نقوس المهدي
كاتب
مشاهدة المرفق 622
فور انتهاء تاجر أثاث منزلي من شراء أريكة مستعملة، اكتشف أن واحدة من مالكيها السابقين قد خبأت يومياتها الحميمة في فجوة في مسند الظهر. ولسبب ما ــ الموت، النسيان، الهروب، التسرع، الحصار ــ ظلت اليوميات هناك، والتاجر الخبير في بنيان قطع الأثاث، وجد المذكرات مصادفة وهو يتلمس مسند الظهر للتأكد من متانته. ظلَّ في ذلك اليوم حتى وقت متأخر في المتجر المترع بالأسِّرة والكراسي والمناضد والخزائن، يقرأ في الحجرة الخلفية تلك اليوميات الحميمة على ضوء المصباح، منحياً على منضدة المكتب.
كانت اليوميات تكشف، يوماً فيوماً، مشاكل كاتبتها العاطفية، وقد أدرك تاجر الأثاث فوراً، وهو رجل ذكي ومتكتم، أن المرأة قد عاشت وهي تخفي شخصيتها الحقيقية، وأنه بضربة حظ لا يمكن تخيلها صار يعرفها أفضل بكثير من الأشخاص الذين عاشوا إلى جانبها ويرد ذكرهم في اليوميات. استغرق تاجر الأثاث في التفكير. وللحظات لا بأس بها بدت له مستغربة، بل شبه مستحيلة، فكرة أن يتمكن أحدهم من أن يمتلك في بيته، وفي مأمن من الجميع، شيئاً مخبأ ــ سواء أكان مذكرات أو أي شيء آخر. ولكنه بعد دقائق قليلة، في اللحظة التي نهض فيها وبدأ بترتيب منضدة مكتبه قبل أن يرجع إلى بيته، تنبه فجأة، وليس من دون ذهول، إلى أنه هو نفسه يمتلك، في مكان ما، أشياء مخبأة يجهل الجميع كل شيء عن وجودها.
ففي بيته، مثلاً، في العليّة، وفي علبة معدنية مموهة بين مجلات قديمة وأمتعة ليس لها أي نفع، يملك تاجر الأثاث حزمة أوراق نقدية مخبأة، يضيف إليها أوراقاً نقدية أخرى بين حين وآخر، وتجهل زوجته وأبناؤه أمر وجودها؛ ولا يمكن لتاجر الأثاث أن يقول بطريقة دقيقة ما هو هدفه من تخبئة تلك الأوراق النقدية.
ولكن، شيئاً فشيئاً، راح يستحوذ عليه اليقين المقيت بأن مصير حياته كلها لن تحدده نشاطاته اليومية التي يمارسها في وضح النهار، وإنما تلك الحزمة من الأوراق المالية التي تتآكل في العلية. وأن أشد كل أفعاله أساسية هو، بلا شك، إضافة ورقة نقدية بين حين وآخر إلى حزمة الأوراق المتآكلة.
