نقوس المهدي
كاتب
يوما ما حدثني صديق لي قال: كنت أواصل دراستي في موسكو، متًخذا مسكناً صغيراً حيث كانت جارتي البولندية التي أسمها (تيريزا) فتاةً غربيةَ الأطوار.. يمكنني وصفها بأنها طويلة القامة، قوية البنية.. لها بشرة داكنة، وحواجب ثخينة، وملامح فضًة كما لو أن فأساً أحدث كل هذه الشروخ البارزة في وجهها.. عيناها غائمتان، وصوتُها خشنٌ وعميق، فيما تصرفاتُها تشبه سلوكيات رجلٍ صرفَ حياته في الشجارات والعراك الدائم ..
كانت ثقيلة الجسد، ومظهرُها الخارجي يعرض قبحاً مخيفاً .. تسكن غرفةً تقابل غرفتي في الطابق العلوي من البناية التي نسكنها، لذلك غالباً ما ألتقيها عند السلَّم أو في الفناء .. ترميني بابتسامةٍ تغلّفها السخرية، وغالباً ما أبصرُها عائدةً إلى البيت بعينين حمراوين وشعرٍ يتخلّى عن انتظامه .. وقد نتواجه فتروح تحدّق بي ثم تهتف: “مُرحِباً: أيها الطالب”.
ضحكتُها تبعثُ على الاشمئزاز، لذلك قررتُ تغيير غرفتي تجنباً لرؤيتِها .. وفعلاً حظيت بمكانٍ أشعرني بالارتياح خصوصاً وثمَّةَ نافذةٌ أستطيعُ من خلالِها ملاحظة المدينةِ بشوارعِها المنفتحة الهادئة .. وكثيراً ما جلستُ طويلاً أتشبّعُ بالمشاهدة وأنهلُ من الهدوء .. في أحدى الصباحات: وبعد أن انتهيت من ارتداءِ ملابسي وارتميتُ على السرير فُتحت الباب فجأةً فإذا بـ(تيريزا) تقف عند العتبة: “مرحباً أيها الطالب!” .. قالتها بنبرتها الخشنة المعهودة” .. سألتها مستغرباً: “ماذا تريدين؟!” .. حين أمعنتُ النظر رأيتها بوجهٍ اكتسى تعابيرَ مرتبكة وخجولة لم أبصرها فيه من قبل .. قالت: “أيها الطالب .. أريد أن أسألك معروفاً وأرجو أن لا ترفضه” .. لم أقل شيئاً إنَّما هي التي استمرت: “أريدك أن تكتب لي رسالة إلى أهلي!”.
“ماذا تبغي هذه الفتاة برب السماء؟!” .. قلتُ مع نفسي .. قفزتُ من على السرير متخذاً مجلسي عند المنضدة ساحباً ورقةً ومقرّباً قنينة الحبر .. قلتُ: “تعالي اجلسي وأملي عليّ ما تودّين” .. دخلت جالسةً باحتراس، ُمطلِقةً نظرةً حادّة باتجاه عيني .. قلت: “حسناً .. لمن أوجّه الكلام؟” .. قالت: “إلى (بوليسلوف كاشبوت) الذي يقطن في (سوينزياني) .. قريباً من محطة قطارات (وارشو) .. قلت: “وماذا تطلبين أن أكتب له؟ .. هيّا! قولي” .. قالت: “عزيزي بولص .. حبيب قلبي .. حبّي .. روحي .. إلهي يحفظك من كلِّ مكروه .. عزيزي لماذا لم تكتب لحمامِتكَ الصغيرة الوديعة منذ زمن بعيد؟ .. لماذا لا تكتب (لتيريزا) التي تشعر بحزن عميق؟!” .. بصعوبة بالغة تمالكتُ نفسي من الضَّحك: “أهذه حمامة؟! .. أهذه التي طولها ستة أقدام، ذات القبضة القوية والوجه الحاد والعافية الكاملة والتي تشبه مخلوقة صرفت عمرَها تكنس سخام المواقد الشتوية يمكن اعتبارها حمامة وديعة وصغيرة؟!”.
