ل
لا أحد
[SIZE=6]محمد معتصم
سؤال الذات (المعرفة) في الأدب الإيروتيكي [/SIZE]
في تقديمه لرواية ابنة فاني هيل (La fille de Fanny Hill) كتب جون دي كار (Jean des Cars) :" في سنة 1747م ظهر بلندر كتاب سيكسر خلال قرنين ونصف قيود كل رقابة وسينال شهرة كبيرة في كل أرجاء أوروبا. هذا الكتاب يحمل عنوان "مذكرات فاني هيل (Mémoires de Fanny Hill) ويُنْسبُ إلى قلم جريء لديبلوماسي قديم أصبح طفلا سيئا، هو: جون كليلاند (John Cleland)." ص (5).
تصف الرواية، وهي مجموعة رسائل، الحياة الحميمة لفاني (Fanny)، وقد لقي هذا النمط من السرد "الترسلي" إقبالا كبيرا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر بأوروبا. كما ذاع في تلك الفترة في أوروبا نمط الكتابة الإباحية نظرا لدعمها مشروع القراءة وترويج الكتب. وهو ما يشهد عليه الكتاب الذي قدم له جون دي كار.
وتصنف مثل هذه الكتابات ضمن تسميات مختلفة لنوع من الأدب الحميم الذي يحكي الحياة السرية للبطلة (فاني)، لكن دون الإخلال بالخصائص والمقومات التي تحفظ للأدب مكانته: أي دون السقوط في السوقية والابتذال. لذلك يقول الكاتب عن البطلة "إنها بغي لكنها أميرة" (Prostituée mais princesse) ص (7).
ويطلق على هذا النوع من الأدب تسميات ثلاث مختلفة تركيبا لكنها محددة في المعنى:
· الأدب الإباحي. La littérature libertine
· العمل الحر. Ouvres libres
· الأدب الفضائحي. La littérature scandaleuse
إن التسميات تتحد في المعنى المتمثل في كون هذه الكتابات لا تخرج عن فن (الأدب). أي أنها كتابة وأسلوب للتعبير عن حاجة ضرورية في الحياة، لها مقومات بنيوية داخلية ولها أهداف معلنة، ولها موضوع يميزها عن باقي الأنواع المندرجة ضمن فن (مدونة) الأدب، كما لها قراؤها ومحبوها ومشجعوها.
وأهم ما يميز هذه الكتابة كونها كتابة محرمة اجتماعيا وأخلاقيا، أي أنها تمتاز بخاصية الهامش أو بتعبير دقيق تهتم بالحياة الحميمة للبطلة أو البطل (الشخصية المحورية). ويقترن الحميم (L’intime) في الأذهان بالسر.السر الذي ليس سرا في حد ذاته، بل سر من خلال الطبقات التي تراكمت فوقه بفعل الرقابة المتعددة ، والقوانين التي تحده. ويمكن القول بأن السر ليس في الحياة الحميمة بل في سردها، في تحويلها إلى خطاب. الخطاب الذي تأسس حول السر وانتقل به بفعل طبيعي إلى فعل ثقافي. فلم تبق إذن، الحياة حميمة بفعل الخطاب (المكتوب أو الشفهي أو المصور) بل أصبحت شبكة من القيود والتصورات. ولا غرابة في الجمع بين الحياة الحميمة (الجنسية) والمعرفة. وممن ألحوا على هذه العلاقة الكاتب والمحلل النفساني إريك فروم (Eric Fromm). إذ يرى أن المعرفة مرتبطة لدى الإنسان باكتشافه لحياته الجنسية، لكن هذا الاكتشاف لم يكن بدون ثمن. لهذا كانت الخطيئة ثمنا لاكتشاف المعرفة، كما كان العقاب والتعذيب ثمنا لخطيئة بروميتيوس، خطيئة إضاءة عتمة حياة العبيد في قدم جبل الأوليمب، جبل الآلهة، كما تقول الأسطورة.
إذن، فالأدب الإباحي معرفة (فاكهة) محرمة اقترنت بالفضيحة، واقترنت بالهامش، فمن حيث مكوناته البنيوية أدب رفيع أما من حيث موضوعاته فهو أدب مدنس. هكذا يبدو الأدب الإباحي في الخطابات الاجتماعية.
