نقوس المهدي
كاتب
في جو من التكتم, ظلت مزرعة الرجل غارقة في الظلمة بين الأشجار الضخمة الكثيفة المحيطة بها, كما لو أن أحداً لم ير أبداً أشجاراً كهذه مزروعة. كان رجلاً غريباً كما سمعت من أمي, فالسنة التي وصل فيها إلى ناحيتنا, كانت سنة اجتياح الانفلونزا الإسبانية لنا. وصل إلى هنا في حالة من التوجس والجفول من الناس, ليشتري مزرعة ليتحصّن فيها, لائذا بالدار في وسطها. وفي أي نافذة يمكن أن تفاجئك يدان ساهرتان على حراسة المكان ممسكتان بينهما ببندقية من الطراز القديم, بماسورتها الطويلة, وفي ذلك الوقت لم يكن الرجل مفرطاً في السمنة إلى هذه الحالة التي انتهى إليها هذه الأيام. هذه الحالة التي أصبحت تثير القرف منه, مثلما يحكون, إذ يأكل بطريقة مقرفة جداً, يأكل قواقع, بل وحتى ضفادع, ومعها كومة خس منقوعة في دلو الماء, وكنت أراقبه خلسة وهو يفطر أو وهو يتعشى, منتحياً جانباً على عتبة الباب خارج الدار, وبين فخذيه السمينتين يستقر الدلو على الأرض وبجانبه كومة الخس, بالإضافة إلى حلة أرز أبيض دون لحم, كان يشتري عدداً كبيراً من زجاجات البيرة لحسابه. إلا أنه لم يكن يأخذها ليشربها وحده في الحال, وقد تجاوز حدوده, وأمرني:
- إيريفاليني, هات زجاجة بيرة ثانية, إنها للحصان يا عبيطة). وأنا لا أحب أن يأمرني أحد بعمل شيء له, ولا أحب أن يكون لأحد فضل عليّ, ولهذا السبب فإنني في مرات أحمل له البيرة, وفي مرات أخرى لا أحملها له. أما هو, فالحقيقة أنه يكافئني, ويعطيني حقي من النقود, بل وأكثر, إلا أن كل شيء فيه يغيظني, فهو لا يعرف حتى كيف ينطق اسمي صحيحاً!, ثم إنني لا أقبل أن يخطئ في حقي أو يهينني ثم يتأسف لي, لست أنا التي تقبل الأسف من واحد قليل القيمة مثله.
كنت أنا وأمي من بين قليلين يمرون من أمام بوابة مزرعته عند عبورنا الترعة الجارية أمامها, وكانت أمي تكلمني عن ظروفه: اتركيه في حاله... المسكين شاف الويل في الحرب, وهو يحرس نفسه بكلاب كثيرة من كل نوع, يحتفظ بها دائماً بالقرب منه, كلاب ضخمة الحجم لحراسة المزرعة, لقد رأيت كلباً منها, وهو الكلب الذي لا أطيق رؤيته دونا عنها.
كلب مرعب وكريه وأقل الكلاب ألفة مع الناس جميعاً, ومع ذلك فهو لا يفارقه أبداً, بل يتبعه في كل وقت, وزيادة في احتقاره, فهو يسمي هذا الكلب: ابن الشيطان, موسوليني.
فاض حقدي عليه, فكنت أكلم نفسي: كيف أن واحداً من هؤلاء الغرباء, غليظ القفا, وبكرش, وصوته مزكوم دائماً من نزلات البرد, غير طبيعي لدرجة تجعل الإنسان يتقيأ من منظره, صحيح أنه يمتلك ثروة وله مكانته في الناحية, لكن كيف يحق له أن يجيء ويشتري أرضاً طاهرة لمسيحيين دون أن يضع في اعتباره أن يراعي الفقر الذي فيه بقية الخلق, ويحرص على كرامتهم? لكنه بدلا من ذلك يجيء ويطلب على الملأ دستات من زجاجات البيرة, ويلت ويعجن في كلام ماسخ عن البيرة, وأنها للأحصنة التي عنده في المزرعة, الأحصنة الأربعة أو الثلاثة التي هي دائماً مجهدة, لا هو يركبها, ولا صبر له أبداً على ركوبها, ويمر فقط ماشياً على قدميه تقريباً لم يركب حصاناً منها, رجل تيس! لم يكن يتوقف عن التدخين, يدخن سيجاراً قصيراً له رائحة فظيعة, ولا يكف عن مضغ شيء بين أسنانه فيظل يريّل.
وعندما مرضت أمي مرضاً خطيراً وقدم لي نقوداً كمساعدة في علاجها, قبلتها منه, قال ليس الأمر كما تظنين, فمن سيتمكن من مواصلة الحياة بلا سند, لكنني لم أشكره على ذلك, ومن المؤكد أن لديه شعوراً بتأنيب الضمير, لكونه غريباً, وغنياً, وللسبب نفسه لم أوافق على أن أقوم بخدمته.
أمي, ربنا يقدّس روحها, رحلت وغيّبت في ظلمة القبر, والرجل اللعين دفع تكاليف الدفن, وبعدها حاول معرفة إذا ما كنت أحب أن أذهب لأشتغل عنده, ووضعني بذلك في موقف محرج, لكن أنا أعرف نفسي, ولست خائفة, وأعرف أنني وبالذات في وقتنا هذا, عليّ أن أواجه كلام بعض الناس أو غيرهم, قليل من الناس من يمكنه أن يتحمل في مواقف كهذه, لكن لابد لي من ذلك, ولو فقط لحماية نفسي في النهار أو في الليل أمام (الذاهبين والقادمين) ثم إنه لا يترك لي فرصة لتأدية شغلي, وليس وراءه سوى أنه يجيء ويبقى من باب الكسل, ودائماً يأتي ومعه سلاحه, لكنه لا يكف أبداً عن الصراخ بأوامره في وجهي: البيرة يا إريفاليني, إنها للحصان. يقول ذلك بشكل جاد وبتلك الطريقة لا يتوقف أبداً عن اللت والعجن في كلامه معي بلسانه الأشبه بمضرب البيض, وإن شاء الله ستلحق بي الشبهة, وستأتيني شتيمتي لغاية عندي بسببه, كلما رأونا معاً.
لكن كانت أكثر الأمور إثارة لاستغرابي, تلك التي تجري خفية في الدار الكبيرة والقديمة والمقفولة ليل نهار, لم يكن يدخلها حتى ليأكل أو يطبخ, كل شيء يحتاج إليه يتم في هذه الناحية القريبة من البوابة, فكرت في الأمر نفسه عندما حدث لعدة مرات وذهبنا إلى هناك ودخل, ولم يكن ذلك للنوم, أو لحفظ البيرة, بل كان ذلك من أجل الحصان.
