نقوس المهدي
كاتب
خمنت الآنسة هوانج أنها لن تكون سعيدة تماما بالعمل في الوظيفة، ولكنها لم تتخيل قط الأمور التي يمكن أن تجعل حياتها بائسة إلى هذا الحد.
ففي الثامنة والنصف صباحا خطت الآنسة هوانج أولى خطواتها إلى داخل المكتب العام للشركة. وإذا أول سطر في أول صفحة في حياتها الوظيفية ضحكات مكتومة لعديد من الناس الذين انخرطوا في ثرثرات هامسة. كان الضوء كابيا في المكتب العام. وعلى الرغم من أن النوافذ الشرقية والشمالية كبيرة واسعة، إلا أن المنظر تحجبه عن العيون مبان ترتفع شاهقة في السماء. وبدلا من ضوء الشمس النافذ عبر ألواح الزجاج تجد فقط وهج مصابيح كهربائية في غرف المكاتب المقابلة. وهذه ثريا كأنها حوض غسيل، تشبه شجرة خوخ مزهرة تدلت من السقف ومصابيحها الخمسة ضخمة ساطعة. ولكن الآنسة هوانج التي تركت لتوها شمس الربيع المتألقة بدا لها كل شيء فجأة وقد استحال ظلاما. ولبثت هنيهة عاجزة عن أن تبصر في القاعة الواسعة ما ينتظرها من أمور جديدة ورائعة.
إنها تستطيع أن تسمع بوضوح صوت الضحكات على الرغم من محاولات كتمانها. وتناهت إلى سمعها جملة بدا رنينها وكأن صاحبها نطقها وقد أمسك أنفه حين قال: ها هي آتية. وعلى الرغم من أن الآنسة هوانج ليست من النوع مفرط الحساسية، إلا أنها لم تستطع أن تقاوم فكرة أن الضحكات المكتومة موجهة إليها. وغاص قلبها في جوفها، وحولت عينيها فجأة في اتجاه الضحك. أرادت أن ترى عينة هؤلاء الأجلاف.
توقفت الآنسة هوانج فجأة وهي على بعد خطوتين من باب المكتب.
اقترب منها شخص ما وقال: "هوانج، مكانك هناك". إنه صوت مألوف لديها.. صوت الآنسة شانج زميلتها في الدراسة. وهي لا تعرف أحدا في المكتب غيرها. ولكن يا إلهي لا تدري لماذا بدت لها شانج فجأة وكأنها غريبة عنها. لقد زارتها الآنسة هوانج البارحة فقط، وكانت شانج أليفة ودوداً، وبسيطة في هندامها، ولكن الفتاة التي تسير في اتجاهها الآن في ضوء الثريا ترفل في ملابس مبهرجة تجمع بين اللونين الأحمر والأخضر.
وتساءلت الآنسة هوانج بينها وبين نفسها في دهشة:
- ترى لماذا كل هذه البهرجة في اللباس؟
وفي غمرة مشاعر الوجل والخوف نسيت أن تحييها. وأجابت بصورة آلية "آه"، وسارت أيضا بصورة آلية خلف الآنسة شانج تتبعها صفا إثر صف من المكاتب الحالية حتى وصلت معها إلى ركن ليس له نوافذ في الجانب الغربي من القاعة. وأخيرا لم تعد الآنسة هوانج ترى هنا سوى ستة أشخاص يقفون معا بجوار النوافذ. هناك رجال ونساء، والجميع يحدقون بأنظارهم إليها من على البعد وكأنها كائن بشري غريب.
أحست الآنسة هوانج ببعض الضيق، وأرغمت نفسها على التركيز في أمر البحث عن مكتبها، هناك في الركن الغربي من القاعة حيث الجدران بدون نوافذ، والمكاتب هنا مرصوصة في مواجهة مدخل القاعة. ولكن أحدها لصيق بالجدار، ويختلف عن المكاتب الأخرى إذ لا يوجد فوقه سوى ثلاثة أشياء: - محبرة وريشة ونشافة جديدة. وأدركت الآنسة هوانج أن هذا لابد أن يكون مكتبها.
وقالت الآنسة شانج وهي تشير بإصبعها:
- أنا أبعد عنك بصفين على اليمين ثم رمت بطرف عينها في نظرة خاطفة إلى المجموعة القريبة من النوافذ، وضحكت ضحكة متكلفة.
لم تستطع الآنسة هوانج أن تقاوم النظر إلى حيث اتجه بصر صديقتها. رأت رجلين يرمقان الآنسة شانج بنظرات إعجاب سافر، بينما انخرطت امرأتان ورجل في ثرثرة هامسة.
جلست الآنسة هوانج إلى مكتبها، وندت عنها آهة في فتور وكسل، ولازمها شعور بالوحدة. لا، فليس الإحساس بالوحدة هو أسوأ شيء. بل إن ما هو أسوأ أن انتابها شعور بالغثيان، وأحست وكأنها تستنشق هواء ممزوجا برائحة سمك نيئ. وحملقت في بلادة إلى ورقة النشاف الجديدة فوق مكتبها. وقالت في نفسها هذه واحدة من كبريات الشركات الرائدة في شنغهاي. إذن لماذا يتصرف هؤلاء الكتبة وكأنهم فريق من ممثلي وممثلات الدرجة الثالثة؟
وقطع عليها حبل تفكيرها صوت ذكوري واضح تجاوز الجلبة التي تصل إلى مسامعها من النافذة. وقال الصوت "عفوا.. عفوا.." رفعت الآنسة هوانج بصرها لترى الآنسة شانج تنفصل عن الفريق، وعلى وجهها نصف ابتسامة، وتخطو نحوها وكأنها تميس في رشاقة بين صفوف المكاتب. وقالت الآنسة شانج بلهجة رسمية:
- هوانج أريد أن أقدم لك الناس هنا ومالت برأسها إلى ناحية، وأشارت بيدها إلى الفريق الجالس عند النافذة، وأدارت خصرها وحدقت بناظريها في اتجاههم.