في هذه الدراسة سأعالج الإشكالية القائمة:
- هل هناك معرفة في الأدب الإباحي أم أنه أدب تسلية ومتعة طريق ؟
- هل للأدب الإباحي مقومات بنيوية ؟
- هل للأدب الإباحي لغة تميزه ؟
- هل للأدب جمهوره وكتابه ؟
- ما الرهان الأدبي والثقافي والفكري لكتاب الأدب الإباحي ؟
- كيف ؟ ...
*****************
رواية "برهان العسل" لسلوى النعيمي خطاب تخييلي يندرج ضمن الأدب الإباحي القائم على فرضية (قضية) أساس يمكن صياغتها على النحو التالي:
- هل يمكن الفصل بين الحب والجنس في الثقافة العربية ؟
- هل الحب يعني الجنس في المتخيل العربي الأدبي (الثقافي) والشعبي ؟
- هل يمكن ممارسة الجنس بدون الشعور بالحب ؟
- هل الحب فعل ما ورائي وقَيْدٌ والجنس حرية وتنفيس وإشباع محدود بلا امتداد أو ذاكرة أو حلم ؟
- هل يمكن أن تتحقق الذات في الجنس أم في الحب ؟
- هل الحب يحقق الاكتفاء والتحرر الذاتي أم الجنس فقط من يحرر الذات من التبعية ؟
هذه السلسلة في الأسئلة الإشكالية تحاول الحكاية المحورية (الإطار) في رواية "برهان العسل" البحث لها عن إجابات ممكنة، إجابات سردية تخييلية، لكن خلال البحث لن نعثر على الجواب بل نعثر فقط على الطريق الذي قطعته البطلة وهي تراكم من مراجع ومصادر متنوعة ومختلفة معرفتها الشخصية بالموضوع. معرفة ترتبط بدورها بالفضيحة والسر والهامش والمحرم وبالتحرر واكتشاف الذات.
تقول البطلة:" متى اكتشفت أن فضولي الجنسي ليس إلا فضولا معرفيا ؟". وتضيف:" رغبتي في التعلم هي محركي الجنسي.لا. محركي الجنسي هو رغبتي في التعلم، تعلم الشهوة، اللذة، نفسي، الآخر، العالم". وكذلك تقول:" اقترنت عندي لذة التعلم بلذة الجنس. تداخل مركز اللذة مع مركز المعرفة في راسي وتشابكا معا من دون انفصال". ص.ص (137.136).
هذه الحيرة المنتهية إلى يقين وهذا الشك المنتهي إلى معرفة حقيقية، معرفة ذاتية، معرفة مكتشفة لا مكتسبة، معرفة فطرية حدسية كما يراها (كانْتْ/ Kant). معرفة قبلية لا يعمل (اَلتَّعَلُّمُ) إلا على إجلائها ونفض الغبار عنها. ولا تعمل الكتب القديمة والحديثة إلا على صقلها وتلميعها وتنقيتها من شوائب الاكتساب و"التَّعَلُّمِ" الحذر. تقول البطلة على لسان أخيها:" لا نتعلم إلا ما نعرفه" معرفة قبلية، أو كما يرى (فيخته) :" الذات تكون كل شيء في الوجود" حيث كل ما هو موجود لا شيء غير ذواتنا. وكل معرفتنا إن هي إلا معرفة ذواتنا". ويتخذ مفهوم (التَّعَلُّمِ) هنا ،لدى البطلة، معنى الاكتشاف لا الاختراع والإبداع من عدم. اكتشاف فعل طبيعي وفطري في الإنسان سعت الكتب والقيود الاجتماعية والثقافية إلى تغليفه بخطاباتها المزيفة، وصورها المعتمة فقرنته بالخطيئة الأولى وبالعقاب متجاهلة الوجه الآخر للعملة. أي الحرية. واكتشاف حقيقة الذات. يرى (إريك فروم) أن الإنسان عندما ارتكب الخطيئة الأولى كان هدفه الأول إعلان صوته الشخصي بتكسير القيود التي فرضت عليه. وعندما صرخ بالرفض أدرك وقتها فقط بأنه حر. حر لأن له صوتا يستطيع أن يرفض، صوتا يستطيع أن يختار مصيره مهما كان شاقا وشقيا، صرخةً تنبعث من الداخل لا تفرض عليه من خارج ذاته. في تلك الصرخة تكمن حريته، وفي حريته إرادة الحياة كما هي لا كما رُسِمَتْ له حدودها.