عدت ضبطتُ نفسي، واحتفظتُ برباطة جأشي .. ورحتُ أسألها: “من هو بوليسلوف؟” .. قالت: “بولص يا سيدي!” .. رددّت الاسم بإعجابٍ كما لو كان من المستحيل نكران مَن يكون بوليسلوف هذا .. واجابت: “سأتزوج بولص” .. سألتها: “تتزوّجيه؟!” .. قالت: “ولماذا أنت مندهش! أيها الطالب؟ ألا يمكن لشابة مثلي امتلاك حبيب؟!” .. قلت في نفسي: “شابة؟! .. أيةُ نكتة! .. ولكن ربّما .. قد يحدث ذلك، كل شيْ جائز” .. وسألتها: “منذ متى وأنتما مخطوبان؟” .. قالت: “منذ عشرة أعوام” .. وبالفعل .. كتبتُ الرسالة مليئة بعبارات الحب والوله واللطف كما لو كنت أتمنى أن أكون أنا بوليسلوف، ومن أية فتاة تردني هذه العبارات، إلاّ (تيريزا) .. قالت: “شكراً لك من قلبي أيها الطالب” .. وكانت بالغة التأثر، فسألتني ردّاً للجميل: “هل تطلب مني خدمة أؤديها لك؟” .. قلت: “لا .. شكراً لك” .. قالت: “أستطيع إصلاح قميصك أو أي من ملابسك أيها الطالب” .. وكان هذا ما يزعجني أحياناً .. ومع ذلك شكرتها قائلاً: “لا أحتاج”.
وفي إحدى المساءات وكان قد مرّ أسبوعان على كتابة الرسالة كنتُ جالساً عند النافذة أصفِّرُ وأتركُ لعيني التجوال تسليةً، مفضلاً عدم الخروج بسبب رداءة الجو عندما فُتحت الباب بغتةً .. لقد كانت تيريزا! .. قالت: “أيها الطالب .. أرجو أن لا تكون منشغلاً .. حسناً لا أرى أحداً عندك” .. قلت: “لماذا؟” .. قالت: “أريدك أن تكتب لي رسالة” .. قلت متسائلا: “إلى بولص؟” .. قالت: “كلا .. أريدك أن تكتب ردّهُ” .. صرختُ مندهشاً: “ماذا؟!” .. قالت: “اعذرني، أيها الطالب .. أنا غبية .. لم أعبر عن نفسي بصورة واضحة .. رسالة ليست لي بل لواحدة من صديقاتي .. فهي لا تعرف الكتابة، ولها حبيب مثلي” .. كنت أتطلعُ فيها فأحصد خجلاً يغمر وجهها، وارتعاش كفّيها يفضحان كذبة لم تُصدق .. قلت لها: “اسمعي أيتها الفتاة .. كل ما قلتيه عنك وعن بوليسلوف كان خيالاً مَحظاً، وأنت تكذبين .. إنهُ ليس إلا عذراً للحضور إلى هنا .. لا أريدك أن تلعبي مثل هذه الأفعال مرّة أخرى .. أفهمت؟” .. رأيتُ الخوفَ يكتسحها .. إحمرّت خجلاً .. أرادت أن تقول شيئاً لكنها عجزت، حتّى أنني شعرتُ باضطهادها .. لا بدّ أنْ ما دفعها لفعلِ ذلك! ولكن ما هو؟!.
