نقوس المهدي
كاتب
إهداء : إلى سيدي عبد الله قش ، نفعنا الله ببركته .
مضى الآن أكثر من عشرين عاما على آخر زيارة لي لهذا الشارع . أنا الآن في الأربعين . رجل محترم . رجل محترم جدا . ولست أدري أي شيطان ركب رأسي وقادني إلى سوق زرقون * . الكتب مازالت كعهدي بها مكدسة على قارعة الطريق .كتب باللغة العربية : الشيخ العارف أبي عبدالله محمد بن أبي بكر علي النفزاوي يعرض كتاب الروض العطر في نزهة الخاطر ، ويحكي علنا بصوته الطنان عن المحمود من النساء والمكروه من الرجال . عن كيفية الجماع وعن مضراته . عن مكائد النساء ، وعن الأدوية التي تسقط النطفة من الرحم . عن أسباب شهوة الجماع وعما يقوي عليه .
وابن شداد يصيح : حصاني كان دلال المنايا ...
و رأس الغول مقسوم إلى شطرين . وسيف علي بن أبي طالب ما زال يقطر من دمه .
وكتاب دلائل الخيرات .
والمنفرجة : اشتدي أزمة تنفرجي * قد آذن ليلك بالبلج
ومسجلات تصرخ بمدائح عن مولد الرسول :
عطر اللهم قبره الكريم * بعرف شذي من صلاة وتسليم * اللهم صلي وسلم وبارك عليه .
وديوان المتنبي مخطوطا بالحرف المغربي الأنيق ، وبماء الذهب :
وما المجد إلا السيف والفتكة البكر * وتضريب أعناق الملوك * وأن ترى لك الهبوات البيض * والعسكر المجر * وتركك في الدنيا دويا ...
وبين القصرين والسكرية وقصر الشوق . مبروك يا نجيب محفوظ .ولن أقول مع القائلين بأن ملك السويد توجك بتاج نوبل لأنك باركت كامب ديفد ، وصفقت للسلام مع إسرائيل .
وكتب مبلولة بماء المطر .
وكتب صفراء تفوح منها رائحة الجراد الميت .
وكتب حمراء تحمل صور لينين حزينا مهموما .
وكتب باللغة العبرية من بقايا يهود تونس ، سافر أصحابها ونسوها هنا .
ربما للذكرى .
وكتب إيطالية ومالطية .
وكتب فرنسية : روايات وأشعارا .
وكتب تاريخ : نابليون بونابارت أمام اهرامات الجيزة .
ولويس الرابع عشر يجادل وزراءه .وثوارال89. والملكة الرقيقة تقذف الرعاع بالبسكويت من فوق شرفات القصر . وديدرو ومنتسكيو وفولتير .
وأبحلق بعيون كثيرة في المقصلة التي ذبحت الملك .
وأقوم أساوم البائع . أدفع له الدراهم وأتأبط رزمة الكتب .
ولعن الله هذه المسجلات وأغانيها الهابطة التي حرمتني من الاستماع إلى تحية أصدقائي تأتي خافتة من تحت إبطي . من وسط رزمة الكتب : شكرا يا رجل لقد تناسانا الخلق هنا . كنا نموت مرتين في العام ، بردا في الشتاء وحرا في الصيف ولكن ها نحن كما ترى في صحة جيدة .
قال لينين : لقد داس على عنقي رجل ملتح وسبني . وقال لأصحابه دوسوا على هذه الجيفة . لقد شفي غليلي عندما رأيت كتبه في الزبالة في سان بطرس بورغ وصوفيا وتيرانا . سأعود غدا لأشتريه وأحرق جثته أمام المسجد .
شيء واحد لم يتغير في هذه الأسواق : إلحاح الباعة المتجولين :
-خذ هذا السروال بعشرة دنانير يا سيدي .
- لا أريده .
- خذه بخمسة فقط .
- لا .
- خذه ببلاش يا..
- قلت لك لا .
- يلعن أبو والديك .
يقولها ويتركني ليصطاد زبونا آخر .
وأواصل السير داخل دهاليز السوق .
ويصدمني بائع آخر يعرض أمامي سلعا مهربة : ساعات من ايطاليا وشفرات حلاقة مدموغة ب صنع في إسرائيل وراديوهات وأشرطة كاسات للفيديو وسراويل دجين ....
وأهرب من وجهه فيلح . وأقول إنني لا أملك نقودا ، فيكاد يفتش داخل جيوبي . وأحمد الرب لأنه قبض على زبون آخر . وأهرب فتصدمني روائح البخور والند والحنة وعود القماري القادمة من هناك ، من شارع سيدي عبد الله قش *.
عشرون سنة مرت على آخر زيارة لي لهذا الشارع . وأنا الآن رجل محترم . رجل محترم جدا .النساء طوع بناني . بنات الأوتيلات الفاخرة ، والملاهي . أشير بإصبعي فتأتي بلقيس إلى طاولتي . فماذا جاء بي إلى هنا ؟
وتزمجر أشرطة الكاسات :
- حبيبي يا صحابي جاني * من بعد الفراق هناني **
- فأتذكر : قالوا زيني عامل حالة * ما لا لا
بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .
وأرى الصالحة أمام باب الماخور ، تهز ردفيها وتحرك نهديها بطريقة تغري ملائكة الرحمان :
- بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .
وأصعد وراءها درجات السلم واحدة واحدة . وعيناي تنبحان ككلب شرس .
وصاحبتي تهرب من العيون الكاسرة . وتضرب الباب برجليها بعدما ألج الغرفة :
بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .
ماذا جاء بي إلى هنا ، وأنا الآن رجل محترم جدا ؟
*****
روح يا ولد القحبة .
وتلوح في وجه الطفل بعصاها .
طفل .
وعصاها .
وولد القحبة .
وقهرمانة واقفة بالباب .
روح يا فاسد الله يلعن والديك . أولاد آخر زمن . على عهدنا كان الرجال يهابون سطوة هذا الشارع .
هذا بابها .
ها هنا كنا نرقص .
وتغمز بعينيها
وتبيع لمن يشتري .
وكنت دائما أشتري . في الربح وفي الخسارة . ولا أتذمر .
أطلب منها أن تغني ، فتغنيني :
أم القد طويل * آ صالحة * أم القد طويل *
أم القد طويل * وزينك ما ريتو في جيل * آ صالحة .
