توشيكي أوكادا - الإفطار.. قصة قصيرة - ت: إبراهيم جركس

Toshiki Okada.jpg


كانت زوجتي أريسا على متن طائرة متّجهة إلى طوكيو، لكننّي لم أكن على علمٍ بذلك لأنها لم تخبرني، فنحن لم نرَ بعضنا منذ أكثر من عام، وكان السبب الرئيس لقدومها إلى طوكيو هو رؤيتي، للتحدّث معي بأمور معيّنة، ومع ذلك، لم تنطق بكلمة بشأن قدومها. أعرف ما كانت تفكّر به، كان بإمكانها الاتصال بعد وصولها إلى المطار، وأياً ما كانت المشاريع والخطط التي لديّ فعليَّ تأجيلها..

بالتأكيد هذا ما كنت سأفعله، فأنا من ذلك النمط من الرجال، إذا تطلبت رؤيتها مني ذلك. وقد كانت على حقّ، فقد ذهبتُ، بعد منتصف الليل، إلى فندقها في شينجوكو، لرؤيتها. ولم أكن منزعجا لكونها قد تحكّمت بي بهذا الشكل. فقد قالت بأنها ليس لديها سوى سبع عشرة ساعة في طوكيو، إذ عليها أن تكون على متن الطائرة ظُهرَ الغد، فأي خيار كان لديّ؟
كانت الطائرة قد بدأت بالهبوط منذ فترة. فلاحظت هبوطها أكثر فأكثر، إذ كانت جالسة في مقعد قريب من النافذة بجانب الجناح، محدقة عبرها إلى الخارج. كان النور معتماً والليل ينجلي عن سماء طوكيو، لكنني كنت أركب قطار الأنفاق، منكفئا قليلاً، وكذلك ذاك النور، لا أكاد أشعر بالنور في طوكيو على الإطلاق، ولا أشعر بأي جمال في النور، لكنّ هذه المرة كانت واحدة من تلك المناسبات النادرة التي استطعت فيها رؤية جمال وروعة النور، إلا أننّي لم أكن موجوداً فيها لأشاهد ذلك. غيوم مائلة إلى اللون الأرجواني تتناثر تحت مرأى أريسا، مغطيةً السماء بكاملها، تبدو مستوية بطريقة تحبس الأنفاس من الأعلى، لا تكاد ترى فيها واديا ولا تلّة، محوِّلةً ذلك المدى المحدود من ألوان الأرجوان ظلالاً متفاوتة. ولـمّا كانت الغيوم تغطّي كل شيء، جاعلة تضاريس الأرض تمّحي، فقد سهّل لها ذلك عملية الاستغراق في التفكير كما كانت تفعل دوماً، لتشعر بأنّها محقّة، هنا كان الدليل على ذلك، وكانت تفكّر بأنّه كان حقيقياً، طوكيو لم تعد موجودة، كل تلك الغيوم يمكن أن تتلاشى وتختفي إلى العدم في الحال وطوكيو لا تكون موجودة تحتها. كان هذا النمط من التفكير قد تحوّل إلى عادة بالنسبة إليها، هكذا كانت ترى الأمور، فقد أخبرتني في أحد الأيام، على نحو غير متوقع، بأنها لم تعد قادرة على ذلك بعد الآن، لا تقدر أن تعيش في مدينة لا تبعد سوى 250 كيلومترا عن فوكوشيما وكأنّ شيئاً لم يكن، لم تعد قادرة على البقاء بجوار أناس لا مشكلة لديهم في ذلك، يقومون بأعمالهم اليومية الاعتيادية، يقضون حياتهم، وأنّها إذا ما اضطُرّت إلى الاستمرار بهذه الوتيرة فستفقد عقلها حتى قبل أن يُنهِك ذلك جسدها، وقد أخبرتني بعد ذلك بفترة قصيرة بأنّها ستغادر طوكيو، وقد غادرَتها، لذا كان زواجنا قد انتهى أساساً. بالنسبة لها، كانت طوكيو قد انتهى أمرها، لكن فقط لأنّها قد أحبّت المدينة، عاشت فيها، ولو لم يحدث أيُّ شيء من ذلك لكانت قد بقيت فيها، لأنّ من المؤلم جداً إدراك حقيقة أنّ طوكيو لم تعد تلك المدينة – هي المنزل، لهذا السبب – ومن دون وعي منها، وبطريقة نصف شعورية – قلبت مفتاحاً في رأسها، وبدّلت شيئاً بآخر بشكل هادئ، جاعلة المسألة تبدو بأنّها تتعلّق بالمدينة، مسألة اختفاء مدينة طوكيو. أو ربّما ظنّت، أقنعت نفسها، ليست المدينة وحدها قد انتهى أمرها، بل حتى وإن نجت بقعة منها، فقد باتت مسكونة بالأحياء الأموات (الزومبي) – أناس ليسوا أحياء تماما ولا أمواتا تماما.
