نقوس المهدي
كاتب
أنسي الحاج
جَسَد
(هذا المقال من وحي مجلّة «جسد»، وهو مُهدى إلى رئيسة تحريرها الشاعرة جمانة حدّاد).
الجسد المرغوب بابٌ بين الواقع والحلم. المثالي هو أن ينفتح الباب فيدخل المجتاز من واقع إلى حلم أو من حلم إلى حلم، لا أن يهبط من حلم إلى واقع. احدى الخطايا الأصليّة هي هذا التدهور. المعنى الجوهري للسقوط هو الإفلات من مخالب الانخطاف والارتطام بالحضيض. الجسد المرغوب احتمالُ نجاة. كلّ ما يسعف هذا الاحتمال على الصمود يدخل في باب الواجب. ويتجاوز هذا الواجب حدود الشكل ومقتضيات الرغبة والمتعة بمفهومهما المحدود ليصبح واجباً إنسانيّاً. الجسد المرغوب تجديد لصبا الحياة.
■ ■ ■
لا بدّ للمرأة ممّا يجعلها تبدو فاتنة فوق ما حَبَتْها الطبيعة به من مفاتن، لا أن تتراجع وراء خطوط عطايا الطبيعة أو تستخفّ بهذه العطايا. لا تستطيع المرأة أن تستسلم (أمام العيون) إلى الواقع «الطبيعي»، وإلّا انكشفت لها عيوبٌ تُدمّر صورتها في خيال الرجل، وتدمّر الرجل وعلاقته لا بها وحدها بل، عَبْرها، علاقته بنفسه وبالعالم. إن استهتار المرأة بصور انعكاسها في ذهن الرجل يشكّل خطراً على رجولة الرجل بقدر خطره على أنوثة المرأة، الأولى لا كغريزة حيوانيّة فحسب والثانية لا كفريضة ظالمة بل كلتاهما كدعامة كبرى من دعائم الترقّي وبواعث التقدّم، وعلى الأعمّ وبتعبير أبسط: كدعامة من دعائم الحسّ الإنساني، ما وراء الاكتفاء بتعريفات الرجولة والأنوثة.
وماذا نفعل، يسأل سائل، بحقّ المرأة في التمرّد والاسترخاء ورفض القيود؟ ولماذا يحقّ للرجل ما لا يحقّ لها؟
الجواب أن واجب الرجل في إغراء المرأة كواجب المرأة في إغراء الرجل، ممنوع فيه الاستهتار وحتّى الاسترخاء إلّا في حالات التذاوب، وذلك تحت طائلة دفع الثمن عاجلاً أو آجلاً. وكلّ ما يختلف بينهما على هذا الصعيد هو الأسلوب والتقنيّات، ولنختصر الموقف بكلمتي لياقة وجهوزيّة: لياقة الشكل ولياقة النظافة، والبقاء في حالة استعداد. أمّا لجهة تمرّد المرأة ورفضها القيود فما أرحب مجالهما في الحقل الأهمّ، حقل التمرّد على ما قد يمنعها من الانطلاق في الإغراء والفتنة، لا ما يحلّل لها التكاسل عن آداب الهفهفة والعياقة بحجّة التقدميّة. التمرّد يجب أن يكون على ما ينقص لا على ما يتمّم أو يزيد.
■ ■ ■
والجسد المرغوب غير مسؤول عن نوعيّة الرغبة التي يثيرها. وبالقياس ذاته لا تُسجن الرغبة التي يثيرها بحدود نيّاته وخططه. الجسد المرغوب حُرّ والرغبة المثارة حرّة. ولعلّ الرغبة أكثر حريّة بمقدار ما أن النتيجة هي أحياناً فائضة على السبب. والرغبة هي دوماً شابّة، لكنّ الجسد الذي يلهبها هو بالتأكيد أكثر شباباً منها.
■ ■ ■
من نظريّات برغسون أن الغريزة الحيوانيّة تنطوي على سرّ الحياة، والغريزة، لكونها لاواعية، تجهل هذا السرّ، لذلك لا يمكن توقُّع تجلّي هذا السرّ إلّا من «إشراقة غامضة يُحْدثها الذكاء نفسه في صُلب الغريزة».