فأدفع الثمن وأهرب . وتناديني ، وأهرب .
وتتعرى من ورق التوت ، وأهرب .
وأقول لها : لن أعود أليك مرة أخرى ، وأعود
وأضرب الدف ، فترقص ، وتغني :
قدك بابور * صالحة
عوام بحور * صالحة
عوام بحور * ورسى على تونس بالليل * آ صالحة
وأضرب الدف . وأقول : بكم أشتريك يا صالحة ؟
فترد : بدينار واحد يا صاحبي .
وأضع الدف فوق السرير . وأهبط درجات السلم واحدة واحدة . وأضع يدي أمام فمي على هيئة بوق ، وأصيح : لن أعود إليك مرة أخرى يا صالحة .
فترد ضاحكة : حاول ، وإذا نجحت شريت لك نزل أفريكا .
*****
روح يا ولد القحبة ...
وتنغرس في أذني هذه الكلمات كالمسامير. وترتبك خطواتي .ويحمر وجهي . ولا أدري ماذا أفعل .
يا ولد القحبة ...
ويقفز من أمامي طفل يحمل رزمة أغطية للرأس ، فولارات ، ذات ألوان زاهية . يصدمني في اندفاعه ، فأكاد أسقط على الأرض .
يعتذر الطفل : هذه القهرمانة ترفض دفع ثمن مشترياتها .
التفت حيث يشير الطفل ، فأراها . ويندفع الغناء في أذني رخيما كشدو البلابل :
شارد بهواك * صالحة
وانت مابطاك * صالحة
نخطب باباك * ونعزمله في نصف الليل
لكان اعطاك * انحطك في جيبي ليمين * آ صالحة .
وأنظر إلى المرأة . القوادة الواقفة أمام باب البيت .فوق آخر درجة . كانت تحمل في يدها عصا من البلاستيك وتلوح بالعصا في كل الاتجاهات .
رأيت نظارة طبية فوق أرنبة أنفها . فسويت ملابسي ، ومشيت .
هذه العين السوداء التي تطل من وراء النظارة ، أعرفها .
وأمشي ...
هذه العين التي تذبح كالمدية ، أعرفها .
وأمشي ...
البيوت على جانبي الطريق مفتوحة الأبواب . واللحم معروض للفرجة . وأكداس من الرجال أمام الأبواب يتفرجون على امرأة تعرض نهديها .
وأمشي ...
صاحبتي كانت دائما ترسم خالا على خدها الأيمن ، فوق الشفة العليا . وتلك القوادة ، الواقفة بالباب ، هل كان لها خال ؟
وأمشي ...
أنتبه إلى أرجل المارة حتى لا أدوسها .
وأمشي ...
ينقذف كهل داخل بيت تكدس أمامه الخلق ، ويئز الباب وراءه . وتصيح مطربة بأغنية ماجنة . وتنبح الكلاب بين أفخاذنا.
وأمشي ...
صاحبتي لم تكن تضع نظارة طبية فوق أنفها .
ووسع ولد القحبة ... اترك الطريق للمارين ...
يتفرق الشباب من أمام الأبواب . يتركون المكان والحسرة تأكل قلوبهم . ويتكدس مكانهم رجال آخرون .
وأمشي ...
ويمشي معي الطريق ...
وأجدني من جديد أمام باب القهرمانة التي جرت وراء الطفل ، بائع أغطية الرأس .
أرى الخال على صفحة الخد ، فيقرع قلبي طبول الفرح . وأتعرف على العينين اللتين تذبحان كالمدية .
وأنا الآن رجل محترم .
رجل محترم جدا .
وهذا الخال عزيز على قلبي .
وأمشي ...
وينشي معي الطريق ...
ما كنت وقتها أضع ربطة عنق .
ما كنت ألبس البدلات الفاخرة .
ما كنت مترهلا .
وبطني ، ما كان بها هذا الكدس الكبير من اللحم والشحم .
كنت أكره الرجال ذوي البطون السمينة . وأسبهم أمامها وأقول لها : سآتيك يوما بشواء من مؤخرة رجل سمين . فتضحك وتقول : سأطعمك من هذا اللحم مع كؤوس الجعة . فأعضها من عنقها الطويل . وأمص شفتيها . فتبكي وتقول : سآكل معك من لحوم الرجال السمان .
وأعود مرة أخرى أتثبت في العينين اللتين تذبحان كالمدية .
هي الآن تحكي مع بنت . حلوة كالشهد هذه البنت التي تحكي معها . اقترب منهما . تنظران نحوي . ليس من عادة الرجال المحترمين جدا الذهاب إلى هذا الشارع مادامت السلعة معروضة في الأنزال الفاخرة . أسلم عليهما . تردان السلام . أدخل . تدخل البنت ورائي . تتعرى البنت .وأجلس على حافة السرير .
ما اسمك يا بنت ؟ -
- ميمي يا سيدي .
- ومن أسماك ميمي يا بنت ؟
- للا الصالحة يا سيدي .
- من ؟
- للا الصالحة يا سيدي .
وتدق أجراس كل كنائس العالم في رأسي ، فأموت جالسا على حافة السرير . وتهدهدني البنت ، فأبعث من جديد شابا في العشرين من عمري .أمرغ وجهي في وجه صالحة ، فتمسح دم الجرح النازف فوق الحاجب الأيمن، ومن الفكين ،وداخل شعر الرأس .
تقول : ستهلك نفسك يا صاحبي . أنا لا أفهم في السياسة ولكنني متأكدة من أنها ستقتلك .
وترشني بماء الكونوليا . وتقبلني . فأموت بين يديها . وتحييني من جديد هزات السرير .
*****
تعرفت عليها عندما فرق البوليس مظاهرة كنت مشاركا فيها . انطلقنا من ساحة الباساج نلوح بالأيدي وبالأعلام الحمراء . ونهتف بسقوط أمريكا ، والأمبريالية العالمية ، وروجرس ، وفك الارتباط على قناة السويس . ونهتف بالنصر لثوار الفيت كونغ ، وهوشي منه ، وغيفارا ، وكاسترو .
طفنا بشوارع باريس ، ومحمد الخامس ، والحرية ، والحبيب بورقيبة . وعندما وصلنا إلى شارع فرنسا فرقنا البوليس . وجرى وراءنا . فهربنا داخل شوارع المدينة العتيقة . جرينا وجرى البوليس وراءنا .
