نقوس المهدي
كاتب
في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً من منتصف نهار الأمس سقط بيت قيد الإنشاء. (عنوان مقتطف من الجرائد)
كان التنفس صعباً ويحدث ضرراً. تخترق صافرات المعامل أجنحة الصباح البيضاء. وتعبر عربات النفايات صوب المزبلة. نفخ بيدرو سانشيث في أصابعه.
استيقظت أنطونيا بويرتو، كان ابنها الصغير يبكي. فتحت أنطونيا النافذة قليلاً، وتسلّل منها البرد كأنه طائر يصول ويجول في الغرفة. سعل الصغير. أغلقت أنطونيا النافذة، وانخفض البرد تدريجياً إلى أن اختفى نهائياً. استفاق خوان أيضاً، بعيني أرنب مفزوع، استدار في السرير وأيقظ أخاه الأكبر.
تسيطر على الغرفة رائحة كريهة. مرّرَت أنطونيا أناملها الخشنة على الزجاج المغطى بقشرة ثلج. كان مذاق فمها مرّاً بسبب ضرس مسوس. نظرت إلى الشارع، رأت بِرك الماء المتجمدة وأكوام حصى الصقيع الصلبة. سمعت ابنها الصغير يبكي.
كان بيدرو قد ذهب إلى العمل. مرّت على زواجهما عشر سنوات. ابن كل سنتين. وُلد الأول ميتاً ولم تعد تتذكّره، لم يكن عندها وقت لذلك. بعدها، قدم لويس وخوان وابنها الصغير. كانت تنتظر قدوم مولود آخر في فصل الصيف. يعمل بيدرو في البناء، اشتغل أعمالاً أفضل، لكن كما هو معروف: الظروف. لم يكن يكسب الكثير؛ ولهذا كان يحتاج مساعدة. وهي كانت يد عونه، فإضافة إلى التوبيخ وتطبيق النظام في البيت، كانت أنطونيا تخيط قمصان الجيش.
كان الصغير يبكي، ولهذا أفاق أخويه. قفز لويس، الابن الأكبر، من السرير وهو يرتدي قميصاً، وبسرعة لبس سرواله. بينما ظل خوان يلعب بركبتيه محدثاً جبالاً وزلازل.
كان شكل اللُّحُف الشبيه بالجبال يجعله يحلم، كان يخلق مناظراً، ويتصوّر أنهاراً حيث يمكنه صيد الأسماك، يراه صخرةً، صخرةً. وطبعاً، يرى سرطانات. سرطانات وأرز؛ لأن هذا كان أحسن شيء في رحلات الأحد الصيفية.
غسل لويس وجهه ولم يعد الصغير يبكي. دخلت جارة لطلب القليل من الحليب -إذ انقطع بشكل غير مفهوم من بيتها- أعطت أنطونيا الحليب لجارتها. هذه الأخيرة بذراع فوق صدرها وأخرى تحمل بها إناء محدباً، بدأت الكلام. كانت الكلمات تصل إلى خوان مختلطة جداً. كانت الجارة تقول:
- الأطفال عند ولادتهم تكون عظامهم هكذا. بعد ذلك عليهم أن يكبروا من الجانبين لكي يكملوا تكوينهم.. لو كبروا من جانب واحد...
- خوان!
أراعه صوت أمه. كان يريد أن ينام أكثر.
- أنا مستيقظ.
- انهض أو سيكون الضرب المبرح من نصيبك.
لم يكن بوسع خوان فعل شيء آخر؛ فنهض. كانت غرفة النوم بجانب المطبخ. في الغرفة كان بحال جيدة، لكن بعد أن ذهب إلى المطبخ ليس بمقدوره العودة: بدأ يقشعر بدنه.
أخذ خوان المِبولة. وعندها وصل إلى مسامعه صوت الأم بتهديد آخر جديد.
- أيها الخنزير. اذهب إلى دورة المياه.
