د
د.محمد عبدالحليم غنيم
ملكـــــة
قصة قصيرة
د.محمدعبدالحليم غنيم
ملكة هو اسمها ، سمراء ، نحيفة ، تلمع عيناها ببريق شقى ، نهارها فى الحقول بين أعواد الذرة أو شجيرات القطن الخضراء تجمع الحشائش ، أو مغروسة فى الطين بين شتلات الأرز فى المياه الضحلة المائلة للحمرة تقتلع الحشائش، فدائماً هناك عمل .
كنا فى موسم جمع القطن عندما رأيتها لأول مرة وكانت المدارس معطلة من أجل ذلك وكانت فرصة لكي أعمل وأحصل علي قيمة مصروفات الكتب المدرسية وبالطبع مساعدة أمى فى مصاريف البيت.
جمعنا مقاول الأنفار من البيوت المتناثرة بين الحقول فى ذلك الصباح ، وكان قد أكد علينا فى المساء وأعطانا الأجرة ، سرت فى مجموعة من الأنفار إلي الحقل ، استلمنا صاحب الحقل من المقاول ثم صفنا لكل واحد خط ، بحيث تكون الشمس خلفنا ، جاء خطي بجوار خط ملكة ، فكان مكاني بين ملكة وجارتي أم أحمد التى طلبت منها أمي أمس أن تأخذ بالها مني وتساعدنى أن احتجت ، وقبل أن نقطف أول ثمرة قطن مالت علي جارتي وحذرتني من ملكة ، حيث أنها سريعة فى الجمع وسرعتها هذه ستجعلني فى ذيل الأنفار شكرتها بالطبع ويبدو أن ملكة لاحظت ذلك ، فغمزت لي بعينها الجميلة الشقية ، وأخرجت طرف لسانها مشيرة إلي جارتي .
كانت جارتي أم أحمد تساعد طفلتها ولذلك أصبحت فى ذيل الأنفار ووجدت نفسي أتأخر معها ، وأصبحت أنا الذي أساعدها ومع ارتفاع حرارة الشمس ازداد تراجعنا عن الأنفار وأضحت خطوطنا الثلاثة تشكل مستطيلاً أبيض وسط شجيرات القطن المجموعة حولنا ، فبدأ صاحب الحقل يتذمر ويقول شدوا حيلكم ، ثم بدأ يصيح فى أم أحمد وينبه عليها ألا تأتي بطفلتها بعد اليوم أما أنا فوجدت نفسي فى ورطة حقيقية العرق يتصبب من وجهي ومن أنفى ينزل سائل فأرشف وأمسح فى يدي وملابسي وأتلفت حولي أو أنظر أمامي ويقول صاحب الحقل يا ابني اشتغل والمستطيل الأبيض يزداد طولاً وجارتي أم أحمد تلعن طفلتها والزمن الذي أجبرها علي العمل عند الناس والطفلة تبكي وصاحب الحقل يضرب كفا بكف ، ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم بدأ يترك سائر الأنفار وشرع فى مساعدة جارتي التى بدأت تبتسم لأول مرة وبعد قليل تحولت ابتسامتها إلي ضحك وعندئذ لمحت صاحب الحقل يمد يده إلي جارتي وها هو يقترب منها شعرت بالخجل والغيظ معا ، ماذا أقول ؟ كتمت غيظي ودفنت رأسي فى خطى ، كنت أشعر بقوة خفية تدفعني للابتعاد ، فلم أعد أساعد جارتي وبدأت أسبقها وفكرت فى ملكة وغمزها عن جارتي ويا للمفاجأة بعد دقائق اكتشفت أن خطي شبه مجموع ، لقد كانت ملكة تجمع كل الثمرات التى تميل علي خطها وفي الأمام كان خطي مجموعاً تماماً ، وهكذا وجدت نفسي بجوار ملكة أسبق الأنفار ، وجارتي وصاحب الحقل بعدة أمتار .
شكرت ملكة علي ما فعلته من أجلي ، فنظرت لي وابتسمت : هل كانت تعرف ما يدور بين صاحب الحقل وجارتي ؟ هل أحكي لها ما رأيت ؟
بعد أن تناولنا طعام الغذاء ، استلم كل واحد منا خطه من جديد ، المتقدم متقدم والمتأخر متأخر ، الآن الشمس فى ظهورنا أيضا ، ملكة بجواري نسبق الأنفار – أنا وهي – بعدة أمتار. كنا قد تحدثنا فى أشياء كثيرة فعرفت اسمي وأسماء أخوتي وإخواتي ولماذا أعمل ويبدو أنها كانت تعرف عني أكثر ما أعرف عن نفسي لأنها أكبر مني وحدثتني عن جارتي وصاحب الحقل ، وكانت تفهم ما يدور تماماً ،وانفكت عقدة لساني وتمنيت لو أن المدارس تغلق وأظل أعمل طوال العمر بجوار ملكة ، ووجدتني اختلس النظر إليها من آن لآخر ، بينما تحدق هي فى وجهي ، مع الوقت لم أعد أختلس النظرات وكنا نبتعد مع الوقت عن الأنفار ونوغل فى الابتعاد وعند ذلك قالت ملكه:
أعرف ما سيقولونه عنا الآن وخاصة جارتي وفهمت قصدها، وأحسست برعشة فى داخلي وهممت أن أقبلها ولكني تراجعت ، فقط اكتفيت بالنظر إلي عينيها ، ويبدو أنني أطلت فى ذلك فصاحت تنبهني :
- اللي واخد عقلك .
فقلت فى شرود :
- أنت .
كانت الشمس تميل نحو الغروب ، وبدأت تهب علينا نسائم رطبة ، وقلت فى نفسي ما أجمل الحياة ! كانت ملكة فى ذلك الوقت تجلس وتجر نفسها علي الأرض فجلست مثلها ومن حين لآخر كانت يدي تلمس يدها فأشعر بنشوة وأراها تجفل وتكاد تتراجع أو تقف ، واستمر تلامس أيدينا بقصد أو بدون قصد لا أعرف ، وفكرت فى شئ ، من المؤكد أنه كان تفكير أطفال ، إن أقبلها وأجري ، ولكن أين أجري ؟ علي كل حال لم تواتني الجرأة ، فلم أفعل ذلك .
مع غروب الشمس تماماً انتهي العمل وأفرج عنا صاحب الحقل بعد أن كدنا لا نري القطن بأعيننا تفرقنا وتناثرنا علي السكك الصغيرة بين الحقول ، وبجوار الترع كل إلي بيته وكنت أسير وحدي لا يجوز أن تسير ملكة بجواري ، لأن الناس ألسنتها طويلة أما جارتي وطفلتها فكان علي أن أصطحبهما فانتظرت حتي لحقتا بي وسرت صامتا بجوارهما ، وجهت لي جارتي نظرات عتاب ، إلا أنني لم أعرها اهتماماً ، كنت أفكر فى ملكة والحقل الجديد الذي سنعمل فيه غداً ، لقد اتفقنا ضمنا أن نكون معاً دائماً ، إلا أنني كنت أخشي ألا يحدث ذلك .
فى المساء زارتنا فى البيت جارتي ، فأخذت تحكي لأمي وإخواني كل ما حدث فى الحقل طوال النهار ، ورددت علي لسانها اسم ملكة عدة مرات وكيف ساعدتني ولماذا ؟ وبالطبع لم تذكر سبب توقفي عن مساعدتها .
فكانت تغمز بطريقة مكشوفة عن ملكة ، شعرت بالخجل وضحكت أمي وأخواني ومن ليلتها أصبح اسم ملكة يتردد فى بيتنا ، كلما هم أحد أن يداعبني ناداني باسم ملكة فكنت أضحك في البداية ، ولكن مع مرور الوقت كنت أغضب وأشعر بالغيظ ، تري هل تغضب ملكة إن نادها أحد بإسمي ؟
القصة من كتاب " لن أقلع عن هذه العادة "
قصة قصيرة
د.محمدعبدالحليم غنيم
ملكة هو اسمها ، سمراء ، نحيفة ، تلمع عيناها ببريق شقى ، نهارها فى الحقول بين أعواد الذرة أو شجيرات القطن الخضراء تجمع الحشائش ، أو مغروسة فى الطين بين شتلات الأرز فى المياه الضحلة المائلة للحمرة تقتلع الحشائش، فدائماً هناك عمل .
كنا فى موسم جمع القطن عندما رأيتها لأول مرة وكانت المدارس معطلة من أجل ذلك وكانت فرصة لكي أعمل وأحصل علي قيمة مصروفات الكتب المدرسية وبالطبع مساعدة أمى فى مصاريف البيت.
جمعنا مقاول الأنفار من البيوت المتناثرة بين الحقول فى ذلك الصباح ، وكان قد أكد علينا فى المساء وأعطانا الأجرة ، سرت فى مجموعة من الأنفار إلي الحقل ، استلمنا صاحب الحقل من المقاول ثم صفنا لكل واحد خط ، بحيث تكون الشمس خلفنا ، جاء خطي بجوار خط ملكة ، فكان مكاني بين ملكة وجارتي أم أحمد التى طلبت منها أمي أمس أن تأخذ بالها مني وتساعدنى أن احتجت ، وقبل أن نقطف أول ثمرة قطن مالت علي جارتي وحذرتني من ملكة ، حيث أنها سريعة فى الجمع وسرعتها هذه ستجعلني فى ذيل الأنفار شكرتها بالطبع ويبدو أن ملكة لاحظت ذلك ، فغمزت لي بعينها الجميلة الشقية ، وأخرجت طرف لسانها مشيرة إلي جارتي .
كانت جارتي أم أحمد تساعد طفلتها ولذلك أصبحت فى ذيل الأنفار ووجدت نفسي أتأخر معها ، وأصبحت أنا الذي أساعدها ومع ارتفاع حرارة الشمس ازداد تراجعنا عن الأنفار وأضحت خطوطنا الثلاثة تشكل مستطيلاً أبيض وسط شجيرات القطن المجموعة حولنا ، فبدأ صاحب الحقل يتذمر ويقول شدوا حيلكم ، ثم بدأ يصيح فى أم أحمد وينبه عليها ألا تأتي بطفلتها بعد اليوم أما أنا فوجدت نفسي فى ورطة حقيقية العرق يتصبب من وجهي ومن أنفى ينزل سائل فأرشف وأمسح فى يدي وملابسي وأتلفت حولي أو أنظر أمامي ويقول صاحب الحقل يا ابني اشتغل والمستطيل الأبيض يزداد طولاً وجارتي أم أحمد تلعن طفلتها والزمن الذي أجبرها علي العمل عند الناس والطفلة تبكي وصاحب الحقل يضرب كفا بكف ، ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم بدأ يترك سائر الأنفار وشرع فى مساعدة جارتي التى بدأت تبتسم لأول مرة وبعد قليل تحولت ابتسامتها إلي ضحك وعندئذ لمحت صاحب الحقل يمد يده إلي جارتي وها هو يقترب منها شعرت بالخجل والغيظ معا ، ماذا أقول ؟ كتمت غيظي ودفنت رأسي فى خطى ، كنت أشعر بقوة خفية تدفعني للابتعاد ، فلم أعد أساعد جارتي وبدأت أسبقها وفكرت فى ملكة وغمزها عن جارتي ويا للمفاجأة بعد دقائق اكتشفت أن خطي شبه مجموع ، لقد كانت ملكة تجمع كل الثمرات التى تميل علي خطها وفي الأمام كان خطي مجموعاً تماماً ، وهكذا وجدت نفسي بجوار ملكة أسبق الأنفار ، وجارتي وصاحب الحقل بعدة أمتار .