قالت: “أيها الطالب” ثم توقفت لتقول شيئاً، لكنّها بلمحةٍ مباغتة استدارت خارجةً من الغرفة .. مكثتُ مكاني وفي قلبي مشاعر واحتدامات ضاغطة .. سمعتها تغلق الباب بعنف ما أشعرني بأنها خرجت غاضبة .. لذلك صممّت على دعوتها للعودة شاعراً بالأسف ومقرراً كتابة الرسالة، خطوت صوب غرفتها .. لمحتها جالسة عند منضدتها وقد رمت بوجهها بين كفّيها .. قلت: “يا فتاتي، أنتِ” .. عندما أصل إلى هذا القدرِ من القص أشعرُ دائماً بأسىً عميق .. قفزَت من مكانها، ومباشرةً توجَّهت إليَّ بعينين مشرقتين، واضعةً ذراعيها على كتفي .. ثم شرعت تنشج باكية كما لو أنَّ قلبها يتفطَّر .. قالت: “ما الاختلاف إن .. إن كتبتَ .. أسطر .. قليلة؟ آ .. أنتَ تبدو شاباً مرغوباً فيه!.. نعم، لا يوجد ثمّة بوليسلوف .. وليست هناك تيريزا! هنالك أنا فقط .. أنا وحيدة” .. هتفتُ مصعوقاً بكلماتها: “ماذا ؟! .. لا يوجد بولص مطلقاً” .. اجابت: “لا” .. قلت: “ولا تيريزا؟!” .. قالت: “لا .. أنا هي تيريزا” .. تطلعتُ إليها مذهولاً .. وقلت: “أحدنا هو المجنون” .. عادت إلى منضدتها .. استخرجَت قطعة ورق: “هنا! .. وقالت: “هذا ما وردني .. هنا! .. خذ هذه الرسالة التي كتبتها لي .. الناس الآخرون ذوو القلوب الرحيمة ستكتب لي بدَلك .. “أمسكتُ الرسالة التي كتبتها لبوليسلوف المُتخيّل وقلت: “اسمعي تيريزا .. لماذا كل هذا؟ .. لماذا تريدين الناس أن يكتبوا لكِ بينما أنتِ لم تبعثي الرسالةَ هذه؟” .. قالت: “لمَن سأبعثها؟”.
لم أدري ما أقول .. كل ما فعلته هو أنّي تحركتُ خارجاً .. لكنَّها انطلقت تفوه: “لا يوجد بوليسلوف .. أنا خلقته وأردته أن يعيش .. أدري أنني ليست كمثل الآخرين .. أعرف أنني لا أتسبب بأذى أحد لو أنا كتبتُ إليه” .. قلت: “ماذا تقصدين بقولكِ إليه؟! .. قالت: “إلى بوليسلوف طبعاً؟” .. قلت: “لكنكِ تقولين لا يوجد شخصٌ بهذا الاسم!” .. قالت: ” نعم .. وما الضرر في عدم وجوده .. أكتب إليه كأنَّه رجلّ حقيقي .. وهو أيضاً يردُّ عليَّ .. أكتب له مرة أخرى، ومّرة أخرى هو يرد” .. وأخيراً فهمتُ .. لقد أحسستُ بالذنبِ والخجلِ وبصدمةٍ مثلَ طعنةِ ألمٍٍٍ .. آآ .. إلى جانبي تسكنُ إنسانةٌ فقيرة ليس لها ما يقابلُها من روح تبثُّه العواطفَ وتُظهِر له الخلجات .. لا أبوان لها، لا أصدقاء .. لذلك اخترعت لنفسها رجلاً تبثه خلجاتها .. استمرَّت تخاطبني بأسىً عميق: “الرسالةُ هذهِ التي كتبتها لي لتصل إلى بوليسلوف طلبت من شخصٍ آخر يقرأها لي وبصوت عالِ .. استمعتُ وتخيلتُ أن بوليسلوف رجلٌ يحيا في هذا العالم .. ثم طلبتُ إجابةً من بولص إلى حبيبته تيريزا .. إلي .. هكذا أشعرُ أن ثمة بوليسلوف يحيا في مكان ما .. لا أعرف أين .. وهكذا أستطيع التواصل في الحياة فتصبح عندي أقلَّ صعوبةٍ، أقلَّ فضاعةٍ .. وأقلَّ حدّة”.
منذ ذلك اليوم وأنا أكتب الرسائل .. اكتبها مرتين في الأسبوع .. رسائل مرسلة من تيريزا إلى بوليسلوف، وأخرى من بوليسلوف إلى تيريزا .. أقول كلماتي المليئة بالعاطفة، وبالأخص الردود، وهي تصغي إلى القراءة باكية، ضاحكة .. ولكن سعيدة .. وفي المقابل صارت تعتني بملابسي .. ترتِّق قمصاني وجواربي، وتنظف حذائي، وتمسح قبعتي وتفرّشها .. بعد ثلاثة أشهر ألقي القبض عليها بشبهةٍ فأودعت السجن .. ولم أرها بعد ذلك .. لا بدَّ أنها ماتت.
