هناك نهاية. حدّق في قالب الحلوى، جعله اضطرابه يصاب بالخرس.
كانت الجدية حول طاولة الشرفة مثيرة للأعصاب. كان أبو فيكتور ساهماً، يفتل كأس النبيذ بيده. كان جورج يسمع صوت طقطقة موسيقى من شرفة أخرى. لم يكن يتقن اللغة الفرنسية، لكنّه خيّل إليه أن المغني يصيح، اخلع! اخلع! اخلع قميصك. مسح جورج أنفه. كانت نظاراته السوداء تنزلق من أنفه. كانت الحرارة شديدة. عندما كان طفلاً، اعتاد الجيران على التكلم همساً، “جورج المسكين، بعكازه الأبيض ونظاراته السوداء، يشبه رجلاً عجوزاً”. ابتسم.
لم يكن الجيران يعرفون أن النساء ينجذبن إلى عماه كما تنجذب النجوم إلى السماء في الليل.
مدّ جورج يده اليسرى على الطاولة، ودفع أحدهم، ربما أبو فيكتور، كأساً إلى أصابعه.
«جورج، ماء؟” قال طوني، “لا يزال المساء شديد الحرارة”.
«إني أفضّل النبيذ. أتعرف ماذا يقول أبو العبد، إذا كنت تريد أن تسرق شيئاً، فاسرق جملاً”. أبعد عنه الماء. أمسك عقب كأس النبيذ بين أصابعه، وقال:«شكراً”.
وثب أحدهم فجأة من على كرسيه. لا شك أنه أبو فيكتور. إنه لا يفعل شيئاً قط ببطء.
سمع جورج وقع خطوات، فُتح الباب الشبك ثم أُغلق، ثم فُتح مرة أخرى.
عاد أبو فيكتور حاملاً الصحون والسكاكين والملاعق. وربما بعض الشوكات. كانت الشمس ترسم شكل عرق وريدي أحمر، مثل ظاهر ورقة شجر، على جفنيه. كان المكان لامعاً جداً في الخارج.
في صباح اليوم الذي أزالوا فيه الضمادات من عيني جورج، شعر بانهيار تام فطلب من والديه أن يطلقا عليه اسماً جديداً. خيّل إليهما أنه يمزح، لذلك ظل اسمه جورج. ولمـّا كان في العاشرة من عمره عندما وقع الحادث، فقد كان قد رأى الكثير من الألوان. لذلك لم تغب الألوان عن مخيلته. كانت الألوان تراوده في خطوط وأشكال، في فسيفساء تضمّد العالم. أخبره الأطباء والممرضات والكبار والكهنة أموراً مختلفة: كم كان محظوظاً لأنه نجا من الانفجار، كم كان محظوظاً لأن الفرصة أتيحت له ليعيش على أرض الله بطريقة مختلفة. قالوا له لا بد أن الله يحيطه برعايته. لاحظ جورج الخطوط العنكبوتية تتنفّس وراء جفنيه: كانت ترسم أشكال حيوانات، أوزان اللغات، ضغط الألوان. كانت خطوطاً ترتبط بأسلاك تنفجر، لكنها لا تخلّف ضحايا. في عام 1975، السنة التي اندلعت فيها الحرب، كان هو وجوزيف وطوني والكولونيل في العاشرة من العمر. كانوا يحبّون إثارته، يلوّحون بأيديهم أمام عينيه، حركاتهم تشوش الألوان التي يراها وتحدث هبات من الهواء الخفيف على جلده. كان الأولاد الثلاثة يمسكون بيديه ويمررونهما فوق سطوح أشياء، مثل غلاف رصاصة، غلالة مسروقة، صخرة في هيئة نابليون، قطّة اسمها فوفو. لقد تذكّر، أكثر من أي شيء آخر، كيف