لذا لم يكن بوسعها مقاومة الشعور بالفزع، الآن باتت طوكيو قريبة جداً. وكان هناك شيء في منتهى الغرابة على وشك الحدوث، في النهاية، فقد جاءت إلى مدينة غير موجودة بالنسبة إليها، وستقضي فترةً من الوقت هناك، حتى وإن كانت لا تتجاوز السبع عشرة ساعة. كان عليها مواجهة الحقيقة الصارخة للمكان، أناس يذهبون ويجيئون، أناس يعتبرون حياتهم ومجيئهم وذهابهم من البديهيات والمسلّمات، في مدينة يجب ألاّ تكون موجودة أصلاً. لذا كانت تشعر بالفزع. هل يعقل أنّها – بالرغم من كل هذا الواقع – تعتبر جميع هؤلاء الناس من الزومبي؟ كلا، هذا ليس صحيحاً البتّة، لا ينبغي أن أقول هؤلاء الناس، بل عليّ القول نحن، تلك كانت المسألة، هل يمكن أن تتعلّق أريسا بافتراضها – خلال الساعات السبع عشرة التي قضتها في طوكيو – بأنّنا من الزومبي، هل لديها تلك المثابرة، العناد، قوّة الإرادة للتعلّق بتلك النظرة بغضِّ النظر عمّا كانت قد شاهدَته ورأته وشعرَت به؟ هي نفسها كانت واثقة بأنّها قادرة على ذلك، وهذا لن يكون صعباً، فهي ليست سوى سبع عشرة ساعة، وهي مقتنعة بذلك. لو أني عرفت بأنّها متوجّهة إلى طوكيو، ولو عرفت أنّ رأيها في طوكيو بأنّها مجرّد مدينة للزومبي، لرغبت عندئذٍ في معرفة هل هذا هو رأيها فيّ أنا أيضاً. هل يمكن أن تكون قد استثنتني؟ يمكنني الافتراض بأنني كنت زومبيا أنا الآخر بالنسبة لها.
كانت الطائرة تنزلق على سجّادة السحب، ثمّ غاصت فيها. بدأ جسم المركبة يرتجف، كما توقعت أريسا. لكنّ هذا الاهتزاز لم يُشْعِر أريسا بالخوف اطلاقا. فقد كانت هناك ثلاثة مقاعد في صفّها، وكان الكرسي في المنتصف شاغراً، أمّا المقعد الآخر فكان يحتلّه رجل أعمال ظل يحدّق أمامه مباشرةً وبشكلٍ غير مبالٍ على مسند المعقد الذي أمامه، وفي الصَّينية التي انقلبت أمامه لتتحوّل إلى طاولة صغيرة أثناء تناول وجبات الطعام مثبّتة على ظهر المقعد. شعرَت أريسا بأنّ الاهتزاز قد أفقده أعصابه. كانت ترى أنّه يحاول ان يكتم خوفه. لم تكن تشعر بأنّها متفوّقة عليه، بل على العكس تماماً، لقد أشفقَت على نفسها لشجاعتها. انبثقت الطائرة من بين الغيوم، وها هي أخيراً طوكيو، امتداد لانهائي من البنى والهياكل التي بناها الإنسان، تغطّي كل شيء، مفترشة الأرض في الأسفل. أضواء إصطناعية في كل مكان، على الأرض، وفي المباني الشاهقة. تزداد أعدادها مع هبوط الليل، أكثر فأكثر، وتنتشر. إن أنهار أضواء السيارات الأمامية الصفراء والخلفية الحمراء التي تنساب مقابل بعضها الآخر على طول الشوارع والطرقات العامة لا بد أن تكون قد أثبتت لها أنّ طوكيو تعجّ بالحياة، تعمل على نحو ممتاز، دورتها الدموية تدور على أحسن ما يرام، لقد كانت تتنفّس، حتى حجابها الحاجز كان يتمدّد ويتقلّص. لكنّ أريسا أقنعت نفسها بأنّ هذا ليس حقيقياً، قد تبدو المدينة هكذا من السماء، لكنّ المظاهر خادعة، فطوكيو لم تكن سوى قوقعة فارغة، غرف نوم مهجورة، ومكاتب فارغة مُنارة بمصابيح ضوئية، سيارات تسير عن طريق الحواسيب، مدينة للأحياء الأموات.