- انتظري أنت يا خنزيرة, فربما يجيء يوم,. لا تكون فيه صحتي كما يجب, وساعتها إذا ما نادى أحد من خارج الدار, فسيكون لزاماً علي وقتها أن أبحث عن أناس يعتمد عليهم, أناس مخلصين, ولأن الاحتياط واجب فلابد أن أنفض عني شكوكي, وأطلب منهم مساعدتي, أعرف أن هذا لن يتم ببساطة, لأنني لا أسلم من الشائعات, أضيفي إلى ذلك, أنك سترين بنفسك ما يجري هنا عندما سيهلون - أيضاً - أولئك الذين سيأتون من الخارج.
الرجلان الغبيان الواصلان من العاصمة كما أخبرني دون بريسثيليو وهو يشير ناحيتهم, وقال: رييفالينو بيلارمينو, هؤلاء الذين حضروا إلى هنا, لديهم أمر بالبحث والتحرّي, ولن يتوقفوا عن ذلك إلا إذا وصلوا إلى إثبات التهمة عن طريق الاعتراف.
والذين وصلوا من الخارج أخذوني على جنب, وتكلموا معي بحيث لا يسمع الكلام أحد غيري, سألوني أسئلة كثيرة كان هدفها كلها أن يسمعوا أخباراً عن الرجل, إنهم يؤكدون ويريدون معرفة ما الذي يربط بين أمور كثيرة تبدو وكأن لا أهمية لها, تحمّلتهم إلى حد ما, لكن أكثر من هذا لم أعطهم ولم ينالوا مني شيئاً, ولم أزد عن أن ردّدت بيني وبين نفسي: هل هي الصدفة التي جعلتني أولد خلاسية, حتى يعضني الكلب? همهمت بذلك معبّرة عن شكوكي من المنظر المزعج لهؤلاء الملثمين, بل السفلة أيضاً.
لكنهم دفعوا لي مبلغاً طيباً, والشخص المهم فيهما والذي يداري ذقنه بيده سألني محذّراً: لماذا لا يكون صاحب الدار رجلاً شديد الخطورة, وهل يحيا حقا حياة طبيعية? أعني حياة عادية? وأن علي أن أمعن النظر في أول فرصة وأتأكد إذا لم يكن يوجد على إحدى رجليه عند الكاحل, أثر قديم للحجل أو حلقة القيود الحديدية لمجرم هارب من المعتقل. نعم ربما يكون هو. والآن, وقد جاء دورك, كوني عند وعدك لنا.
رجل خطير عليّ? آه... آه! ربما كان ذلك جائزاً أيام شبابه, أيام لهوه وفجوره... يا للعجب! أيامها كان باستطاعته أن يكون رجلاً, لكنه الآن رجل بكرش, مسرف, وسمين, وتعيس, ولا يريد شيئاً سوى البيرة, من أجل الحصان, ومع أنه لا يشكو, فكم هو بالغ التعاسة, أما فيما يتعلق بي, فإنني لم أحب أبداً طعم البيرة, ولو كنت أحبها, لكنت اشتريتها, كنت سآخذها أو أطلبها منه, وهو كان سيعطيها لي بنفسه, وهو أيضاً - كما قال لي - لم يكن يحبها أبداً.
هذه هي الحقيقة, لم تكن أكلته تزيد عن كوم خس وقطع لحم يمتلئ بها فمه الكبير المثير للقرف بما يتساقط منه ويلوثه من الزيت ويظل يلعق الأكل بلسانه حتى يطفحه. وعند انتهائه من أكله يكون أقرب إلى فقدان الوعي. هل عرف بوصول الذين قدموا من الخارج? لم ألاحظ أثراً لحلقة الحجل الحديدية في رجليه, فلم أشغل نفسي بذلك, وربما واصلت ما كلفوني به أملاً في أن أكون في خدمة المأمور, مدفوعة بكل الشكوك مع وضع أمور كثيرة في الاعتبار, لكنني أرغب في التوصل إلى طريقة ما لمعرفة أي شيء ولو من خلال شق في هذه الدار, هذه هي المفاتيح الخفيّة للتجسس عليه, كما أن الكلاب لابد أن ترتد كلاباً أليفة لأتمكن من مصاحبتها, لكن دون جيوفاني بدا مرتاباً, ولذلك فإن ما أدهشني ساعتها أنه ناداني ثم فتح لي باب الدار. أخذني ومضى بي للداخل حتى هبّت الرائحة الكريهة من شيء ظل دائماً مخفياً. ولا شيء يبدو بحالة طيبة: الصالة واسعة وخالية من الفرش, كأن لا غرض منها سوى اتساعها الخالي, وهذا ما أراد أن يريه لي, وكما أراد, تركني لأرى على راحتي, بل وتمشى معي خلال عدة حجرات حتى اكتفيت, ولكن آه.. فبعد قليل وبينما كان يتمشى معي أدرت الفكرة في رأسي ووصل تفكيري للسؤال: وماذا عن الغرف المغلقة? كانت كثيرة, وأبوابها كلها مغلقة بإحكام, ولم أكن قد دخلتها, ومن خلف بعض تلك الأبواب, انتابني شعور داخلي بأن شيئاً ما على وشك أن يحدث, ولكن, هل فقط كان الوقت متأخراً جداً? آه , الغريب البائس يريد أن يضع حدّا للتهور في حياته, وأنا, ألست أكثر رغبة منه?
وزاد من تفاقم الأمر, ومن خلال الأقوال التي ترددت بعدها بأيام قليلة, أنه قد سمع في وقت متأخر من الليل, ولمرّات عدة متفرقة, صوت رَمْح حصان في السهل المقفر, حصان خرج من بوابة المزرعة, هل يمكن أن يكون ذلك حقيقياً? ساعتها فإن الرجل يكون قد خدعني بشدة وقتاً طويلاً يخدعني فيه بشغل العفاريت الذي يعمله معي, لكن هناك شيئا واحداً فقط وهو الذي استوقفني: شروده الدائم الذي لم أستطع فهم سببه, وحتى لا أظلمه فيما ليست متأكدة منه: هل حقاً كان لديه هناك بالدار, حصان غريب مختف في العتمة, ودائم الاختفاء داخلها?