لم يكن يريد الذهاب إلى المرحاض لأن البرد كان قارساً، لكنه ذهب. كان المرحاض يوجد في الفناء. عند عودته كانت الجارة ذهبت. أمسكته أمه من عنقه وسحبته صوب حوض الغسيل.
- متى ستتعلم تنظيف نفسك!
أخيراً تناول فطوره. وخرج ببطن ساخنة إلى الفناء. كان أصدقاؤه يلعبون بالمكانس كأنهم منظفو حدائق. كانوا يرسمون نصف دوائر ويصيحون بأصوات حيوانات. بقي لحظات يشاهدهم ويديه في جيب سرواله. بقي ينظر إليهم باحتقار. وقف لحظة على رِجل واحدة لهرش كعبه. مع ذلك، لم يخرج يده اليسرى من جيب بنطلونه. بعدها بقليل، نزل أخوه لويس للقيام بمأمورية. فقرّر مرافقته.
كان ممتعاً صعود أكوام الحصى. التوقف لرؤية بركة أو كسر الجليد بكعب الحذاء. التقاط علبة أعواد ثقاب فارغة أو التقاط ورقة بسيطة وحزينة ومبللة.
كانت أنطونيا تعمل بالقرب من النافدة وهي جالسة على كرسي واسع وصغير. ضوء الفناء محزن، إنه ضوء أسير، ضوء يجعلها تخفض رأسها كثيراً للخياطة. يهتز قدر على موقد النار. تترك أنطونيا القميص على ركبتها وتنفخ خدّها بواسطة لسانها لتتفحّص الضرس. يصل طفلاها في الساعة العاشرة لأنهما انشغلا، أو ربما لأنهما يفضّلان برد الشارع على محبس البيت. أنطونيا تسبهما بصوت فظ ورقيق.
لويس مثبت عليه الذنب. يخرج خوان شفتيه الغليظتين.
- وأنت يا خوان لا تمثل دور البريء. لا تكن وقحاً.
تبدأ أنطونيا بعد ذلك بمونولوج -المونولوج نفسه كل يوم- يخفف عنها. يقف الطفلان وهما ينظران إلى أمهما إلى أن تطردهما إلى الخارج.
- يمكنكما الذهاب، فأنتما لا تفعلان شيئاً هنا.
يسير خوان ببطء صوب الباب، يوارب الباب. كان على وشك القفز للحرية حين نادته أمه:
- لا تركض كثيراً، قد تتعرّق ويصيبك الزكام. وأنت تعرف أنك ساعتها ستذهب إلى المستشفى لأننا لا نريد مرضى هنا بيننا.
كانت أهم التهديدات التي تلوح بها دون فائدة في وجه أبنائها هي المستشفى والملجأ. وحين لا تقنعهما من أول وهلة، تلجأ إلى يد الأب.
- سأخبر أباك، سيلقنك درسا... عند عودته. أبوك سيصفي معك الحساب... إذا عدت لفعل ذلك، فسترى في الساعة الثانية عشرة ماذا ينتظرك.
يشعر خوان بقشعريرة تسري في ظهره حين تهدده أمه بأبيه. سيصل متعباً. وإذا ضربه؛ فسيضربه بضجر ورباطة جأش. هو متأكد أنه سيضربه دون أن يهتم لذلك. ليس مثل أمه التي تقوم بذلك بضمير وهي تصرخ.
مع انعكاس خيوط الشمس، يصبح لون واجهات البيوت ذهبياً، بعدما انقشع الضباب. تنتفخ عصافير الدوري كأنها حوصلة طفل يحبس أنفاسه. يتمطّى كلب تحت أشعة الشمس ولسانه خارج فمه. يضرب حصان عربة بائع الحليب الأرض بحوافره ويحرّك أذنيه. يتثاءب النهار فرحاً.