وامتدت العصي الغليظة تضرب .
والأيدي تضرب .
ومؤخرات البنادق تضرب .
وسال الدم .
وطارت الخراطيش الفارغة في الهواء . وزدنا في سب جونسون ، فزادت شراسة البوليس .
وامتلأ الجو برائحة القنابل المسيلة للدموع . وضاقت بنا السبل .
وجدت نفسي محاصرا ، فاندفعت باتجاه نهج زرقون . جرت الكلاب ورائي ، فجريت أسرع منها . سمعت نباحها خلف ظهري . وتصورت أنيابها الحادة تنغرس في مؤخرتي . فجريت ... وجريت ... وجريت ، إلى أن رأيت العيون التي تذبح كالمدية .
نادتني : تعال هنا أيها الهارب .
لوحت بيدها ونادتني : تعال هنا أيها الهارب .
ووصلت الكلاب فلم تجد سوى الأبواب الموصدة .
نبحت الكلاب كثيرا ، وبالت على الحيطان ، وعادت أدراجها تلهث .
عندما غاب نباح الكلاب ، خرجت من عند المرأة شكرتها كثيرا ، وبست يدها ، وغادرت المكان .وجدتني في شارع سيدي عبدالله قش .
مادا سيقول عنك الرفاق يا رجل لو رأوك تخرج من عند هذه المرأة ؟
ماذا ستقول لهم وقد كنت قبل حين تهتف بسقوط أمريكا ؟
ماذا ؟ وماذا ؟ وماذا ؟ ماذا ستفعل ؟
وقررت الهرب . انسللت من شارع خلفي ، ولذت بالأنهج الضيقة إلى أن رأيت قرص الشمس يتدلى من سقف السماء . والمدينة مازالت تغلي ... والناس يهرولون ... وسيارات الشرطة ملأى بالشباب ...وكلاب البوليس تنبح وتتبول على أرجل المارة ، فاندسست بين العابرين ، وعدت إلى مبيت الجامعة .
*****
- أين للا صالحة يا بنت ؟
- أمام الباب سيدي الكريم
- البطرونة يا بنت ؟
- نعم سيدي هي بعينها .
أهلكتني السياسة يا صالحة . أنا الآن رجل محترم . رجل محترم جدا . ألبس ربطات العنق الحريرية ، والبدلات الباريسية ، وأتعطر كالمومس ، وأجلس في الكرسي الأخير في السيارة المرسيدس .أجلس وراء السائق الذي ينزل دائما قبلي ليفتح لي الباب ويحمل عني الحقيبة . أمام الإدارة ، تستقبلني الابتسامات الكاذبة ، ويقف عند مروري العمال والموظفون . ويبوس رؤساء الأقسام أرجلي . ويمسي السعاة كالحجل أمامي وخلفي .يحملون لي القهوة والشاي . ويوشوشون في أذني كلاما كثيرا : سي علي يحكي عن الاضرابات . سي عمار يدين تدخل أمريكا في بنما . سي عبدالله هرب من الشغل قبل انتهاء الدوام . وفاطمة تغازل رئيس القسم الفلاني .وخديجة تقول إن ثمن كيلو اللحم ارتفع كثيرا . و... أهلكتني السياسة يا صالحة .
طلبت من البنت أن تنادي للا صالحة . وضعت فوقها بعضا من الملابس وخرجت . بعد دقائق ، وصلت صالحة .طلبت منها أن تجلس . حركت النظارة وتفرست في وجهي هنيهة ، وجلست على الكرسي ، أمام السرير .
قالت : طلبتني يا سيد ؟
وزغردت عصافير باب البحر في قلبي . هذا الصوت أعرفه . به بحة الآن . بحة الكبر وكثرة التدخين . والخال مازال في مكانه . هناك . فوق الشفة . تفرست في عنقها الطويل . به الآن بعض التجاعيد ، ولكنها لا تعيبه . أعطيت للبنت عشرين دينارا وطلبت منها أن تتركنا وحدنا . رقصت الفرحة في عيني الطفلة ، وخرجت ، فعدت إلى للا الصالحة . مازال بعض من فصل الربيع على وجهها . والدف مازال في مكانه ، فوق السرير ، على يمين الباب . مددت يدي . مسحت التراب من على جلده . ونقرت بإصبعي بعض النقرات الخفيفة . نطت الفرحة من عينيها ، فغنيت بصوت خافت :
أم القد طويل * آ صالحة * أم القد طويل
أم القد طويل * وزينك ما ريتهو في جيل * آ صالحة
وقفت . نزعت النظارة وارتمت في حضني . هو أنت إذن يا ابن القحبة . قلبي قال : انك أنت وعقلي قال: لا . فأنت تكره البطون السمينة . قل ، هل هذا اللحم والشحم لك وحدك ؟ وراحت تدغدغني في بطني السمينة ، وتخنقني بربطة العنق وهي تردد :
وتضع ربطة عنق حريرية يا خنزير . ترقب قليلا حتى آتي بالسكين من المطبخ . سأقطع بعضا من لحم مؤخرتك لأشويه ولتأكله مع الجعة .
وتضحك . وأضحك . وأضعها في حضني ، فتفتح لي قلبها وتدسني فيه .
*****
كانت قد مرت بضعة أيام عن المظاهرة . وكانت جراح وجهي قد تماثلت للشفاء ، حين تذكرت المرأة التي أجارتني في شارع سيدي عبد الله قش . مرت صورتها في خاطري كالحلم الجميل .قلت ،: لماذا لا أذهب أليها وأشكرها ؟ خاصة وان كثيرا من رفاقي الدين اصطادتهم كلاب البوليس ما عادوا إلى الجامعة . اشتريت لها هدية صغيرة ، وذهبت . كان بابها موصدا . ترقبت حتى خرج زبون من زبائنها . سلمت عليها ، ففتحت لي الباب واسعا ، ونظرت في جرحي ، وقالت : الحمد لله .
أعطيتها باقة الورد فباستني ، وبدأت تتعرى .
قلت : لا تنزعي ثيابك . لم أجئ لهذا .
ولماذا جئت إذن أيها الملاك الطاهر ؟
جئت لأسلم عليك .