ومرة أخرى ناداني دون بريسثيليو, في ذلك الأسبوع نفسه, وأولئك القادمون من الخارج كانوا حاضرين, وكما يتصرف الشريك في المؤامرة, وباعتباري عينهم عليه, انتحيت جانباً بواحد من الاثنين في هذه القضية, وهو الذي سمعت عنه أنه يعمل في القنصلية, غير أني وجدت نفسي أحكي له كل شيء, تقريباً, من باب الانتقام, بسبب أمور أخرى, ولقد ركّزوني في الوقت نفسه على مهمة دون بريسثيليو, وأبدوا رغبتهم في أن يظلوا متوارين في الخفاء, ولذلك, يجب أن يذهب دون بريسثيليو وحده, ودفعوا لي مبلغاً كبيراً.
وصرت, كلما ذهبت إلى الدار ما تظاهرت, من باب التحوط, بأني لا أنا أعرف شيئا ولا أنا موجودة.
وظهر دون بريسثيليو, وأخذ يتكلم مع دون جيوفاني:
- ما حكاية الحصان الذي يشرب البيرة, والتي يدور الكلام عنها بكثرة?
وظل يسأله ويضيق عليه الخناق, وبدا دون جيوفاني مرهقاً بشدة وهو يحرّك رأسه يميناً ويساراً ببطء, ورشح الزكام ينزل ويسيل في قطرات بللت عقب السيجار, لكنه لم يظهر وجهه السيء منه للرجل الآخر الواقف أمامه, حك جبهته مراراً بباطن كفه:
- إذن فالعدالة تقتضي أن ترى?
وخرج ثم ظهر فجأة ومعه سلة مكدسة بزجاجات اليبرة الملآنة, ومعه أيضاً دلو خشبي, وفي الدلو, أفرغ كل الزجاجات حتى فارت الرغاوي وطفح الدلو, وأمرني أن أذهب لأحضر الحصان الأشقر بنصاعة لونه, لون القرفة, وبوجهه البالغ الجمال.
- هذا هو الحصان, هل هذا ما كنت تظنه?
وتقدم الحصان مندفعاً في حيوية, بأذنيه المتحفزتين, ودار بمنخاريه وهو يحرك فكيه, وظل يعب البيرة حتى شربها كلها, صوت وهو يشرب كان يكشف استمتاعه بما يتذوقه إلى أقصى حد, أرأيت كم هو فاجر, ومنقوع في هذا الشرب! أممكن ما يحدث? ومتى علموه الشرب? ولكن هذا صحيح. نعم. فالحصان مازال يريد بيرة أكثر فأكثر. شعر دون بريسثيليو بالخجل من نفسه, وفي اللحظة نفسها همّ بالانصراف وشكر صاحب الدار ومضى خارجاً, أما سيدي صاحب الدار فبصق خلفه ونظر ناحيتي:
- إيريفاليني... أيامنا هذه كم تغيرت, وإلى أي حد صارت أياماً سيئة! حذار أن تترك سلاحك يفارقك, وافقته فيما يقول, وابتسمت لامتلاكه كل هذه الحيل, والقدرة على الخداع, والحال نفسه كنت أنا غرقانة فيه وسطهم, وهذا ما ضايقني.
ولذلك, فعندما عاود القادمون من الخارج المجيء, تكلمت عمّا حيّرني وفكرت فيه: ما هي الأمور الخفية الأخرى والتي لابد وأن حلها موجود خلف الأبواب المغلقة لبقية غرف الدار.
وفي هذه المرة جاء دون بريسثيليو ومعه شرطي, وكل ما طلبه أنه يريد فقط إلقاء نظرة على غرف النوم, كما تقتضي العدالة!
أما دون جيوفاني, بوصفه رجلاً مسالماً ويتصرف دائماً بتعقّل, أشعل سيجاراً آخر, وفتح باب الدار ليدخل دون بريسثيليو, والشرطي, وأنا أيضاً, غرف النوم? آه...
وتحرّك وكان سلوكه بالغ النزاهة والأمانة في كل ما يتعلق بالكائن الحي الذي ظل غامضاً, عصيّاً على الفهم, نوع من الكائنات الخارقة التي تبعث على الذهول: هناك بالداخل, بحجمه الهائل, ولم يكن هناك سواه, وإنه هو, الكائن الذي لا وجود لمثيل له!: حصان أبيض, هائل الحجم, محنط, وأقرب إلى أن يكون حيّاً, مربع الوجه مثل لعبة طفل, شديد النظافة, ناصع البياض, غزير شعر عرفه, عريض الكفل, شاهق العلو كحصان من أحصنة الكنيسة, كما لو أنه حصان سان جورج, كيف استطاعوا إحضار هذا الحصان, أو إرساله حتى وصوله إلى هنا, ليتم إدخاله بكامل تجهيزه وزينته? ارتبك دون بريسثيليو غارقاً في خجله, بالرغم من كل أمارات الدهشة الصاعقة, مازلت أتلمس حضور الحصان, وأفتقده كثيراً, إلا أنني لا أجده, حقيقة كان أم خدعة, وعلى هذا الحال بقي دون جيوفاني وحده معي, يقضم عقب سيجاره:
- إيريفاليني... لقد غلطنا.. وغلطتنا أننا لم نحب البيرة... أليس كذلك?
وافقته على رأيه, واجتاحتني الرغبة في أن أخبره عمّا كان يحدث من وراء ظهره. دون بريسثيليو وهؤلاء القادمون من الخارج, لابد سيتخلصون الآن من كل أشكال الفضول لديهم. لكن شعوري بالفضول لم ينته, فماذا عن بقية الغرف بالدار, تلك التي خلف الأبواب المغلقة? كان لابد أن يفتشوها كلها تفتيشاً دقيقاً, يفتشون كل واحدة بمفردها, ثم كلها دفعة واحدة بالمرة, لكن الأكيد أنني لم أكن أنوي تذكيرهم بمواصلة البحث في هذا الاتجاه, ولست أنا من عليه تقسيم ورق اللعب في الكوتشينة, وعليه التغطية على الورقة المطلوبة, وبدأ دون جيوفاني يتكلم معي, وفاض في الحديث عن تأملاته:
- (إيريفاليني- وكأن صوته صدى - الحياة قاسية يا إيريفاليني, والناس تعساء...).