شكرت ملكة علي ما فعلته من أجلي ، فنظرت لي وابتسمت : هل كانت تعرف ما يدور بين صاحب الحقل وجارتي ؟ هل أحكي لها ما رأيت ؟
بعد أن تناولنا طعام الغذاء ، استلم كل واحد منا خطه من جديد ، المتقدم متقدم والمتأخر متأخر ، الآن الشمس فى ظهورنا أيضا ، ملكة بجواري نسبق الأنفار – أنا وهي – بعدة أمتار. كنا قد تحدثنا فى أشياء كثيرة فعرفت اسمي وأسماء أخوتي وإخواتي ولماذا أعمل ويبدو أنها كانت تعرف عني أكثر ما أعرف عن نفسي لأنها أكبر مني وحدثتني عن جارتي وصاحب الحقل ، وكانت تفهم ما يدور تماماً ،وانفكت عقدة لساني وتمنيت لو أن المدارس تغلق وأظل أعمل طوال العمر بجوار ملكة ، ووجدتني اختلس النظر إليها من آن لآخر ، بينما تحدق هي فى وجهي ، مع الوقت لم أعد أختلس النظرات وكنا نبتعد مع الوقت عن الأنفار ونوغل فى الابتعاد وعند ذلك قالت ملكه:
أعرف ما سيقولونه عنا الآن وخاصة جارتي وفهمت قصدها، وأحسست برعشة فى داخلي وهممت أن أقبلها ولكني تراجعت ، فقط اكتفيت بالنظر إلي عينيها ، ويبدو أنني أطلت فى ذلك فصاحت تنبهني :
- اللي واخد عقلك .
فقلت فى شرود :
- أنت .
كانت الشمس تميل نحو الغروب ، وبدأت تهب علينا نسائم رطبة ، وقلت فى نفسي ما أجمل الحياة ! كانت ملكة فى ذلك الوقت تجلس وتجر نفسها علي الأرض فجلست مثلها ومن حين لآخر كانت يدي تلمس يدها فأشعر بنشوة وأراها تجفل وتكاد تتراجع أو تقف ، واستمر تلامس أيدينا بقصد أو بدون قصد لا أعرف ، وفكرت فى شئ ، من المؤكد أنه كان تفكير أطفال ، إن أقبلها وأجري ، ولكن أين أجري ؟ علي كل حال لم تواتني الجرأة ، فلم أفعل ذلك .
مع غروب الشمس تماماً انتهي العمل وأفرج عنا صاحب الحقل بعد أن كدنا لا نري القطن بأعيننا تفرقنا وتناثرنا علي السكك الصغيرة بين الحقول ، وبجوار الترع كل إلي بيته وكنت أسير وحدي لا يجوز أن تسير ملكة بجواري ، لأن الناس ألسنتها طويلة أما جارتي وطفلتها فكان علي أن أصطحبهما فانتظرت حتي لحقتا بي وسرت صامتا بجوارهما ، وجهت لي جارتي نظرات عتاب ، إلا أنني لم أعرها اهتماماً ، كنت أفكر فى ملكة والحقل الجديد الذي سنعمل فيه غداً ، لقد اتفقنا ضمنا أن نكون معاً دائماً ، إلا أنني كنت أخشي ألا يحدث ذلك .
فى المساء زارتنا فى البيت جارتي ، فأخذت تحكي لأمي وإخواني كل ما حدث فى الحقل طوال النهار ، ورددت علي لسانها اسم ملكة عدة مرات وكيف ساعدتني ولماذا ؟ وبالطبع لم تذكر سبب توقفي عن مساعدتها .
فكانت تغمز بطريقة مكشوفة عن ملكة ، شعرت بالخجل وضحكت أمي وأخواني ومن ليلتها أصبح اسم ملكة يتردد فى بيتنا ، كلما هم أحد أن يداعبني ناداني باسم ملكة فكنت أضحك في البداية ، ولكن مع مرور الوقت كنت أغضب وأشعر بالغيظ ، تري هل تغضب ملكة إن نادها أحد بإسمي ؟
القصة من كتاب " لن أقلع عن هذه العادة "