كان يجري به جوزيف وطوني والكولونيل أسفل الدرج متوجهين إلى الملجأ في أسفل بنايتهم. أيديهم كلها على جسمه – يمسكون رسغيه، مرفقيه، ظهره، رأسه – وهم يدفعونه أسفل الدرج. لم يكن صوت أقدامهم الصغيرة يسمع من شدة الانفجارات التي تبعث على الصمم. كان مجرد سماع الصوت يجعلك تشعر بأنك في عداد الأموات. كان ينتابه الإحساس بأنّهم هم القنبلة التي ستسقط من شدة اندفاعهم وهم يهبطون الدرجات، أو بدقة أكبر، ربما كان هو القنبلة التي يحملونها في بطن أيديهم، ليلقوا به في الملجأ، ويأخذوا معه الجميع، الأحبة والأعداء، أفراد الأسرة والغرباء. جوزيف، جوزيف، كان يصرخ، فيصرخ الفتى الآخر جورج الذي كانت نبرة صوته تشي بأنه ينادي جورج آخر من داخل صدر جورج، وسيسحبه هذا الفتى أيضاً. إلى أين؟ لا إلى حيث السلامة. الدرجة التالية، المخبأ التالي، تدفق الشعور التالي.
أما الآن، وهو جالس بجانب جوزيف، فهو لا يعرف ماذا يتمنّى لصديقه سوى الخدر. موت الإحساس. كان صوت ابن جوزيف، فيكتور، خافتاً دائماً. والصوت الخافت تغرقه الأصوات الأخرى على الدوام.
«هل يمكنك أن تعطيني أيضاً قليلاً من النبيذ، يا طوني؟”
صوت الكولونيل ذكّر جورج بالنوارس.
فقال طوني: “النبيذ حلو كثيراً، حبيبي”.
قال جورج بصوت منخفض: “إذا تناولت قطعة حلوى فلن يبدو النبيذ شديد الحلاوة”.
قال الكولونيل: “أبو فيكتور، هل هذا التمثال المنحوت جديد؟”
«جديد؟ جديد منذ ثلاث سنوات”.
«كيف ذلك؟ ألم أزرك منذ مدة طويلة؟”
ساد صمت.
واصل الكولونيل كلامه: “آخر مرة رأيتك فيها، كانت هناك حرب أيضاً”.
«حرب أخرى”.
فقال طوني “نفس الحرب المنيوكة”.
أراد الكولنيل أن يذكر شيئاً من الماضي، عندما كانوا أطفالاً. لو قال الشيء المناسب لشعر الرجال الأربعة بالارتياح. إن الحاضر حقل ألغام، والسلام شيء مخادع. كيف يتوقع أن يساعدوا أبو فيكتور؟ لا شيء يمكن أن يحلّ محل فيكتور الذي كان، حتى عندما بلغ الثانية والعشرين من العمر، يمتلك حلاوة طفل.
قال طوني: “جورج، أيها العجوز، هل تريد قطعة حلوى؟”
«لم لا؟”
فقال أبو فيكتور: “نعم، لمَ لا؟”
رفع أبو فيكتور السكين والصحن في يده. وضع الصحن. بكلتا يديه ثبت نصل السكين فوق أعلى طبقة من قالب الحلوى.
«أنا أبدأ من الأسفل”، قال طوني.
«هل ستفعل ذلك؟”
«هل أفعل ذلك نيابة عنك؟” سأل طوني.
«لا، يا صديقي. لقد قمت بما يكفي”.
ضحك الكولونيل. بدت الضحكة غريبة. أحسّ أبو فيكتور بأن السماء نفسها تحدّق فيهم وتصدر حكماً، وبأنه لم يكن يزعج أصدقاءه الثلاثة فقط، ولا نادية، بل السماء نفسها أيضاً.
«من هو الأكبر سناً هنا الآن؟” سأل الكولونيل مع أنه كان يعرف.
«طوني. فهو أول من يبلغ الحادية والخمسين”.