لم يعد الإشكال في الرواية - برهان العسل- محصورا في العلاقة بين الحب والجنس، ولا في أسبقية أحدهما على الآخر، ولا في أيهما الفعل وأيهما المفهوم، لأن الحب تسمية للجنس، ولأن الجنس واقع أو دليل وبرهان على الحب. ولأن البطلة تكتشف أنها عالقة في شباك حب (المفكر) بعد رحيله. تقول البطلة تلميحا :" بعد سنوات من رحيل المفكر كففت عن المقاومة واعترفت..." ص (146). لكن أصبح الإشكال في الرواية التعرف على الذات. كيف يمكن للإنسان أن يتعرف على ذاته، جوهره، رغبته، وميله، على حاجاته الجسدية والجنسية، وعلى حاجاته الروحية ؟ هل يمكن التعرف على الذات في مرآة الآخرين أم في مداد الكتب ؟ هذه إشكالية حقيقية في رواية "برهان العسل" للكاتبة سلوى النعيمي.
تطرح الرواية مجموعة متنوعة من المصادر والمراجع والدوافع التي شكلت معرفة ذات البطلة ومتخيلها واختلافها وحريتها وصرختها، ومنها: كتب الجنس القديمة العربية، والتجارب السريرية والسرية، والهوس بالحكايات ثم لاحقا المجلات البورنوغرافية (مجلات الخلاعة) عندما سافرت البطلة إلى مدينة باريس.
ويظهر الإشكال عندما تنتهي البطلة إلى الخلاصة التالية :" ستكون هذه الفكرة هي نهاية دراستي. سأقترح إعادة نشر هذه الكتب مرات ومرات، توزيعها، تعميمها، تدريسها." ص (128). فهل هذه الخلاصة اقتراح لبداية "تربية جنسية" سليمة للإنسان العربي، وتخفيف للمتخيل العربي من ثقل الأوهام والاستيهامات التي أنشأتها الخطابات الثقافية والشعبية وأدبيات الاستعلاء ؟ إذا كان الجواب بالإثبات فأين تضع البطلة التجربة كممارسة وكمدرسة واقعية تجلي المعرفة وتصقل معرفة الذات بالذات ؟ تقول البطلة :" نعم. بدأت تربيتي الجنسية كتابية وسينمائية: الروايات والمجلات والأفلام والمسلسلات. الجنسية ؟ لأقل العاطفية، مع جرعات من ثقافة جنسية عملية ومعرفة نظرية عربية تراثية. أفلام البورنو وكتب الجنس ومجلاته لم أعرفها إلا بالفرنسية بعد سفري إلى باريس." ص (127).
وتسمي البطلة الكتب العربية القديمة معرفة نظرية. لكن هل تحققت حريتها، معرفتها، وذاتها بما هو نظري محض ؟ أبدا. لقد قسمت البطلة تاريخها الشخصي إلى ثلاث مراحل أساس كما يلي:
أ- قبل المفكر: وصفت المرحلة بالجاهلية الأولى، وقد كان فيها الجنس سرا والتأثير النظري أقوى وقد توازت النظرية في هذه المرحلة بالحياة السرية.
ب- مع المفكر: وصفت البطلة المرحلة بالوعي الجنسي حيث التقى الخطان المتوازيان. أي تطابق النظرية (المعرفة المدرسية المستقاة من الكتب) بالفعل السري (الممارسة).
ت- بعد المفكر: وصفت البطلة هذه المرحلة بالنهضة الجنسية حيث كُشِفَتِ الحقيقةُ أمام البطلة؛ حقيقة الذات وحقيقة المعرفة.
