نقوس المهدي
كاتب
ابراهيم فرغلي
كبرياء
جلست أمام التليفزيون مستثارا. طفقتُ أبحث عن أي محطة إخبارية؛ "الجزيرة"، "العربية"، "الحرة"، ثم البرامج الأجنبية: "سي إن إن"، "بي بي سي". لا أثر لأي خبر عن غياب كتب نجيب محفوظ. ابتسمت بسخرية لأنني، بكل سذاجة، صدقت ما قالته لي بلا مراجعة.
لا تتعب من "اشتغالي"، بينما لا أكلّ من لعب دور الساذج، الذي يأخذ الأمور كلها بجدية، تجعل منه مادة سخرية جذابة في أغلب الدوائر التي يتحرك فيها، بما فيها الدائرة الضيقة الخاصة التي لا يوجد فيها سواي وسواها.
هذه هي شخصية نجوى بامتياز: غريبة الأطوار، متقلبة المزاج، ذات الاستعداد المَرَضي للنزعات الهيستيرية؛ المتطلبة، بينما تؤكد لي بمرح أنها مرنة جدا، وأن بإمكانها أن تتكيف مع كل الأجواء.
تقول أنها كانت فتاة خجولا، هادئة، بينما لا تقترح عليَّ سوى أكثر الملاهي الليلية صخبا. تعلن لي في أمسياتنا الرومانسية أنني الرجل الوحيد الذي عشقته في حياتها، بينما تَقُّص لي، بين آن وآخر، علاقة غرامية عابرة مرت بها، بشكل يوحي أنها لم تفعل شيئا آخر طوال مراهقتها إلا اصطياد العشاق.
تحدثني عن تواضعها وبساطتها، ولا تخلو حواراتها من نزعات بورجوازية، في علاقاتها المتعجرفة ببعض صديقاتها، أو أفراد العائلة من طرف أمها الذين كانت تصفهم بالفقراء. ثم تمارس نوعا من انتزاع الاعتراف، لأؤكد لها أنها جميلة، وأن جسدها هو أجمل ما شاهدته، وأن ردفيها أجمل ما رأته عيناي.
من جهتي كنت أردد ذلك، تحت ضغط نرجسيتها المفرطة. وكالعادة استدرجتني لمنطقها، وأوهمتني أن ما نفعله هو ممارسة جنسية، بينما الأمر لا يعدو كونه طقسا للاستعراض.
تتعرى تدريجيا. تجلس على الفراش أو أريكة غرفة النوم المواجهة للمكتب، وفقا لمزاجها، ثم تتيح لي، بكرم بالغ، ان أتأملها كيفما شئت. أما الشرط الذي بموجبه تمنحني عريها هذا بهذه الأريحية فهو "ممنوع اللمس". "إذا لمستني هالبس هدومي وامشي، ومش هتشوفني تاني أبدا". هذه هي الجملة الوحيدة التي تنطقها بالعربية، مع استثناء مكالماتنا الهاتفية، لأنها ربما الجملة الوحيدة التي تخرج من أعماقها بلا فلترة، ولا تحذلق، ولأنها تعنيها بصدق يفوق الكثير مما تقوله من قبيل اللغو أو الثرثرة.
*******
انتهيتُ من إعدادِ القهوة، وانحسرت رغبتي في مهاتفتها. عاودني شعوري بالغبن لأنها لم تعتذر، حتى، عن عدم حضورها في الموعد. تلكأتُ بتدخين سيجارة، وانتابتني الرغبة في الاستماع للموسيقى.
هبطت معنوياتي فجأة. سقطت في جب اكتئاب عميق، بلا قرار. إفتقدت الحياة جدواها. ولم يعد يناسبني سوى الاتجاه إلى الفراش، والنوم في الظلام محدقا إلى السقف.
بعد فترة من الصمت والسكون، فكرت في معاودة الاتصال..لكني لم أسمع سوى صوت صفارة متقطعة. هذا يعني أن الرقم مشغول. اتجهت إلى جهاز "الستريو". سمعت "تكّات" إعداد الاسطوانات من الجهاز، ثم انطلق صوت موسيقى "إنيجما".