حاولت الآنسة هوانج أن تدفع بنفسها إلى ما وراء المكتب حتى يمكنها أن تهب واقفة. ولكنها أحست وكأن جسدها يزن طنا، وساقيها ثقيلتان. ولقد كانت المسافة بين مكتبها والنافذة حوالي عشرة أقدام ولكنها بدت للآنسة هوانج وكأنها أميال. وكانت القاعة مكدسة بالمكاتب وكادت قدمها تزل وهي تخطو بينها.
هذه آنسة لي.. آنسة شو .. السيد شاو.. السيد وانج.. وانفجرت الآنسة شانج في الضحك. وكانت آنسة هوانج تتمتم عند ذكر كل اسم "نعم - نعم .." ثم تنحني انحناءه كبيرة ليرد الآخرون تحيتها بانحناءة ماثلة تكاد تصل إلى تسعين درجة.
وتحدث رجل في الثلاثين من عمره، أنيق الملبس، يرتدي ثوبا من الحرير، فقال:
- وأنا اسمي شاو نعم.. نعم.. لم تفكر الآنسة هوانج في البحث عن عبارات تقليدية تقولها للرد على هذه المخلوقات. خيل إليها وكأنهم من عالم آخر. وقالت في نفسها "تكفيني كلمات مثل نعم.. نعم.. مع انحناءات مبالغ فيها".
وعندما قدمتها آنسة هوانج إلى السيد تساو، آخر أفراد المجموعة، وقالت كلماتها المعهودة نعم .. نعم .. وانحنت انحناءه كاملة تسعين درجة سمعت صوتا خافتا يصدر من بين صفوف المجموعة ويقول "نعم.. نعم..".
ران صمت تام على القاعة لبضع ثوان. ثم انفجر الجميع ضاحكين. استشعرت الآنسة هوانج حرجا، ولكنها تماسكت، وأحمر وجهها، ثم لم يلبث أن شحب شحوب الغضب الكظيم. وسرعان ما عمد السيد شاو ذو اللباس الأنيق، إلى تحويل الاهتمام إلى موضوع آخر بأن قال:
- الطقس هنا جميل حقا.. أليس كذلك يا آنسة هوانج؟ أومأت برأسها وعلى شفتيها ابتسامة ساخرة مريرة، وهرولت عائدة إلى مكتبها. لم تشعر بألفة مع مكتبها حين جلست إليه أول مرة، ولكنها الآن أحست وكأنه ملاذها الوحيد، وبحركة لا شعورية أمسكت القلم، ووضعت سن القلم على طرف إصبعها كأنها تجربه، ولكن لاتزال هناك عشرون دقيقة باقية على انتهاء الموعد.
ولحسن الحظ فقد ظل الناس يتوافدون خلال هذه الدقائق العشرين الطويلة. وكان أكثرهم من الرجال. جلست الآنسة هوانج مطأطئة الرأس، ملتصقة بمكتبها في ركن القاعة لا تبرحه. كان القادمون أخيرا عن نوع آخر. نادوا بأصوات جهورية على ساعي المكتب وسألوه بصوت عال أسئلة غير ذات معنى أو أهمية. وامتد حوار فيما بينهم حول نتائج مباريات سباق الشمبانيا. هؤلاء كبار موظفي المكتب وبدا وكأنهم لم يلحظوا، أو لم يأبهوا بالكاتبة الضئيلة القابعة هناك في ركن القاعة.
أخيرا استجمعت الآنسة هوانج شجاعتها وجازفت بالنظر إلى أعلى. خلت النوافذ تماما، وعاد كل موظف إلى مكتبه. وبدا السيد شاو الأنيق ينصت في احترام للبيانات التي يدلي بها رجل متوسط العمر، في لباس أوروبي، عن نتائج سباق الشمبانيا. كان فاتي يتحدث وقد أسند قدميه إلى الطاولة، ممسكا سيجارا في يده، بينما الرذاذ يتناثر من فمه أثناء الحديث. وفجأة مد رقبته القصيرة البدينة، وألقى برأسه إلى الخلف، وضحك ضحكة كأنها هزيم الرعد،. ولم يتوان السيد شاو عن إبداء بهجته مشاركه منه للسيد فاتي. وصدر صوت صرير عندما احتك حذاؤه الجلد بالطاولة وهو ينزل ساقيه إلى الأرض، واستدار بكرسيه المروحي نصف دورة في هدوء ناحية اليمين. هناك قبالته مكتب السيد شاو والسيد تساو يجلسان وجه الوجه. مال السيدان إلى الأمام يتجاذبان أطراف حديث بصوت خافت عبر دفاتر الحسابات المبسوطة على مكتبيهما. وتباعد الرأسان فجأة وقد استشعر صاحباهما خوفا عندما ظهر على غير توقع وجه بدين. وعندما سمعا ضحكات أدركا على الفور أن قد حان الوقت لمشاركة الجوقة. وإذ ذاك ندت عن السيدين شاو وتساو ضوضاء تشبه صياح البط.