تقول البطلة:" الآن، وأنا أعيد قراءة ما أكتب، يخطر لي أن كل ما عشت كان من صنعي أنا. المفكر لم يفعل شيئا إلا أن يرفع الغطاء عن كل ما جمعت من قبل. جاء في اللحظة المناسبة كي أصل إلى المعنى. لم يمنحه لي. أنا التي وجدته من خلاله". تضيف :" قلت له: كن، فكان كما خلقته أنا بكلماتي. هذه الصورة ملكي ولا علاقة له بها". وتقول أيضا :" يخطر لي الآن، وأنا أعيد قراءة ما أكتب، أن المفكر كان حيلة من حيل الكتابة وأنه لم يوجد أبدا، ولذلك كان لا بد لي من أن أخترعه." ص (147).
كيف يمكن ترجمة (تأويل) هذا المسار المعرفي باختصار حتى تنجلي الرؤية المعرفية الكامنة في الخطاب الروائي للأدب الإباحي وبالتالي لرواية "برهان العسل" للكاتبة والشاعرة سلوى النعيمي ؟
سأقترح التسلسل التالي:
أ-المعرفة النظرية: والنظرية رمادية اللون.
ب-المعرفة الحسية الواقعية: والواقع شجرة خضراء.
ت-المعرفة الذاتية: وهي معرفة ثقافية ومحصِّلَةُ التراكم المعرفي النظري (الكتب العربية القديمة، والأفلام والمسلسلات العاطفية،والحكايات الإباحية والفضائحية) والمعرفة الواقعية المكتسبة من مجموع التجارب السطحية والعميقة، العابرة والقارة. لكنها ليست في النهاية إلا مساعدات خارجية لاكتشاف المعرفة الذاتية الكامنة، المعرفة الجوهرية. المعرفة المشتركة بين الكائنات الحية.
إن معرفة الذات شاقة وطويلة، تنطلق من التعلم مرورا بالتجربة لتصل إلى التحقق. لكن طريق المعرفة الذاتية أو معرفة الذات ليس بهذا الاختصار والسهولة إنه مليء بالأشواك. فالتعلم يحتاج إلى الاستعداد والجرأة والقدرة على اقتحام الحدود الفاصلة الحقيقية أو الوهمية (اللغوية) و (الصُّورِيَةِ). واكتساب المعرفة النظرية يحتاج إلى الاختبار والتجربة، وهي خطوة تتطلب جرأة وقدرات أقوى من الأول، وهي ما لا تمتلكه شخصية (فادية). تقول البطلة :" أعرف أنها تدور في حلقة مفرغة: وحدها لا يمكن أن تتعلم، والرجل غائب حتى الآن، أظن أن هذا يحتاج إلى تدريب لا بد من أن يبدأ بمصاحبة رجل. نعم. نعم. الرجل يسهل الأمور. يسرعها، ولاسيما في البداية..." ص (129). بينما تتطلب المعرفة الذاتية اليقظة والذكاء والقدرة على تلوين كل شيء بماء الذات، وغسله في حياض الخبرة المكتسبة التي تصبح خبرة مكتشفة بالتملك (الْمِلْكِيَّةِ).
إن اكتشاف هذه المعرفة في حاجة إلى جو خارجي متفهم قادر على استيعاب التغييرات التي تفرضها عليه الذوات المتحررة. وهنا اختبار آخر للذات. هل يمكنها التغلب على صمت الخارج ونفاقه ؟ ماذا سيكون مآل الذات بعد هذا المسار الشاق والطويل ؟ هل ستكتفي بالعودة إلى الحياة السرية ؟ وهل يكفي إعادة طبع الكتب القديمة لتغيير العالم ؟ أم هل ستتحول تجربة الذات إلى خطاب (أدبي ومتخيل) كما هي حال الكتب القديمة ؟ ولعل هذا هو التفسير الممكن وتأويل مآل الندوة العلمية التي كانت سببا ودافعا لكتابة بحث في الجنسانية تحول إلى رواية...
النعيمي، سلوى؛ برهان العسل. رواية. رياض الريس للكتب والنشر. ط 2. 2008م.