أهلا وسهلا وألف ألف مرحبا .
وأهديك هذه الورود .
مرحبا بالوردود وبروح الورود .
وتعرت كحواء يوم أكلت من تفاح الجنة . وتمددت على السرير .و قالت : تعال إلى هنا ، ولا تدفع ، فأنا أعرف أنك مفلس .
سال العرق على جبيني . عرق بارد . ودق قلبي كطبل يوم العيد . وهربت من الدار .سرت في أزقة المدينة العتيقة إلى أن تعبت ... لماذا ذهبت إليها أيها الوغد ؟ هي قحبة وقد أغراها شبابك مادام جيبك فارغ . ألم تشكرها يوم المظاهرة فلماذا عدت إليها إن لم يكن طمعا في لحمها ؟ ألم تقل إن لها عينا تذبح كالمدية ؟ ولكنني ضد هذه التجارة . أنا لا أحتمل ركوب امرأة قتيلة . كيف أستطيع تقدير ثمن المتعة التي تبيعها ، وهي تموت ألف مرة مع كل هزة من هزات السرير ؟
*****
قالت : سنحتفل الليلة بقدومك .
ونادت البنت . أخرجت أوراقا نقدية من جيبي وطلبت منها أن تذهب لتشتري لنا قوارير خمرة . طلبت منها أن تشتري ما يسكر سكان الماخور . وخرجت البنت .
فعادت تقول :
أما زلت تؤمن بإغلاق دور البغاء وتشغيل العاملات فيها في المصانع والمعامل التي ستحدثها الثورة ؟
قلت : لقد أفسدتني السياسة يا صالحة . بالله عليك لا تحيي هذا الجرح المندمل .
قالت : عشرون سنة ونحن نترقب اليوم الذي وعدتنا فيه بتحرير أجسامنا من مني الرجال السكارى والمرضى والمنبوذين .
أحسست بالسكين تغوص في اللحم الحي .وتذكرت الأيام التي كنت أحكي لها فيها عن ثوار الفيت كونغ ، وطلاب باريس ، والثورة الثقافية في الصين .
وكانت تضحك وتقول : أنا لا أفهم في السياسة يا صاحبي .
فأقول لها : ستفهمين بعد التحرير يا صالحة .
وها هي اليوم تعمل قوادة في ماخور .
وها أنا رجل محترم .
رجل محترم جدا .
بعد أن أعطيتها الورود ، وهربت من الدار كأنني راهب ، تسكعت في الطريق حتى كلت خطاي ،
وعاودني صوت امرأة الماخور أكثر من مرة :
تعال إلى هنا عندما تصير رجلا يا صاحبي .
ترددت كثيرا ثم عزمت على العودة إليها .
قالت بعدما أغلقت وراءنا الباب : لماذا تهرب مني يا صاحبي ؟
قلت : لأنني أريد تحريرك من مني الرجال .
قالت : متى ؟
قلت : عندما يتحرر الرجال .
قالت ومتى سيتحرر هؤلاء الرجال ؟ غدا ؟ أو بعد غد ؟
ثم دفعتني على السرير ، وأطعمتني من تفاح الجنة . فكدت أطير من اللذة .
قالت : ما رأيك لو أعلمك ضرب الدف وأرقص لك وحدك ؟
قلت : وهل تظنين أنني سأعود إلى هنا مرة أخرى ؟
قالت : ستعود ...
وكررت بإصرار عجيب : ستعود حتما .
وتعطل عقلي . أدخلته الثلاجة ، وأغلقت عليه الباب بسبعة أقفال . ورميت بما جاء في الكتب في البالوعة . وهمت بها وجدا .
قال عني الرفاق إنني مرتد عندما اكتشفوا ترددي على شارع البغايا . ولم ينفعني ادعائي الجنون .
كانت صاحبتي قد علمتني ضرب الدف حتى أتقنت الصنعة . ورقصت لي وحدي . رقصت وغنت . وأغلقت بابها في وجوه الزبائن الآخرين ....
وأفقت ذات يوم وهي تطلب مني أن أفي بوعدي ، وأحررها من مني السكارى والمراهقين .
قلت : كيف ؟
ردت : تزوجني . عندي ما يكفينا لبناء حياة جديدة .
*****
عادت البنت بقوارير الويسكي ، وذهبت إلى المطبخ تشوي اللحم ، فتمددت على السرير . جاءت صالحة وجلست على الحافة فقمت أليها ووضعت رأسي في حجرها ، وأغفيت إلى أن جاءت البنت باللحم المشوي وبكؤوس صغيرة فوق صينية من الفضة . وتركتنا وغادرت البيت . ملأت صالحة كأسينا فضربنا نخبينا .
وقالت : في صحة ثوار الفيت كونغ .
فقلت : في صحة طلاب باريس .
وتبادلنا كؤوس المدام إلى أن أظلمت الدنيا واشتعلت أضواء فوانيس الكهرباء .
قالت : ما رأيك لو تضرب لي قليلا على الدف ؟
قلت : لا مانع عندي .
أمسكت الدف بين ركبتي وضربت : دم .تك تك تك .دم .فقامت ثملة . ربطت مؤخرتها بغطاء رأسها ، وبدأت ترقص . وضربت الدف ، وحركته في الهواء ، فأحدث خشخشة لذيذة .
فتحت الصالحة الباب ، ونزلت الدرجات واحدة واحدة وهي ترقص ، وأنا وراءها أضرب على الدف ، إلى أن وصلنا إلى الشارع .
جاءت البنت تجري . وجاءت نساء الشارع الأخريات . وجاء رواد الحي .
تحلق الجميع يتفرجون على المرأة الكهلة التي ترقص على نغمات دف يضربه رجل محترم ...
رجل محترم جدا ...
إحالات على القصة :
1- سيدي عبدالله قش : عنوان شارع البغاء في المحروسة تونس العاصمة .
2- نهج زرقون : سوق الأنتيكات بتونس ، منه تصل مباشرة إلى الشارع المذكور آنفا .
3- حبيبي يا صحابي جاني : أغنية لمطربة تونسية اشتهرت في بداية تسعينات القرن الماضي .
4- قالوا زيني عامل حاله : أغنية للفنانة علية التونسية غنتها في سبعينات القرن الماضي .
5- أم القد طويل آ صالحة : أغنية لمطربة تونس الأولى الفنانة نعمة ، غنتها في ستينات القرن الماضي
.