«توقفت عن النمو منذ فترة طويلة يا جورج. هل أنت أعمى؟”
«صديقتك، ما اسمها”، دمدم جورج، “لقد رأيتها جيداً. أوه لا لا”.
«تذكّر الآنسة أوه لا لا!” قال الكولونيل، “نهدا الآنسة پاپينو الصغيرين. ساقا السيدة لو نورماند الممشوقتين”.
قال جورج: “في يوم من الأيام، التقى باريسي وأمريكي وإيراني وأبو العبد في مؤتمر. وفي وسط حديثهم….”
«توقف عن إلقاء النكات”، قال أبو فيكتور متوسلاً.
لمست أصابع طوني كأس نبيذه. لا نريد سماع المزيد من النكات. اندلق النبيذ على جورج الذي لم تصدر عن جسمه أي ردة فعل. استدارت عدسات نظارته السوداء بعيداً عن قالب الحلوى نحو الشمس. وقع عكازه الأبيض بعد أن ارتطم باختلاجة ركبته، على الأرض.
في الطابق الأسفل، صاحت الجارة محبطة “لكن، لا! لا!” ربما لم تكن تنوي أن يسمعوا ذلك.
وثب طوني، وجرى إلى الداخل بحثاً عن قطعة قماش، وعاد حاملاً حفنة من المناشف الورقية.
«هل هو نبيذ أحمر؟” سأل جورج.
«نعم”.
«حسناً”.
نظفوا المكان ثم جلسوا.
«اقطع قالب الحلوى يا أبو فيكتور”، قال جورج.
«نعم”، أجاب. أبو فيكتور، أبو فيكتور. “شكراً. سأفعل ذلك”.
ذابت قطعة الحلوى ببطء في فم أبو فيكتور. اعترته دهشة لأن السكّر بدأ يسري في جسمه. ربما يجب ألاّ يعرف المرء كلّ الأشياء التي عليه أن يعرفها. شعر أبو فيكتور بالغثيان لأنه كان يعرف ويظن أنه قد يغرق في المعرفة. سقط اليوم المزيد من القنابل على هؤلاء الأشخاص الملعونين المساكين. ماذا يمكن للمرء أن يفعل؟ لا توجد عدالة. لقد تعب من المعرفة.
شيئاً فشيئاً انتهت الحرب في لبنان. كانت تلك تجربة أبو فيكتور. في الحقيقة، خلال عشرين سنة، لم يكن أحد يعرف عما إذا كان من الجيد أن يعود المرء إلى مسقط رأسه، بيروت. لم يكن أحد يعرف عمّا إذا كان السلام مؤقتاً، فترة استراحة يمضيها المرء في مقهى، قيلولة قصيرة قبل أعمال القتل، ثم يعود القتال. كذلك فإنك لا تعرف متى تفتح باباً وتدع الماضي يتدفق نحوك ببكائه الهستيري وبأذرعه الممدودة. في الحقيقة، كان يفضّل الماضي على الحاضر. قالت مي – يونغ لفيكتور مثلاً كورياً: “تزدهر في النكبات، لكنك تموت في الحياة الناعمة”. عاش والد ووالدة مي – يونغ خلال الحرب الكورية. كانا طفلين آنذاك. “كنت ستشعرين بأنك في بيتك معهما”، توقّع فيكتور، وكان محقّاً.