ما إن لامست إطارات الطائرة أرض المطار محدثة صدمة خفيفة نتيجة احتكاك الهبوط، حتى انتاب أريسا نوع من مشاعر الاستكانة، شعور أقوى بكثير من أي شيء اختبرته في السابق، إدراك حقيقة أنّها قد وصلت إلى طوكيو بالفعل. جلست مذهولة، جوفاء، في الوقت الذي أخذت فيه الطائرة تسير ببطء على عجلاتها نحو البوابة. ارتجّت الطائرة ثمّ توقّفت وفجأةً قام جميع الركّاب من مقاعدهم، كان الجوّ في المركبة يغلب عليه طابع التململ شبيها باللحظة التي تسبق انطلاق سباق الماراتون، لكنّ أريسا لم تكن في عجلة من أمرها لدخول طوكيو، فقد كانت بحاجة لتجهّز نفسها، كان عليها وضع سمّاعاتها الأذنية – وهي أداة تقلّل الضجيج. لم تكن تتصوّر نفسها مندفعة إلى طوكيو من دون سماعات للأذن. لذا قامت بانتقاء زوج جيد من السمّاعات قبل القدوم، كانت بحاجة إليهما كأداة للحماية على أقل تقدير. الأفضل لو أني لم أعرف أنّ تلك السماعات كانت تستخدم كأداة للوقاية. إذ لم أكن لأبالي لو أنّها وضعتهما بدون أن تخبرني عن ذلك، كنت أنا بدوري أضع سمّاعتي الآن – ومن لا يضع سمّاعات للأذن؟ طوال الوقت، مذ تمّ وصل الجسر بالطائرة وفتح بوّابتها، مع بدء تجمّع الركّاب وخروجهم على مهل من باب المقصورة، كانت أريسا موصلةً سمّاعتي أذنيها بجهازها النقّال من نوع الآيفون. كانت تخزّن فيه الكثير من الموسيقى، أغانٍ يابانية فلكلورية وموسيقى روك من فترة سبعينيات القرن الماضي. أكثر بكثير ممّا تتطلّبه سبع عشرة ساعة، ولا داعي للقلق بشأن ذلك. أذناها، وبالمجمل وجودها بأكمله، محميّتان بالموسيقى، لذا خاطرت بالدخول إلى المطار. ستتوجّه من هنا إلى مركز المدينة. سترسل لي رسالة نصية قصيرة بعد ذلك بقليل، وقد قرّرَت أن تخبرني بأنّها في طوكيو. ستتّصل بي، تلتقي بي، تجلس قبالتي، تعيش اللحظة معي أنا الإنسان الحقيقي والحي وتنظر إلى وجهي، تحدّق في عيني، وسنؤكّد لبعضنا البعض، نهائيا وعلى نحو حاسم، أنّ علاقتنا قد انتهت، هذا بالضبط ما كانت تريده هي. وما إن تفعل ذلك، حتى لن يعود لديها أي سبب للعودة إلى طوكيو ثانيةً، ولن تفعل ذلك على الأرجح بقيةَ حياتها.
كان المطار يعجّ بالناس، أناس حقيقيين وأحياء، لم يكونوا أمواتاً أحياء، بل كانوا يجلسون على المقاعد في منطقة الانتظار بانتظار انطلاق رحلاتهم، وكانت الأضواء الزرقاء والبيضاء تنعكس على وجوههم وهم يحدّقون في شاشات حواسيبهم المحمولة، وكانوا يأخذون سنة من النوم. كانوا يتوقّفون عن السير ويقفون على الممشى المتحرك لينقلهم، أو يخطون جانباً متخطّين صفوف الناس. يأكلون أرز كاري وتيمبورا أودون، ويشربون الجعة في كؤوس ورقية وشايا أخضر من قوارير بلاستيكية. يتواصلون مع بعضهم بعضا عن طريق الهواتف النقّالة. جميع هؤلاء الناس كانوا حقيقيين، أحياء، بالتأكيد كانوا كذلك، لكنّ رؤيتهم هنا أمامها كانت أشبه بكابوس مريع. جزئياً كان ذلك بسبب أعدادهم الهائلة، والأكثر من ذلك، ذلك الشيء الذي تغلغل في داخلها، في جسمها وقلبها، ذلك الشيء الذي استنزف ببطء شديد الحرارة من جسدها وعقلها، والذي أدّى بها إلى السكون، كان شيئاً آخر، كان، قبل كل شيء، سيلَ الإعلانات التجارية. ملصقات ولافتات ضخمة، ذلك النوع المعتاد من الإعلانات، كان هناك الكثير منها، لكن كان هناك أيضاً التشكيلات الجديدة التي أسرت عينيها، رسائل على شكل كلمات وصور ورسومات تمّ لصقها مباشرةً على الجدران والأرضية والأعمدة في جميع أرجاء المطار، على جوانب الدرج المتحرّكة، مثل هذه الإعلانات هي التي كانت قد أشعرتها بالقمع، لأنّها كانت أكثر إتخاماً وأكثر شراهة من النمط القديم من الإعلانات. اعلانات اعتصرها كاتبوها بعد جهد كبير من أدمغتهم المرهقة فأتت نتاج عملية ابداعية رثة. ما المغزى من ذلك، سألت أريسا نفسها، فهؤلاء الناس الذين ينظرون إلى تلك الإعلانات جميعهم من الأحياء الأموات على أيّة حال. ثمّ هناك المخازن، أماكن تحاول بيع طعام أو مشروبات أو تذكارات أو دواء، أي شيء، أي شيء، منتشرة في جميع أرجاء المطار، الأضواء التي كانت تتألق في هذه الأماكن، مصابيح خاصّة خلقت مزاجاً معيّناً، دخلت في مجال رؤيتها رغماً عن إرادتها، هذا ما جعلها تتذكّر، بشكل تدريجي، مع سقوط الضوء عليها، هذا الشعور، نعم، ذلك هو شعور المرء عندما يكون في طوكيو. هذا الإدراك لنقطة معيّنة في قلوب الناس بأنّ هذه الإعلانات جذّابة لها، ومصمّمة بدقّة لإصابتها، محاولين حفر طريقهم إليها… نعم، ذلك هو الشعور بالضبط. أنت تشعر به في المطار لأنّه هكذا هي طوكيو، المدينة نفسها، لكنّها تظهر بشكل مركّز هنا. عاشت أريسا في طوكيو حتى فترة قريبة لذا كانت تعرف جيداً هذا الشعور، لم تكن قد نسيته، حتى بعد مرور ثلاث سنوات على مغادرتها، وهذه فترة قصيرة بما يكفي لوصفها بـ”القريبة”.