كانت ثقيلة الجسد، ومظهرُها الخارجي يعرض قبحاً مخيفاً .. تسكن غرفةً تقابل غرفتي في الطابق العلوي من البناية التي نسكنها، لذلك غالباً ما ألتقيها عند السلَّم أو في الفناء .. ترميني بابتسامةٍ تغلّفها السخرية، وغالباً ما أبصرُها عائدةً إلى البيت بعينين حمراوين وشعرٍ يتخلّى عن انتظامه .. وقد نتواجه فتروح تحدّق بي ثم تهتف: “مُرحِباً: أيها الطالب”.
ضحكتُها تبعثُ على الاشمئزاز، لذلك قررتُ تغيير غرفتي تجنباً لرؤيتِها .. وفعلاً حظيت بمكانٍ أشعرني بالارتياح خصوصاً وثمَّةَ نافذةٌ أستطيعُ من خلالِها ملاحظة المدينةِ بشوارعِها المنفتحة الهادئة .. وكثيراً ما جلستُ طويلاً أتشبّعُ بالمشاهدة وأنهلُ من الهدوء .. في أحدى الصباحات: وبعد أن انتهيت من ارتداءِ ملابسي وارتميتُ على السرير فُتحت الباب فجأةً فإذا بـ(تيريزا) تقف عند العتبة: “مرحباً أيها الطالب!” .. قالتها بنبرتها الخشنة المعهودة” .. سألتها مستغرباً: “ماذا تريدين؟!” .. حين أمعنتُ النظر رأيتها بوجهٍ اكتسى تعابيرَ مرتبكة وخجولة لم أبصرها فيه من قبل .. قالت: “أيها الطالب .. أريد أن أسألك معروفاً وأرجو أن لا ترفضه” .. لم أقل شيئاً إنَّما هي التي استمرت: “أريدك أن تكتب لي رسالة إلى أهلي!”.
“ماذا تبغي هذه الفتاة برب السماء؟!” .. قلتُ مع نفسي .. قفزتُ من على السرير متخذاً مجلسي عند المنضدة ساحباً ورقةً ومقرّباً قنينة الحبر .. قلتُ: “تعالي اجلسي وأملي عليّ ما تودّين” .. دخلت جالسةً باحتراس، ُمطلِقةً نظرةً حادّة باتجاه عيني .. قلت: “حسناً .. لمن أوجّه الكلام؟” .. قالت: “إلى (بوليسلوف كاشبوت) الذي يقطن في (سوينزياني) .. قريباً من محطة قطارات (وارشو) .. قلت: “وماذا تطلبين أن أكتب له؟ .. هيّا! قولي” .. قالت: “عزيزي بولص .. حبيب قلبي .. حبّي .. روحي .. إلهي يحفظك من كلِّ مكروه .. عزيزي لماذا لم تكتب لحمامِتكَ الصغيرة الوديعة منذ زمن بعيد؟ .. لماذا لا تكتب (لتيريزا) التي تشعر بحزن عميق؟!” .. بصعوبة بالغة تمالكتُ نفسي من الضَّحك: “أهذه حمامة؟! .. أهذه التي طولها ستة أقدام، ذات القبضة القوية والوجه الحاد والعافية الكاملة والتي تشبه مخلوقة صرفت عمرَها تكنس سخام المواقد الشتوية يمكن اعتبارها حمامة وديعة وصغيرة؟!”.