يدخل خوان للتسّكع في قطعة أرض مخصّصة للبناء. يصفّر ويرمي الأحجار. زجاج نوافذ البيت المقابل لونه دموي، شبيه بلون الماء عند غسل الأنف الملطخ بالدم بعد تحريكه كثيراً. جدران المنزل المجاور لقطعة الأرض لونها رمادي شبيه باللحظة التي نضع فيها بصمة الإصبع المدهونة بالبصاق على الجدار المصبوغ باللون الأبيض. يعرف خوان البحث عن وجوه المهرجين في بقع الجدران. يتذكر أنه في أحد نوبات الزكام كانت وجوه الجدار تسليته الوحيدة.
تطل أنطونيا من النافذة وتصيح:
- خوان اصعد.
- أنا قادم يا أمي.
لكن خوان الحالم يتأخّر، بينما يبحث عن شيء غير معروف.
أخيراً، يصل باب البيت ويلج. تقول له أمه ببساطة:
- احمل هذا وخده إلى صاحب الدكان. سأمر عليه فيما بعد. في ما يخص ما تقوم به، فيمكنك المواصلة، لن أقول لك شيئاً.
تُظهر الأم إشارة سخرية جميلة.
- بقي لك متسع من الوقت إلى أن تصل الساعة الثانية عشرة، يمكنك أن تفعل ما تشاء.
يجلس لويس مع أخيه الأصغر ويداه مضمومتان. يبتسم لويس لأنه يشعر أنهم يكافئون صلاحه. أما خوان فيحس بالفزع. مضى وقت طويل لم يسمع فيه هذا النوع من التهديد. نعم، الآن خوان بإمكانه أن يفعل ما يشاء، لكن في وقت وجيز: ساعة واحدة، ساعة وربع إذا توقف والده لشرب كأس مع أصدقائه في طريق عودته. لكن هذا يبدو صعباً، إنه يوم جمعة وأيام الجمعة لا يوجد لا خمر للأب ولا أكل كثير لهم. لم يكن الحظ حليفه. لا يفهم خوان الساعة. لذا عندما يصل المتجر ومعطف أمه في يده يسأل صاحب المتجر:
- رجاء كم الساعة؟
- إنها الحادية عشرة وعشر دقائق يا بني.
- أمي تقول إنها ستمر عليك في ما بعد.
- جيد يا بني. خذ هذا اللوز لك.
صاحب المتجر رجل طيب ويعطي اللوز لأبناء زبائنه. يتمتم خوان شاكراً، ويخرج. اليوم لا يهتم كثيراً باللوز. يضعه في جيب سرواله ويتفرغ لقضم واحدة، بينما يفكّر في قرب وصول الساعة الثانية عشرة.
يجلس خوان عند عتبة البيت ليفكر في ما يستطيع فعله. يمكنه فعل: العودة إلى قطعة الأرض للبحث، الصعود للبيت وطلب المغفرة، الذهاب إلى غاية ركن الشارع ليرى كيف يعمل بعض الرجال الذين يحفرون خندقاً، الصعود للبيت والتكور في ركن منتظراً، اللهو في باحة البيت والصياح كي تحس أمه بقربه وتحكم أنه طيب. نعم، هذه الفكرة الأخيرة هي ما عليه فعله.
يلعب في الباحة الأطفال الذين كانوا يلعبون من قبل دور الكناسين بجارور هذه المرة.
يظل خوان ينظر إليهم بإشارة توسل في عينيه. يقترب واحد منهم، وهو متعرق ويلهث، منه ويسأله:
- تريد اللعب.
- طيب.
يوزع خوان اللوز بكرم. تواصل أنطونيا بويرتو الخياطة. من حين إلى آخر، تنهض إلى المطبخ. يواصل القِدر اهتزازه متأوهاً. عند إزالة غطائه، تحرق أنطونيا أصابعها. عليها حمل الغطاء بواسطة قطعة من القماش. يساعدها لويس، يتمتم الصغير. تصلها أصوات خوان من الأسفل. تطل بحنان من النافذة.