أدركت أريسا أنّها تشعر بأنّها متعبة على نحو من الأنحاء، كان ذلك جرّاء السفر، كانت تشعر بالإرهاق، لكنّها لم تميّز أكان إرهاقا جسدياً أم عقلياً، ولم تلاحظ ذلك إلا بعد خروجها من الطائرة باثنتي عشرة دقيقة، أثناء انتظارها في محطة قطار الأنفاق للقطار الذي يربط ما بين المطار ووسط المدينة. وصل القطار، فُتِحَت الأبواب، دوّى صوت من المكبّر يعلن عن أمور معيّنة، لم تفهم ما الذي يقوله المعلن لأنّها كانت رافعةً صوت الموسيقى ولم تشعر بأي دافع يدفعها لتركيز انتباهها. قفزت إلى داخل القطار، حيث أنّها جُذِبَت بنوع من الجاذبية، هكذا بدا الأمر، وأجلست نفسها عند نهاية المقعد السابع، رامية ثقل جسدها المتعب على السور. وضعت حقيبتها الصغيرة عند قدميها، وأحنت ذراعيها، كانت تتمنّى الذهاب مباشرةً إلى فندقها في شينجوكو، وهو فندق مرتفع معروف بإطلالته العالية والرائعة، تثبّت حجزها، تتمدّد على السرير، وأي شيء سوى ذلك لن يحبط هدفها من هذه الرحلة، فهي لم تأت إلى هنا لترتاح وتسترخي. وإنّما جاءت لتفعل ما ينبغي عليها فعله، لتراني، بمعنى آخر، لنتحدّث بأمور معينة. هذا لا يعني أنّ الحديث سينتج عنه الكثير، إنّما نحن نعلم مسبقاً كيف سينتهي، فنحن لن نعود إلى حياتنا القديمة معاً. قَدِمَت أريسا إلى طوكيو لتؤدّيَ نوعاً من الطقوس. طقس ضروريّ، ومع أنّه ربما لا يوجد طقس غير ضروري، إلا أنّه لابدّ من تأديته لأنّ هذا هو ما يعنيه الطقس. ستلبث في طوكيو سبع عشرة ساعة فقط، وستمضي تلك الفترة من دون أن تنام، إذ سيكون بوسعها النوم قدر ما تشاء بعد أن تغادر. قرَّرَت أن ترسل لي رنّة قبل أن يبدأ القطار بالتحرّك. لذا أوقفَت الموسيقى للحظة، قطعت سيل الأصوات الذي ينساب إلى أذنيها، لكنّني كنت قد غفوت قليلاً، ولم أدرك بأنّها قد اتصلت بي إلا بعد عدّة دقائق. كانت تلك عادتي، ولعدّة سنوات، حالما أصحو، أتلمّس هاتفي الخليوي في جيب سترتي، أخرجه، وأحدّق بالشاشة. كانت قد وصلتني رسالة من رقم لم أتعرّف عليه، لم أكن أعرف متى غيّرت أرقامها، لكنّ هذا الرقم الآن هو رقمها، كانت قد تركت رسالة صوتية، كانت هي، صوتها. قبل أن تُغلَقَ أبواب القطار، قالت في رسالتها: “آه، مرحباً، هذه أنا، أعلم أنّ هذا غريب جداً لكنني في طوكيو الآن، وآمل أن نلتقي، في الواقع سأغادر غداً، في وقت الغداء تقريباً، لذا كنت آمل أن أراك قبل ذلك، قبل أن أرحل”، وقد ضحكت تقريبا عندما تصوّرتني، كيف سأجفل عندما أسمع رسالتها هذه، جاءتني فجأة ومن رقم مجهول. لكن ما كان عليها أن تضحك، إذ أنني لو سمعت ضحكتها في الرسالة الصوتية لكنتُ ظننتُ بأنّها تمازحني، تتلاعب بي، وأنّ هذا الاتصال ليس سوى مقلب. لقد تفاجأت برسالتها، كنت متفاجئاً بقدر ما توقّعتني هي، لاشكّ في ذلك. كانت الموسيقى في هاتف أريسا ما تزال في وضع التوقّف المؤقّت لأني أعدّتُ الاتصال بها فوراً. لكن عندها كان القطار يتحرّك، ولم يسعها الرد عليّ، فذلك يُعدُّ عملاً فظّاً في قطار بطوكيو. ومع أنّني كنت، أنا نفسي، في قطار الأنفاق، وكنت أتّصل بها، فلم أبالِ. سمعتُ هاتفها يرن، لا أعرف كم مرّة، ثمّ صدر ذلك الصوت الذي يطلب مني ترك رسالة صوتية، لذا فقدتُ الأمل، وأغلقتُ الهاتف. بعد ذلك بعشر ثوانٍ، تابعت الموسيقى التي كانت واقفةً في جهازها الآيفون – موسيقى روك يابانية تمّت تأديتها وعزفها منذ ما يزيد على قرابة ثلاثين عاماً – من النقطة التي توقّفت عندها. كانت تعلم بأني سأتصل بها مجدداً.