ولكن سرعان ما كتما ضحكهما قبل أن ينطلقا فيه. على سجيتهما. فقد اندفع إلى داخل القاعة رجل في زي رسمي أبيض، وألقى بقوة حقيبة منتفخة فوق طاولة كبيرة. إنه الساعي الخاص الذي يهرع ليفسح الطريق عند ظهور مدير عام المكتب. وران صمت على القاعة، لم يقطعه سوى صرير الكرسي المروحي الذي يجلس عليه فأتى، وانطلق الصوت الأجش للمدير في خارج القاعة هادرا وهو ينادي على أحد السعاة، بينما ترددت صيحات وهمهمات "لقد حضر..". تتابع وقع أقدام ثقيلة لحذاء جلدي يقترب شيئا فشيئا، ثم انفتح باب القاعة على مصراعيه وقد غطى الصقيع زجاجه. واستطاعت آنسة هوانج من موقعها أمام المدخل أن ترى كل شيء يجري أمامها بوضوح شديد. وانتفض ساع آخر واقفا مشدود القامة في زيه الرسمي الأبيض ممسكا طرف الباب بإحدى يديه بينما أسند بيده الأخرى قبعة ذات حافة عريضة معتوقة عند طرفها على شكل القبعة النابليونية، وبعد لحظة دخل إلى القاعة بخطوات وئيدة قوية شخص طويل متورد الوجه، منتفخ الصدر، ناتيء البطن. ويمشي خلفه ساع يجرجر خطواته، والذي وضع في وقار وإجلال القبعة النابليونية فوق الطرف الأيسر من الطاولة الكبيرة.
وقالت الآنسة هوانج في نفسها: إذن هذا هو المدير العام. وتساءلت فيما بينها وبين نفسها إذا ما كان ينبغي عليها أن تنتظر إلى حين يقدم لها عملها، أم أن تنهض وتبادر بالتوجه إليه تسأله عن عمل. تلفتت حولها، ومدت بصرها إلى أرجاء القاعة لترى هل ثمة طقوس احتفالية خاصة يتعين على زملائها القيام بها عند وصول مديرهم المهيب. وأوضح أن لا شيء. كل ما تراه هو كبار موظفي الإدارة وهم يتتبعون بآذانهم كل حركة أو إشارة تصدر عنه. أما صغار الموظفين فقد انكبوا على عملهم منهمكين في الكتابة أو وضعوا الأقلام خلف آذانهم ليقلبوا صفحات دفاتر الحسابات الضخمة.
وألقى المدير بجسمه فوق الكرسي وجلس. واستقرت إحدى يديه فوق الحقيبة الجلدية المنتفخة، بينما جذب بيده الأخرى صندوق النشوق.
واتخذ فاتي ذو العقود الثلاثة مجلسه أمام المدير، ولكن تخاله وكأن له عيونا في مؤخرة رأسه. إذ لم يكد المدير يأخذ بطرف إصبعيه نتفة النشوق الثانية ويتجه ببصره أمامه حتى هب فاتي من مجلسه خفيفا رشيقا. حمل معه حزمة من الأوراق، وتقدم على أطراف أصابع القدمين ليقف قبالة مكتب المدير. تهدل كتفاه في عبودية وخنوع، وهو يتحدث بصوت خافت كلمات قليلة متعثرة. ثم وضع حزمة الأوراق في أدب أمام المدير.
وقال المدير بنبرات خشنة: "آه" أحست آنسة هوانج وكأنه يرمقها بناظريه. خفضت رأسها، وخالجها قدر من الاهتياج والارتباك. إن منظر طاولتها الخاوية إلا من قلم ومحبرة ونشافة جعلها تشعر بالخجل. لم تعرف ماذا تفعل بيدها.
ربما لم تمض فترة طويلة، غير أن آنسة هوانج أحست وكأنها فترة بغير نهاية. وفجأة أحست بيد تسقط على كتفها، فرفعت بصرها في وجل. رأت فاتي واقفا بجوارها وعلى شفتيه ابتسامة باهتة. لقد جاءها عملها. وشعرت آنسة هوانج باسترخاء. وبينما كان فاتي يشير إلى بعض الموضوعات المبينة في الوثيقة التي قدمها لها، طافت عيناه الضيقتان مثل حبتي الخرز بكل جسدها من أعلى إلى أسفل. وامتدح دون ريب قدراتها في الأعمال الكتابية.
وسألها فاتي بطريقة رسمية حاسمة: هل تفهمين كل هذا؟ وبينما لاتزال الابتسامة الباهتة مرسومة على شفتيه، قال مستفسرا: "بالمناسبة يا آنسة هوانج هل تعيشين وحدك أم مع العائلة؟" أحست وكأنها أخذت على غرة، ولم تعرف بماذا تجيب. وصمتت. ضحك فاتي واستأنف الحديث بصوت رسمي عميق:
- من فضلك أنجزي عملك هذا الآن في الصباح. أخيرا تركها وانصرف. ولكنه وهو يمر أمام مكتب الآنسة لي توقف لحظة، والتقط وثيقة كانت تنسخها. أمسك الوثيقة وقربها من أنفه حتى ليشك من يراه هل يقرؤها أم يشمها.
وفي استسلام وخوف انكبت الآنسة هوانج على عملها دون أن تواتيها الجرأة حتى لترفع رأسها. أحست وكأن يدها تيبست وهي لم تفرغ بعد من نصف العمل الموكول إليها. وضعت القلم على الطاولة ومسحت جبهتها بمنديلها. وبلغ سمعها من ناحية اليمين صوت امرأة خفيض: "لك ما تشاء". التفتت الآنسة هوانج بدافع من الغريزة. رأت السيد فاتي، ردفا عريضا ضخما ممتدا يغطي حافة طاولة الآنسة لي ويتحدثان معا هامسين.