يعود خوان ساعتها ويفاجئ أمه: في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً فاز خوان.
تدخل جارة إلى الشارع وتعبر إلى الباحة بسرعة. عند رؤيتها لخوان تسأله:
- أمك في البيت؟
يرد بالإيجاب محركا رأسه ويتبعها. عندما يصلان إلى شقتهم تطرق الجارة الباب وهي متوترة ومسرعة، سرعة البرق. كأنه طلب غريب للنجدة. تطرق جرس الباب، وتطرق الباب بالأيادي، وتطرق مقرعة الباب. كل ذلك الطرق الذي يجعل سكان بيت ما يخرجون بسرعة وقلوبهم مفعمة بالفزع. تظهر أنطونيا بويرتو.
ما الذي جرى يا كارمن؟
- سأخبرك الآن. ادخل يا خوان. عليكِ الذهاب للرد على الهاتف. يهاتفك رئيس عمال البناء. زوجك بيدرو تعرض لحادث.
تزيل أنطونيا الوِزرة وتقفز نازلة الدرج.
- اعتني بالأطفال.
- لا تقلقي بشأنهم.
كان خوان قد سمع كل شيء وبدأ بالبكاء محدثاً ضجة. لويس ينتابه الفزع ويقلّد أخاه. تحمل الجارة الصغير بين ذراعيها وتحاول تهدئتهم. تقفل الجارة الباب.
تدخل أنطونيا المتجر حيث يوجد الهاتف الوحيد في الشارع. لا تصيب في الكلام:
- نعم... أنا هي... هل أصيب بشكل بليغ؟ حالاً.
تدخل الشمس من الواجهة الزجاجية عاكسة اللون الأحمر لجبن مدور موضوع فوق مرمر المنضدة.
تصدح صافرات المعامل مخترقة السماء الشفافة لمنتصف النهار. وصلت الساعة الثانية عشرة.
* IGNACIO ALDECOA قاص وروائي إسباني (1925-1969)
** ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي
كان التنفس صعباً ويحدث ضرراً. تخترق صافرات المعامل أجنحة الصباح البيضاء. وتعبر عربات النفايات صوب المزبلة. نفخ بيدرو سانشيث في أصابعه.
استيقظت أنطونيا بويرتو، كان ابنها الصغير يبكي. فتحت أنطونيا النافذة قليلاً، وتسلّل منها البرد كأنه طائر يصول ويجول في الغرفة. سعل الصغير. أغلقت أنطونيا النافذة، وانخفض البرد تدريجياً إلى أن اختفى نهائياً. استفاق خوان أيضاً، بعيني أرنب مفزوع، استدار في السرير وأيقظ أخاه الأكبر.
تسيطر على الغرفة رائحة كريهة. مرّرَت أنطونيا أناملها الخشنة على الزجاج المغطى بقشرة ثلج. كان مذاق فمها مرّاً بسبب ضرس مسوس. نظرت إلى الشارع، رأت بِرك الماء المتجمدة وأكوام حصى الصقيع الصلبة. سمعت ابنها الصغير يبكي.
كان بيدرو قد ذهب إلى العمل. مرّت على زواجهما عشر سنوات. ابن كل سنتين. وُلد الأول ميتاً ولم تعد تتذكّره، لم يكن عندها وقت لذلك. بعدها، قدم لويس وخوان وابنها الصغير. كانت تنتظر قدوم مولود آخر في فصل الصيف. يعمل بيدرو في البناء، اشتغل أعمالاً أفضل، لكن كما هو معروف: الظروف. لم يكن يكسب الكثير؛ ولهذا كان يحتاج مساعدة. وهي كانت يد عونه، فإضافة إلى التوبيخ وتطبيق النظام في البيت، كانت أنطونيا تخيط قمصان الجيش.