بطريقة ما شعرَت أريسا أنّ من الخطأ الاتصال بي حالاً فور وصولها إلى طوكيو. أو حتى وضع خطط، تحديد موعد ومكان لقائنا. شعرَت بالسعادة عندما اتصلَت بي ولم أردّ. كانت تحتاج للمزيد من الوقت، نصف ساعة، للتجوّل وحدَها. أو بالأحرى، لم تكن تريد السير فعلاً لكنه بدا الشيء الصحيح للقيام به، لم تكن رغبة نابعة من الداخل إنّما شعورٌ بالضرورة، التزام نوعاً ما. وبجانب أنّها كانت لديها فكرة، كانت ستنزل من القطار في شينباشي، سيتوقف القطار هناك، وكانت شينباشي واحدة من تلك المناطق النمطية في طوكيو. كانت ترغب في التجوّل في أماكن كهذه، طوكيو النمطية، كسائح أجنبي غريب يزور المكان لأول مرة أو للمرة الثانية، لأنّها ربما لن تكون لديها فرصة أخرى لفعل ذلك. لرؤية الناس الذين يعيشون هنا، فسكّان طوكيو حقيقيون، وليسوا مجرّد أحياء-أموات إطلاقاً، وتسجيل الذكرى داخل عقلها. طالما أنّها حجبت الأصوات بموسيقاها، فبإمكانها تحمّل الأمر. وعندما كان القطار ما يزال على بعد سبع دقائق عن شينباشي، تلقّت اتصالاً آخر مني، لكنّها لم تُجِب في هذه المرة أيضاً.
أوّل شيء فعلته أريسا بعد نزولها من القطار على المنصّة كان أن رفعت صوت الموسيقى، والشيء الثاني كان الضغط على مقبض حقيبتها المدولبة. لم تكن شينباشي مزدحمة، ليس كفاية لأن تجعل من عملية جرّ حقيبة مدولبة عذاباً مؤلماً. لكن على طول الشارع الرئيسي، وحتى على الطرقات الجانبية، كان هناك – نعم، بإمكانك قول ذلك – عدد من الأضواء الكهربائية المنيرة، حتى الآن. نقاط من النور تشكّل أجزاء من كلمات، أجزاء من شعارات، أجزاء من خلفية متلألئة، كل هذه الإضاءة، حتى الآن، هنا في طوكيو. ومع ذلك، كان ذلك مختلفاً تماماً بشكلٍ ما، كما لم يكن من قبل، عندما كانت تعيش هنا، عندما كانت تقطن في هذه المدينة من دون أن تفكّر بأي شيء من ذلك، بدا أنّ الأضواء هنا أقلّ بقليل ممّا كانت عليه في السابق، قالت في نفسها، ربمّا كان الناس هنا يحاولون التقليل من استهلاك الطاقة، أو ربما لا، ربّما بدا الأمر كذلك لأنّها تغيّرت هي نفسها. امرأة في فستان أسود ضيّق لدرجة أنّه يظهر تضاريس ظهرها وقفاها الكبيرة البارزة، قدماها تنتهيان في حذائها ذي الكعب العالي. خادم المصعد في المرآب يجلس على كرسي مصنوع من الأنابيب، واضعاً رجلاً فوق أخرى، يدخّن، يراقب المرأة ذات الفستان الأسود، وكان لزاماً عليه أن يكون محترفاً. منفضة للسكائر بجانبه. وخلفه مساحة واسعة بحجم مرآب تتخلّلها طاولتان دوّارتان على الأرض، كل طاولة تتّسع لاحتواء سيارة واحدة، وخلف كل طاولة بابٌ كهربائي يوصل السيارة إلى منصّة دائرية حتى ترفعها إلى داخل المبنى، حتى تتوقّف المنصّة الدائرية وتركن السيارة. كانت الطاولتان الدائريتان موازيتين للأرض لكنهما مفصولتان عنها، كانتا تدوران لوحدهما وباستقلالية، وكان ذلك يتطلّب طاقة كهربائية، هاتان الطاولتان الدائريتان اللتان كانت تديران السيارات لمواجهة الأبواب قبل إدخالها، وللدوران بالسيارات من الأبواب نحو الشارع عندما تخرج. أرادت أريسا أن تعتقد أنّ كل ما هو أمامها قد أُعِدّ كخشبة مسرح، وأنّ هؤلاء الذين أمامها إنما هم ممثلون، كل واحدٍ منهم يؤدي دوراً، وشعرت بالدهشة لمدى العلاقة بين هذا الإحساس وبين تسلّل الموسيقى إلى داخلها عن طريق سماعات أذنيها. في تلك اللحظة أصدرت معدتها صوتا. لم تسمع الصوت، لكنّها شعرت به. كانت قد قرّرت ألاّ تفعل أي شيء تسد به جوعها، أن تتجاهله، فهي لن تأكل شيئاً في طوكيو. أنا الوحيد الذي لم أكن أعلم بذلك، لذا عندما تمكّنتُ من التحدّث معها أخيراً، وكنت متوجّهاً إلى شينجوكو، حيث كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، وكنت قد افترضت أنّنا سنتناول بعض الطعام، ونشرب شيئاً ما، فنحن، بعد كل شيء، كنّا متزوّجين، ولم يرَ أحدنا الآخر منذ أكثر من سنة. قاطعَت موسيقاها مرةً أخرى عندما اتصلتُ بها هذه المرة، مع أنّ هواتف الآيفون لا تقطع الموسيقى بطريقة فجّة، بل إنّها تُخفِتُ صوت الموسيقى تدريجياً، حتى تنقطع، هذا ما يحدث، ثمّ تسمع الرنين.