سواء انطلقنا من الجسد المرغوب إلى الذهن (أو الذكاء) أو بالعكس، أو من الواقع إلى الخيال أو بالعكس، فإن الإشراقة تلك تفترض وضع الطرفين على صلة واحدهما بالآخر. ما يسبق هذا الوضع وما يتخلّله هما عهدان ذهبيّان يصبو إليهما الإنسان كلّما صبا. إنهما حقله الفردوسي الوامضة فيه صوره منذ الأزل. ومهما بدا الأمر متناقضاً، فإن الانخطاف الذي تأتي به لحظات هذين العهدين، بالغاً ما جَنَّح، ليس غياباً عن الذات بل هو، على الضدّ، اكتشافٌ لها.
■ ■ ■
الحصول الأكثر رحمة بالإنسان هو الحصول الأكثر رحمة بنفسه، ذلك الذي يُجدّد وعوده حالما يُحقّق وعداً. هذا هو الجسد المنتصر. المرغوب الذي إذا أُخذ لا ينطفئ بل يشتدّ توقّداً، ولا يطفئ بل يعطي ليزيد الجوع. وإن لم يستطع ذلك بنفسه في شخصه الواحد، وقلّما يستطيع، فبتحوّله إلى «مناخ» عوض أن يكون، كما تريده تقاليد العجز وقوانين المصادرة، إلهاً واحداً. مناخ يتابع فيه المسافر هاجساً جماليّاً أو طيفاً، لا شخصاً واحداً. الحبّ الأوحد الذي تحدّثت عنه السورياليّة لم يحقّقه أحد من شعرائها وفنّانيها على صعيد البقاء في أسر شخص واحد، بل على صعيد الوفاء لهاجس واحد أو لمبدأ واحد.
الحبّ الأوحد قد يكون، وفي الغالب يكون وعند الأشخاص الهاجسيين بنوعٍ خاص، رغبة واحدة غالباً ما تلاحق هدفها في نماذج عديدة ووجوه كثيرة. الحبّ الأوحد هو الشعلة ذاتها في الصدر الواحد. قد يصدف لبعضهم أن يجد حبّه الأوحد في شخص أوحد، تلك أقدار لا قواعد. وتكاد، لندرتها وصعوبة محافظتها على التجدّد والتوقّد، تكاد تكون فوق قدرة الشعراء والفنّانين، حتّى لا نعمّم ونقول فوق قدرة البشر. ذلك أن المشاعر كلّما رهفتْ ازدادت تفلّتاً من عشق الجميل نحو عشق الجمال، وتَضَاعف حَرْقُها للمسافات والأهداف، وتعاظم إحساسها بالرتابة والملل وحاجتها إلى الجديد. إلى «الأغلفة» الجديدة، صحيح، ما دام الجوهر واحداً، لكن الغلاف في عالم الجسد هو الجسد، والجسد في هذا العالم هو والروح واحد.
■ ■ ■
الخلاعة الجيّدة هي دائماً حسناء، يترافق فيها المجون مع الرهافة. لا شكّ في أن استعمال المفردات الممنوعة جرأة، لكنّ الأكثر جرأة هو تصوير حالات الشبق والمواقف «اللاأخلاقية» بدون تجميل. (أعطي مثلاً مقالاً ورد في العدد الرابع من «جسد»، ضمن ملفّ عن القبلة، تتحدّث فيه صاحبته بمنتهى الصراحة وبدون توقيع. ولا يضير عدم التوقيع أو الاختباء وراء أسماء مستعارة إذا كانت النتائج ناجحة كهذا المقال). للمرأة الكثير ممّا تقوله في الجنس وممّا لا يتخيّله عقل الرجل. لا أقصد الأطروحات النسويّة ولا الدروس الطبيّة، بل العالم الإيروتيكي والبورنوغرافي. حتّى اليوم اقتصر دور التخييل على الرجل. هو ينطق باسمها وهو يلقّنها ما يُحبّ وما يكره. هيمنة اتّسمت بالمصادرة ولكنّها أنتجت روائع ودعائم للعلاقة لم يعد بالإمكان الاستغناء عنها، لأن خيال الرجل، مهما قلنا عن عنصريّته، انطلق من ضرورة حماية الرغبة الذَكَريّة ممّا يهدّدها: من جفاف الواقع وتقزيزاته، ومن بؤس حدود الطاقة الذَكَريّة، ومن ارتباط الشهوة ارتباطاً عضويّاً بشعلة الحياة، وإن ما يشكّل خطراً على الأولى يشكّل خطراً على الثانية. وليس صحيحاً ما يزعمه شوبنهاور أن انجذابَ الرجل إلى المرأة أساسه غريزة المحافظة على نوعيّة النسل، بل لعلّ التناسل، بالمنظار الشعري والجمالي على الأقل، ليس البتّة شرطاً من شروط الرغبة ولا الوصال ولا حتّى العلاقة الطويلة الأمد، وإنْ هو إلّا إحدى نتائجها.