سؤال الذات (المعرفة) في الأدب الإيروتيكي [/SIZE]
في تقديمه لرواية ابنة فاني هيل (La fille de Fanny Hill) كتب جون دي كار (Jean des Cars) :" في سنة 1747م ظهر بلندر كتاب سيكسر خلال قرنين ونصف قيود كل رقابة وسينال شهرة كبيرة في كل أرجاء أوروبا. هذا الكتاب يحمل عنوان "مذكرات فاني هيل (Mémoires de Fanny Hill) ويُنْسبُ إلى قلم جريء لديبلوماسي قديم أصبح طفلا سيئا، هو: جون كليلاند (John Cleland)." ص (5).
تصف الرواية، وهي مجموعة رسائل، الحياة الحميمة لفاني (Fanny)، وقد لقي هذا النمط من السرد "الترسلي" إقبالا كبيرا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر بأوروبا. كما ذاع في تلك الفترة في أوروبا نمط الكتابة الإباحية نظرا لدعمها مشروع القراءة وترويج الكتب. وهو ما يشهد عليه الكتاب الذي قدم له جون دي كار.
وتصنف مثل هذه الكتابات ضمن تسميات مختلفة لنوع من الأدب الحميم الذي يحكي الحياة السرية للبطلة (فاني)، لكن دون الإخلال بالخصائص والمقومات التي تحفظ للأدب مكانته: أي دون السقوط في السوقية والابتذال. لذلك يقول الكاتب عن البطلة "إنها بغي لكنها أميرة" (Prostituée mais princesse) ص (7).
ويطلق على هذا النوع من الأدب تسميات ثلاث مختلفة تركيبا لكنها محددة في المعنى:
· الأدب الإباحي. La littérature libertine
· العمل الحر. Ouvres libres
· الأدب الفضائحي. La littérature scandaleuse
إن التسميات تتحد في المعنى المتمثل في كون هذه الكتابات لا تخرج عن فن (الأدب). أي أنها كتابة وأسلوب للتعبير عن حاجة ضرورية في الحياة، لها مقومات بنيوية داخلية ولها أهداف معلنة، ولها موضوع يميزها عن باقي الأنواع المندرجة ضمن فن (مدونة) الأدب، كما لها قراؤها ومحبوها ومشجعوها.
وأهم ما يميز هذه الكتابة كونها كتابة محرمة اجتماعيا وأخلاقيا، أي أنها تمتاز بخاصية الهامش أو بتعبير دقيق تهتم بالحياة الحميمة للبطلة أو البطل (الشخصية المحورية). ويقترن الحميم (L’intime) في الأذهان بالسر.السر الذي ليس سرا في حد ذاته، بل سر من خلال الطبقات التي تراكمت فوقه بفعل الرقابة المتعددة ، والقوانين التي تحده. ويمكن القول بأن السر ليس في الحياة الحميمة بل في سردها، في تحويلها إلى خطاب. الخطاب الذي تأسس حول السر وانتقل به بفعل طبيعي إلى فعل ثقافي. فلم تبق إذن، الحياة حميمة بفعل الخطاب (المكتوب أو الشفهي أو المصور) بل أصبحت شبكة من القيود والتصورات. ولا غرابة في الجمع بين الحياة الحميمة (الجنسية) والمعرفة. وممن ألحوا على هذه العلاقة الكاتب والمحلل النفساني إريك فروم (Eric Fromm). إذ يرى أن المعرفة مرتبطة لدى الإنسان باكتشافه لحياته الجنسية، لكن هذا الاكتشاف لم يكن بدون ثمن. لهذا كانت الخطيئة ثمنا لاكتشاف المعرفة، كما كان العقاب والتعذيب ثمنا لخطيئة بروميتيوس، خطيئة إضاءة عتمة حياة العبيد في قدم جبل الأوليمب، جبل الآلهة، كما تقول الأسطورة.
إذن، فالأدب الإباحي معرفة (فاكهة) محرمة اقترنت بالفضيحة، واقترنت بالهامش، فمن حيث مكوناته البنيوية أدب رفيع أما من حيث موضوعاته فهو أدب مدنس. هكذا يبدو الأدب الإباحي في الخطابات الاجتماعية.