إنّهم يقدّرون ذلك النمط من التدفّق السلس، ومع ذلك، حتى وإن كان يستمرّ لثانية واحدة، فقد كان عليّ أن انتظر ثانية أخرى، لكن ربّما كان هذا الوقت يستحقّ ذلك، لأنّها فتحت الخط أخيراً، وكنّا نتحدّث. في أي مكانٍ في طوكيو أنت؟ سألتها، فقالت: شينجوكو، لماذا كذبت عليّ؟ لم يكن هناك أي سبب، بل آلمها أن تشرح لي بأنّها في شينباشي، وأنها في طريقها إلى شينجوكو بأيّة حال. كان عليّ أن أعود للمكتب، فقد كان لديّ عمل في ذلك اليوم يحتاج مني قرابة الساعة، لكن بعد ذلك، حوالي الساعة التاسعة، سأكون متفرّغاً. أخبرت أريسا بذلك، وأخبرتني بأنّها ستكون مشغولة إلى ما بعد الحادية عشرة. لم يسعني تصوّر ما كانت ستفعله، أو بالأحرى كنت أعرف أنّه ليس لديها ما تفعله، لكنّني تركتها وشأنها.
أوقفت أريسا سيارة أجرة. لم تكن تطيق ركوب قطار آخر، لم تكن تطيق الفكرة، لم تكن تهتم لو كلّفها ذلك عدّة آلاف من الينّات، فقد كانت ستدفع المبلغ، وكانت تحتاج للموسيقى لتنساب عبر سمّاعات أذنيها حتي يكون في مستطاعها تحمّل ذلك. اجتازت سيارة الأجرة حديقة هيبيا، وسارت على طول القناة المائية المحيطة بالقصر الإمبراطوري، واجتازت ساكورادامون، مياكيزاكا. الإعلانات في القطار كانت أكثر بكثير ممّا تطيقه، والنشرة الإعلانية عن شراب المانغو والمعلّقة من السقف كانت هي الأسوأ، تلك البنت في سن المراهقة، مازالت طفلة، ثدياها ناهدان ومنسكبان خارج القطعة العلوية للبكيني الذي وضعوها فيه. نعم، كانت طوكيو كما توقّعتها أريسا تماماً، فقد تطابقت وفق توقّعاتها بالضبط إنّما كانت مروّعة، حقاً، لا شيء كان مختلفا. ومع ذلك، كونها هنا لم يكن بهذا السوء كما كان ليكون، لأنّ الموسيقى على الأقل كانت تُبعد ضجيج المدينة عن أذنيها. ماذا لو أنّها لم تتّخذ هذا الإجراء الصغير لحماية نفسها، الأصوات ستكون هي نفسها أيضاً، فسماع محادثة على متن القطار كان سيجلب لها أسى أشدّ قسوة، فقد استسلمت لإدراكها العميق كم بقيت طوكيو على حالها، الإرادة في التغيير لم تكن قاسماً مشتركاً بما يكفي لتشكّل همّاً عاماً. وفجأةً تتذكّر أريسا أنّها يجب أن تتأكّد من شحن جهازها الآيفون في الفندق. فكل ما لديها من موسيقى مخزّن لملء وقتها سيكون بلا جدوى إذا فرغت بطاريتها من الشحن. منذ لحظة مضت، عندما صعدت بالتاكسي وأخبرت السائق باسم الفندق الذي حجزت فيه، أخرجت من إحدى أذنيها السمّاعة، لكن سرعان ما أعادت إدخالها في أذنها، حتى هنا بداخل السيارة. الموسيقى أيقظت لديها حنينا للمدينة، أغان فلكلورية تعود إلى ما قبل ثلاثة أو أربعة عقود، تلك الأصوات، آلات الغيتار تلك، تلك الطبول، تنتقل عبر المدينة برفقة هذه الأصوات، منتظرةً تغيّر الأضواء، أن تعلق مرةً أخرى في زحمة مرور بطيئة، ثم تندفع في طريق آخر، لقد تمزّق الحنين في صدرها وتلاعب بها. انعطفا يساراً عند هانزومو، وكانا ينحدران نحو شينجوكو دوري الآن، لم يعودا يسيران بمحاذاة القصر، كانت يوتسويا أمامهما، ومع تجاوزهما للتقاطع عند المحطة اشتدّ بها الحنين. إدراكٌ لاستحالة زيارتها لطوكيو من دون تحديد بداية ونهاية إقامتها فيها، شعور بالغضب تجاه الظروف التي ولّدت هذه المشاعر لديها، إحساسٌ طاغٍ بالذنب تجاه طوكيو وكل من عاش هنا، كلُّ هذا التشابك المعقّد من المشاعر كان ينقضّ عليها باستمرار، ويسحقها. شعرت بغضب يائِس تجاه الكيفية التي سحقها بها، لكنّها لم تكن هي من تسبّب في ذلك. ولم تكن غلطتي أنا، أيضاً. كان على أريسا أن تتوخى الحذر، وإلا فإنّها قد تخبرني كم أنّها شعرت بالذنب. رجاءً، رجاءً لا تخبريني، جدي شخصاً آخر تبوحين له باعترافك، اكبتي