■ ■ ■
يعتذر هذا الكلام من المقام المعنوي في المرأة. بطبيعته هو كلام عنصري. هل يستطيع رأي يدلي به جنس في جنس آخر إلّا أن يكون عنصريّاً؟ بالمعنى الحَرْفي للكلمة وليس بالمعنى السياسي المتداول. عندما يفتقر الموقف الإيروتيكي إلى درجة معيّنة من فوارق العنصريّة يصبح كظهر بلا عمود فقري. الخطأ ليس الفَرْق، بل بناء نظام احتقاري واستغلالي على الفَرْق. مع هذا يعتذر هذا الكلام، ولا بدّ دائماً من الاعتذار للمرأة. وحتّى لو سلّمنا بأن عهد التمييز الاضطهادي قد ولّى، وحتّى لو أصبحت النساء حاكمات بأمرهنّ على مختلف صعد الحكم، سيظلّ الاعتذار لهنّ في محلّه. لم يكتفِ الرجل بمصادرة حقوقهنّ بل سبقته إلى ظلمهنّ الطبيعة بما حمّلتهن إيّاه من وظائف وضرائب. ولعلّ من أصعب ما فرضته عليهن الخِلْقَة والعادات معاً أن يتحمّلن ذلك القسط الضخم من مسؤوليّة الجذب والجمال مع عدم إعفائهنّ ولا من شيء من نواقص الجسم البشري. قد لا تستشعر المرأة نفسها مقدار التناقض المؤلم الذي ينطوي عليه هذا الوضع، وقد تُكابر فترفض الاعتراف بمأسويّته، لكنّه ماثل في طليعة لائحة المظالم التي تلحق بالإنسان عموماً وبالأنثى بوجه خاص، وقد استودعها القَدَر مفاتيح السحر وأخضعها لحدود وشروط وتهديدات تنوء بها الآلهة.
ورغم هذا، حين تنجو منها ـــــ وكثيراً تنجو ما دام هناك نظرٌ جديد ينسكب عليها ـــــ تتجدّد بها الثقة وكأنها إيمان لا مجرّد ثقة، إيمان لا يخبو وهجه إلّا في الحالات القصوى، عندما تضمحلّ في الإنسان كلّ قدرة على أيّ نوع من أنواع الأمل وتتخلّى يداه عن التشبّث.
■ ■ ■
الجسد ليس عنواناً للجسد، إنما هو أشدّ ظلاله خطراً. الجسد غصن من أغصان الذهن، وهو وإيّاه في سباق الخيال.
يبدأ الجسد في الانتهاء حيث يبدأ التجسّد، وينبعث على الفور من رماده إذ تعكس العين عليه طلائع آمالها. الأجساد زَبَد الأحلام.
يحمل الجسدُ روحه كما يحمل الجنسُ حبّه والرغبة حنانها. نحن دمى لشاشة الرأس، ورقصة الرأس أقوى من الموت.
ليست المرأة وحدها مَن يكسو عري الرجل لتراه. الرجل أيضاً «يرى» في ردائها. الرداء أكثر العناصر روحاً بعد العيون.
الجسد لحْم السراب.
عظَمَة الإنسان أَنْ يضيف إلى الحياة شوقاً.