في هذه الدراسة سأعالج الإشكالية القائمة:
- هل هناك معرفة في الأدب الإباحي أم أنه أدب تسلية ومتعة طريق ؟
- هل للأدب الإباحي مقومات بنيوية ؟
- هل للأدب الإباحي لغة تميزه ؟
- هل للأدب جمهوره وكتابه ؟
- ما الرهان الأدبي والثقافي والفكري لكتاب الأدب الإباحي ؟
- كيف ؟ ...
*****************
رواية "برهان العسل" لسلوى النعيمي خطاب تخييلي يندرج ضمن الأدب الإباحي القائم على فرضية (قضية) أساس يمكن صياغتها على النحو التالي:
- هل يمكن الفصل بين الحب والجنس في الثقافة العربية ؟
- هل الحب يعني الجنس في المتخيل العربي الأدبي (الثقافي) والشعبي ؟
- هل يمكن ممارسة الجنس بدون الشعور بالحب ؟
- هل الحب فعل ما ورائي وقَيْدٌ والجنس حرية وتنفيس وإشباع محدود بلا امتداد أو ذاكرة أو حلم ؟
- هل يمكن أن تتحقق الذات في الجنس أم في الحب ؟
- هل الحب يحقق الاكتفاء والتحرر الذاتي أم الجنس فقط من يحرر الذات من التبعية ؟
هذه السلسلة في الأسئلة الإشكالية تحاول الحكاية المحورية (الإطار) في رواية "برهان العسل" البحث لها عن إجابات ممكنة، إجابات سردية تخييلية، لكن خلال البحث لن نعثر على الجواب بل نعثر فقط على الطريق الذي قطعته البطلة وهي تراكم من مراجع ومصادر متنوعة ومختلفة معرفتها الشخصية بالموضوع. معرفة ترتبط بدورها بالفضيحة والسر والهامش والمحرم وبالتحرر واكتشاف الذات.
تقول البطلة:" متى اكتشفت أن فضولي الجنسي ليس إلا فضولا معرفيا ؟". وتضيف:" رغبتي في التعلم هي محركي الجنسي.لا. محركي الجنسي هو رغبتي في التعلم، تعلم الشهوة، اللذة، نفسي، الآخر، العالم". وكذلك تقول:" اقترنت عندي لذة التعلم بلذة الجنس. تداخل مركز اللذة مع مركز المعرفة في راسي وتشابكا معا من دون انفصال". ص.ص (137.136).
هذه الحيرة المنتهية إلى يقين وهذا الشك المنتهي إلى معرفة حقيقية، معرفة ذاتية، معرفة مكتشفة لا مكتسبة، معرفة فطرية حدسية كما يراها (كانْتْ/ Kant). معرفة قبلية لا يعمل (اَلتَّعَلُّمُ) إلا على إجلائها ونفض الغبار عنها. ولا تعمل الكتب القديمة والحديثة إلا على صقلها وتلميعها وتنقيتها من شوائب الاكتساب و"التَّعَلُّمِ" الحذر. تقول البطلة على لسان أخيها:" لا نتعلم إلا ما نعرفه" معرفة قبلية، أو كما يرى (فيخته) :" الذات تكون كل شيء في الوجود" حيث كل ما هو موجود لا شيء غير ذواتنا. وكل معرفتنا إن هي إلا معرفة ذواتنا". ويتخذ مفهوم (التَّعَلُّمِ) هنا ،لدى البطلة، معنى الاكتشاف لا الاختراع والإبداع من عدم. اكتشاف فعل طبيعي وفطري في الإنسان سعت الكتب والقيود الاجتماعية والثقافية إلى تغليفه بخطاباتها المزيفة، وصورها المعتمة فقرنته بالخطيئة الأولى وبالعقاب متجاهلة الوجه الآخر للعملة. أي الحرية. واكتشاف حقيقة الذات. يرى (إريك فروم) أن الإنسان عندما ارتكب الخطيئة الأولى كان هدفه الأول إعلان صوته الشخصي بتكسير القيود التي فرضت عليه. وعندما صرخ بالرفض أدرك وقتها فقط بأنه حر. حر لأن له صوتا يستطيع أن يرفض، صوتا يستطيع أن يختار مصيره مهما كان شاقا وشقيا، صرخةً تنبعث من الداخل لا تفرض عليه من خارج ذاته. في تلك الصرخة تكمن حريته، وفي حريته إرادة الحياة كما هي لا كما رُسِمَتْ له حدودها.