هذه المشاعر طوال هذه الساعات السبع عشرة ثم اذهبي وبوحي لأحدٍ آخر، أي شخصٍ آخر، خارج طوكيو. لا تدعيني أعرف بأنّك تشعرين بهذه الطريقة، ولو للحظة، فقط تحدّثي معي عمّا يجب أن نتحدّث عنه، لا تراكمي علينا المشاكل، وعندها إذا توجّب عليكِ الرحيل، فاذهبي، هذا كل ما أطلبه، خسارة أريسا كان حَدَثاً مؤلماً بما يكفي، وسيتطلّب الكثير من الوقت لأتعافى، ساعات حزن وأسى مرة أخرى. الآن تجتاز سيارة التاكسي حديقة أخرى، شينجوكو كيون. رفعت مستوى صوت الموسيقى لدرجة أصبح بإمكان السائق سماع شذرات منها وهي تخرج من سمّاعات الأذنين. على ظهر مقعد السائق، كانت معلّقة صورة السائق واسمه ليتمكّن الرّكّاب من رؤيتها، السيد كازاما، قرأَت، ذلك كان اسمه، لم يرد في البطاقة أي ذكر لعمره، لكنّه كان في الخامسة والخمسين، كان بإمكان السيد كازاما أن يعرف من خلال الشذرات الصغيرة من الموسيقى التي سمعها أنّ هذه المرأة كانت تستمع لأغان كان هو نفسه يعرفها جيداً، وكان يسترق من حينٍ لآخر نظرات خاطفة عليها عبر المرآة، لم يسعه منع نفسه من ذلك، بسبب الأغاني القديمة كهذه، كان من غير المتوقع بالنسبة لها نوعاً ما أن تستمع إلى ذلك النمط من الموسيقى، لم تُلقِ أريسا بالاً لذلك، بل قالت في نفسها “سآخذ دوشاً سريعاً قبل كل شيء فور وصولي إلى الفندق، حتى قبل أن أشاهد إطلالة غرفتي، ثم بعد ذلك سأتطلّع إلى الخارج، تُرى هل ستكون لغرفتي إطلالة على إحدى الحدائق التي تجاوزناها، متنزّه هيبيا أو شينجوكو كيون أو حدائق القصر الإمبراطوري الرائعة؟ طبعاً حتى لو كان بإمكاني رؤية إحدى الحدائق، فستكون مجرّد رقعة غريبة ضمن منظر المدينة المتلألئ، فراغ معتم وسط أضواء مدينة طوكيو المتلألئة.
لماذا قد ترغب أريسا بالبقاء في فندق، وذلك الفندق بالتحديد، لم أكد أعرف بماذا أفكّر عندما قالت ذلك، لماذا اختارت مثل هذا المكان الباذخ، إن لم تكن تقصد بذلك نوعاً من الإهانة الماكرة لي؟ جزءٌ مني كان قادراً على النظر في الأمور بموضوعية، وذلك الجزء كان يفهم بأنّها قدِمَت إلى طوكيو وحجزت غرفة في فندق بسبب الشقّة التي أقطن فيها، التي سكنّا فيها، نحن الاثنين، من قبل، والتي ما زلت أسكنها حتى الآن، حيث كنت قد أخذتُ قرضاً واشتريتها قبل سنة من وقوع الزلزال، لقد كان أمراً محتوماً، لم يخطر في بالها ولو للحظة أن تأتي لرؤيتي هناك، وبالتأكيد لم تكن لتقضي الليلة، كان هذا أمراً طبيعياً، وكان من الذكاء فعل ذلك، بالنسبة لكلينا.
كان من المستحيل أن أستقل سيارة أجرة من مكتبي في روبونغي إلى الفندق الذي نزلت فيه أريسا، لأننّي لم أكن مثلها، فبالنسبة إليّ كانت طوكيو هي نفسَها كما كانت دائماً، لا فرق بين أي يوم وآخر، لذلك سلكتُ طريق أويدو، الذي كان يمرُّ عميقا تحت الأرض. وأنا راكبٌ في قطار الأنفاق، وجدت نفسي راغباً في الصراخ بها، تصوّرتُ نفسي أفعل ذلك، ماذا، أتعتقدين أنّك ستكونين بمأمن من الإشعاع إذا أقفلتِ الباب على نفسك داخل فندق ممتاز؟ فلتسمحي لي! أنا أصرخ عالياً، صوتي يدوّي غير آبه بأنّ أحدا ممّن حولنا في بهو الفندق بوسعه ملاحظة ذلك. لكنني عرفت أنّ ذلك بلا جدوى، لا جدوى أبداً، وذلك لم يكن ما كنت أودّ قوله فعلاً. اتصلتُ بها عندما غادرت محطّة توكوماي، وأثناء عبوري لمتنزّه شينجوكو تشو، أخبرتها بأني سأصل الفندق قريباً، وقالت حسناً، سأنزل الدرج خلال لحظة. سألتها: هل أكلتِ؟. فدمدمت بالنفي. سألتها: هل أنتِ جائعة؟ كلا، أنا بخير، لا أحتاج شيئاً. هذا معناه أنّها لم تكن تريد أن تأكل شيئاً خلال إقامتها في طوكيو، كنت أظنّ ذلك، وقد ظننت ذلك بالفعل، لكنني سألتها بأيّة حال.