٧ تشرين الثاني ٢٠٠٩
.
جَسَد
(هذا المقال من وحي مجلّة «جسد»، وهو مُهدى إلى رئيسة تحريرها الشاعرة جمانة حدّاد).
الجسد المرغوب بابٌ بين الواقع والحلم. المثالي هو أن ينفتح الباب فيدخل المجتاز من واقع إلى حلم أو من حلم إلى حلم، لا أن يهبط من حلم إلى واقع. احدى الخطايا الأصليّة هي هذا التدهور. المعنى الجوهري للسقوط هو الإفلات من مخالب الانخطاف والارتطام بالحضيض. الجسد المرغوب احتمالُ نجاة. كلّ ما يسعف هذا الاحتمال على الصمود يدخل في باب الواجب. ويتجاوز هذا الواجب حدود الشكل ومقتضيات الرغبة والمتعة بمفهومهما المحدود ليصبح واجباً إنسانيّاً. الجسد المرغوب تجديد لصبا الحياة.
■ ■ ■
لا بدّ للمرأة ممّا يجعلها تبدو فاتنة فوق ما حَبَتْها الطبيعة به من مفاتن، لا أن تتراجع وراء خطوط عطايا الطبيعة أو تستخفّ بهذه العطايا. لا تستطيع المرأة أن تستسلم (أمام العيون) إلى الواقع «الطبيعي»، وإلّا انكشفت لها عيوبٌ تُدمّر صورتها في خيال الرجل، وتدمّر الرجل وعلاقته لا بها وحدها بل، عَبْرها، علاقته بنفسه وبالعالم. إن استهتار المرأة بصور انعكاسها في ذهن الرجل يشكّل خطراً على رجولة الرجل بقدر خطره على أنوثة المرأة، الأولى لا كغريزة حيوانيّة فحسب والثانية لا كفريضة ظالمة بل كلتاهما كدعامة كبرى من دعائم الترقّي وبواعث التقدّم، وعلى الأعمّ وبتعبير أبسط: كدعامة من دعائم الحسّ الإنساني، ما وراء الاكتفاء بتعريفات الرجولة والأنوثة.
وماذا نفعل، يسأل سائل، بحقّ المرأة في التمرّد والاسترخاء ورفض القيود؟ ولماذا يحقّ للرجل ما لا يحقّ لها؟
الجواب أن واجب الرجل في إغراء المرأة كواجب المرأة في إغراء الرجل، ممنوع فيه الاستهتار وحتّى الاسترخاء إلّا في حالات التذاوب، وذلك تحت طائلة دفع الثمن عاجلاً أو آجلاً. وكلّ ما يختلف بينهما على هذا الصعيد هو الأسلوب والتقنيّات، ولنختصر الموقف بكلمتي لياقة وجهوزيّة: لياقة الشكل ولياقة النظافة، والبقاء في حالة استعداد. أمّا لجهة تمرّد المرأة ورفضها القيود فما أرحب مجالهما في الحقل الأهمّ، حقل التمرّد على ما قد يمنعها من الانطلاق في الإغراء والفتنة، لا ما يحلّل لها التكاسل عن آداب الهفهفة والعياقة بحجّة التقدميّة. التمرّد يجب أن يكون على ما ينقص لا على ما يتمّم أو يزيد.
■ ■ ■
والجسد المرغوب غير مسؤول عن نوعيّة الرغبة التي يثيرها. وبالقياس ذاته لا تُسجن الرغبة التي يثيرها بحدود نيّاته وخططه. الجسد المرغوب حُرّ والرغبة المثارة حرّة. ولعلّ الرغبة أكثر حريّة بمقدار ما أن النتيجة هي أحياناً فائضة على السبب. والرغبة هي دوماً شابّة، لكنّ الجسد الذي يلهبها هو بالتأكيد أكثر شباباً منها.
■ ■ ■
من نظريّات برغسون أن الغريزة الحيوانيّة تنطوي على سرّ الحياة، والغريزة، لكونها لاواعية، تجهل هذا السرّ، لذلك لا يمكن توقُّع تجلّي هذا السرّ إلّا من «إشراقة غامضة يُحْدثها الذكاء نفسه في صُلب الغريزة».