عدت ضبطتُ نفسي، واحتفظتُ برباطة جأشي .. ورحتُ أسألها: “من هو بوليسلوف؟” .. قالت: “بولص يا سيدي!” .. رددّت الاسم بإعجابٍ كما لو كان من المستحيل نكران مَن يكون بوليسلوف هذا .. واجابت: “سأتزوج بولص” .. سألتها: “تتزوّجيه؟!” .. قالت: “ولماذا أنت مندهش! أيها الطالب؟ ألا يمكن لشابة مثلي امتلاك حبيب؟!” .. قلت في نفسي: “شابة؟! .. أيةُ نكتة! .. ولكن ربّما .. قد يحدث ذلك، كل شيْ جائز” .. وسألتها: “منذ متى وأنتما مخطوبان؟” .. قالت: “منذ عشرة أعوام” .. وبالفعل .. كتبتُ الرسالة مليئة بعبارات الحب والوله واللطف كما لو كنت أتمنى أن أكون أنا بوليسلوف، ومن أية فتاة تردني هذه العبارات، إلاّ (تيريزا) .. قالت: “شكراً لك من قلبي أيها الطالب” .. وكانت بالغة التأثر، فسألتني ردّاً للجميل: “هل تطلب مني خدمة أؤديها لك؟” .. قلت: “لا .. شكراً لك” .. قالت: “أستطيع إصلاح قميصك أو أي من ملابسك أيها الطالب” .. وكان هذا ما يزعجني أحياناً .. ومع ذلك شكرتها قائلاً: “لا أحتاج”.
وفي إحدى المساءات وكان قد مرّ أسبوعان على كتابة الرسالة كنتُ جالساً عند النافذة أصفِّرُ وأتركُ لعيني التجوال تسليةً، مفضلاً عدم الخروج بسبب رداءة الجو عندما فُتحت الباب بغتةً .. لقد كانت تيريزا! .. قالت: “أيها الطالب .. أرجو أن لا تكون منشغلاً .. حسناً لا أرى أحداً عندك” .. قلت: “لماذا؟” .. قالت: “أريدك أن تكتب لي رسالة” .. قلت متسائلا: “إلى بولص؟” .. قالت: “كلا .. أريدك أن تكتب ردّهُ” .. صرختُ مندهشاً: “ماذا؟!” .. قالت: “اعذرني، أيها الطالب .. أنا غبية .. لم أعبر عن نفسي بصورة واضحة .. رسالة ليست لي بل لواحدة من صديقاتي .. فهي لا تعرف الكتابة، ولها حبيب مثلي” .. كنت أتطلعُ فيها فأحصد خجلاً يغمر وجهها، وارتعاش كفّيها يفضحان كذبة لم تُصدق .. قلت لها: “اسمعي أيتها الفتاة .. كل ما قلتيه عنك وعن بوليسلوف كان خيالاً مَحظاً، وأنت تكذبين .. إنهُ ليس إلا عذراً للحضور إلى هنا .. لا أريدك أن تلعبي مثل هذه الأفعال مرّة أخرى .. أفهمت؟” .. رأيتُ الخوفَ يكتسحها .. إحمرّت خجلاً .. أرادت أن تقول شيئاً لكنها عجزت، حتّى أنني شعرتُ باضطهادها .. لا بدّ أنْ ما دفعها لفعلِ ذلك! ولكن ما هو؟!.