وبينما هو يشعل لوحة الإعلان المشعة التي تملآ الجو القاتم فوق الرصيف بضوء بنفسجي، داهم تاجر الأثاث استذكارٌ آخر: فذات يوم، بينما هو يبحث عن مبراة أقلام في غرفة ابنه الكبير، وجد بالمصادفة مجموعة صور بورنوغرافية يخبئها ابنه في درج الكوميدينو. أعادها تاجر الأثاث بسرعة إلى مكانها، ليس بسبب الحياء بقدر ما هو بسبب الخشية من أن يظن ابنه أن أباه معتاد على النبش في أشيائه الخاصة. وخلال تناول العشاء، راح تاجر الأثاث يراقب امرأته: فللمرة الأولى بعد ثلاثين عاماً تخطر لباله فكرة أنه لا بد أنها تحتفظ هي أيضاً بشيء مخبأ، شيء خاص جداً وغارق عميقاً جداً، لا يمكن للتعذيب أن يجعلها تبوح به حتى لو رغبتْ في ذلك. أحس تاجر الأثاث بنوع من الدوار. لم يكن الخوف المبتذل من أن يكون قد تعرض لخيانة أو غش هو ما جعل رأسه يدور مثلما يحدث عند صعود النبيذ إلى الرأس، وإنما اليقين بأنه، حين صار عند عتبة الشيخوخة بالتحديد، ربما سيجد نفسه مضطراً إلى تعديل أشد المفاهيم أولية في تكوين حياته. أو ما كان يسميه حياته: لأن حياته، حياته الحقيقية، بحسب حدسه الجديد، تدور في مكان ما، في السواد، بمأمن من الأحداث، وتبدو صعبة المنال أكثر من ضاحية الكون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* خوان خوسيه ساير: كاتب أرجنتيني (ولد سنة 1937، وتوفي في باريس سنة 2005). يعتبر واحداً من أبرز كتاب الأرجنتين وأحد أعلام آداب اللغة الاسبانية المعاصرة. غير أن ابتعاده عن بلاده لسنوات طويلة أمضاها في فرنسا أثر كما يبدو على انتشاره في العالم الناطق بالاسبانية. لكن أهميته تكشفت عندما اختيرت ثلاثة من أعماله عام 2007 ضمن قائمة أفضل مئة كتاب باللغة الاسبانية خلال الخمسة والعشرين عاماً السابقة. أعماله مترجمة إلى أكثر من عشر لغات، ولكن لم يترجم أي من كتبه إلى العربية، على الرغم من كونه من أصول سورية، فجداه وأبواه من قدماء المهاجرين إلى العالم الجديد، استقروا في بلدة أرجنتينية صغيرة (سيرودينو) تتبع لإقليم سانتا في، وتبعد نحو أربعين كيلومتراً عن مدينة روساريو. وقد توصل أبوه إلى امتلاك متجر أقمشة. وهنالك مبادرة يقوم بها أعضاء من الجالية العربية في الأرجنتين لتحويل البيت الذي ولد فيه الكاتب إلى مركز ثقافي يحمل اسمه.
فور انتهاء تاجر أثاث منزلي من شراء أريكة مستعملة، اكتشف أن واحدة من مالكيها السابقين قد خبأت يومياتها الحميمة في فجوة في مسند الظهر. ولسبب ما ــ الموت، النسيان، الهروب، التسرع، الحصار ــ ظلت اليوميات هناك، والتاجر الخبير في بنيان قطع الأثاث، وجد المذكرات مصادفة وهو يتلمس مسند الظهر للتأكد من متانته. ظلَّ في ذلك اليوم حتى وقت متأخر في المتجر المترع بالأسِّرة والكراسي والمناضد والخزائن، يقرأ في الحجرة الخلفية تلك اليوميات الحميمة على ضوء المصباح، منحياً على منضدة المكتب.
كانت اليوميات تكشف، يوماً فيوماً، مشاكل كاتبتها العاطفية، وقد أدرك تاجر الأثاث فوراً، وهو رجل ذكي ومتكتم، أن المرأة قد عاشت وهي تخفي شخصيتها الحقيقية، وأنه بضربة حظ لا يمكن تخيلها صار يعرفها أفضل بكثير من الأشخاص الذين عاشوا إلى جانبها ويرد ذكرهم في اليوميات. استغرق تاجر الأثاث في التفكير. وللحظات لا بأس بها بدت له مستغربة، بل شبه مستحيلة، فكرة أن يتمكن أحدهم من أن يمتلك في بيته، وفي مأمن من الجميع، شيئاً مخبأ ــ سواء أكان مذكرات أو أي شيء آخر. ولكنه بعد دقائق قليلة، في اللحظة التي نهض فيها وبدأ بترتيب منضدة مكتبه قبل أن يرجع إلى بيته، تنبه فجأة، وليس من دون ذهول، إلى أنه هو نفسه يمتلك، في مكان ما، أشياء مخبأة يجهل الجميع كل شيء عن وجودها.