سواء انطلقنا من الجسد المرغوب إلى الذهن (أو الذكاء) أو بالعكس، أو من الواقع إلى الخيال أو بالعكس، فإن الإشراقة تلك تفترض وضع الطرفين على صلة واحدهما بالآخر. ما يسبق هذا الوضع وما يتخلّله هما عهدان ذهبيّان يصبو إليهما الإنسان كلّما صبا. إنهما حقله الفردوسي الوامضة فيه صوره منذ الأزل. ومهما بدا الأمر متناقضاً، فإن الانخطاف الذي تأتي به لحظات هذين العهدين، بالغاً ما جَنَّح، ليس غياباً عن الذات بل هو، على الضدّ، اكتشافٌ لها.
■ ■ ■
الحصول الأكثر رحمة بالإنسان هو الحصول الأكثر رحمة بنفسه، ذلك الذي يُجدّد وعوده حالما يُحقّق وعداً. هذا هو الجسد المنتصر. المرغوب الذي إذا أُخذ لا ينطفئ بل يشتدّ توقّداً، ولا يطفئ بل يعطي ليزيد الجوع. وإن لم يستطع ذلك بنفسه في شخصه الواحد، وقلّما يستطيع، فبتحوّله إلى «مناخ» عوض أن يكون، كما تريده تقاليد العجز وقوانين المصادرة، إلهاً واحداً. مناخ يتابع فيه المسافر هاجساً جماليّاً أو طيفاً، لا شخصاً واحداً. الحبّ الأوحد الذي تحدّثت عنه السورياليّة لم يحقّقه أحد من شعرائها وفنّانيها على صعيد البقاء في أسر شخص واحد، بل على صعيد الوفاء لهاجس واحد أو لمبدأ واحد.
الحبّ الأوحد قد يكون، وفي الغالب يكون وعند الأشخاص الهاجسيين بنوعٍ خاص، رغبة واحدة غالباً ما تلاحق هدفها في نماذج عديدة ووجوه كثيرة. الحبّ الأوحد هو الشعلة ذاتها في الصدر الواحد. قد يصدف لبعضهم أن يجد حبّه الأوحد في شخص أوحد، تلك أقدار لا قواعد. وتكاد، لندرتها وصعوبة محافظتها على التجدّد والتوقّد، تكاد تكون فوق قدرة الشعراء والفنّانين، حتّى لا نعمّم ونقول فوق قدرة البشر. ذلك أن المشاعر كلّما رهفتْ ازدادت تفلّتاً من عشق الجميل نحو عشق الجمال، وتَضَاعف حَرْقُها للمسافات والأهداف، وتعاظم إحساسها بالرتابة والملل وحاجتها إلى الجديد. إلى «الأغلفة» الجديدة، صحيح، ما دام الجوهر واحداً، لكن الغلاف في عالم الجسد هو الجسد، والجسد في هذا العالم هو والروح واحد.
■ ■ ■
الخلاعة الجيّدة هي دائماً حسناء، يترافق فيها المجون مع الرهافة. لا شكّ في أن استعمال المفردات الممنوعة جرأة، لكنّ الأكثر جرأة هو تصوير حالات الشبق والمواقف «اللاأخلاقية» بدون تجميل. (أعطي مثلاً مقالاً ورد في العدد الرابع من «جسد»، ضمن ملفّ عن القبلة، تتحدّث فيه صاحبته بمنتهى الصراحة وبدون توقيع. ولا يضير عدم التوقيع أو الاختباء وراء أسماء مستعارة إذا كانت النتائج ناجحة كهذا المقال). للمرأة الكثير ممّا تقوله في الجنس وممّا لا يتخيّله عقل الرجل. لا أقصد الأطروحات النسويّة ولا الدروس الطبيّة، بل العالم الإيروتيكي والبورنوغرافي. حتّى اليوم اقتصر دور التخييل على الرجل. هو ينطق باسمها وهو يلقّنها ما يُحبّ وما يكره. هيمنة اتّسمت بالمصادرة ولكنّها أنتجت روائع ودعائم للعلاقة لم يعد بالإمكان الاستغناء عنها، لأن خيال الرجل، مهما قلنا عن عنصريّته، انطلق من ضرورة حماية الرغبة الذَكَريّة ممّا يهدّدها: من جفاف الواقع وتقزيزاته، ومن بؤس حدود الطاقة الذَكَريّة، ومن ارتباط الشهوة ارتباطاً عضويّاً بشعلة الحياة، وإن ما يشكّل خطراً على الأولى يشكّل خطراً على الثانية. وليس صحيحاً ما يزعمه شوبنهاور أن انجذابَ الرجل إلى المرأة أساسه غريزة المحافظة على نوعيّة النسل، بل لعلّ التناسل، بالمنظار الشعري والجمالي على الأقل، ليس البتّة شرطاً من شروط الرغبة ولا الوصال ولا حتّى العلاقة الطويلة الأمد، وإنْ هو إلّا إحدى نتائجها.