مضى الآن أكثر من عشرين عاما على آخر زيارة لي لهذا الشارع . أنا الآن في الأربعين . رجل محترم . رجل محترم جدا . ولست أدري أي شيطان ركب رأسي وقادني إلى سوق زرقون * . الكتب مازالت كعهدي بها مكدسة على قارعة الطريق .كتب باللغة العربية : الشيخ العارف أبي عبدالله محمد بن أبي بكر علي النفزاوي يعرض كتاب الروض العطر في نزهة الخاطر ، ويحكي علنا بصوته الطنان عن المحمود من النساء والمكروه من الرجال . عن كيفية الجماع وعن مضراته . عن مكائد النساء ، وعن الأدوية التي تسقط النطفة من الرحم . عن أسباب شهوة الجماع وعما يقوي عليه .
وابن شداد يصيح : حصاني كان دلال المنايا ...
و رأس الغول مقسوم إلى شطرين . وسيف علي بن أبي طالب ما زال يقطر من دمه .
وكتاب دلائل الخيرات .
والمنفرجة : اشتدي أزمة تنفرجي * قد آذن ليلك بالبلج
ومسجلات تصرخ بمدائح عن مولد الرسول :
عطر اللهم قبره الكريم * بعرف شذي من صلاة وتسليم * اللهم صلي وسلم وبارك عليه .
وديوان المتنبي مخطوطا بالحرف المغربي الأنيق ، وبماء الذهب :
وما المجد إلا السيف والفتكة البكر * وتضريب أعناق الملوك * وأن ترى لك الهبوات البيض * والعسكر المجر * وتركك في الدنيا دويا ...
وبين القصرين والسكرية وقصر الشوق . مبروك يا نجيب محفوظ .ولن أقول مع القائلين بأن ملك السويد توجك بتاج نوبل لأنك باركت كامب ديفد ، وصفقت للسلام مع إسرائيل .
وكتب مبلولة بماء المطر .
وكتب صفراء تفوح منها رائحة الجراد الميت .
وكتب حمراء تحمل صور لينين حزينا مهموما .
وكتب باللغة العبرية من بقايا يهود تونس ، سافر أصحابها ونسوها هنا .
ربما للذكرى .
وكتب إيطالية ومالطية .
وكتب فرنسية : روايات وأشعارا .
وكتب تاريخ : نابليون بونابارت أمام اهرامات الجيزة .
ولويس الرابع عشر يجادل وزراءه .وثوارال89. والملكة الرقيقة تقذف الرعاع بالبسكويت من فوق شرفات القصر . وديدرو ومنتسكيو وفولتير .
وأبحلق بعيون كثيرة في المقصلة التي ذبحت الملك .
وأقوم أساوم البائع . أدفع له الدراهم وأتأبط رزمة الكتب .
ولعن الله هذه المسجلات وأغانيها الهابطة التي حرمتني من الاستماع إلى تحية أصدقائي تأتي خافتة من تحت إبطي . من وسط رزمة الكتب : شكرا يا رجل لقد تناسانا الخلق هنا . كنا نموت مرتين في العام ، بردا في الشتاء وحرا في الصيف ولكن ها نحن كما ترى في صحة جيدة .
قال لينين : لقد داس على عنقي رجل ملتح وسبني . وقال لأصحابه دوسوا على هذه الجيفة . لقد شفي غليلي عندما رأيت كتبه في الزبالة في سان بطرس بورغ وصوفيا وتيرانا . سأعود غدا لأشتريه وأحرق جثته أمام المسجد .
شيء واحد لم يتغير في هذه الأسواق : إلحاح الباعة المتجولين :
-خذ هذا السروال بعشرة دنانير يا سيدي .
- لا أريده .
- خذه بخمسة فقط .
- لا .
- خذه ببلاش يا..
- قلت لك لا .
- يلعن أبو والديك .
يقولها ويتركني ليصطاد زبونا آخر .
وأواصل السير داخل دهاليز السوق .
ويصدمني بائع آخر يعرض أمامي سلعا مهربة : ساعات من ايطاليا وشفرات حلاقة مدموغة ب صنع في إسرائيل وراديوهات وأشرطة كاسات للفيديو وسراويل دجين ....
وأهرب من وجهه فيلح . وأقول إنني لا أملك نقودا ، فيكاد يفتش داخل جيوبي . وأحمد الرب لأنه قبض على زبون آخر . وأهرب فتصدمني روائح البخور والند والحنة وعود القماري القادمة من هناك ، من شارع سيدي عبد الله قش *.
عشرون سنة مرت على آخر زيارة لي لهذا الشارع . وأنا الآن رجل محترم . رجل محترم جدا .النساء طوع بناني . بنات الأوتيلات الفاخرة ، والملاهي . أشير بإصبعي فتأتي بلقيس إلى طاولتي . فماذا جاء بي إلى هنا ؟
وتزمجر أشرطة الكاسات :
- حبيبي يا صحابي جاني * من بعد الفراق هناني **
- فأتذكر : قالوا زيني عامل حالة * ما لا لا
بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .
وأرى الصالحة أمام باب الماخور ، تهز ردفيها وتحرك نهديها بطريقة تغري ملائكة الرحمان :
- بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .
وأصعد وراءها درجات السلم واحدة واحدة . وعيناي تنبحان ككلب شرس .
وصاحبتي تهرب من العيون الكاسرة . وتضرب الباب برجليها بعدما ألج الغرفة :
بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .
ماذا جاء بي إلى هنا ، وأنا الآن رجل محترم جدا ؟
*****
روح يا ولد القحبة .
وتلوح في وجه الطفل بعصاها .
طفل .
وعصاها .
وولد القحبة .
وقهرمانة واقفة بالباب .
روح يا فاسد الله يلعن والديك . أولاد آخر زمن . على عهدنا كان الرجال يهابون سطوة هذا الشارع .
هذا بابها .
ها هنا كنا نرقص .
وتغمز بعينيها
وتبيع لمن يشتري .
وكنت دائما أشتري . في الربح وفي الخسارة . ولا أتذمر .
أطلب منها أن تغني ، فتغنيني :
أم القد طويل * آ صالحة * أم القد طويل *
أم القد طويل * وزينك ما ريتو في جيل * آ صالحة .
فأدفع الثمن وأهرب . وتناديني ، وأهرب .
وتتعرى من ورق التوت ، وأهرب .
وأقول لها : لن أعود أليك مرة أخرى ، وأعود
وأضرب الدف ، فترقص ، وتغني :
قدك بابور * صالحة
عوام بحور * صالحة
عوام بحور * ورسى على تونس بالليل * آ صالحة
وأضرب الدف . وأقول : بكم أشتريك يا صالحة ؟
فترد : بدينار واحد يا صاحبي .
وأضع الدف فوق السرير . وأهبط درجات السلم واحدة واحدة . وأضع يدي أمام فمي على هيئة بوق ، وأصيح : لن أعود إليك مرة أخرى يا صالحة .
فترد ضاحكة : حاول ، وإذا نجحت شريت لك نزل أفريكا .
*****
روح يا ولد القحبة ...
وتنغرس في أذني هذه الكلمات كالمسامير. وترتبك خطواتي .ويحمر وجهي . ولا أدري ماذا أفعل .
يا ولد القحبة ...
ويقفز من أمامي طفل يحمل رزمة أغطية للرأس ، فولارات ، ذات ألوان زاهية . يصدمني في اندفاعه ، فأكاد أسقط على الأرض .
يعتذر الطفل : هذه القهرمانة ترفض دفع ثمن مشترياتها .
التفت حيث يشير الطفل ، فأراها . ويندفع الغناء في أذني رخيما كشدو البلابل :
شارد بهواك * صالحة
وانت مابطاك * صالحة
نخطب باباك * ونعزمله في نصف الليل
لكان اعطاك * انحطك في جيبي ليمين * آ صالحة .
وأنظر إلى المرأة . القوادة الواقفة أمام باب البيت .فوق آخر درجة . كانت تحمل في يدها عصا من البلاستيك وتلوح بالعصا في كل الاتجاهات .
رأيت نظارة طبية فوق أرنبة أنفها . فسويت ملابسي ، ومشيت .
هذه العين السوداء التي تطل من وراء النظارة ، أعرفها .
وأمشي ...
هذه العين التي تذبح كالمدية ، أعرفها .
وأمشي ...
البيوت على جانبي الطريق مفتوحة الأبواب . واللحم معروض للفرجة . وأكداس من الرجال أمام الأبواب يتفرجون على امرأة تعرض نهديها .
وأمشي ...
صاحبتي كانت دائما ترسم خالا على خدها الأيمن ، فوق الشفة العليا . وتلك القوادة ، الواقفة بالباب ، هل كان لها خال ؟
وأمشي ...
أنتبه إلى أرجل المارة حتى لا أدوسها .
وأمشي ...
ينقذف كهل داخل بيت تكدس أمامه الخلق ، ويئز الباب وراءه . وتصيح مطربة بأغنية ماجنة . وتنبح الكلاب بين أفخاذنا.
وأمشي ...
صاحبتي لم تكن تضع نظارة طبية فوق أنفها .
ووسع ولد القحبة ... اترك الطريق للمارين ...
يتفرق الشباب من أمام الأبواب . يتركون المكان والحسرة تأكل قلوبهم . ويتكدس مكانهم رجال آخرون .
وأمشي ...
ويمشي معي الطريق ...
وأجدني من جديد أمام باب القهرمانة التي جرت وراء الطفل ، بائع أغطية الرأس .
أرى الخال على صفحة الخد ، فيقرع قلبي طبول الفرح . وأتعرف على العينين اللتين تذبحان كالمدية .
وأنا الآن رجل محترم .
رجل محترم جدا .
وهذا الخال عزيز على قلبي .
وأمشي ...
وينشي معي الطريق ...
ما كنت وقتها أضع ربطة عنق .
ما كنت ألبس البدلات الفاخرة .
ما كنت مترهلا .
وبطني ، ما كان بها هذا الكدس الكبير من اللحم والشحم .
كنت أكره الرجال ذوي البطون السمينة . وأسبهم أمامها وأقول لها : سآتيك يوما بشواء من مؤخرة رجل سمين . فتضحك وتقول : سأطعمك من هذا اللحم مع كؤوس الجعة . فأعضها من عنقها الطويل . وأمص شفتيها . فتبكي وتقول : سآكل معك من لحوم الرجال السمان .
وأعود مرة أخرى أتثبت في العينين اللتين تذبحان كالمدية .
هي الآن تحكي مع بنت . حلوة كالشهد هذه البنت التي تحكي معها . اقترب منهما . تنظران نحوي . ليس من عادة الرجال المحترمين جدا الذهاب إلى هذا الشارع مادامت السلعة معروضة في الأنزال الفاخرة . أسلم عليهما . تردان السلام . أدخل . تدخل البنت ورائي . تتعرى البنت .وأجلس على حافة السرير .
ما اسمك يا بنت ؟ -
- ميمي يا سيدي .
- ومن أسماك ميمي يا بنت ؟
- للا الصالحة يا سيدي .
- من ؟
- للا الصالحة يا سيدي .
وتدق أجراس كل كنائس العالم في رأسي ، فأموت جالسا على حافة السرير . وتهدهدني البنت ، فأبعث من جديد شابا في العشرين من عمري .أمرغ وجهي في وجه صالحة ، فتمسح دم الجرح النازف فوق الحاجب الأيمن، ومن الفكين ،وداخل شعر الرأس .
تقول : ستهلك نفسك يا صاحبي . أنا لا أفهم في السياسة ولكنني متأكدة من أنها ستقتلك .
وترشني بماء الكونوليا . وتقبلني . فأموت بين يديها . وتحييني من جديد هزات السرير .
*****
تعرفت عليها عندما فرق البوليس مظاهرة كنت مشاركا فيها . انطلقنا من ساحة الباساج نلوح بالأيدي وبالأعلام الحمراء . ونهتف بسقوط أمريكا ، والأمبريالية العالمية ، وروجرس ، وفك الارتباط على قناة السويس . ونهتف بالنصر لثوار الفيت كونغ ، وهوشي منه ، وغيفارا ، وكاسترو .
طفنا بشوارع باريس ، ومحمد الخامس ، والحرية ، والحبيب بورقيبة . وعندما وصلنا إلى شارع فرنسا فرقنا البوليس . وجرى وراءنا . فهربنا داخل شوارع المدينة العتيقة . جرينا وجرى البوليس وراءنا .
وامتدت العصي الغليظة تضرب .
والأيدي تضرب .
ومؤخرات البنادق تضرب .
وسال الدم .
وطارت الخراطيش الفارغة في الهواء . وزدنا في سب جونسون ، فزادت شراسة البوليس .
وامتلأ الجو برائحة القنابل المسيلة للدموع . وضاقت بنا السبل .
وجدت نفسي محاصرا ، فاندفعت باتجاه نهج زرقون . جرت الكلاب ورائي ، فجريت أسرع منها . سمعت نباحها خلف ظهري . وتصورت أنيابها الحادة تنغرس في مؤخرتي . فجريت ... وجريت ... وجريت ، إلى أن رأيت العيون التي تذبح كالمدية .
نادتني : تعال هنا أيها الهارب .
لوحت بيدها ونادتني : تعال هنا أيها الهارب .
ووصلت الكلاب فلم تجد سوى الأبواب الموصدة .
نبحت الكلاب كثيرا ، وبالت على الحيطان ، وعادت أدراجها تلهث .
عندما غاب نباح الكلاب ، خرجت من عند المرأة شكرتها كثيرا ، وبست يدها ، وغادرت المكان .وجدتني في شارع سيدي عبدالله قش .
مادا سيقول عنك الرفاق يا رجل لو رأوك تخرج من عند هذه المرأة ؟
ماذا ستقول لهم وقد كنت قبل حين تهتف بسقوط أمريكا ؟
ماذا ؟ وماذا ؟ وماذا ؟ ماذا ستفعل ؟
وقررت الهرب . انسللت من شارع خلفي ، ولذت بالأنهج الضيقة إلى أن رأيت قرص الشمس يتدلى من سقف السماء . والمدينة مازالت تغلي ... والناس يهرولون ... وسيارات الشرطة ملأى بالشباب ...وكلاب البوليس تنبح وتتبول على أرجل المارة ، فاندسست بين العابرين ، وعدت إلى مبيت الجامعة .
*****
- أين للا صالحة يا بنت ؟
- أمام الباب سيدي الكريم
- البطرونة يا بنت ؟
- نعم سيدي هي بعينها .
أهلكتني السياسة يا صالحة . أنا الآن رجل محترم . رجل محترم جدا . ألبس ربطات العنق الحريرية ، والبدلات الباريسية ، وأتعطر كالمومس ، وأجلس في الكرسي الأخير في السيارة المرسيدس .أجلس وراء السائق الذي ينزل دائما قبلي ليفتح لي الباب ويحمل عني الحقيبة . أمام الإدارة ، تستقبلني الابتسامات الكاذبة ، ويقف عند مروري العمال والموظفون . ويبوس رؤساء الأقسام أرجلي . ويمسي السعاة كالحجل أمامي وخلفي .يحملون لي القهوة والشاي . ويوشوشون في أذني كلاما كثيرا : سي علي يحكي عن الاضرابات . سي عمار يدين تدخل أمريكا في بنما . سي عبدالله هرب من الشغل قبل انتهاء الدوام . وفاطمة تغازل رئيس القسم الفلاني .وخديجة تقول إن ثمن كيلو اللحم ارتفع كثيرا . و... أهلكتني السياسة يا صالحة .
طلبت من البنت أن تنادي للا صالحة . وضعت فوقها بعضا من الملابس وخرجت . بعد دقائق ، وصلت صالحة .طلبت منها أن تجلس . حركت النظارة وتفرست في وجهي هنيهة ، وجلست على الكرسي ، أمام السرير .
قالت : طلبتني يا سيد ؟
وزغردت عصافير باب البحر في قلبي . هذا الصوت أعرفه . به بحة الآن . بحة الكبر وكثرة التدخين . والخال مازال في مكانه . هناك . فوق الشفة . تفرست في عنقها الطويل . به الآن بعض التجاعيد ، ولكنها لا تعيبه . أعطيت للبنت عشرين دينارا وطلبت منها أن تتركنا وحدنا . رقصت الفرحة في عيني الطفلة ، وخرجت ، فعدت إلى للا الصالحة . مازال بعض من فصل الربيع على وجهها . والدف مازال في مكانه ، فوق السرير ، على يمين الباب . مددت يدي . مسحت التراب من على جلده . ونقرت بإصبعي بعض النقرات الخفيفة . نطت الفرحة من عينيها ، فغنيت بصوت خافت :
أم القد طويل * آ صالحة * أم القد طويل
أم القد طويل * وزينك ما ريتهو في جيل * آ صالحة
وقفت . نزعت النظارة وارتمت في حضني . هو أنت إذن يا ابن القحبة . قلبي قال : انك أنت وعقلي قال: لا . فأنت تكره البطون السمينة . قل ، هل هذا اللحم والشحم لك وحدك ؟ وراحت تدغدغني في بطني السمينة ، وتخنقني بربطة العنق وهي تردد :
وتضع ربطة عنق حريرية يا خنزير . ترقب قليلا حتى آتي بالسكين من المطبخ . سأقطع بعضا من لحم مؤخرتك لأشويه ولتأكله مع الجعة .
وتضحك . وأضحك . وأضعها في حضني ، فتفتح لي قلبها وتدسني فيه .
*****
كانت قد مرت بضعة أيام عن المظاهرة . وكانت جراح وجهي قد تماثلت للشفاء ، حين تذكرت المرأة التي أجارتني في شارع سيدي عبد الله قش . مرت صورتها في خاطري كالحلم الجميل .قلت ،: لماذا لا أذهب أليها وأشكرها ؟ خاصة وان كثيرا من رفاقي الدين اصطادتهم كلاب البوليس ما عادوا إلى الجامعة . اشتريت لها هدية صغيرة ، وذهبت . كان بابها موصدا . ترقبت حتى خرج زبون من زبائنها . سلمت عليها ، ففتحت لي الباب واسعا ، ونظرت في جرحي ، وقالت : الحمد لله .
أعطيتها باقة الورد فباستني ، وبدأت تتعرى .
قلت : لا تنزعي ثيابك . لم أجئ لهذا .
ولماذا جئت إذن أيها الملاك الطاهر ؟
جئت لأسلم عليك .
أهلا وسهلا وألف ألف مرحبا .
وأهديك هذه الورود .
مرحبا بالوردود وبروح الورود .
وتعرت كحواء يوم أكلت من تفاح الجنة . وتمددت على السرير .و قالت : تعال إلى هنا ، ولا تدفع ، فأنا أعرف أنك مفلس .
سال العرق على جبيني . عرق بارد . ودق قلبي كطبل يوم العيد . وهربت من الدار .سرت في أزقة المدينة العتيقة إلى أن تعبت ... لماذا ذهبت إليها أيها الوغد ؟ هي قحبة وقد أغراها شبابك مادام جيبك فارغ . ألم تشكرها يوم المظاهرة فلماذا عدت إليها إن لم يكن طمعا في لحمها ؟ ألم تقل إن لها عينا تذبح كالمدية ؟ ولكنني ضد هذه التجارة . أنا لا أحتمل ركوب امرأة قتيلة . كيف أستطيع تقدير ثمن المتعة التي تبيعها ، وهي تموت ألف مرة مع كل هزة من هزات السرير ؟
*****
قالت : سنحتفل الليلة بقدومك .
ونادت البنت . أخرجت أوراقا نقدية من جيبي وطلبت منها أن تذهب لتشتري لنا قوارير خمرة . طلبت منها أن تشتري ما يسكر سكان الماخور . وخرجت البنت .
فعادت تقول :
أما زلت تؤمن بإغلاق دور البغاء وتشغيل العاملات فيها في المصانع والمعامل التي ستحدثها الثورة ؟
قلت : لقد أفسدتني السياسة يا صالحة . بالله عليك لا تحيي هذا الجرح المندمل .
قالت : عشرون سنة ونحن نترقب اليوم الذي وعدتنا فيه بتحرير أجسامنا من مني الرجال السكارى والمرضى والمنبوذين .
أحسست بالسكين تغوص في اللحم الحي .وتذكرت الأيام التي كنت أحكي لها فيها عن ثوار الفيت كونغ ، وطلاب باريس ، والثورة الثقافية في الصين .
وكانت تضحك وتقول : أنا لا أفهم في السياسة يا صاحبي .
فأقول لها : ستفهمين بعد التحرير يا صالحة .
وها هي اليوم تعمل قوادة في ماخور .
وها أنا رجل محترم .
رجل محترم جدا .
بعد أن أعطيتها الورود ، وهربت من الدار كأنني راهب ، تسكعت في الطريق حتى كلت خطاي ،
وعاودني صوت امرأة الماخور أكثر من مرة :
تعال إلى هنا عندما تصير رجلا يا صاحبي .
ترددت كثيرا ثم عزمت على العودة إليها .
قالت بعدما أغلقت وراءنا الباب : لماذا تهرب مني يا صاحبي ؟
قلت : لأنني أريد تحريرك من مني الرجال .
قالت : متى ؟
قلت : عندما يتحرر الرجال .
قالت ومتى سيتحرر هؤلاء الرجال ؟ غدا ؟ أو بعد غد ؟
ثم دفعتني على السرير ، وأطعمتني من تفاح الجنة . فكدت أطير من اللذة .
قالت : ما رأيك لو أعلمك ضرب الدف وأرقص لك وحدك ؟
قلت : وهل تظنين أنني سأعود إلى هنا مرة أخرى ؟
قالت : ستعود ...
وكررت بإصرار عجيب : ستعود حتما .
وتعطل عقلي . أدخلته الثلاجة ، وأغلقت عليه الباب بسبعة أقفال . ورميت بما جاء في الكتب في البالوعة . وهمت بها وجدا .
قال عني الرفاق إنني مرتد عندما اكتشفوا ترددي على شارع البغايا . ولم ينفعني ادعائي الجنون .
كانت صاحبتي قد علمتني ضرب الدف حتى أتقنت الصنعة . ورقصت لي وحدي . رقصت وغنت . وأغلقت بابها في وجوه الزبائن الآخرين ....
وأفقت ذات يوم وهي تطلب مني أن أفي بوعدي ، وأحررها من مني السكارى والمراهقين .
قلت : كيف ؟
ردت : تزوجني . عندي ما يكفينا لبناء حياة جديدة .
*****
عادت البنت بقوارير الويسكي ، وذهبت إلى المطبخ تشوي اللحم ، فتمددت على السرير . جاءت صالحة وجلست على الحافة فقمت أليها ووضعت رأسي في حجرها ، وأغفيت إلى أن جاءت البنت باللحم المشوي وبكؤوس صغيرة فوق صينية من الفضة . وتركتنا وغادرت البيت . ملأت صالحة كأسينا فضربنا نخبينا .
وقالت : في صحة ثوار الفيت كونغ .
فقلت : في صحة طلاب باريس .
وتبادلنا كؤوس المدام إلى أن أظلمت الدنيا واشتعلت أضواء فوانيس الكهرباء .
قالت : ما رأيك لو تضرب لي قليلا على الدف ؟
قلت : لا مانع عندي .
أمسكت الدف بين ركبتي وضربت : دم .تك تك تك .دم .فقامت ثملة . ربطت مؤخرتها بغطاء رأسها ، وبدأت ترقص . وضربت الدف ، وحركته في الهواء ، فأحدث خشخشة لذيذة .
فتحت الصالحة الباب ، ونزلت الدرجات واحدة واحدة وهي ترقص ، وأنا وراءها أضرب على الدف ، إلى أن وصلنا إلى الشارع .
جاءت البنت تجري . وجاءت نساء الشارع الأخريات . وجاء رواد الحي .
تحلق الجميع يتفرجون على المرأة الكهلة التي ترقص على نغمات دف يضربه رجل محترم ...
رجل محترم جدا ...
إحالات على القصة :
1- سيدي عبدالله قش : عنوان شارع البغاء في المحروسة تونس العاصمة .
2- نهج زرقون : سوق الأنتيكات بتونس ، منه تصل مباشرة إلى الشارع المذكور آنفا .
3- حبيبي يا صحابي جاني : أغنية لمطربة تونسية اشتهرت في بداية تسعينات القرن الماضي .
4- قالوا زيني عامل حاله : أغنية للفنانة علية التونسية غنتها في سبعينات القرن الماضي .
5- أم القد طويل آ صالحة : أغنية لمطربة تونس الأولى الفنانة نعمة ، غنتها في ستينات القرن الماضي
.