لم يعد الإشكال في الرواية - برهان العسل- محصورا في العلاقة بين الحب والجنس، ولا في أسبقية أحدهما على الآخر، ولا في أيهما الفعل وأيهما المفهوم، لأن الحب تسمية للجنس، ولأن الجنس واقع أو دليل وبرهان على الحب. ولأن البطلة تكتشف أنها عالقة في شباك حب (المفكر) بعد رحيله. تقول البطلة تلميحا :" بعد سنوات من رحيل المفكر كففت عن المقاومة واعترفت..." ص (146). لكن أصبح الإشكال في الرواية التعرف على الذات. كيف يمكن للإنسان أن يتعرف على ذاته، جوهره، رغبته، وميله، على حاجاته الجسدية والجنسية، وعلى حاجاته الروحية ؟ هل يمكن التعرف على الذات في مرآة الآخرين أم في مداد الكتب ؟ هذه إشكالية حقيقية في رواية "برهان العسل" للكاتبة سلوى النعيمي.
تطرح الرواية مجموعة متنوعة من المصادر والمراجع والدوافع التي شكلت معرفة ذات البطلة ومتخيلها واختلافها وحريتها وصرختها، ومنها: كتب الجنس القديمة العربية، والتجارب السريرية والسرية، والهوس بالحكايات ثم لاحقا المجلات البورنوغرافية (مجلات الخلاعة) عندما سافرت البطلة إلى مدينة باريس.
ويظهر الإشكال عندما تنتهي البطلة إلى الخلاصة التالية :" ستكون هذه الفكرة هي نهاية دراستي. سأقترح إعادة نشر هذه الكتب مرات ومرات، توزيعها، تعميمها، تدريسها." ص (128). فهل هذه الخلاصة اقتراح لبداية "تربية جنسية" سليمة للإنسان العربي، وتخفيف للمتخيل العربي من ثقل الأوهام والاستيهامات التي أنشأتها الخطابات الثقافية والشعبية وأدبيات الاستعلاء ؟ إذا كان الجواب بالإثبات فأين تضع البطلة التجربة كممارسة وكمدرسة واقعية تجلي المعرفة وتصقل معرفة الذات بالذات ؟ تقول البطلة :" نعم. بدأت تربيتي الجنسية كتابية وسينمائية: الروايات والمجلات والأفلام والمسلسلات. الجنسية ؟ لأقل العاطفية، مع جرعات من ثقافة جنسية عملية ومعرفة نظرية عربية تراثية. أفلام البورنو وكتب الجنس ومجلاته لم أعرفها إلا بالفرنسية بعد سفري إلى باريس." ص (127).
وتسمي البطلة الكتب العربية القديمة معرفة نظرية. لكن هل تحققت حريتها، معرفتها، وذاتها بما هو نظري محض ؟ أبدا. لقد قسمت البطلة تاريخها الشخصي إلى ثلاث مراحل أساس كما يلي:
أ- قبل المفكر: وصفت المرحلة بالجاهلية الأولى، وقد كان فيها الجنس سرا والتأثير النظري أقوى وقد توازت النظرية في هذه المرحلة بالحياة السرية.
ب- مع المفكر: وصفت البطلة المرحلة بالوعي الجنسي حيث التقى الخطان المتوازيان. أي تطابق النظرية (المعرفة المدرسية المستقاة من الكتب) بالفعل السري (الممارسة).
ت- بعد المفكر: وصفت البطلة هذه المرحلة بالنهضة الجنسية حيث كُشِفَتِ الحقيقةُ أمام البطلة؛ حقيقة الذات وحقيقة المعرفة.