لم أرد أن أقاطعه بالسؤال, احتراماً, عن الحصان الأبيض, فهذه أمور قليلة الأهمية, وربما يكون ذلك ما حدث في الحرب, والتي يقدر أهوالها الكثيرة: أما نحن يا إيريفاليني, فإننا نحب الحياة أكثر مما نتخيل, وددت لو أكلت معه, لكن أنفه المزكوم والذي لا يتوقف عن الرشح, ومخاطه وتنخمه بصوت يزعج من يراه, وبرائحته غير المحببة للسيجار الذي يدخنه, ولكل هذه الأمور المتعلقة به, والتي لا تبعث على الارتياح معه, يجعل خدمة هذا الرجل مصدراً لقلة الراحة.
هذا في الوقت الذي لا يخطر على بالنا, ولا نتكلم عن أحواله التي تثير الإشفاق عليه, وساعتها, خرجت وذهبت إلى دون بريسثيليو وكلمته بلا تردد: أنا لا أحب, من الآن, أن أعرف شيئاً عن أي شيء, ولا عن أولئك القادمين من الخارج, مدبّري المكائد, وأيضاً لا داعي للعب بسلاح ذي حدين, لأنهم إذا عادوا إليه مرة أخرى فسيفقد صوابه وسيتشاجر معهم صارخاً في وجههم: (قفوا مكانكم) نحن هنا في البرازيل, ثم إنهم هم غرباء أيضاً.
وهكذا انتزعت منه سلاحه وخنجره, فالدون بريسثيليو قد عرفه, إلا أنه لم يعرف كيف يتفادى المباغتة.
وفجأة, حدث ما لم يكن متوقعا: فتح دون جيوفاني باب الدار على مصراعيه, وناداني, وفي وسط الصالة, على الأرضية, كانت جثة رجل مسجاة ومغطاة بملاءة.
- جوزيبي, أخي.. نطق الاسم بتأثر وبصوت بالغ الحنان - أريد القسيس أن يحضر, وأريد أن تقرع أجراس الكنيسة, معلنة موته, وأن تتعالى الدقات سريعة, وفي دفعات من دقات ثلاث, وتتكرر حزناً عليه, لم يكن لأحد أبداً القدرة على القتال التي كانت لأخي, ولا تمسكا بما يعتقد, مثله. وعندما ردهم الأعداء على أعقابهم في الحرب, أصر ألا ينسحب ناجياً بنفسه وأن يبقى ليواصل القتال مع جنوده من المقاتلين.
تم تشييع الجنازة, بكل أبّهة واحترام, وعلى أكمل وجه, وكان باستطاعة دون جيوفاني, وله كل الحق, أن يزهو ويتيه بذلك أمام الجميع. إلا أنه وقبل الدفن حضر دون بريسثيليو وأوهمني بأن أولئك الرجال الذين قدموا من الخارج أعلنوا عن مكافأة كبيرة مخصصة لمن يتأكد من الشخصية التي يجري البحث عنها, ثم طلب أن ترفع الملاءة التي تغطي الوجه.
لكنه لم ير سوى الرعب الذي أحدق بنا كلنا, والنظرات التي تفيض بالشفقة, فالميت لم يكن له وجه, وما يمكن أن يوصف في كلمات لا يتعدى نقره, وندبة هائلة قديمة, مفزعة, بلا أنف, ولا أي ملامح. وما شاهدوه من الميت لا يعدو حفراً مبيضة تبدأ من أعلى النحر, فأعلى القصبة الهوائية, - لأن هذه هي الحرب - كما فسرها لنا دون جيوفاني - وفتحة فمه البلهاء, فتحة فمه التي نسي أن يقفلها, بدت وكلها عذوبة.
والآن, وبعد كل ما حدث, فأنا أريد مواصلة السير في طريقي, قاصدة الذهاب إليه, هناك, حيث لن يصادفني أكثر مما حدث, في هذه المزرعة التعسة, غارقة في ظلمة أشجار مثل تلك الأشجار التي تطوقها, دون جيوفاني كان خارج الدار, قاعداً على جنب, متآلفاً ومنسجماً مع ما تعوّد عليه لسنوات طويلة, حالته الصحية تتدهور أكثر, وتقدم في العمر بسرعة فبدا كما لو أن ذلك قد حدث فجأة, غارقاً في هموم مؤلمة, وآلامها على وجهه لا يمكن إخفاؤها, إلا أنه كان قاعداً يتناول وجبته المعتادة, من اللحم, وكومة كبيرة من الخس في الدلو, يأكل بينما يأخذ نفسه بلهاث عال ومتسارع.
- إيريفاليني... يا بنت يا بيضا... يا بنت يا بريئة... أي عيشة هذه?
سأل وهو يرددها, يلحنها ويغنيها, كل مرة بطريقة: البنت الشقرا... آه...شبكت قلبي... شبكت قلبي آه... بكم نظرة!
رددت عليه: وأنا آه قدامك آه... سمكة آه وبالعة الطعم!
وبلا نفور منه أخذته في حضني بلا أي إحساس بالخجل منه, وحتى لا تغرورق عيناه بالدموع, ولحظتها أقدم على فعل جنوني: نزع غطاء زجاجات البيرة وصبّها كلها حتى فاضت الرغوة:
- هيا بنا نشرب يا إيريفاليني.. وقدم البيرة لي: هيا يا حلوتي.. يا نادرة في الحياة.. أحببت فعل ذلك, أحببته بعدما شربت أكثر من كوب, وعند الكوب العشرين.. الثلاثين... وبعد شرب كل تلك الأكواب من البيرة ذهب عقلي تماماً: آه يا سيدي... آه لو تطلب يدي, وتخطفني, وتطير بي محمولة فوق الحصان الأشقر السكران, ويجري بصحبتنا ذلك الكلب الحزين النحيف: موسوليني.
وبعدها, لم أر أبداً, سيدي صاحب الدار, واعتقدت أنه مات, عندما تأكدت من كتابته وصيّة, ترك لي فيها المزرعة, أمرت ببناء عدة مقابر, وإقامة قداس له, وقداس لأخيه, وقداس لأمي, وأمرت ببيع المزرعة, ولكن وقبل ذلك, أمرت بقطع الأشجار, وبأن يحفروا حفرة في الحقل, وأن يدفنوا فيها كل الكراكيب التي وجدت في تلك الغرفة التي دار الكلام حولها. لم أعد أبداً إلى هناك. أبداً, فلم أنس ذلك اليوم الذي استثار بداخلي فيه مشاعر الشفقة والحنان, والتعاطف الذي قرّبنا كل واحد من الثاني, وزجاجات البيرة الكثيرة والتي لا تحصى ولا تعد, وساعتها سكرت للدرجة التي فكرت أنه يمكن لشخص ما أن يفاجئنا, ومن خلف هذا الشخص يمكن أن يداهمنا الحصان الأشقر, الوجه, الملاءة, حصان سان جورج الأبيض بضخامته الهائلة, مثيراً في نفوسنا الرعب بشقائه بلا حد.