ففي بيته، مثلاً، في العليّة، وفي علبة معدنية مموهة بين مجلات قديمة وأمتعة ليس لها أي نفع، يملك تاجر الأثاث حزمة أوراق نقدية مخبأة، يضيف إليها أوراقاً نقدية أخرى بين حين وآخر، وتجهل زوجته وأبناؤه أمر وجودها؛ ولا يمكن لتاجر الأثاث أن يقول بطريقة دقيقة ما هو هدفه من تخبئة تلك الأوراق النقدية.
ولكن، شيئاً فشيئاً، راح يستحوذ عليه اليقين المقيت بأن مصير حياته كلها لن تحدده نشاطاته اليومية التي يمارسها في وضح النهار، وإنما تلك الحزمة من الأوراق المالية التي تتآكل في العلية. وأن أشد كل أفعاله أساسية هو، بلا شك، إضافة ورقة نقدية بين حين وآخر إلى حزمة الأوراق المتآكلة.
وبينما هو يشعل لوحة الإعلان المشعة التي تملآ الجو القاتم فوق الرصيف بضوء بنفسجي، داهم تاجر الأثاث استذكارٌ آخر: فذات يوم، بينما هو يبحث عن مبراة أقلام في غرفة ابنه الكبير، وجد بالمصادفة مجموعة صور بورنوغرافية يخبئها ابنه في درج الكوميدينو. أعادها تاجر الأثاث بسرعة إلى مكانها، ليس بسبب الحياء بقدر ما هو بسبب الخشية من أن يظن ابنه أن أباه معتاد على النبش في أشيائه الخاصة. وخلال تناول العشاء، راح تاجر الأثاث يراقب امرأته: فللمرة الأولى بعد ثلاثين عاماً تخطر لباله فكرة أنه لا بد أنها تحتفظ هي أيضاً بشيء مخبأ، شيء خاص جداً وغارق عميقاً جداً، لا يمكن للتعذيب أن يجعلها تبوح به حتى لو رغبتْ في ذلك. أحس تاجر الأثاث بنوع من الدوار. لم يكن الخوف المبتذل من أن يكون قد تعرض لخيانة أو غش هو ما جعل رأسه يدور مثلما يحدث عند صعود النبيذ إلى الرأس، وإنما اليقين بأنه، حين صار عند عتبة الشيخوخة بالتحديد، ربما سيجد نفسه مضطراً إلى تعديل أشد المفاهيم أولية في تكوين حياته. أو ما كان يسميه حياته: لأن حياته، حياته الحقيقية، بحسب حدسه الجديد، تدور في مكان ما، في السواد، بمأمن من الأحداث، وتبدو صعبة المنال أكثر من ضاحية الكون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* خوان خوسيه ساير: كاتب أرجنتيني (ولد سنة 1937، وتوفي في باريس سنة 2005). يعتبر واحداً من أبرز كتاب الأرجنتين وأحد أعلام آداب اللغة الاسبانية المعاصرة. غير أن ابتعاده عن بلاده لسنوات طويلة أمضاها في فرنسا أثر كما يبدو على انتشاره في العالم الناطق بالاسبانية. لكن أهميته تكشفت عندما اختيرت ثلاثة من أعماله عام 2007 ضمن قائمة أفضل مئة كتاب باللغة الاسبانية خلال الخمسة والعشرين عاماً السابقة. أعماله مترجمة إلى أكثر من عشر لغات، ولكن لم يترجم أي من كتبه إلى العربية، على الرغم من كونه من أصول سورية، فجداه وأبواه من قدماء المهاجرين إلى العالم الجديد، استقروا في بلدة أرجنتينية صغيرة (سيرودينو) تتبع لإقليم سانتا في، وتبعد نحو أربعين كيلومتراً عن مدينة روساريو. وقد توصل أبوه إلى امتلاك متجر أقمشة. وهنالك مبادرة يقوم بها أعضاء من الجالية العربية في الأرجنتين لتحويل البيت الذي ولد فيه الكاتب إلى مركز ثقافي يحمل اسمه.