تقول البطلة:" الآن، وأنا أعيد قراءة ما أكتب، يخطر لي أن كل ما عشت كان من صنعي أنا. المفكر لم يفعل شيئا إلا أن يرفع الغطاء عن كل ما جمعت من قبل. جاء في اللحظة المناسبة كي أصل إلى المعنى. لم يمنحه لي. أنا التي وجدته من خلاله". تضيف :" قلت له: كن، فكان كما خلقته أنا بكلماتي. هذه الصورة ملكي ولا علاقة له بها". وتقول أيضا :" يخطر لي الآن، وأنا أعيد قراءة ما أكتب، أن المفكر كان حيلة من حيل الكتابة وأنه لم يوجد أبدا، ولذلك كان لا بد لي من أن أخترعه." ص (147).
كيف يمكن ترجمة (تأويل) هذا المسار المعرفي باختصار حتى تنجلي الرؤية المعرفية الكامنة في الخطاب الروائي للأدب الإباحي وبالتالي لرواية "برهان العسل" للكاتبة والشاعرة سلوى النعيمي ؟
سأقترح التسلسل التالي:
أ-المعرفة النظرية: والنظرية رمادية اللون.
ب-المعرفة الحسية الواقعية: والواقع شجرة خضراء.
ت-المعرفة الذاتية: وهي معرفة ثقافية ومحصِّلَةُ التراكم المعرفي النظري (الكتب العربية القديمة، والأفلام والمسلسلات العاطفية،والحكايات الإباحية والفضائحية) والمعرفة الواقعية المكتسبة من مجموع التجارب السطحية والعميقة، العابرة والقارة. لكنها ليست في النهاية إلا مساعدات خارجية لاكتشاف المعرفة الذاتية الكامنة، المعرفة الجوهرية. المعرفة المشتركة بين الكائنات الحية.
إن معرفة الذات شاقة وطويلة، تنطلق من التعلم مرورا بالتجربة لتصل إلى التحقق. لكن طريق المعرفة الذاتية أو معرفة الذات ليس بهذا الاختصار والسهولة إنه مليء بالأشواك. فالتعلم يحتاج إلى الاستعداد والجرأة والقدرة على اقتحام الحدود الفاصلة الحقيقية أو الوهمية (اللغوية) و (الصُّورِيَةِ). واكتساب المعرفة النظرية يحتاج إلى الاختبار والتجربة، وهي خطوة تتطلب جرأة وقدرات أقوى من الأول، وهي ما لا تمتلكه شخصية (فادية). تقول البطلة :" أعرف أنها تدور في حلقة مفرغة: وحدها لا يمكن أن تتعلم، والرجل غائب حتى الآن، أظن أن هذا يحتاج إلى تدريب لا بد من أن يبدأ بمصاحبة رجل. نعم. نعم. الرجل يسهل الأمور. يسرعها، ولاسيما في البداية..." ص (129). بينما تتطلب المعرفة الذاتية اليقظة والذكاء والقدرة على تلوين كل شيء بماء الذات، وغسله في حياض الخبرة المكتسبة التي تصبح خبرة مكتشفة بالتملك (الْمِلْكِيَّةِ).
إن اكتشاف هذه المعرفة في حاجة إلى جو خارجي متفهم قادر على استيعاب التغييرات التي تفرضها عليه الذوات المتحررة. وهنا اختبار آخر للذات. هل يمكنها التغلب على صمت الخارج ونفاقه ؟ ماذا سيكون مآل الذات بعد هذا المسار الشاق والطويل ؟ هل ستكتفي بالعودة إلى الحياة السرية ؟ وهل يكفي إعادة طبع الكتب القديمة لتغيير العالم ؟ أم هل ستتحول تجربة الذات إلى خطاب (أدبي ومتخيل) كما هي حال الكتب القديمة ؟ ولعل هذا هو التفسير الممكن وتأويل مآل الندوة العلمية التي كانت سببا ودافعا لكتابة بحث في الجنسانية تحول إلى رواية...
النعيمي، سلوى؛ برهان العسل. رواية. رياض الريس للكتب والنشر. ط 2. 2008م.
التعديل الأخير: