دراسة نافذة مشرعة على القلب للأديب محمد الفاضل . تحليل الأديب القاص الفرحان بو عزة

تحليل لرواية" نافذة مشرعة على القلب"

أول ما فتحت عيني على هذا العمل الأدبي المتميز للكاتب السوري محمد الفاضل ،تلك المقدمة التي كانت من تأليف الكاتب نفسه.

تكمن أهمية هذه المقدمة كعتبة نصية تحيط بالنصوص القادمة كمدخل للرواية، فهي فاتحة لأنها توجد في البداية، وقد أطلق عليها النقاد عدة تسميات :التوطئة ، الافتتاحية ، التمهيد ، الاستهلال، أو التصدير ... وأعتقد أن الهدف من ذلك هو تقديم رؤية عن مسار العمل الأدبي بغية التحفيز والإغراء على تنبيه القارئ إلى دلالات معينة لخصها الكاتب بفنية أدبية متميزة ، ولكي يبعد الكاتب القارئ عن السقوط في رؤية وتفكير مسبق لهذا العمل الأدبي، عمد الكاتب إلى التلميح والإيجاز والإشارة لدلالات ممكنة أن توجه القارئ وتشد انتباهه نحو مضامين النصوص ودلالاتها الخفية . وإن كان هذا العمل الأدبي يقدم نفسه دون اللجوء إلى هذه المقدمة ،يقول جيرار جنيت : إن العمل الجيد لا يحتاج إلى تقديم ..

وعليه فإن كل قارئ لا يمكن أن يتجاهل العتبات النصية للكتاب .فهي تواصل ضمني بين القارئ والكاتب من أجل جذبه وإثارة انتباهه وتحميسه لاكتشاف ممراته المتشابكة، على أن يقارن بعد القراءة بين ما جاء في المقدمة، وما جاء في محتوى العمل الأدبي ليخرج برؤية شاملة وتقييم كامل ..

نافذة مشرعة على القلب /من المؤكد أن الإنسان لا يمكن أن يطل على القلب من أبواب متعددة ومفتوحة دائما، فللقلوب أقفالها ومفاتيحها، فهي متقلبة ومتغيرة في كل وقت وحين. فالقلب هو مركز العاطفة والتفكير والعقل والذاكرة. فهو يفكر ويعقل ويفهم ويتفقه. فالذاكرة قد توجد في الدماغ، والقلب هو المحرك لها..وقد أثبت العلم أن القلب والدماغ يعملان بتناسق وتناغم عجيب، ولو حدث أي خلل في هذا التناغم ظهرت الاضطرابات على الفور . قال تعالى :" لهم قلوب لا يفقهون بها "سورة الأعراف آية 179

أجاد الكاتب لما اختار كلمة "نافذة " ليعبر عن إطلالة محددة من أمكنة متعددة وأزمنة مختلفة ..والواقع إنها ليست نافذة واحدة ، بل هي نوافذ متفرقة ومتباعدة. نافذة على الوطن، نافذة على السيرة ، نافذة على النفس والذات، نافذة على الحس والشعور، نافذة على السلوك والتصرفات، نافذة على أفراد الأسرة ، نافذة على مسار الرحلة خارج الوطن ، نافذة على الغربة وما يعتريها من تغيرات في العادات والتقاليد نافذة على الطبيعة الغربية .....كل هذه النوافذ اجتمعت داخل القلب، ممتدة ومفتوحة .. كان السارد نصب كاميرات متعددة تفتش شغاف القلب وتكشف أسراره وما يتلجلج في خاطره من أمل وقلق، من رفض وقبول، من انفراج وتأزم ، من حب وغيرة، من تغير الحالات النفسية ،وتقلب الوضيعات ...

فالعنوان الرئيس "نافذة مشرعة على القلب " هو عنوان تم اختياره عن وعي وإدراك في محاولة من الكاتب تحقيق ما سيرد في مضامين الرواية .. أما العناوين الفرعية والداخلية / أول العنقود/( وإذا مرضت فهو يشفيني )/ أكون أو لا أكون ( شكسبير )/ يوم الرحيل/ ورقة في مهب الريح/( رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة )/ الوصول إلى السويد/ المفاجأة الكبرى/...../فهي تفتح أفق القارئ لتوقع ما سيأتي للدفع بالقارئ للإمساك بالمعنى الكلي للرواية . كما أنها تشكل دعامات للمتن الروائي يتحسس بها القارئ نبض الكتابة ، ويستمتع بدفء حركة الحياة المنبعثة من العناوين الفرعية قبل التجول بين عمارات النصوص وطوابقها للإطلاع على مسالكها النابضة ..

رواية "نافذة مشرعة على القلب " هي من الخطابات السردية التي تخاطب القلب وتضغط عليه ليبوح بما عنده من مسكوت .. هي خطاب سردي جاءت في شكله السير ذاتي حيث استثمر الكاتب حياته الطفولية ، وما مر بحياة البطل الصغير من أحداث تفاعل معها وخبرها بنفسه . فاحتلت سنوات الطفولة مساحات معينة متباعدة داخل الرواية على مدار أزمنة متقطعة، أي لا تتماشى مع الزمن الخطي، بل تتماشى مع الزمن الشخصي .. بلغة شيقة وسليمة وحكي رصين تتبع الكاتب تلك الترسبات بوصفها مخزونا مؤثرا في حياته الشخصية. حيث عمل على تشغيل ذاكرة القلب متوازنا مع ذاكرة الدماغ لإيقاظ أحداث ماضية بعين الحاضر تطورت لاحقا بتقدم العمر ..

فالكاتب ينقل في حاضره تجربته الحياتية وعالمه الخاص به في ماضيه عبر أسلوب سلس، يتميز بالنقل السردي الصادق ،والحكي الاسترجاعي النثري على أنه شخص واقعي . بعيدا عن فخ توظيف الخيال واختراع أحداث وشخصيات لم تكن من واقعه . ولكي ينج الكاتب من شرك التوهيم وخلق ما لا يمس كيانه ووجوده لجأ إلى ركوب وهج الحقائق في الحكي مع تتبع أحداث معينة، أثرت في شخصيته تأثيرا كبيرا بعيدة عن التلف والتداخل والنسيان.

لقد لعبت الذات الساردة دور الحاكي الواعي الراصد لدقائق الأحداث التي صنعت حياة شخصية تأرجحت بين قيم إنسانية عديدة منها :الحب ،الكراهية ،الغيرة ،القلق التوتر ،عدم الرضا ،قلة الكلام ،البرودة ،سوء الاندماج ،المرض ،التعلق بالوالدين ،بالجدة .. الإحساس بالإهمال إلى جوانب أخرى أثرت في شخصيته: الشعور بالدونية والتهميش والاحتقار ..وعدم الرغبة في التواصل، وعدم التفاعل مع المحيط ....كلها مؤشرات كان يمهد بها الكاتب لأمر ما مفاجئ كعلامات قد تفضي إلى مفاجأة..

الرواية رسمت مسافة زمنية تبتدئ بطفولة في البلد الأصلي ،والبلد الغريب .حيث لعبت الغربة دورا كبيرا في تحويل البطل من شخصية غير مستقرة نفسيا طيلة مرحلة العبور عبور على المستوى الزمن والمكان ، وعبور آخر على مستوى النمو الجسمي والنفسي. فزمن البداية قاس ومؤلم عانى البطل مجموعة من الاضطرابات النفسية يتجاوزها في بعض الأحيان بمساعدة الوالدين والجدة .وزمن النهاية التي تتميز بنظرة الريبة والشك وسوء التكيف في المحيط الجديد "بلد السويد". فرغم محاولات الأب إدماج ولده في المدرسة ،تعليمه ركوب الدراجة ،ممارسة الرياضة... مع جعله متفاعلا مع أفراد آسرته: الأخ الصغير، الأخت سارة، عبد الرحمان ابن خالته، كل ذلك باء بالفشل :" أما هو فيقف منتصبا معتدا بنفسه ، مزهوا مثل الطاووس ، نافشا ريشه مثل الديك ولسان حاله يقول ... أنت فاشل ،" وقد أشار إيريك إريكسون الذي قسم عمر الإنسان إلى مراحل عمرية حسب القضية المحورية لكل مرحلة ،وبناء على نجاح الإنسان في تخطي تلك المهمة أو فشله فإنه يتطور اجتماعيا مستعدا للدخول في المرحلة التالية ، وتسمى هذه المراحل مجتمعة : المراحل النفسية الاجتماعية .