قالت: “أيها الطالب” ثم توقفت لتقول شيئاً، لكنّها بلمحةٍ مباغتة استدارت خارجةً من الغرفة .. مكثتُ مكاني وفي قلبي مشاعر واحتدامات ضاغطة .. سمعتها تغلق الباب بعنف ما أشعرني بأنها خرجت غاضبة .. لذلك صممّت على دعوتها للعودة شاعراً بالأسف ومقرراً كتابة الرسالة، خطوت صوب غرفتها .. لمحتها جالسة عند منضدتها وقد رمت بوجهها بين كفّيها .. قلت: “يا فتاتي، أنتِ” .. عندما أصل إلى هذا القدرِ من القص أشعرُ دائماً بأسىً عميق .. قفزَت من مكانها، ومباشرةً توجَّهت إليَّ بعينين مشرقتين، واضعةً ذراعيها على كتفي .. ثم شرعت تنشج باكية كما لو أنَّ قلبها يتفطَّر .. قالت: “ما الاختلاف إن .. إن كتبتَ .. أسطر .. قليلة؟ آ .. أنتَ تبدو شاباً مرغوباً فيه!.. نعم، لا يوجد ثمّة بوليسلوف .. وليست هناك تيريزا! هنالك أنا فقط .. أنا وحيدة” .. هتفتُ مصعوقاً بكلماتها: “ماذا ؟! .. لا يوجد بولص مطلقاً” .. اجابت: “لا” .. قلت: “ولا تيريزا؟!” .. قالت: “لا .. أنا هي تيريزا” .. تطلعتُ إليها مذهولاً .. وقلت: “أحدنا هو المجنون” .. عادت إلى منضدتها .. استخرجَت قطعة ورق: “هنا! .. وقالت: “هذا ما وردني .. هنا! .. خذ هذه الرسالة التي كتبتها لي .. الناس الآخرون ذوو القلوب الرحيمة ستكتب لي بدَلك .. “أمسكتُ الرسالة التي كتبتها لبوليسلوف المُتخيّل وقلت: “اسمعي تيريزا .. لماذا كل هذا؟ .. لماذا تريدين الناس أن يكتبوا لكِ بينما أنتِ لم تبعثي الرسالةَ هذه؟” .. قالت: “لمَن سأبعثها؟”.
لم أدري ما أقول .. كل ما فعلته هو أنّي تحركتُ خارجاً .. لكنَّها انطلقت تفوه: “لا يوجد بوليسلوف .. أنا خلقته وأردته أن يعيش .. أدري أنني ليست كمثل الآخرين .. أعرف أنني لا أتسبب بأذى أحد لو أنا كتبتُ إليه” .. قلت: “ماذا تقصدين بقولكِ إليه؟! .. قالت: “إلى بوليسلوف طبعاً؟” .. قلت: “لكنكِ تقولين لا يوجد شخصٌ بهذا الاسم!” .. قالت: ” نعم .. وما الضرر في عدم وجوده .. أكتب إليه كأنَّه رجلّ حقيقي .. وهو أيضاً يردُّ عليَّ .. أكتب له مرة أخرى، ومّرة أخرى هو يرد” .. وأخيراً فهمتُ .. لقد أحسستُ بالذنبِ والخجلِ وبصدمةٍ مثلَ طعنةِ ألمٍٍٍ .. آآ .. إلى جانبي تسكنُ إنسانةٌ فقيرة ليس لها ما يقابلُها من روح تبثُّه العواطفَ وتُظهِر له الخلجات .. لا أبوان لها، لا أصدقاء .. لذلك اخترعت لنفسها رجلاً تبثه خلجاتها .. استمرَّت تخاطبني بأسىً عميق: “الرسالةُ هذهِ التي كتبتها لي لتصل إلى بوليسلوف طلبت من شخصٍ آخر يقرأها لي وبصوت عالِ .. استمعتُ وتخيلتُ أن بوليسلوف رجلٌ يحيا في هذا العالم .. ثم طلبتُ إجابةً من بولص إلى حبيبته تيريزا .. إلي .. هكذا أشعرُ أن ثمة بوليسلوف يحيا في مكان ما .. لا أعرف أين .. وهكذا أستطيع التواصل في الحياة فتصبح عندي أقلَّ صعوبةٍ، أقلَّ فضاعةٍ .. وأقلَّ حدّة”.
منذ ذلك اليوم وأنا أكتب الرسائل .. اكتبها مرتين في الأسبوع .. رسائل مرسلة من تيريزا إلى بوليسلوف، وأخرى من بوليسلوف إلى تيريزا .. أقول كلماتي المليئة بالعاطفة، وبالأخص الردود، وهي تصغي إلى القراءة باكية، ضاحكة .. ولكن سعيدة .. وفي المقابل صارت تعتني بملابسي .. ترتِّق قمصاني وجواربي، وتنظف حذائي، وتمسح قبعتي وتفرّشها .. بعد ثلاثة أشهر ألقي القبض عليها بشبهةٍ فأودعت السجن .. ولم أرها بعد ذلك .. لا بدَّ أنها ماتت.