ترك المدير ذو الوجه المتورد مكتبه الكبير القائم وسط القاعة، ولكن لاتزال قبعته النابليونية مستقرة في مكانها عند الطرف الأيسر من طاولته. وأشارت عقارب الساعة الكهربائية إلى الحادية عشرة وعشر دقائق ظهرا.
الحادية عشرة وعشر دقائق.. ياه.. وأحست آنسة هوانج وكأن قلبها يقفز من بين ضلوعها. لا وقت للنظر حولها. وانكبت برأسها على عملها. ولكن كلما زاد إحساس القلق والاضطراب عندها، خانتها يداها ولم تطاوعاها على الكتابة، وزادت أيضا حدة سمع أذنيها لالتقاط ما يدور حولها.. الطنين يملأ القاعة، أصوات خفيضة وضحكات تفيض غواية. أبصرت فتاة تبعد عنها بثلاثة صفوف تتمدد في تراخ وكسل، ثم تنهض في رشاقة ودلال، وتميل برأسها ناحية الرجل الجالس قبالتها وتقول "هذا الحساب يقتلني!! هل ساعدتني يا سيد تشي.. أرجوك؟".
أجابها السيد تشي بابتسامة عريضة. وحطت الفتاة وثائقها التي لم تكتمل فوق مكتبه. وانتهز الرجل الفرصة وقرص ذراعها ممازحا. صاحت الفتاة في مبالغة مصطنعة بالإحساس بالألم "أوه" وضغطت بمنديلها الأنيق على المكان بحرص شديد وإفراط واضح. ولكنها في الوقت نفسه مالت بخصرها في دلال، ورمقت الرجل بنظرة ذات معنى بطرف عينها.
شهدت آنسة هوانج. هذا كله، وأحست بالغثيان. تنهدت. ولم تكد تستأنف عملها حتى لحظت الآنسة شانج. رأت زميلتها أيام الدراسة تمسك منديلا وتضغط به على فمها لتكتم ضحكة. هاهو أحد كبار موظفي المكتب يقف قبالتها.
وتساءلت فيما بينها وبين نفسها: كيف يمكن أن يعمل مكتب بهذا الشكل. وصرت بأسنانها، وعقدت العزم على ألا ترى أو تسمع شيئا - فقط للعمل الذي بين يديها.
في هذه اللحظة كانت هي الوحيدة على الأرجح من بين موظفي المكتب الذي يظن الساعة تمضي سريعا. إن عملها الذي أوكل إليها لتنفيذه هذا الصباح لم تنجز غير نصفه، وقتما سمعت أصوات الكراسي وقد بدأت تحك بالأرض. نهضت الآنسة هوانج بسرعة، ولكنها بسبب العجلة سقطت بقعة حبر فوق الورق. وفي لهفة استخدمت ورق النشاف خشية أن يحضر السيد فاتي ليتفحص عملها. ويبدو أنه نسي تماما ما قاله لها في أول الصباح. إذ رأته واقفا ممسكا قبعته بإحدى يديه، ومعلقا سترته على كتفه، واقفا في قلق بجوار طاولة الآنسة لي ينتظرها حتى تفرغ. كانت الآنسة لي واقفة ممسكة بمرآة صغيرة تستعين بها لوضع المساحيق وتحميل وجهها في عناية وحرص بالغين.
غمز أحد الكتبة بعينيه لزميل له وقال وهو ينظر ناحية فاتى ولي.
- "فاتي والآنسة لي سيتناولان الغداء معا اليوم أيضا". أخيرا دق جرس الظهيرة ووضعت الآنسة هوانج، خائرة القوى، القلم فوق الطاولة، وأسندت رأسها براحتيها، وقد أحست ببعض الدوار.
نادتها الآنسة شانج وهي تتطلع إليها في دهشة: "هوانج .. هيا للغداء". نهضت الآنسة هوانج ببطء، ونظرت إلى الآنسة شانج وعلى شفتيها ابتسامة لا تخلو من مرارة، وخرجت معها من القاعة. وقبل أن يصلا إلى المطعم لم تتمالك الآنسة هوانج نفسها، ولم تستطع أن تكتم سؤالا سألته بصوت خفيض:
- كيف يعملون وينجزون بهذه الطريقة؟ أنا.. أنا لا أكاد أفهم!! وردت الآنسة شانج في هدوء:
- "آه سوف تتعودين على هذا يا صديقتي بعد قليل". تطلعت الآنسة هوانج إلى صديقتها كأنها تتفحصها. خيل إليها وكأن كل تلك الألوان الناصعة لا تتآلف معا. ولحظت أيضا علامات الجدية ارتسمت على وجنتي الآنسة شانج.
فجأة قالت الآنسة شانج بصوت يغلب عليه الحزن، وفي عينيها بريق نظرات جادة:
- إذا كنت في بلد يعبد العجل فقدمي له العلف .. إن من يقاوم التيار مآله إلى الخسران والنبذ من الحياة.. تفحصت الآنسة هوانج رداءها البسيط، وتأملت الملابس المبهرجة لبقية الفتيات العاملات في المكتب. لم تستطع أن تتصور كيف تأتى لهن هذا بمرتباتهن الوضيعة، ناهيك عن حاجتهن إلى مساعدة أسرهن .. وقاومت رغبتها في البكاء. أعرف أنني لن أكون سعيدة تماما بهذا النوع من العمل، ولكن.. ولكني لم أتخيل أبدا أنني سأكون على هذا القدر من البؤس النفسي.. وطفرت الدموع إلى عيني الآنسة هوانج.
.
ففي الثامنة والنصف صباحا خطت الآنسة هوانج أولى خطواتها إلى داخل المكتب العام للشركة. وإذا أول سطر في أول صفحة في حياتها الوظيفية ضحكات مكتومة لعديد من الناس الذين انخرطوا في ثرثرات هامسة. كان الضوء كابيا في المكتب العام. وعلى الرغم من أن النوافذ الشرقية والشمالية كبيرة واسعة، إلا أن المنظر تحجبه عن العيون مبان ترتفع شاهقة في السماء. وبدلا من ضوء الشمس النافذ عبر ألواح الزجاج تجد فقط وهج مصابيح كهربائية في غرف المكاتب المقابلة. وهذه ثريا كأنها حوض غسيل، تشبه شجرة خوخ مزهرة تدلت من السقف ومصابيحها الخمسة ضخمة ساطعة. ولكن الآنسة هوانج التي تركت لتوها شمس الربيع المتألقة بدا لها كل شيء فجأة وقد استحال ظلاما. ولبثت هنيهة عاجزة عن أن تبصر في القاعة الواسعة ما ينتظرها من أمور جديدة ورائعة.
إنها تستطيع أن تسمع بوضوح صوت الضحكات على الرغم من محاولات كتمانها. وتناهت إلى سمعها جملة بدا رنينها وكأن صاحبها نطقها وقد أمسك أنفه حين قال: ها هي آتية. وعلى الرغم من أن الآنسة هوانج ليست من النوع مفرط الحساسية، إلا أنها لم تستطع أن تقاوم فكرة أن الضحكات المكتومة موجهة إليها. وغاص قلبها في جوفها، وحولت عينيها فجأة في اتجاه الضحك. أرادت أن ترى عينة هؤلاء الأجلاف.
توقفت الآنسة هوانج فجأة وهي على بعد خطوتين من باب المكتب.
اقترب منها شخص ما وقال: "هوانج، مكانك هناك". إنه صوت مألوف لديها.. صوت الآنسة شانج زميلتها في الدراسة. وهي لا تعرف أحدا في المكتب غيرها. ولكن يا إلهي لا تدري لماذا بدت لها شانج فجأة وكأنها غريبة عنها. لقد زارتها الآنسة هوانج البارحة فقط، وكانت شانج أليفة ودوداً، وبسيطة في هندامها، ولكن الفتاة التي تسير في اتجاهها الآن في ضوء الثريا ترفل في ملابس مبهرجة تجمع بين اللونين الأحمر والأخضر.
وتساءلت الآنسة هوانج بينها وبين نفسها في دهشة:
- ترى لماذا كل هذه البهرجة في اللباس؟
وفي غمرة مشاعر الوجل والخوف نسيت أن تحييها. وأجابت بصورة آلية "آه"، وسارت أيضا بصورة آلية خلف الآنسة شانج تتبعها صفا إثر صف من المكاتب الحالية حتى وصلت معها إلى ركن ليس له نوافذ في الجانب الغربي من القاعة. وأخيرا لم تعد الآنسة هوانج ترى هنا سوى ستة أشخاص يقفون معا بجوار النوافذ. هناك رجال ونساء، والجميع يحدقون بأنظارهم إليها من على البعد وكأنها كائن بشري غريب.
أحست الآنسة هوانج ببعض الضيق، وأرغمت نفسها على التركيز في أمر البحث عن مكتبها، هناك في الركن الغربي من القاعة حيث الجدران بدون نوافذ، والمكاتب هنا مرصوصة في مواجهة مدخل القاعة. ولكن أحدها لصيق بالجدار، ويختلف عن المكاتب الأخرى إذ لا يوجد فوقه سوى ثلاثة أشياء: - محبرة وريشة ونشافة جديدة. وأدركت الآنسة هوانج أن هذا لابد أن يكون مكتبها.
وقالت الآنسة شانج وهي تشير بإصبعها:
- أنا أبعد عنك بصفين على اليمين ثم رمت بطرف عينها في نظرة خاطفة إلى المجموعة القريبة من النوافذ، وضحكت ضحكة متكلفة.
لم تستطع الآنسة هوانج أن تقاوم النظر إلى حيث اتجه بصر صديقتها. رأت رجلين يرمقان الآنسة شانج بنظرات إعجاب سافر، بينما انخرطت امرأتان ورجل في ثرثرة هامسة.
جلست الآنسة هوانج إلى مكتبها، وندت عنها آهة في فتور وكسل، ولازمها شعور بالوحدة. لا، فليس الإحساس بالوحدة هو أسوأ شيء. بل إن ما هو أسوأ أن انتابها شعور بالغثيان، وأحست وكأنها تستنشق هواء ممزوجا برائحة سمك نيئ. وحملقت في بلادة إلى ورقة النشاف الجديدة فوق مكتبها. وقالت في نفسها هذه واحدة من كبريات الشركات الرائدة في شنغهاي. إذن لماذا يتصرف هؤلاء الكتبة وكأنهم فريق من ممثلي وممثلات الدرجة الثالثة؟
وقطع عليها حبل تفكيرها صوت ذكوري واضح تجاوز الجلبة التي تصل إلى مسامعها من النافذة. وقال الصوت "عفوا.. عفوا.." رفعت الآنسة هوانج بصرها لترى الآنسة شانج تنفصل عن الفريق، وعلى وجهها نصف ابتسامة، وتخطو نحوها وكأنها تميس في رشاقة بين صفوف المكاتب. وقالت الآنسة شانج بلهجة رسمية:
- هوانج أريد أن أقدم لك الناس هنا ومالت برأسها إلى ناحية، وأشارت بيدها إلى الفريق الجالس عند النافذة، وأدارت خصرها وحدقت بناظريها في اتجاههم.