■ ■ ■
يعتذر هذا الكلام من المقام المعنوي في المرأة. بطبيعته هو كلام عنصري. هل يستطيع رأي يدلي به جنس في جنس آخر إلّا أن يكون عنصريّاً؟ بالمعنى الحَرْفي للكلمة وليس بالمعنى السياسي المتداول. عندما يفتقر الموقف الإيروتيكي إلى درجة معيّنة من فوارق العنصريّة يصبح كظهر بلا عمود فقري. الخطأ ليس الفَرْق، بل بناء نظام احتقاري واستغلالي على الفَرْق. مع هذا يعتذر هذا الكلام، ولا بدّ دائماً من الاعتذار للمرأة. وحتّى لو سلّمنا بأن عهد التمييز الاضطهادي قد ولّى، وحتّى لو أصبحت النساء حاكمات بأمرهنّ على مختلف صعد الحكم، سيظلّ الاعتذار لهنّ في محلّه. لم يكتفِ الرجل بمصادرة حقوقهنّ بل سبقته إلى ظلمهنّ الطبيعة بما حمّلتهن إيّاه من وظائف وضرائب. ولعلّ من أصعب ما فرضته عليهن الخِلْقَة والعادات معاً أن يتحمّلن ذلك القسط الضخم من مسؤوليّة الجذب والجمال مع عدم إعفائهنّ ولا من شيء من نواقص الجسم البشري. قد لا تستشعر المرأة نفسها مقدار التناقض المؤلم الذي ينطوي عليه هذا الوضع، وقد تُكابر فترفض الاعتراف بمأسويّته، لكنّه ماثل في طليعة لائحة المظالم التي تلحق بالإنسان عموماً وبالأنثى بوجه خاص، وقد استودعها القَدَر مفاتيح السحر وأخضعها لحدود وشروط وتهديدات تنوء بها الآلهة.
ورغم هذا، حين تنجو منها ـــــ وكثيراً تنجو ما دام هناك نظرٌ جديد ينسكب عليها ـــــ تتجدّد بها الثقة وكأنها إيمان لا مجرّد ثقة، إيمان لا يخبو وهجه إلّا في الحالات القصوى، عندما تضمحلّ في الإنسان كلّ قدرة على أيّ نوع من أنواع الأمل وتتخلّى يداه عن التشبّث.
■ ■ ■
الجسد ليس عنواناً للجسد، إنما هو أشدّ ظلاله خطراً. الجسد غصن من أغصان الذهن، وهو وإيّاه في سباق الخيال.
يبدأ الجسد في الانتهاء حيث يبدأ التجسّد، وينبعث على الفور من رماده إذ تعكس العين عليه طلائع آمالها. الأجساد زَبَد الأحلام.
يحمل الجسدُ روحه كما يحمل الجنسُ حبّه والرغبة حنانها. نحن دمى لشاشة الرأس، ورقصة الرأس أقوى من الموت.
ليست المرأة وحدها مَن يكسو عري الرجل لتراه. الرجل أيضاً «يرى» في ردائها. الرداء أكثر العناصر روحاً بعد العيون.
الجسد لحْم السراب.
عظَمَة الإنسان أَنْ يضيف إلى الحياة شوقاً.
٧ تشرين الثاني ٢٠٠٩
.