كان الصغير يبكي، ولهذا أفاق أخويه. قفز لويس، الابن الأكبر، من السرير وهو يرتدي قميصاً، وبسرعة لبس سرواله. بينما ظل خوان يلعب بركبتيه محدثاً جبالاً وزلازل.
كان شكل اللُّحُف الشبيه بالجبال يجعله يحلم، كان يخلق مناظراً، ويتصوّر أنهاراً حيث يمكنه صيد الأسماك، يراه صخرةً، صخرةً. وطبعاً، يرى سرطانات. سرطانات وأرز؛ لأن هذا كان أحسن شيء في رحلات الأحد الصيفية.
غسل لويس وجهه ولم يعد الصغير يبكي. دخلت جارة لطلب القليل من الحليب -إذ انقطع بشكل غير مفهوم من بيتها- أعطت أنطونيا الحليب لجارتها. هذه الأخيرة بذراع فوق صدرها وأخرى تحمل بها إناء محدباً، بدأت الكلام. كانت الكلمات تصل إلى خوان مختلطة جداً. كانت الجارة تقول:
- الأطفال عند ولادتهم تكون عظامهم هكذا. بعد ذلك عليهم أن يكبروا من الجانبين لكي يكملوا تكوينهم.. لو كبروا من جانب واحد...
- خوان!
أراعه صوت أمه. كان يريد أن ينام أكثر.
- أنا مستيقظ.
- انهض أو سيكون الضرب المبرح من نصيبك.
لم يكن بوسع خوان فعل شيء آخر؛ فنهض. كانت غرفة النوم بجانب المطبخ. في الغرفة كان بحال جيدة، لكن بعد أن ذهب إلى المطبخ ليس بمقدوره العودة: بدأ يقشعر بدنه.
أخذ خوان المِبولة. وعندها وصل إلى مسامعه صوت الأم بتهديد آخر جديد.
- أيها الخنزير. اذهب إلى دورة المياه.
لم يكن يريد الذهاب إلى المرحاض لأن البرد كان قارساً، لكنه ذهب. كان المرحاض يوجد في الفناء. عند عودته كانت الجارة ذهبت. أمسكته أمه من عنقه وسحبته صوب حوض الغسيل.
- متى ستتعلم تنظيف نفسك!
أخيراً تناول فطوره. وخرج ببطن ساخنة إلى الفناء. كان أصدقاؤه يلعبون بالمكانس كأنهم منظفو حدائق. كانوا يرسمون نصف دوائر ويصيحون بأصوات حيوانات. بقي لحظات يشاهدهم ويديه في جيب سرواله. بقي ينظر إليهم باحتقار. وقف لحظة على رِجل واحدة لهرش كعبه. مع ذلك، لم يخرج يده اليسرى من جيب بنطلونه. بعدها بقليل، نزل أخوه لويس للقيام بمأمورية. فقرّر مرافقته.
كان ممتعاً صعود أكوام الحصى. التوقف لرؤية بركة أو كسر الجليد بكعب الحذاء. التقاط علبة أعواد ثقاب فارغة أو التقاط ورقة بسيطة وحزينة ومبللة.
كانت أنطونيا تعمل بالقرب من النافدة وهي جالسة على كرسي واسع وصغير. ضوء الفناء محزن، إنه ضوء أسير، ضوء يجعلها تخفض رأسها كثيراً للخياطة. يهتز قدر على موقد النار. تترك أنطونيا القميص على ركبتها وتنفخ خدّها بواسطة لسانها لتتفحّص الضرس. يصل طفلاها في الساعة العاشرة لأنهما انشغلا، أو ربما لأنهما يفضّلان برد الشارع على محبس البيت. أنطونيا تسبهما بصوت فظ ورقيق.
لويس مثبت عليه الذنب. يخرج خوان شفتيه الغليظتين.
- وأنت يا خوان لا تمثل دور البريء. لا تكن وقحاً.