حاولت الآنسة هوانج أن تدفع بنفسها إلى ما وراء المكتب حتى يمكنها أن تهب واقفة. ولكنها أحست وكأن جسدها يزن طنا، وساقيها ثقيلتان. ولقد كانت المسافة بين مكتبها والنافذة حوالي عشرة أقدام ولكنها بدت للآنسة هوانج وكأنها أميال. وكانت القاعة مكدسة بالمكاتب وكادت قدمها تزل وهي تخطو بينها.
هذه آنسة لي.. آنسة شو .. السيد شاو.. السيد وانج.. وانفجرت الآنسة شانج في الضحك. وكانت آنسة هوانج تتمتم عند ذكر كل اسم "نعم - نعم .." ثم تنحني انحناءه كبيرة ليرد الآخرون تحيتها بانحناءة ماثلة تكاد تصل إلى تسعين درجة.
وتحدث رجل في الثلاثين من عمره، أنيق الملبس، يرتدي ثوبا من الحرير، فقال:
- وأنا اسمي شاو نعم.. نعم.. لم تفكر الآنسة هوانج في البحث عن عبارات تقليدية تقولها للرد على هذه المخلوقات. خيل إليها وكأنهم من عالم آخر. وقالت في نفسها "تكفيني كلمات مثل نعم.. نعم.. مع انحناءات مبالغ فيها".
وعندما قدمتها آنسة هوانج إلى السيد تساو، آخر أفراد المجموعة، وقالت كلماتها المعهودة نعم .. نعم .. وانحنت انحناءه كاملة تسعين درجة سمعت صوتا خافتا يصدر من بين صفوف المجموعة ويقول "نعم.. نعم..".
ران صمت تام على القاعة لبضع ثوان. ثم انفجر الجميع ضاحكين. استشعرت الآنسة هوانج حرجا، ولكنها تماسكت، وأحمر وجهها، ثم لم يلبث أن شحب شحوب الغضب الكظيم. وسرعان ما عمد السيد شاو ذو اللباس الأنيق، إلى تحويل الاهتمام إلى موضوع آخر بأن قال:
- الطقس هنا جميل حقا.. أليس كذلك يا آنسة هوانج؟ أومأت برأسها وعلى شفتيها ابتسامة ساخرة مريرة، وهرولت عائدة إلى مكتبها. لم تشعر بألفة مع مكتبها حين جلست إليه أول مرة، ولكنها الآن أحست وكأنه ملاذها الوحيد، وبحركة لا شعورية أمسكت القلم، ووضعت سن القلم على طرف إصبعها كأنها تجربه، ولكن لاتزال هناك عشرون دقيقة باقية على انتهاء الموعد.
ولحسن الحظ فقد ظل الناس يتوافدون خلال هذه الدقائق العشرين الطويلة. وكان أكثرهم من الرجال. جلست الآنسة هوانج مطأطئة الرأس، ملتصقة بمكتبها في ركن القاعة لا تبرحه. كان القادمون أخيرا عن نوع آخر. نادوا بأصوات جهورية على ساعي المكتب وسألوه بصوت عال أسئلة غير ذات معنى أو أهمية. وامتد حوار فيما بينهم حول نتائج مباريات سباق الشمبانيا. هؤلاء كبار موظفي المكتب وبدا وكأنهم لم يلحظوا، أو لم يأبهوا بالكاتبة الضئيلة القابعة هناك في ركن القاعة.
أخيرا استجمعت الآنسة هوانج شجاعتها وجازفت بالنظر إلى أعلى. خلت النوافذ تماما، وعاد كل موظف إلى مكتبه. وبدا السيد شاو الأنيق ينصت في احترام للبيانات التي يدلي بها رجل متوسط العمر، في لباس أوروبي، عن نتائج سباق الشمبانيا. كان فاتي يتحدث وقد أسند قدميه إلى الطاولة، ممسكا سيجارا في يده، بينما الرذاذ يتناثر من فمه أثناء الحديث. وفجأة مد رقبته القصيرة البدينة، وألقى برأسه إلى الخلف، وضحك ضحكة كأنها هزيم الرعد،. ولم يتوان السيد شاو عن إبداء بهجته مشاركه منه للسيد فاتي. وصدر صوت صرير عندما احتك حذاؤه الجلد بالطاولة وهو ينزل ساقيه إلى الأرض، واستدار بكرسيه المروحي نصف دورة في هدوء ناحية اليمين. هناك قبالته مكتب السيد شاو والسيد تساو يجلسان وجه الوجه. مال السيدان إلى الأمام يتجاذبان أطراف حديث بصوت خافت عبر دفاتر الحسابات المبسوطة على مكتبيهما. وتباعد الرأسان فجأة وقد استشعر صاحباهما خوفا عندما ظهر على غير توقع وجه بدين. وعندما سمعا ضحكات أدركا على الفور أن قد حان الوقت لمشاركة الجوقة. وإذ ذاك ندت عن السيدين شاو وتساو ضوضاء تشبه صياح البط.