عدت للفراش وأطفأت الضوء، قبل أن أضع رأسي على الوسادة متزامنا مع الإيقاع .."مباديء الرغبة من السهل أن تفهمها..مباديء الرغبة طير في عقلك". عاودت التحديق في السقف. حلت الهواجس كلها فجأة: تُرى مع من تتحدث هي في ذلك الوقت من الليل؟
اتصلت بهاتف منزل صديقتها المقربة فاطيما. سمعت صفارة الجرس فأغلقت السماعة فورا. هذا يعني أنها لا تهاتف فاطيما. تفاقمت هواجسي. إتصلت بها مرة أخرى. ما زال مشغولا. شعرت بدقات متوالية في رأسي. تدفق الدم مندفعا بلوثة الغيرة والارتياب. ترى مع من تتحدث في هذه الساعة؟
استعدت حواراتنا طوال الأسبوع الماضي. أغلبها ثرثرات أكاد لا أذكر منها شيئا: مشاكل العمل مع زميلاتها في البنك. ضغط تقفيل الحسابات السنوية، اضطرارها للعمل ثلاث ساعات بعد انتهاء المواعيد الرسمية بسبب عمليات الجرد. حلمها القديم في تصوير فيلم تسجيلي عن مصر الجديدة، وصفها المكرر لجمال منطقة "الكُربة" وعماراتها العتيقة الجميلة، وشوارع روكسي، الفيللات والمباني الأوروبية الطابع، قصر البارون، المريلاند، صباحاتها في "شانتييه" (المقهى السويسري) مع صديقات الطفولة وزميلات المدرسة ثم الجامعة.
ليس في هذا كله ما يستدعي الشكوك. أطفأت السيجارة، وعاودت الاتصال. الهاتف مشغول. "..أحبك .. سوف أقتلك". تسلل صوت الأغنية، بعد فترة صمت فصلت بين أغنيتين. خلعت قميصي والبنطلون ونمت عاريا. قبل أن أغفو بقليل سمعت تنهدات أنثوية كأنها تصدر عن امرأة تمارس الحب. تهيأ لي أنه مقطع من "مباديء الرغبة" كما يغنيها فريق "إنيجما".
شهيق وزفير، آهة مكتومة، ثم صرخة، بدت إعلانا جليا عن نشوة جسد يحاول التخلص من خرسه، عبر الظلام والغرف المغلقة.
أين يكمن هذان العاشقان، ولماذا يلوذ "صانع الحب" بالصمت بينما رفيقته لا تكف عن الصراخ مثيرة جوا حسيا شبقيا، يستيقظ له الجيران جميعا؟ ترتطم نوافذ غرف نومهم بالجدران. يتألق بياض عيونهم في الظلام. قبل أن تتفجر كرات من وهج أحمر، ينفثون خلفها سحب الدخان من تبغ، يحاولون به أن يهدئوا نيران الرغبة، إذ تتحول شقق البنايتين المتقابلتين إلى كتلة من الشبق، كل يعبر عن شهوته التي تلح على الأجساد تنشد الذرى.
نهضتُ من الفراش وتوجهت إلى النافذة، مرة أخرى. نظرت عبر الشيش، فلم أر شيئا لافتا. فتحت النافذة بحرص. تسللت بنظري. كانت أغلب نوافذ الجيران مغلقة، والغرف غارقة في الظلام.
أصختُ السمع. بدا الصوت قادما من صوب نافذة شقة الجيران المهجورة في العمارة المقابلة. ما زال صداه يتردد، بعد متوالية الصراخ؛ التي أحيت الجيران جميعا من موت المشاعر، وصمت الأرواح، ورتابة الملل، وأقنعة الزيف، ومرارة الواقع الذي كانوا يعيشونه قبل دقائق قليلات.
* الفصل الثاني من رواية "ابناء الجبلاوي"
* Peinture sur Soie
كبرياء
جلست أمام التليفزيون مستثارا. طفقتُ أبحث عن أي محطة إخبارية؛ "الجزيرة"، "العربية"، "الحرة"، ثم البرامج الأجنبية: "سي إن إن"، "بي بي سي". لا أثر لأي خبر عن غياب كتب نجيب محفوظ. ابتسمت بسخرية لأنني، بكل سذاجة، صدقت ما قالته لي بلا مراجعة.
لا تتعب من "اشتغالي"، بينما لا أكلّ من لعب دور الساذج، الذي يأخذ الأمور كلها بجدية، تجعل منه مادة سخرية جذابة في أغلب الدوائر التي يتحرك فيها، بما فيها الدائرة الضيقة الخاصة التي لا يوجد فيها سواي وسواها.
هذه هي شخصية نجوى بامتياز: غريبة الأطوار، متقلبة المزاج، ذات الاستعداد المَرَضي للنزعات الهيستيرية؛ المتطلبة، بينما تؤكد لي بمرح أنها مرنة جدا، وأن بإمكانها أن تتكيف مع كل الأجواء.
تقول أنها كانت فتاة خجولا، هادئة، بينما لا تقترح عليَّ سوى أكثر الملاهي الليلية صخبا. تعلن لي في أمسياتنا الرومانسية أنني الرجل الوحيد الذي عشقته في حياتها، بينما تَقُّص لي، بين آن وآخر، علاقة غرامية عابرة مرت بها، بشكل يوحي أنها لم تفعل شيئا آخر طوال مراهقتها إلا اصطياد العشاق.
تحدثني عن تواضعها وبساطتها، ولا تخلو حواراتها من نزعات بورجوازية، في علاقاتها المتعجرفة ببعض صديقاتها، أو أفراد العائلة من طرف أمها الذين كانت تصفهم بالفقراء. ثم تمارس نوعا من انتزاع الاعتراف، لأؤكد لها أنها جميلة، وأن جسدها هو أجمل ما شاهدته، وأن ردفيها أجمل ما رأته عيناي.
من جهتي كنت أردد ذلك، تحت ضغط نرجسيتها المفرطة. وكالعادة استدرجتني لمنطقها، وأوهمتني أن ما نفعله هو ممارسة جنسية، بينما الأمر لا يعدو كونه طقسا للاستعراض.
تتعرى تدريجيا. تجلس على الفراش أو أريكة غرفة النوم المواجهة للمكتب، وفقا لمزاجها، ثم تتيح لي، بكرم بالغ، ان أتأملها كيفما شئت. أما الشرط الذي بموجبه تمنحني عريها هذا بهذه الأريحية فهو "ممنوع اللمس". "إذا لمستني هالبس هدومي وامشي، ومش هتشوفني تاني أبدا". هذه هي الجملة الوحيدة التي تنطقها بالعربية، مع استثناء مكالماتنا الهاتفية، لأنها ربما الجملة الوحيدة التي تخرج من أعماقها بلا فلترة، ولا تحذلق، ولأنها تعنيها بصدق يفوق الكثير مما تقوله من قبيل اللغو أو الثرثرة.
*******
انتهيتُ من إعدادِ القهوة، وانحسرت رغبتي في مهاتفتها. عاودني شعوري بالغبن لأنها لم تعتذر، حتى، عن عدم حضورها في الموعد. تلكأتُ بتدخين سيجارة، وانتابتني الرغبة في الاستماع للموسيقى.
هبطت معنوياتي فجأة. سقطت في جب اكتئاب عميق، بلا قرار. إفتقدت الحياة جدواها. ولم يعد يناسبني سوى الاتجاه إلى الفراش، والنوم في الظلام محدقا إلى السقف.
بعد فترة من الصمت والسكون، فكرت في معاودة الاتصال..لكني لم أسمع سوى صوت صفارة متقطعة. هذا يعني أن الرقم مشغول. اتجهت إلى جهاز "الستريو". سمعت "تكّات" إعداد الاسطوانات من الجهاز، ثم انطلق صوت موسيقى "إنيجما".