كان أبو فيكتور يفهم بيروت جيداً، لكنّه كان يعتقد بأن ثمة أمرأً سقيماً وقلقاً يكتنف مونتريال. هل هو الهواء أم الماء أم جليد الشتاء القاسي؟
ما الذي جعل الناس يفقدون صوابهم، ولو مؤقتاً؟
لماذا تبدو الشمس عابثة هنا؟
كان ابنه قد نشأ وكبر في كندا. ولو كان فيكتور، في ظروف مختلفة، بحاجة إلى مساعدة أحد، لكان قد أتى بسهولة إلى والده، إلى طوني، إلى الكولونيل، بل حتى إلى جورج (بإمكان رجل ضرير أن يقتل شخصاً بالصدفة. كانوا يتناقلون هذه النكتة عندما كانوا أطفالاً: بإمكان جورج أن يفتح النار على آخرين بالصدفة). البقاء على قيد الحياة سهل للغاية. عندما كانوا مراهقين، كان يخيّل إليهم أن كلّ ما يلمسونه يتحوّل، إذا لم يكن إلى ذهب، إلى الحياة نفسها. إن فعل الحياة لا يتعدى أن يأخذ المرء الأمور بيديه.
لم تكن مي –يونغ، التي كان من المفترض أن تصبح كنّته، بحاجة إلى قالب الحلوى هذا. فقد التقت في السنة الماضية بشاب آخر. وعلى الرغم من تعلق أبو فيكتور ونادية بمي –يونغ، فقد قررا ألاّ يحضرا حفل زفافها. لأن ذلك سيبدو كأنهما يتخلصان من ابنتهما. كان والدا مي –يونغ محظوظين. فقد كان عندهما ثلاثة أطفال، أما أبو فيكتور ونادية فلم يكن عندهما إلا وحيدهما المحبوب، ابنهما فيكتور.
تذكّر أبو فيكتور الآن حادثة سابقة. بدأ يحكي عنها لطوني وللكولونيل ولجورج. كان أبو فيكتور مع ابنه في السيارة. كان فيكتور قد حصل على رخصة القيادة مؤخراً، لذلك كان في السابعة عشرة من عمره. كان يقود السيارة عبر تقاطع القديس لوران ومونت رويال عندما اجتاز راكب دراجة إشارة المرور، انحرف بشدة عليهما حتى كاد فيكتور أن يدهسه. إنه راكب دراجة غبي. لم يدرك الواقع بأنه نجا من الموت بإعجوبة. مصدوماً، أنزل فيكتور نافذة السيارة، وصاح: “ما خطبك؟ ألا ترى أنني كدت أدهسك؟”
فضحك راكب الدراجة وقال بالفرنسية: “من أين أنت، يا قطعة الخراء؟”
أحسّ أبو فيكتور بأن الشارع، بل المدينة برمتها، بل ربما البلد كله، قد استدار إليهما وراح يحدّق فيهما. كساه الصمت مثل قطعة قماش.
كسر فيكتور الصمت. “أنا من هنا”، صاح الصبي. صاح بالفرنسية ثم بالإنكليزية ثم بالعربية: “من هنا. من هنا، أيها الأحمق. لن أذهب إلى أيّ مكان! أتسمعني أيها الخراء العنصري؟ نحن هنا ولن نذهب إلى أيّ مكان”.
هل هم من هنا؟ سأل أبو فيكتور أصدقاءه الآن. واصلت السيارة طريقها. كرّر فيكتور كلمتين فقط: “هذا اللقيط، هذا اللقيط”. كان فيكتور معسول اللسان على الدوام، رائق المزاج، وكان أبو فيكتور شديد الفخر به على موقفه الصلب. قال له ذلك بصوت مرتفع: “فيكتور، لقد لقنتَ ذلك الغبي درساً”.
هل رأيت النظرة البادية على وجهه؟ إني فخور بك”.
حول طاولة الشرفة، لم يجبه أحد. إحساسهم بالضيق وحزنهم بدا مثل دخان ينبعث في داخل رئتيه.
جرع أبو فيكتور نبيذه وتناول لقمة أخرى من الحلوى.
إن اسم ابنه، فيكتور، يرتبط بهذا المكان – بمونتريال، بباريس، ببيروت – ويرتبط الاسم بوالد جوزيف نفسه أيضاً. لكن هل يكفي أن يربط الاسم أحداً بقطعة أرض؟ “لا ينتمي الناس إلى أناس آخرين”، قالت له نادية في الأسبوع الماضي فقط، “ولا تنتمي مي – يونغ إلى فيكتور، ولا ينتمي ابننا إليك، وأنت لا تنتمي إليّ، ولا ينتمي أحدنا، ولا واحد منّا، إلى هنا. ولا واحد منّا”.
«إن لم يكن إلى هنا، “قال لها، يريد أن يضمها إليه، لكنه كان يعرف في أعماقه بأنها لا تريده، “فإلى أين؟”
«لا أعرف يا جوزيف”، دموعها أحرقته، “لماذا لا يوجد لدينا أجوبة؟”
الآن قال محدثاً الهواء، طوني، الكولونيل، وجورج، “لو سال دمكم على الأرض، كما سال دم فيكتور، ألا يحقّ لكم أن تدعو هذه الأرض أرضكم؟”
«أبو فيكتور”، قال جورج، “كان ذلك مجرد صدفة”.
«ما هي الصدفة يا جورج، وما هي الكارثة؟”
فقال الكولونيل: “اتفق معك يا أبو فيكتور. لكن ربما كان كل شيء صدفة، كلّ شيء، صدفة. ليست إرادة الله، بل الحركة اللانهائية ووزن الصدفة”.
هزّ أبو فيكتور رأسه، وقال: “هل هذا كلّ شيء؟”
«لكنك تسيء فهمي. فهذا ليس بالأمر اليسير”.
كان فيكتور متوجهاً إلى مكان عمله في وسط المدينة. كان ذلك في الصباح الباكر. كان هناك رجل غريب يثير الإزعاج، لا بد أنه كان مصاباً بانهيار عصبي. كان يحمل بيده سكيناً يلوّح بها. قالت الشرطة إن الرجل يثير الجلبة والفوضى. فيكتور القادم من الجهة المقابلة سمع ما يحدث. هل تعمّد الدخول إلى الزقاق؟ كان يتكلّم ثلاث لغات، وربما كان يظن أنه يستطيع أن يتكلّم أيّ لغة يريد. كان قد تخرّج في كلية الهندسة وينوي الحصول على رخصة عمل كمهندس. كان يعرف أشياء كثيرة عن انهيار المدن حيث تتهاوى الأشياء، تنهار بسبب بناء غير جيد أو بواسطة القنابل أو الكراهية. ومثل أبيه، دأب فيكتور على الاستيقاظ مبكراً، في الساعة الخامسة صباحاً بأبعد تقدير. كان فيكتور قد فتح عينيه في السرير في الشقّة التي يقيم فيها مع مي –يونغ. كان شديد الدقة فيما يتعلق بالوقت، كما لو كان موجوداً في داخله. ركب دراجته متوجهاً إلى مكان عمله عند الساعة السادسة والنصف تماماً. ظهر هو ودراجته في ذلك المكان. هل أثار وجوده أحداً وأجفله؟ عندما أطلقت الشرطة النار على الرجل الذي يحمل السكين وأردته قتيلا، أطلقت النار أيضاً على فيكتور عرضاً. ارتدّت الطلقة من جدار وأصابت فيكتور في صدره. حاولت الشرطة إنقاذه. لم يقل أحد لأبي فيكتور عمّا إذا كان ابنه قد قال شيئاً وهو ملقى على أرض الشارع. كان فيكتور يتنفس في سيارة الإسعاف. لكن لم يصل هو ولا نادية ولا مي-يونغ إلى المستشفى في الوقت المناسب. في تلك اللحظة لفظ ابنه أنفاسه الأخيرة. كان أبو فيكتور مستيقظاً كالعادة. كان جالساً في كرسيه، ينظر إلى الضوء المتغير على الأسطح. ثم سلمت الشرطة أبي فيكتور ملابس ابنه وخوذة دراجته ودراجته. وتبين أن السكين التي كان يلوّح بها الرجل المتشرّد مجرد موسى صغيرة. أذيع عن نبأ إطلاق النار في نشرة الأخبار. كان هناك شجب. اعتذرت الشرطة، وأطلق التحقيق على ما حدث مأساة. ثم انتهى كل شيء. لقد ذهب كلّ شيء. لقد حدث كلّ ذلك قبل ثلاث سنوات، في الساعة 6:40 صباحاً.
تساءل أبو فيكتور كيف أنني لا أزال أب أحد؟ أليس من الأفضل لو أصبحت بلا اسم؟ أبو. أبو.
قطع قالب الحلوى، من الطبقة السفلية، وقدم قطعة أخرى للكولونيل الذي قال: “إنه طري جداً من الداخل”.
«لقد كسرت كلّ العظام للتو”.
ضحك الكولونيل لكنه بدا مشمئزاً.
إذاً هذا صحيح، قال أبو فيكتور لنفسه. نكتة هي السكين. نكتة قد تسيل الدم.
قبل طوني القطعة المقدمة له. في أرجاء الشقّة، كان طوني يرى أشياء تذكّره بنادية. صور لنادية وفيكتور، فيكتور ونادية. نادية ومي – يونغ، فيكتور ومي – يونغ. كانت نادية قد لفت قالب حلوى الزفاف بقطعة من البلاستيك ووضعته في المجمّدة. لماذا فعلت ذلك؟ ماذا ستفعل عندما تعود إلى البيت وتجد أنه لم يعد هناك؟ لم ير نادية منذ فترة طويلة. إنها امرأة طيبة ومستقيمة. قد يكون أبو فيكتور قد فقد ابنه، لكن لا يزال عنده بيت وشخص يحبّه. ألا يعني ذلك شيئاً؟
«قالب الحلوى مصنوع في مخبز يوكي وهانك”، قال أبو فيكتور وقد ثمل قليلاً، “يجب أن نرسل لهم رسالة شكر. يجب أن نخبرهم أن قالب الحلوى يحافظ على جودته لمدة طويلة”.
إن لعكاز جورج خفّة كفّ قطّة على ركبته. ظنّ أن قالب الحلوى يتألف من عشر طبقات وتتوجه ورود وردية اللون. كان قد رأى قالب حلوى كهذا عندما كان صبياً، في عرس في حاريصا، القرية الجبلية التي تقع في المنطقة التي ولدت فيها أمّه.
قال الكولونيل: “أتذكر تلك الليلة في قبرص عندما التقينا بالأميرات…”
«لا أتذكّر شيئاً منيوكاً”، قال طوني.
ضحكوا.
طوني مرة أخرى: “كنت أحبّ شكل قوالب حلوى الزفاف منذ أن كنت طفلاً”.
جورج صحنه ليحصل على قطعة أخرى للمرة الثالثة، وقال: “طوني، ما طعم الشكل؟ هل تعرف النكتة عندما ذهب أبو العبد لحضور عرس في جونيه…”
ابني يرتدي بدلة. ابني يرتدي بدلة. أبي يرتدي بدلة. الأب والابن، فيكتور وفيكتور. “إني حقاً لا أعرف أياً منهما”.
طوني: “هل سكرت يا أبو فيكتور؟”
«مستعد لدفع مبلغ كبير حتى أسكر”.
«هل يتناولون هذا النوع من الحلوى في اليابان؟” سأل الكولونيل.
أراد أبو فيكتور أن يضحك ويضحك.
«كلّ يوم”.