ولكن سرعان ما كتما ضحكهما قبل أن ينطلقا فيه. على سجيتهما. فقد اندفع إلى داخل القاعة رجل في زي رسمي أبيض، وألقى بقوة حقيبة منتفخة فوق طاولة كبيرة. إنه الساعي الخاص الذي يهرع ليفسح الطريق عند ظهور مدير عام المكتب. وران صمت على القاعة، لم يقطعه سوى صرير الكرسي المروحي الذي يجلس عليه فأتى، وانطلق الصوت الأجش للمدير في خارج القاعة هادرا وهو ينادي على أحد السعاة، بينما ترددت صيحات وهمهمات "لقد حضر..". تتابع وقع أقدام ثقيلة لحذاء جلدي يقترب شيئا فشيئا، ثم انفتح باب القاعة على مصراعيه وقد غطى الصقيع زجاجه. واستطاعت آنسة هوانج من موقعها أمام المدخل أن ترى كل شيء يجري أمامها بوضوح شديد. وانتفض ساع آخر واقفا مشدود القامة في زيه الرسمي الأبيض ممسكا طرف الباب بإحدى يديه بينما أسند بيده الأخرى قبعة ذات حافة عريضة معتوقة عند طرفها على شكل القبعة النابليونية، وبعد لحظة دخل إلى القاعة بخطوات وئيدة قوية شخص طويل متورد الوجه، منتفخ الصدر، ناتيء البطن. ويمشي خلفه ساع يجرجر خطواته، والذي وضع في وقار وإجلال القبعة النابليونية فوق الطرف الأيسر من الطاولة الكبيرة.
وقالت الآنسة هوانج في نفسها: إذن هذا هو المدير العام. وتساءلت فيما بينها وبين نفسها إذا ما كان ينبغي عليها أن تنتظر إلى حين يقدم لها عملها، أم أن تنهض وتبادر بالتوجه إليه تسأله عن عمل. تلفتت حولها، ومدت بصرها إلى أرجاء القاعة لترى هل ثمة طقوس احتفالية خاصة يتعين على زملائها القيام بها عند وصول مديرهم المهيب. وأوضح أن لا شيء. كل ما تراه هو كبار موظفي الإدارة وهم يتتبعون بآذانهم كل حركة أو إشارة تصدر عنه. أما صغار الموظفين فقد انكبوا على عملهم منهمكين في الكتابة أو وضعوا الأقلام خلف آذانهم ليقلبوا صفحات دفاتر الحسابات الضخمة.
وألقى المدير بجسمه فوق الكرسي وجلس. واستقرت إحدى يديه فوق الحقيبة الجلدية المنتفخة، بينما جذب بيده الأخرى صندوق النشوق.
واتخذ فاتي ذو العقود الثلاثة مجلسه أمام المدير، ولكن تخاله وكأن له عيونا في مؤخرة رأسه. إذ لم يكد المدير يأخذ بطرف إصبعيه نتفة النشوق الثانية ويتجه ببصره أمامه حتى هب فاتي من مجلسه خفيفا رشيقا. حمل معه حزمة من الأوراق، وتقدم على أطراف أصابع القدمين ليقف قبالة مكتب المدير. تهدل كتفاه في عبودية وخنوع، وهو يتحدث بصوت خافت كلمات قليلة متعثرة. ثم وضع حزمة الأوراق في أدب أمام المدير.
وقال المدير بنبرات خشنة: "آه" أحست آنسة هوانج وكأنه يرمقها بناظريه. خفضت رأسها، وخالجها قدر من الاهتياج والارتباك. إن منظر طاولتها الخاوية إلا من قلم ومحبرة ونشافة جعلها تشعر بالخجل. لم تعرف ماذا تفعل بيدها.
ربما لم تمض فترة طويلة، غير أن آنسة هوانج أحست وكأنها فترة بغير نهاية. وفجأة أحست بيد تسقط على كتفها، فرفعت بصرها في وجل. رأت فاتي واقفا بجوارها وعلى شفتيه ابتسامة باهتة. لقد جاءها عملها. وشعرت آنسة هوانج باسترخاء. وبينما كان فاتي يشير إلى بعض الموضوعات المبينة في الوثيقة التي قدمها لها، طافت عيناه الضيقتان مثل حبتي الخرز بكل جسدها من أعلى إلى أسفل. وامتدح دون ريب قدراتها في الأعمال الكتابية.
وسألها فاتي بطريقة رسمية حاسمة: هل تفهمين كل هذا؟ وبينما لاتزال الابتسامة الباهتة مرسومة على شفتيه، قال مستفسرا: "بالمناسبة يا آنسة هوانج هل تعيشين وحدك أم مع العائلة؟" أحست وكأنها أخذت على غرة، ولم تعرف بماذا تجيب. وصمتت. ضحك فاتي واستأنف الحديث بصوت رسمي عميق:
- من فضلك أنجزي عملك هذا الآن في الصباح. أخيرا تركها وانصرف. ولكنه وهو يمر أمام مكتب الآنسة لي توقف لحظة، والتقط وثيقة كانت تنسخها. أمسك الوثيقة وقربها من أنفه حتى ليشك من يراه هل يقرؤها أم يشمها.
وفي استسلام وخوف انكبت الآنسة هوانج على عملها دون أن تواتيها الجرأة حتى لترفع رأسها. أحست وكأن يدها تيبست وهي لم تفرغ بعد من نصف العمل الموكول إليها. وضعت القلم على الطاولة ومسحت جبهتها بمنديلها. وبلغ سمعها من ناحية اليمين صوت امرأة خفيض: "لك ما تشاء". التفتت الآنسة هوانج بدافع من الغريزة. رأت السيد فاتي، ردفا عريضا ضخما ممتدا يغطي حافة طاولة الآنسة لي ويتحدثان معا هامسين.