تبدأ أنطونيا بعد ذلك بمونولوج -المونولوج نفسه كل يوم- يخفف عنها. يقف الطفلان وهما ينظران إلى أمهما إلى أن تطردهما إلى الخارج.
- يمكنكما الذهاب، فأنتما لا تفعلان شيئاً هنا.
يسير خوان ببطء صوب الباب، يوارب الباب. كان على وشك القفز للحرية حين نادته أمه:
- لا تركض كثيراً، قد تتعرّق ويصيبك الزكام. وأنت تعرف أنك ساعتها ستذهب إلى المستشفى لأننا لا نريد مرضى هنا بيننا.
كانت أهم التهديدات التي تلوح بها دون فائدة في وجه أبنائها هي المستشفى والملجأ. وحين لا تقنعهما من أول وهلة، تلجأ إلى يد الأب.
- سأخبر أباك، سيلقنك درسا... عند عودته. أبوك سيصفي معك الحساب... إذا عدت لفعل ذلك، فسترى في الساعة الثانية عشرة ماذا ينتظرك.
يشعر خوان بقشعريرة تسري في ظهره حين تهدده أمه بأبيه. سيصل متعباً. وإذا ضربه؛ فسيضربه بضجر ورباطة جأش. هو متأكد أنه سيضربه دون أن يهتم لذلك. ليس مثل أمه التي تقوم بذلك بضمير وهي تصرخ.
مع انعكاس خيوط الشمس، يصبح لون واجهات البيوت ذهبياً، بعدما انقشع الضباب. تنتفخ عصافير الدوري كأنها حوصلة طفل يحبس أنفاسه. يتمطّى كلب تحت أشعة الشمس ولسانه خارج فمه. يضرب حصان عربة بائع الحليب الأرض بحوافره ويحرّك أذنيه. يتثاءب النهار فرحاً.
يدخل خوان للتسّكع في قطعة أرض مخصّصة للبناء. يصفّر ويرمي الأحجار. زجاج نوافذ البيت المقابل لونه دموي، شبيه بلون الماء عند غسل الأنف الملطخ بالدم بعد تحريكه كثيراً. جدران المنزل المجاور لقطعة الأرض لونها رمادي شبيه باللحظة التي نضع فيها بصمة الإصبع المدهونة بالبصاق على الجدار المصبوغ باللون الأبيض. يعرف خوان البحث عن وجوه المهرجين في بقع الجدران. يتذكر أنه في أحد نوبات الزكام كانت وجوه الجدار تسليته الوحيدة.
تطل أنطونيا من النافذة وتصيح:
- خوان اصعد.
- أنا قادم يا أمي.
لكن خوان الحالم يتأخّر، بينما يبحث عن شيء غير معروف.
أخيراً، يصل باب البيت ويلج. تقول له أمه ببساطة:
- احمل هذا وخده إلى صاحب الدكان. سأمر عليه فيما بعد. في ما يخص ما تقوم به، فيمكنك المواصلة، لن أقول لك شيئاً.
تُظهر الأم إشارة سخرية جميلة.
- بقي لك متسع من الوقت إلى أن تصل الساعة الثانية عشرة، يمكنك أن تفعل ما تشاء.
يجلس لويس مع أخيه الأصغر ويداه مضمومتان. يبتسم لويس لأنه يشعر أنهم يكافئون صلاحه. أما خوان فيحس بالفزع. مضى وقت طويل لم يسمع فيه هذا النوع من التهديد. نعم، الآن خوان بإمكانه أن يفعل ما يشاء، لكن في وقت وجيز: ساعة واحدة، ساعة وربع إذا توقف والده لشرب كأس مع أصدقائه في طريق عودته. لكن هذا يبدو صعباً، إنه يوم جمعة وأيام الجمعة لا يوجد لا خمر للأب ولا أكل كثير لهم. لم يكن الحظ حليفه. لا يفهم خوان الساعة. لذا عندما يصل المتجر ومعطف أمه في يده يسأل صاحب المتجر:
- رجاء كم الساعة؟
- إنها الحادية عشرة وعشر دقائق يا بني.