عدت للفراش وأطفأت الضوء، قبل أن أضع رأسي على الوسادة متزامنا مع الإيقاع .."مباديء الرغبة من السهل أن تفهمها..مباديء الرغبة طير في عقلك". عاودت التحديق في السقف. حلت الهواجس كلها فجأة: تُرى مع من تتحدث هي في ذلك الوقت من الليل؟
اتصلت بهاتف منزل صديقتها المقربة فاطيما. سمعت صفارة الجرس فأغلقت السماعة فورا. هذا يعني أنها لا تهاتف فاطيما. تفاقمت هواجسي. إتصلت بها مرة أخرى. ما زال مشغولا. شعرت بدقات متوالية في رأسي. تدفق الدم مندفعا بلوثة الغيرة والارتياب. ترى مع من تتحدث في هذه الساعة؟
استعدت حواراتنا طوال الأسبوع الماضي. أغلبها ثرثرات أكاد لا أذكر منها شيئا: مشاكل العمل مع زميلاتها في البنك. ضغط تقفيل الحسابات السنوية، اضطرارها للعمل ثلاث ساعات بعد انتهاء المواعيد الرسمية بسبب عمليات الجرد. حلمها القديم في تصوير فيلم تسجيلي عن مصر الجديدة، وصفها المكرر لجمال منطقة "الكُربة" وعماراتها العتيقة الجميلة، وشوارع روكسي، الفيللات والمباني الأوروبية الطابع، قصر البارون، المريلاند، صباحاتها في "شانتييه" (المقهى السويسري) مع صديقات الطفولة وزميلات المدرسة ثم الجامعة.
ليس في هذا كله ما يستدعي الشكوك. أطفأت السيجارة، وعاودت الاتصال. الهاتف مشغول. "..أحبك .. سوف أقتلك". تسلل صوت الأغنية، بعد فترة صمت فصلت بين أغنيتين. خلعت قميصي والبنطلون ونمت عاريا. قبل أن أغفو بقليل سمعت تنهدات أنثوية كأنها تصدر عن امرأة تمارس الحب. تهيأ لي أنه مقطع من "مباديء الرغبة" كما يغنيها فريق "إنيجما".
شهيق وزفير، آهة مكتومة، ثم صرخة، بدت إعلانا جليا عن نشوة جسد يحاول التخلص من خرسه، عبر الظلام والغرف المغلقة.
أين يكمن هذان العاشقان، ولماذا يلوذ "صانع الحب" بالصمت بينما رفيقته لا تكف عن الصراخ مثيرة جوا حسيا شبقيا، يستيقظ له الجيران جميعا؟ ترتطم نوافذ غرف نومهم بالجدران. يتألق بياض عيونهم في الظلام. قبل أن تتفجر كرات من وهج أحمر، ينفثون خلفها سحب الدخان من تبغ، يحاولون به أن يهدئوا نيران الرغبة، إذ تتحول شقق البنايتين المتقابلتين إلى كتلة من الشبق، كل يعبر عن شهوته التي تلح على الأجساد تنشد الذرى.
نهضتُ من الفراش وتوجهت إلى النافذة، مرة أخرى. نظرت عبر الشيش، فلم أر شيئا لافتا. فتحت النافذة بحرص. تسللت بنظري. كانت أغلب نوافذ الجيران مغلقة، والغرف غارقة في الظلام.
أصختُ السمع. بدا الصوت قادما من صوب نافذة شقة الجيران المهجورة في العمارة المقابلة. ما زال صداه يتردد، بعد متوالية الصراخ؛ التي أحيت الجيران جميعا من موت المشاعر، وصمت الأرواح، ورتابة الملل، وأقنعة الزيف، ومرارة الواقع الذي كانوا يعيشونه قبل دقائق قليلات.
* الفصل الثاني من رواية "ابناء الجبلاوي"
* Peinture sur Soie