كان قالب الحلوى لذيذاً جداً. وجد الكولونيل نفسه يعدّد الأشياء التي التقطوها ذات يوم من الشوارع. كلّ الحلويات التي تناولها هو وجوزيف وطوني وجورج بعد أن كانوا يقايضونها بأغلفة الطلقات، وعلب السجائر، والدحل، وأيّ شيء آخر، مع عصابات أخرى من الأخوة في الحيّ. تذكّر جميع الفتيان الذين كانوا يكبرونهم سنّاً يتسكعون مع فتيات جميلات يشبكون أذرعهم بأذرعهن. فتيات يتغيرن باستمرار، وتتغير ثيابهن وأحذيتهن باستمرار. بالطبع، لم يكن يغيّرن ثيابهن حقاً، لأن البضائع كانت شحيحة… لكن شوارع بيروت كانت تضجّ بالألوان المختلفة، ومفعمة بالحياة، وتزداد فيها الحياة مع دورة كل ساعة. دامت الحرب طويلاً، وفي النهاية غادروا جميعاً لبنان. كان الكولونيل نفسه أول من غادر. كان قد أغرم بفتاة فرنسية، وتبعها. قال الكولونيل لوالديه إنه يريد أن يدرس الفلسفة، وبسعادة سددا تكاليف دراسته. وفي فرنسا، أُغرم برجل لبناني لم يعش في فترة الحرب. أصبحا يعيشان الآن في بيت واحد في هامستد، وهي منطقة في مونتريال يعيش فيها الأثرياء وفيها إدارة أمن خاصة. لكنه لم يستطع أن يتذكّر ترتيب مغادرة الآخرين. هل كان أبو فيكتور في 1984، ثمّ جورج في عام 1986؟ هل ظل طوني حقاً حتى عام 1990؟ لم يتذكّر ذلك. كانت بيروت مكان اللا شيء. رفض أن يعود. لم يعد الكولونيل ذلك الطفل، ذلك الصبي الذي يمكن أن ترضيه الحلويات، الذي يراقب العالم وهو يمر. لاحظ الفيلسوف ستراتو أن الماء الذي يتدفّق من الصنبور ينفصل إلى قطرات منفصلة، وتخيّل ستراتو أن كلّ شيء في هذا الكون ينتج عن الوزن والحركة. خيّل لستراتو العجوز أن باستطاعته أن يحرّر الله نفسه، وأن يجعل الأمور بحيث لا يعود الله مسؤولاً عن الخلق: إن كلّ ما تحتاج إليه الحياة حتى تستمر هو الوزن، الحركة.
بعد أن تحرر من فكرة الله، اعتقد ستراتو أننا سنتحرر أخيراً من الخوف.
تعرّف الكولونيل على أفكار ستراتو عندما هرب من بيروت إلى باريس، لكنه منذ البداية كان يحمل بذرة الشكّ. لم يكن الكولونيل يخشى اللهّ. لم يسهم الله في أي شيء في أيامنا هذه، بل يعتقد الناس أنهم هم المسؤولون عن كلّ الخلق. انتفخ المجتمع بالأنا. عندما يفكّر بالرجال، يكاد الكولونيل يشعر برعب يجعله عاجزاً عن فعل أي شيء. طوال فترة حياته، لم تمر دقيقة واحدة لم تنطلق فيها حرب. لذلك، فإن السلام هو الوهم الكبير، وأولئك الذين يعيشون في سلام يعيشون في حلم على وشك أن يتلاشى. كان الكولونيل مستيقظاً في بيروت، لكنّه غطّ في النوم في باريس. إنه لا يزال نائماً. نام وقد اختار النوم بدلاً من حزن الاستيقاظ الفظيع.
بصوت منخفض، حكى جورج نكتة تقول إن أبو العبد اكان يدرس عن البيئة. كان جورج خبيراً في توقيت إلقاء نكت. انحنى الرجال الثلاثة الآخرون إلى الأمام كرجل واحد ليسمعوا النكتة. كانت النكتة بذيئة جداً. لم يكد الكولونيل يستطيع أن يتنفّس، كان يضحك بقوة. كان أنفه يسيل، والدموع تسيل من عينيه.