ما جرى هلوسة, ولا أحد كان هناك, والتي تقول ذلك هي أنا. أنا ريفا لينوبيلارمينو (كاشفة الخدع) أخذت كل زجاجات البيرة الباقية, وسأفعل مثلما كنت أفعل, فأنا من استهلكت كل البيرة في تلك الدار حتى أقطع الطريق على ما يخايلني ويخدعني.
* قاص وروائي من البرازيل.
** قاص ومترجم من مصر وقد حاول في هذه القصة استخدام نوع من الفصحى الدارجة للوصول إلى روح النص الأصلي.
محمد إبراهيم مبروك مجلة العربي ديسمبر 2001
.
- إيريفاليني, هات زجاجة بيرة ثانية, إنها للحصان يا عبيطة). وأنا لا أحب أن يأمرني أحد بعمل شيء له, ولا أحب أن يكون لأحد فضل عليّ, ولهذا السبب فإنني في مرات أحمل له البيرة, وفي مرات أخرى لا أحملها له. أما هو, فالحقيقة أنه يكافئني, ويعطيني حقي من النقود, بل وأكثر, إلا أن كل شيء فيه يغيظني, فهو لا يعرف حتى كيف ينطق اسمي صحيحاً!, ثم إنني لا أقبل أن يخطئ في حقي أو يهينني ثم يتأسف لي, لست أنا التي تقبل الأسف من واحد قليل القيمة مثله.
كنت أنا وأمي من بين قليلين يمرون من أمام بوابة مزرعته عند عبورنا الترعة الجارية أمامها, وكانت أمي تكلمني عن ظروفه: اتركيه في حاله... المسكين شاف الويل في الحرب, وهو يحرس نفسه بكلاب كثيرة من كل نوع, يحتفظ بها دائماً بالقرب منه, كلاب ضخمة الحجم لحراسة المزرعة, لقد رأيت كلباً منها, وهو الكلب الذي لا أطيق رؤيته دونا عنها.
كلب مرعب وكريه وأقل الكلاب ألفة مع الناس جميعاً, ومع ذلك فهو لا يفارقه أبداً, بل يتبعه في كل وقت, وزيادة في احتقاره, فهو يسمي هذا الكلب: ابن الشيطان, موسوليني.
فاض حقدي عليه, فكنت أكلم نفسي: كيف أن واحداً من هؤلاء الغرباء, غليظ القفا, وبكرش, وصوته مزكوم دائماً من نزلات البرد, غير طبيعي لدرجة تجعل الإنسان يتقيأ من منظره, صحيح أنه يمتلك ثروة وله مكانته في الناحية, لكن كيف يحق له أن يجيء ويشتري أرضاً طاهرة لمسيحيين دون أن يضع في اعتباره أن يراعي الفقر الذي فيه بقية الخلق, ويحرص على كرامتهم? لكنه بدلا من ذلك يجيء ويطلب على الملأ دستات من زجاجات البيرة, ويلت ويعجن في كلام ماسخ عن البيرة, وأنها للأحصنة التي عنده في المزرعة, الأحصنة الأربعة أو الثلاثة التي هي دائماً مجهدة, لا هو يركبها, ولا صبر له أبداً على ركوبها, ويمر فقط ماشياً على قدميه تقريباً لم يركب حصاناً منها, رجل تيس! لم يكن يتوقف عن التدخين, يدخن سيجاراً قصيراً له رائحة فظيعة, ولا يكف عن مضغ شيء بين أسنانه فيظل يريّل.
وعندما مرضت أمي مرضاً خطيراً وقدم لي نقوداً كمساعدة في علاجها, قبلتها منه, قال ليس الأمر كما تظنين, فمن سيتمكن من مواصلة الحياة بلا سند, لكنني لم أشكره على ذلك, ومن المؤكد أن لديه شعوراً بتأنيب الضمير, لكونه غريباً, وغنياً, وللسبب نفسه لم أوافق على أن أقوم بخدمته.
أمي, ربنا يقدّس روحها, رحلت وغيّبت في ظلمة القبر, والرجل اللعين دفع تكاليف الدفن, وبعدها حاول معرفة إذا ما كنت أحب أن أذهب لأشتغل عنده, ووضعني بذلك في موقف محرج, لكن أنا أعرف نفسي, ولست خائفة, وأعرف أنني وبالذات في وقتنا هذا, عليّ أن أواجه كلام بعض الناس أو غيرهم, قليل من الناس من يمكنه أن يتحمل في مواقف كهذه, لكن لابد لي من ذلك, ولو فقط لحماية نفسي في النهار أو في الليل أمام (الذاهبين والقادمين) ثم إنه لا يترك لي فرصة لتأدية شغلي, وليس وراءه سوى أنه يجيء ويبقى من باب الكسل, ودائماً يأتي ومعه سلاحه, لكنه لا يكف أبداً عن الصراخ بأوامره في وجهي: البيرة يا إريفاليني, إنها للحصان. يقول ذلك بشكل جاد وبتلك الطريقة لا يتوقف أبداً عن اللت والعجن في كلامه معي بلسانه الأشبه بمضرب البيض, وإن شاء الله ستلحق بي الشبهة, وستأتيني شتيمتي لغاية عندي بسببه, كلما رأونا معاً.
لكن كانت أكثر الأمور إثارة لاستغرابي, تلك التي تجري خفية في الدار الكبيرة والقديمة والمقفولة ليل نهار, لم يكن يدخلها حتى ليأكل أو يطبخ, كل شيء يحتاج إليه يتم في هذه الناحية القريبة من البوابة, فكرت في الأمر نفسه عندما حدث لعدة مرات وذهبنا إلى هناك ودخل, ولم يكن ذلك للنوم, أو لحفظ البيرة, بل كان ذلك من أجل الحصان.
- انتظري أنت يا خنزيرة, فربما يجيء يوم,. لا تكون فيه صحتي كما يجب, وساعتها إذا ما نادى أحد من خارج الدار, فسيكون لزاماً علي وقتها أن أبحث عن أناس يعتمد عليهم, أناس مخلصين, ولأن الاحتياط واجب فلابد أن أنفض عني شكوكي, وأطلب منهم مساعدتي, أعرف أن هذا لن يتم ببساطة, لأنني لا أسلم من الشائعات, أضيفي إلى ذلك, أنك سترين بنفسك ما يجري هنا عندما سيهلون - أيضاً - أولئك الذين سيأتون من الخارج.
الرجلان الغبيان الواصلان من العاصمة كما أخبرني دون بريسثيليو وهو يشير ناحيتهم, وقال: رييفالينو بيلارمينو, هؤلاء الذين حضروا إلى هنا, لديهم أمر بالبحث والتحرّي, ولن يتوقفوا عن ذلك إلا إذا وصلوا إلى إثبات التهمة عن طريق الاعتراف.
والذين وصلوا من الخارج أخذوني على جنب, وتكلموا معي بحيث لا يسمع الكلام أحد غيري, سألوني أسئلة كثيرة كان هدفها كلها أن يسمعوا أخباراً عن الرجل, إنهم يؤكدون ويريدون معرفة ما الذي يربط بين أمور كثيرة تبدو وكأن لا أهمية لها, تحمّلتهم إلى حد ما, لكن أكثر من هذا لم أعطهم ولم ينالوا مني شيئاً, ولم أزد عن أن ردّدت بيني وبين نفسي: هل هي الصدفة التي جعلتني أولد خلاسية, حتى يعضني الكلب? همهمت بذلك معبّرة عن شكوكي من المنظر المزعج لهؤلاء الملثمين, بل السفلة أيضاً.
لكنهم دفعوا لي مبلغاً طيباً, والشخص المهم فيهما والذي يداري ذقنه بيده سألني محذّراً: لماذا لا يكون صاحب الدار رجلاً شديد الخطورة, وهل يحيا حقا حياة طبيعية? أعني حياة عادية? وأن علي أن أمعن النظر في أول فرصة وأتأكد إذا لم يكن يوجد على إحدى رجليه عند الكاحل, أثر قديم للحجل أو حلقة القيود الحديدية لمجرم هارب من المعتقل. نعم ربما يكون هو. والآن, وقد جاء دورك, كوني عند وعدك لنا.
رجل خطير عليّ? آه... آه! ربما كان ذلك جائزاً أيام شبابه, أيام لهوه وفجوره... يا للعجب! أيامها كان باستطاعته أن يكون رجلاً, لكنه الآن رجل بكرش, مسرف, وسمين, وتعيس, ولا يريد شيئاً سوى البيرة, من أجل الحصان, ومع أنه لا يشكو, فكم هو بالغ التعاسة, أما فيما يتعلق بي, فإنني لم أحب أبداً طعم البيرة, ولو كنت أحبها, لكنت اشتريتها, كنت سآخذها أو أطلبها منه, وهو كان سيعطيها لي بنفسه, وهو أيضاً - كما قال لي - لم يكن يحبها أبداً.
هذه هي الحقيقة, لم تكن أكلته تزيد عن كوم خس وقطع لحم يمتلئ بها فمه الكبير المثير للقرف بما يتساقط منه ويلوثه من الزيت ويظل يلعق الأكل بلسانه حتى يطفحه. وعند انتهائه من أكله يكون أقرب إلى فقدان الوعي. هل عرف بوصول الذين قدموا من الخارج? لم ألاحظ أثراً لحلقة الحجل الحديدية في رجليه, فلم أشغل نفسي بذلك, وربما واصلت ما كلفوني به أملاً في أن أكون في خدمة المأمور, مدفوعة بكل الشكوك مع وضع أمور كثيرة في الاعتبار, لكنني أرغب في التوصل إلى طريقة ما لمعرفة أي شيء ولو من خلال شق في هذه الدار, هذه هي المفاتيح الخفيّة للتجسس عليه, كما أن الكلاب لابد أن ترتد كلاباً أليفة لأتمكن من مصاحبتها, لكن دون جيوفاني بدا مرتاباً, ولذلك فإن ما أدهشني ساعتها أنه ناداني ثم فتح لي باب الدار. أخذني ومضى بي للداخل حتى هبّت الرائحة الكريهة من شيء ظل دائماً مخفياً. ولا شيء يبدو بحالة طيبة: الصالة واسعة وخالية من الفرش, كأن لا غرض منها سوى اتساعها الخالي, وهذا ما أراد أن يريه لي, وكما أراد, تركني لأرى على راحتي, بل وتمشى معي خلال عدة حجرات حتى اكتفيت, ولكن آه.. فبعد قليل وبينما كان يتمشى معي أدرت الفكرة في رأسي ووصل تفكيري للسؤال: وماذا عن الغرف المغلقة? كانت كثيرة, وأبوابها كلها مغلقة بإحكام, ولم أكن قد دخلتها, ومن خلف بعض تلك الأبواب, انتابني شعور داخلي بأن شيئاً ما على وشك أن يحدث, ولكن, هل فقط كان الوقت متأخراً جداً? آه , الغريب البائس يريد أن يضع حدّا للتهور في حياته, وأنا, ألست أكثر رغبة منه?
وزاد من تفاقم الأمر, ومن خلال الأقوال التي ترددت بعدها بأيام قليلة, أنه قد سمع في وقت متأخر من الليل, ولمرّات عدة متفرقة, صوت رَمْح حصان في السهل المقفر, حصان خرج من بوابة المزرعة, هل يمكن أن يكون ذلك حقيقياً? ساعتها فإن الرجل يكون قد خدعني بشدة وقتاً طويلاً يخدعني فيه بشغل العفاريت الذي يعمله معي, لكن هناك شيئا واحداً فقط وهو الذي استوقفني: شروده الدائم الذي لم أستطع فهم سببه, وحتى لا أظلمه فيما ليست متأكدة منه: هل حقاً كان لديه هناك بالدار, حصان غريب مختف في العتمة, ودائم الاختفاء داخلها?
ومرة أخرى ناداني دون بريسثيليو, في ذلك الأسبوع نفسه, وأولئك القادمون من الخارج كانوا حاضرين, وكما يتصرف الشريك في المؤامرة, وباعتباري عينهم عليه, انتحيت جانباً بواحد من الاثنين في هذه القضية, وهو الذي سمعت عنه أنه يعمل في القنصلية, غير أني وجدت نفسي أحكي له كل شيء, تقريباً, من باب الانتقام, بسبب أمور أخرى, ولقد ركّزوني في الوقت نفسه على مهمة دون بريسثيليو, وأبدوا رغبتهم في أن يظلوا متوارين في الخفاء, ولذلك, يجب أن يذهب دون بريسثيليو وحده, ودفعوا لي مبلغاً كبيراً.
وصرت, كلما ذهبت إلى الدار ما تظاهرت, من باب التحوط, بأني لا أنا أعرف شيئا ولا أنا موجودة.
وظهر دون بريسثيليو, وأخذ يتكلم مع دون جيوفاني:
- ما حكاية الحصان الذي يشرب البيرة, والتي يدور الكلام عنها بكثرة?
وظل يسأله ويضيق عليه الخناق, وبدا دون جيوفاني مرهقاً بشدة وهو يحرّك رأسه يميناً ويساراً ببطء, ورشح الزكام ينزل ويسيل في قطرات بللت عقب السيجار, لكنه لم يظهر وجهه السيء منه للرجل الآخر الواقف أمامه, حك جبهته مراراً بباطن كفه:
- إذن فالعدالة تقتضي أن ترى?
وخرج ثم ظهر فجأة ومعه سلة مكدسة بزجاجات اليبرة الملآنة, ومعه أيضاً دلو خشبي, وفي الدلو, أفرغ كل الزجاجات حتى فارت الرغاوي وطفح الدلو, وأمرني أن أذهب لأحضر الحصان الأشقر بنصاعة لونه, لون القرفة, وبوجهه البالغ الجمال.
- هذا هو الحصان, هل هذا ما كنت تظنه?
وتقدم الحصان مندفعاً في حيوية, بأذنيه المتحفزتين, ودار بمنخاريه وهو يحرك فكيه, وظل يعب البيرة حتى شربها كلها, صوت وهو يشرب كان يكشف استمتاعه بما يتذوقه إلى أقصى حد, أرأيت كم هو فاجر, ومنقوع في هذا الشرب! أممكن ما يحدث? ومتى علموه الشرب? ولكن هذا صحيح. نعم. فالحصان مازال يريد بيرة أكثر فأكثر. شعر دون بريسثيليو بالخجل من نفسه, وفي اللحظة نفسها همّ بالانصراف وشكر صاحب الدار ومضى خارجاً, أما سيدي صاحب الدار فبصق خلفه ونظر ناحيتي:
- إيريفاليني... أيامنا هذه كم تغيرت, وإلى أي حد صارت أياماً سيئة! حذار أن تترك سلاحك يفارقك, وافقته فيما يقول, وابتسمت لامتلاكه كل هذه الحيل, والقدرة على الخداع, والحال نفسه كنت أنا غرقانة فيه وسطهم, وهذا ما ضايقني.
ولذلك, فعندما عاود القادمون من الخارج المجيء, تكلمت عمّا حيّرني وفكرت فيه: ما هي الأمور الخفية الأخرى والتي لابد وأن حلها موجود خلف الأبواب المغلقة لبقية غرف الدار.
وفي هذه المرة جاء دون بريسثيليو ومعه شرطي, وكل ما طلبه أنه يريد فقط إلقاء نظرة على غرف النوم, كما تقتضي العدالة!
أما دون جيوفاني, بوصفه رجلاً مسالماً ويتصرف دائماً بتعقّل, أشعل سيجاراً آخر, وفتح باب الدار ليدخل دون بريسثيليو, والشرطي, وأنا أيضاً, غرف النوم? آه...
وتحرّك وكان سلوكه بالغ النزاهة والأمانة في كل ما يتعلق بالكائن الحي الذي ظل غامضاً, عصيّاً على الفهم, نوع من الكائنات الخارقة التي تبعث على الذهول: هناك بالداخل, بحجمه الهائل, ولم يكن هناك سواه, وإنه هو, الكائن الذي لا وجود لمثيل له!: حصان أبيض, هائل الحجم, محنط, وأقرب إلى أن يكون حيّاً, مربع الوجه مثل لعبة طفل, شديد النظافة, ناصع البياض, غزير شعر عرفه, عريض الكفل, شاهق العلو كحصان من أحصنة الكنيسة, كما لو أنه حصان سان جورج, كيف استطاعوا إحضار هذا الحصان, أو إرساله حتى وصوله إلى هنا, ليتم إدخاله بكامل تجهيزه وزينته? ارتبك دون بريسثيليو غارقاً في خجله, بالرغم من كل أمارات الدهشة الصاعقة, مازلت أتلمس حضور الحصان, وأفتقده كثيراً, إلا أنني لا أجده, حقيقة كان أم خدعة, وعلى هذا الحال بقي دون جيوفاني وحده معي, يقضم عقب سيجاره:
- إيريفاليني... لقد غلطنا.. وغلطتنا أننا لم نحب البيرة... أليس كذلك?
وافقته على رأيه, واجتاحتني الرغبة في أن أخبره عمّا كان يحدث من وراء ظهره. دون بريسثيليو وهؤلاء القادمون من الخارج, لابد سيتخلصون الآن من كل أشكال الفضول لديهم. لكن شعوري بالفضول لم ينته, فماذا عن بقية الغرف بالدار, تلك التي خلف الأبواب المغلقة? كان لابد أن يفتشوها كلها تفتيشاً دقيقاً, يفتشون كل واحدة بمفردها, ثم كلها دفعة واحدة بالمرة, لكن الأكيد أنني لم أكن أنوي تذكيرهم بمواصلة البحث في هذا الاتجاه, ولست أنا من عليه تقسيم ورق اللعب في الكوتشينة, وعليه التغطية على الورقة المطلوبة, وبدأ دون جيوفاني يتكلم معي, وفاض في الحديث عن تأملاته:
- (إيريفاليني- وكأن صوته صدى - الحياة قاسية يا إيريفاليني, والناس تعساء...).
لم أرد أن أقاطعه بالسؤال, احتراماً, عن الحصان الأبيض, فهذه أمور قليلة الأهمية, وربما يكون ذلك ما حدث في الحرب, والتي يقدر أهوالها الكثيرة: أما نحن يا إيريفاليني, فإننا نحب الحياة أكثر مما نتخيل, وددت لو أكلت معه, لكن أنفه المزكوم والذي لا يتوقف عن الرشح, ومخاطه وتنخمه بصوت يزعج من يراه, وبرائحته غير المحببة للسيجار الذي يدخنه, ولكل هذه الأمور المتعلقة به, والتي لا تبعث على الارتياح معه, يجعل خدمة هذا الرجل مصدراً لقلة الراحة.
هذا في الوقت الذي لا يخطر على بالنا, ولا نتكلم عن أحواله التي تثير الإشفاق عليه, وساعتها, خرجت وذهبت إلى دون بريسثيليو وكلمته بلا تردد: أنا لا أحب, من الآن, أن أعرف شيئاً عن أي شيء, ولا عن أولئك القادمين من الخارج, مدبّري المكائد, وأيضاً لا داعي للعب بسلاح ذي حدين, لأنهم إذا عادوا إليه مرة أخرى فسيفقد صوابه وسيتشاجر معهم صارخاً في وجههم: (قفوا مكانكم) نحن هنا في البرازيل, ثم إنهم هم غرباء أيضاً.