فأحداث الرواية ووقائعها مخزنة في تجاويف الذاكرة ،راكدة ،نائمة تشكلت أثناء مرحلة الطفولة متوازية مع نمو الجسم والنفس .هناك مسافة زمنية بين ما وقع وما حدث ..وبين ما يكتب في الحاضر .فأثناء الكتابة ، كان السارد ينسلخ من حاضره ،ويستحضر ماضيه عن طريق الحفر في العقل والقلب معا. كتابة سردية نثرية تنحو نحو التوثيق والتأريخ لسيرة ذاتية خاصة بالبطل .

نصوص المتن الروائي لا تخلو من أسئلة حارقة كانت تطرح بشكل تلقائي وتميل إلى تفلسف فطري .وكما يقال :شهوة الكتابة تكمن في طرح الأسئلة. يقول السارد: "يا خالق الأكوان ... أنت تعلم سري ونجواي ، لماذا وضعتني في هذا الامتحان الصعب ؟ وهل كتب عليّ أن أكون مثار سخرية الأقوياء ؟ وما الفائدة أن أنجح أو أفشل ، ما المغزى من وجودنا في هذا العالم؟ ولماذا يجب أن يكون هناك رابح وخاسر ؟ أبيض أو أسود ؟ سعيد أو حزين ؟ قوي أو ضعيف ؟ ألا يمكن أن نكون كلنا سعداء ، حتى لو فشل البعض في ركوب الدراجة ، ما المشكلة ؟ أين تكمن السعادة ، وما هي المعادلة الصحيحة ؟ كن بجانبي ولا تتخل عني ، أنر لي طريقي."

رواية جميلة منمطة تحت خطاطة سردية مبنية على التجديد تؤشر على انهيار سرديات روائية السير الذاتية المألوفة لأنها اعتمدت الصدق وكشف الحقائق دون مواراة أو اختباء وراء صناعة أحداث لا تمس كيان البطل ووجوده ، كما أنها ابتعدت عن الخيال كما قلنا سابقا .. فالكاتب محمد الفاضل لم يفسر أو يشرح الوقائع بالتفصيل إلا في بعض الحالات :عندما أصيب بالتهاب شديد في الحلق.. كما أنه ابتعد عن الدخول في مجال علم النفس ليشرح لنا مباشرة مراحل النمو النفسي والجسمي والفكري، ولكنه لمح إلى ذلك خلال مسار الحكي تاركا الفرصة للقارئ أن يعود إلى علم النفس المتعلق بالطفل، والتغيرات التي تحدث للكائن الحي في الجوانب النفسية والجسمية والعقلية والانفعالية والاجتماعية . كما أشار صراحة إلى الاضطرابات التي ظهرت على الطفل في صغره، والذي تحول إلى سارد فيما بعد كعلامات منها : ضعف التواصل وعدم التفاعل الاجتماعي،الانطواء ،الانعزال ،عدم الإحساس بوجود الآخر، والتصرفات المتكررة بدون تطور ..وبذلك يكون الكاتب قد أخر الصدمة لتأتي لوحدها متماشية مع مسار حياة انتهت بالمفاجأة الصادمة."مرض التوحد"..

رواية " نافذة من مشرعة على القلب " هي من روايات الحساسية الجديدة، لأنها جاءت مختلفة ومتناقضة من حيث أدائها الإخباري القائم على المباغتة التي تحرك مخيلة المتلقي من أجل التفسير والتأويل. كما قال الكاتب والناقد محمد أشهبون . رواية قصيرة لكنها ممتلئة بلغ التكثيف قمته يمكن أن تزاحم الروايات الطوال كما زاحمت القصة القصيرة جدا القصة القصيرة .

بوعزة الفرحان /مدينة الفنون: أصيلة/ المغرب
1048-f9a7cd06670048fc2f7636cb9905ff46.png
 

المرفقات

  • mmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmm.png
    mmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmmm.png
    90.7 KB · المشاهدات: 402
أعلى