ثم قال طوني: “أظن أنني سأغادر مونتريال. عندما ينتهي قالب الحلوى هذا، سأذهب إلى البيت وأحزم حقائبي”. إنه لم يعد إلى بيروت منذ عام 1987. تناول وردة وردية اللون مصنوعة من السكّر ووجد أنها لا تزال مجمّدة في وسطها.
تناول جورج قطعة رابعة. في لغتهم الأمّ، يستخدم العمى كشتيمة. العمى. لكنّهم لم يعرفوا. لم يتمكن أصدقاؤه من رؤية كلّ هذه الألوان، وكلّ هذه الشمس. كلّ ما كانوا يرونه هو قالب الحلوى هذا. قال: “كويس. يا طوني. أرسل لنا برسالة من حين لآخر”.
كان فيكتور يقود دراجته أسفل أفنيو دي بارك. كان الهدوء يسود العالم. كان يحاول أن لا يفكر بحفل الزفاف. كان يراقب تسلل ضوء سائل شاحب من أبراج وسط مدينة مونتريال. كانت دراجته تصفر وهي تجري أسفل التلّ. اجتاز مركز المدينة، رويال مونت، التي كانت حقاً رابية، بالمقارنة مع جبال لبنان. كان ينتصب تمثال ضخم. امرأة تقف متوازنة فوق كرة على قدم واحد، ذراعاها مرفوعتان، تطلب العدالة. لم يكن فيكتور يعرف ماذا يطلب. كان قلقاً على مي – يونغ التي كانت قلقة على جدتها في سيؤول. قررا الذهاب إلى كوريا، لترتيب الأمور. كان هذا ما يتمناه، أن يعتني بالأمور من أجلها. أن يرتب عالمهما، الجزء الصغير الذي يخصهما من هذه المدينة. ذات يوم، سيضع تصميماً لبناية شفّافة. كان يتخيّل ذلك. طار أسفل التلّ، كان النسيم يلامس جلده، وتخيّل أنه جسم يهبط إلى العالم.
أسقط جورج شوكته.
«ماذا في الأمر؟” سأل أبو فيكتور.
كاد صوت جورج يضيع وراء جلبة الضحك الصاخب الذي يطلقه الطلاب الشبان في الشرفة المقابلة. قال: “لا شيء. كنت أفكّر بدرج بنايتنا القديمة في بيروت. ظننت أنني رأيت شيئاً لم يكن موجوداً هناك”. لاذ جورج بالصمت. كان لا يزال يراه، وزن وحركة، يسقط وراءهم. كان طير يقف فوق عمود كهربائي يزقزق زقزقة متناغمة، مثل ساعة تقيس الزمن، ثم توقّف.
سمع أبو فيكتور الباب الأمامي يُفتح. لعل نادية عادت إلى البيت. ستخرج إلى الشرفة. سترى طوني. ستراه. لماذا فعلت ذلك يا جوزيف؟ ألا تفهم؟ لقد خبأتها”.
أراد أن يسألها، ماذا يمكن لأيّ إنسان أن يضع في داخل قالب الحلوى هذا؟ إن كان هذا كلّ ما يمنحنا إياه الله، الكون، الطبيعة، بوذا، لا أعرف من، فماذا يمكننا أن نضيفه؟ دعيني أتصرف وإلاّ كيف يمكنني أن أستمرّ؟ قولي لي يا نادية، أرجوك، كيف يمكنني أن أزيل حزنك. حزنك، حزننا، يقتلنا.
قولي لي، يا حبيبتي، يا حياتي. أتوسل إليك. أين هي العدالة؟ قولي لي.
بارتياب، رأى أبو فيكتور جورج، من دون مساعدة أحد، يأخذ قطعة خامسة من قالب الحلوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“حلوى الزفاف” قصة للكاتبة الكندية مادلين ثيان ترجمة خالد الجبيلي
madeleine Thien
مادلين ثيان