وهكذا انتزعت منه سلاحه وخنجره, فالدون بريسثيليو قد عرفه, إلا أنه لم يعرف كيف يتفادى المباغتة.
وفجأة, حدث ما لم يكن متوقعا: فتح دون جيوفاني باب الدار على مصراعيه, وناداني, وفي وسط الصالة, على الأرضية, كانت جثة رجل مسجاة ومغطاة بملاءة.
- جوزيبي, أخي.. نطق الاسم بتأثر وبصوت بالغ الحنان - أريد القسيس أن يحضر, وأريد أن تقرع أجراس الكنيسة, معلنة موته, وأن تتعالى الدقات سريعة, وفي دفعات من دقات ثلاث, وتتكرر حزناً عليه, لم يكن لأحد أبداً القدرة على القتال التي كانت لأخي, ولا تمسكا بما يعتقد, مثله. وعندما ردهم الأعداء على أعقابهم في الحرب, أصر ألا ينسحب ناجياً بنفسه وأن يبقى ليواصل القتال مع جنوده من المقاتلين.
تم تشييع الجنازة, بكل أبّهة واحترام, وعلى أكمل وجه, وكان باستطاعة دون جيوفاني, وله كل الحق, أن يزهو ويتيه بذلك أمام الجميع. إلا أنه وقبل الدفن حضر دون بريسثيليو وأوهمني بأن أولئك الرجال الذين قدموا من الخارج أعلنوا عن مكافأة كبيرة مخصصة لمن يتأكد من الشخصية التي يجري البحث عنها, ثم طلب أن ترفع الملاءة التي تغطي الوجه.
لكنه لم ير سوى الرعب الذي أحدق بنا كلنا, والنظرات التي تفيض بالشفقة, فالميت لم يكن له وجه, وما يمكن أن يوصف في كلمات لا يتعدى نقره, وندبة هائلة قديمة, مفزعة, بلا أنف, ولا أي ملامح. وما شاهدوه من الميت لا يعدو حفراً مبيضة تبدأ من أعلى النحر, فأعلى القصبة الهوائية, - لأن هذه هي الحرب - كما فسرها لنا دون جيوفاني - وفتحة فمه البلهاء, فتحة فمه التي نسي أن يقفلها, بدت وكلها عذوبة.
والآن, وبعد كل ما حدث, فأنا أريد مواصلة السير في طريقي, قاصدة الذهاب إليه, هناك, حيث لن يصادفني أكثر مما حدث, في هذه المزرعة التعسة, غارقة في ظلمة أشجار مثل تلك الأشجار التي تطوقها, دون جيوفاني كان خارج الدار, قاعداً على جنب, متآلفاً ومنسجماً مع ما تعوّد عليه لسنوات طويلة, حالته الصحية تتدهور أكثر, وتقدم في العمر بسرعة فبدا كما لو أن ذلك قد حدث فجأة, غارقاً في هموم مؤلمة, وآلامها على وجهه لا يمكن إخفاؤها, إلا أنه كان قاعداً يتناول وجبته المعتادة, من اللحم, وكومة كبيرة من الخس في الدلو, يأكل بينما يأخذ نفسه بلهاث عال ومتسارع.
- إيريفاليني... يا بنت يا بيضا... يا بنت يا بريئة... أي عيشة هذه?
سأل وهو يرددها, يلحنها ويغنيها, كل مرة بطريقة: البنت الشقرا... آه...شبكت قلبي... شبكت قلبي آه... بكم نظرة!
رددت عليه: وأنا آه قدامك آه... سمكة آه وبالعة الطعم!
وبلا نفور منه أخذته في حضني بلا أي إحساس بالخجل منه, وحتى لا تغرورق عيناه بالدموع, ولحظتها أقدم على فعل جنوني: نزع غطاء زجاجات البيرة وصبّها كلها حتى فاضت الرغوة:
- هيا بنا نشرب يا إيريفاليني.. وقدم البيرة لي: هيا يا حلوتي.. يا نادرة في الحياة.. أحببت فعل ذلك, أحببته بعدما شربت أكثر من كوب, وعند الكوب العشرين.. الثلاثين... وبعد شرب كل تلك الأكواب من البيرة ذهب عقلي تماماً: آه يا سيدي... آه لو تطلب يدي, وتخطفني, وتطير بي محمولة فوق الحصان الأشقر السكران, ويجري بصحبتنا ذلك الكلب الحزين النحيف: موسوليني.
وبعدها, لم أر أبداً, سيدي صاحب الدار, واعتقدت أنه مات, عندما تأكدت من كتابته وصيّة, ترك لي فيها المزرعة, أمرت ببناء عدة مقابر, وإقامة قداس له, وقداس لأخيه, وقداس لأمي, وأمرت ببيع المزرعة, ولكن وقبل ذلك, أمرت بقطع الأشجار, وبأن يحفروا حفرة في الحقل, وأن يدفنوا فيها كل الكراكيب التي وجدت في تلك الغرفة التي دار الكلام حولها. لم أعد أبداً إلى هناك. أبداً, فلم أنس ذلك اليوم الذي استثار بداخلي فيه مشاعر الشفقة والحنان, والتعاطف الذي قرّبنا كل واحد من الثاني, وزجاجات البيرة الكثيرة والتي لا تحصى ولا تعد, وساعتها سكرت للدرجة التي فكرت أنه يمكن لشخص ما أن يفاجئنا, ومن خلف هذا الشخص يمكن أن يداهمنا الحصان الأشقر, الوجه, الملاءة, حصان سان جورج الأبيض بضخامته الهائلة, مثيراً في نفوسنا الرعب بشقائه بلا حد.
ما جرى هلوسة, ولا أحد كان هناك, والتي تقول ذلك هي أنا. أنا ريفا لينوبيلارمينو (كاشفة الخدع) أخذت كل زجاجات البيرة الباقية, وسأفعل مثلما كنت أفعل, فأنا من استهلكت كل البيرة في تلك الدار حتى أقطع الطريق على ما يخايلني ويخدعني.
* قاص وروائي من البرازيل.
** قاص ومترجم من مصر وقد حاول في هذه القصة استخدام نوع من الفصحى الدارجة للوصول إلى روح النص الأصلي.
محمد إبراهيم مبروك مجلة العربي ديسمبر 2001
.