قالت إنّها ستنزل قريباً، لذا توقعتُ أن أراها خلال دقيقة أو دقيقتين، مع أنني كنت أعرف بأنّها لم تكن من ذلك النوع من الأشخاص، لم يسعني سوى أن أزيد آمالي، لكن في الوقت الذي نزل فيه مصعدها أخيراً إلى الطابق الأرضي وفُتح بابه خرجَت، أريسا نفسُها ولا أحدَ غيرها، كان قد مضى عشر دقائق. لم تكن تضع سمّاعتي أذنيها وقتئذٍ، كانت قد تركت جهازها الآيفون في غرفتها، وضعَته على الطاولة ليشحن. كانت تبدو أنحف من أريسا التي عرفتها، لكنني لم أستطع أن أعرف هل فقدت كمية من وزنها بطريقة صحية أم غير صحية، أو بالأحرى لم أكن أرغب في أن أكون قادراً على معرفة الفرق.
كرهت نفسي عندئذٍ، بالفعل، كوني لم أكن قادراً على استيعاب واقع أنّه لم يكن هناك أي مجال لتدعوني أريسا بأن أصعد إلى غرفتها، لشدَّ ما كان الأمر سهلاً لو أني استطعت استئصال ذلك الجزء مني حالاً. لم يكن يوجد أي عزاء بجلوسي في هذا الفندق الممتاز، فوق أريكة مريحة في البهو، بل كانت كوميديا خالصة، وكنتُ قد شعرت بالسخافة ما إن بدأت أتلمّس إجراء حديث، لكنني لم أكن أملك خياراً، حتى أنا كنت قد تجاوزت منذ زمنٍ بعيد عصر الرغبة في الهروب. اتّخذنا هذا القرار الذي كان علينا اتخاذه، هكذا وبكل بساطة، لم يشكّل عقبة أمام ذلك أي اختلاف في الآراء، وكنا متحمّسَين جداً لإنهاء المسألة. أمّا ما كان يفصل بيننا فهو موقفنا تجاه طوكيو، حقيقة أنّ موقفها قد تغيّر بشدّة في ذلك اليوم.
شقّتي، شقّتي أنا، التي لم تعد شقّتنا نحن الاثنين، كانت داخل المدينة، لذا لم أكن بحاجة لمراقبة الساعة، لأقلق بشأن وصولي إلى المنزل، لكن لم يكن هناك أي سبب يدفعني للمماطلة. جُلّ ما عليّ فعلُه هو أن أجد لحظة مناسبة لإنهاء الحديث ثم أقف، وأغادر. لكن عندئذٍ جاءت هذه اللحظة، فوراً، من مكانٍ ما في الفراغ الذي يفصل بيننا، تلك الدمدمة، سرعان ما عرفت ماهيتها، وأنّها لم تصدر مني بل منها، لا مجال للخطأ. وللحظة بعد أن سمعنا الصوت لم تصدر أي ردّة فعل عن أيٍّ منا، ثم ثقُل الأمر على أريسا، فصدرت نفخة واضحة من الضحك من بين شفتيها، وأخذت بالضحك بقوة، بطريقة مدوّية لدرجة أنّ كل من حولنا، لا هذه مبالغة، بعض من كان حولنا لم يستطيعوا منع أنفسهم من التحديق. أنا بدوري ضحكت أيضاً، ثم وقفنا، نحن الاثنين. عادت أريسا إلى غرفتها في الفندق، وعدتُ أنا إلى شقتي، متوقفاً عند مطعم (سيفن – إيليفن) 7-ELEVENالمجاور للمبنى الذي أقطن فيه لآخذ معي طلباً خارجيا مؤلفا من وجبة باستا وعلبة جعة. في الصباح التالي، ولكن في وقت غير مبكر، غادرَت أريسا الفندق، استقلَّت سيارة إلى المطار. في وقتٍ ما، في مكانٍ ما، ربّما على الطائرة، وربّما بعد أن تكون الطائرة قد بلغت وجهتها الأخيرة، أينما كانت تلك الوجهة، ستتناول أريسا شيئاً ما، لكنّ هذا لم يعد يعنيني بعد الآن.

ترجمة عن الإنكليزية

* هذه الثقصة نشرت لأول مرة في العدد الخامس من مجلة كيكا للأدب العالمي – النسخة المطبوعة، شتاء 2014
 
أعلى