ترك المدير ذو الوجه المتورد مكتبه الكبير القائم وسط القاعة، ولكن لاتزال قبعته النابليونية مستقرة في مكانها عند الطرف الأيسر من طاولته. وأشارت عقارب الساعة الكهربائية إلى الحادية عشرة وعشر دقائق ظهرا.
الحادية عشرة وعشر دقائق.. ياه.. وأحست آنسة هوانج وكأن قلبها يقفز من بين ضلوعها. لا وقت للنظر حولها. وانكبت برأسها على عملها. ولكن كلما زاد إحساس القلق والاضطراب عندها، خانتها يداها ولم تطاوعاها على الكتابة، وزادت أيضا حدة سمع أذنيها لالتقاط ما يدور حولها.. الطنين يملأ القاعة، أصوات خفيضة وضحكات تفيض غواية. أبصرت فتاة تبعد عنها بثلاثة صفوف تتمدد في تراخ وكسل، ثم تنهض في رشاقة ودلال، وتميل برأسها ناحية الرجل الجالس قبالتها وتقول "هذا الحساب يقتلني!! هل ساعدتني يا سيد تشي.. أرجوك؟".
أجابها السيد تشي بابتسامة عريضة. وحطت الفتاة وثائقها التي لم تكتمل فوق مكتبه. وانتهز الرجل الفرصة وقرص ذراعها ممازحا. صاحت الفتاة في مبالغة مصطنعة بالإحساس بالألم "أوه" وضغطت بمنديلها الأنيق على المكان بحرص شديد وإفراط واضح. ولكنها في الوقت نفسه مالت بخصرها في دلال، ورمقت الرجل بنظرة ذات معنى بطرف عينها.
شهدت آنسة هوانج. هذا كله، وأحست بالغثيان. تنهدت. ولم تكد تستأنف عملها حتى لحظت الآنسة شانج. رأت زميلتها أيام الدراسة تمسك منديلا وتضغط به على فمها لتكتم ضحكة. هاهو أحد كبار موظفي المكتب يقف قبالتها.
وتساءلت فيما بينها وبين نفسها: كيف يمكن أن يعمل مكتب بهذا الشكل. وصرت بأسنانها، وعقدت العزم على ألا ترى أو تسمع شيئا - فقط للعمل الذي بين يديها.
في هذه اللحظة كانت هي الوحيدة على الأرجح من بين موظفي المكتب الذي يظن الساعة تمضي سريعا. إن عملها الذي أوكل إليها لتنفيذه هذا الصباح لم تنجز غير نصفه، وقتما سمعت أصوات الكراسي وقد بدأت تحك بالأرض. نهضت الآنسة هوانج بسرعة، ولكنها بسبب العجلة سقطت بقعة حبر فوق الورق. وفي لهفة استخدمت ورق النشاف خشية أن يحضر السيد فاتي ليتفحص عملها. ويبدو أنه نسي تماما ما قاله لها في أول الصباح. إذ رأته واقفا ممسكا قبعته بإحدى يديه، ومعلقا سترته على كتفه، واقفا في قلق بجوار طاولة الآنسة لي ينتظرها حتى تفرغ. كانت الآنسة لي واقفة ممسكة بمرآة صغيرة تستعين بها لوضع المساحيق وتحميل وجهها في عناية وحرص بالغين.
غمز أحد الكتبة بعينيه لزميل له وقال وهو ينظر ناحية فاتى ولي.
- "فاتي والآنسة لي سيتناولان الغداء معا اليوم أيضا". أخيرا دق جرس الظهيرة ووضعت الآنسة هوانج، خائرة القوى، القلم فوق الطاولة، وأسندت رأسها براحتيها، وقد أحست ببعض الدوار.
نادتها الآنسة شانج وهي تتطلع إليها في دهشة: "هوانج .. هيا للغداء". نهضت الآنسة هوانج ببطء، ونظرت إلى الآنسة شانج وعلى شفتيها ابتسامة لا تخلو من مرارة، وخرجت معها من القاعة. وقبل أن يصلا إلى المطعم لم تتمالك الآنسة هوانج نفسها، ولم تستطع أن تكتم سؤالا سألته بصوت خفيض:
- كيف يعملون وينجزون بهذه الطريقة؟ أنا.. أنا لا أكاد أفهم!! وردت الآنسة شانج في هدوء:
- "آه سوف تتعودين على هذا يا صديقتي بعد قليل". تطلعت الآنسة هوانج إلى صديقتها كأنها تتفحصها. خيل إليها وكأن كل تلك الألوان الناصعة لا تتآلف معا. ولحظت أيضا علامات الجدية ارتسمت على وجنتي الآنسة شانج.
فجأة قالت الآنسة شانج بصوت يغلب عليه الحزن، وفي عينيها بريق نظرات جادة:
- إذا كنت في بلد يعبد العجل فقدمي له العلف .. إن من يقاوم التيار مآله إلى الخسران والنبذ من الحياة.. تفحصت الآنسة هوانج رداءها البسيط، وتأملت الملابس المبهرجة لبقية الفتيات العاملات في المكتب. لم تستطع أن تتصور كيف تأتى لهن هذا بمرتباتهن الوضيعة، ناهيك عن حاجتهن إلى مساعدة أسرهن .. وقاومت رغبتها في البكاء. أعرف أنني لن أكون سعيدة تماما بهذا النوع من العمل، ولكن.. ولكني لم أتخيل أبدا أنني سأكون على هذا القدر من البؤس النفسي.. وطفرت الدموع إلى عيني الآنسة هوانج.
.