- أمي تقول إنها ستمر عليك في ما بعد.
- جيد يا بني. خذ هذا اللوز لك.
صاحب المتجر رجل طيب ويعطي اللوز لأبناء زبائنه. يتمتم خوان شاكراً، ويخرج. اليوم لا يهتم كثيراً باللوز. يضعه في جيب سرواله ويتفرغ لقضم واحدة، بينما يفكّر في قرب وصول الساعة الثانية عشرة.
يجلس خوان عند عتبة البيت ليفكر في ما يستطيع فعله. يمكنه فعل: العودة إلى قطعة الأرض للبحث، الصعود للبيت وطلب المغفرة، الذهاب إلى غاية ركن الشارع ليرى كيف يعمل بعض الرجال الذين يحفرون خندقاً، الصعود للبيت والتكور في ركن منتظراً، اللهو في باحة البيت والصياح كي تحس أمه بقربه وتحكم أنه طيب. نعم، هذه الفكرة الأخيرة هي ما عليه فعله.
يلعب في الباحة الأطفال الذين كانوا يلعبون من قبل دور الكناسين بجارور هذه المرة.
يظل خوان ينظر إليهم بإشارة توسل في عينيه. يقترب واحد منهم، وهو متعرق ويلهث، منه ويسأله:
- تريد اللعب.
- طيب.
يوزع خوان اللوز بكرم. تواصل أنطونيا بويرتو الخياطة. من حين إلى آخر، تنهض إلى المطبخ. يواصل القِدر اهتزازه متأوهاً. عند إزالة غطائه، تحرق أنطونيا أصابعها. عليها حمل الغطاء بواسطة قطعة من القماش. يساعدها لويس، يتمتم الصغير. تصلها أصوات خوان من الأسفل. تطل بحنان من النافذة.
يعود خوان ساعتها ويفاجئ أمه: في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً فاز خوان.
تدخل جارة إلى الشارع وتعبر إلى الباحة بسرعة. عند رؤيتها لخوان تسأله:
- أمك في البيت؟
يرد بالإيجاب محركا رأسه ويتبعها. عندما يصلان إلى شقتهم تطرق الجارة الباب وهي متوترة ومسرعة، سرعة البرق. كأنه طلب غريب للنجدة. تطرق جرس الباب، وتطرق الباب بالأيادي، وتطرق مقرعة الباب. كل ذلك الطرق الذي يجعل سكان بيت ما يخرجون بسرعة وقلوبهم مفعمة بالفزع. تظهر أنطونيا بويرتو.
ما الذي جرى يا كارمن؟
- سأخبرك الآن. ادخل يا خوان. عليكِ الذهاب للرد على الهاتف. يهاتفك رئيس عمال البناء. زوجك بيدرو تعرض لحادث.
تزيل أنطونيا الوِزرة وتقفز نازلة الدرج.
- اعتني بالأطفال.
- لا تقلقي بشأنهم.
كان خوان قد سمع كل شيء وبدأ بالبكاء محدثاً ضجة. لويس ينتابه الفزع ويقلّد أخاه. تحمل الجارة الصغير بين ذراعيها وتحاول تهدئتهم. تقفل الجارة الباب.
تدخل أنطونيا المتجر حيث يوجد الهاتف الوحيد في الشارع. لا تصيب في الكلام:
- نعم... أنا هي... هل أصيب بشكل بليغ؟ حالاً.
تدخل الشمس من الواجهة الزجاجية عاكسة اللون الأحمر لجبن مدور موضوع فوق مرمر المنضدة.
تصدح صافرات المعامل مخترقة السماء الشفافة لمنتصف النهار. وصلت الساعة الثانية عشرة.
* IGNACIO ALDECOA قاص وروائي إسباني (1925-1969)
** ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي