نقوس المهدي
كاتب
"إن الذي بلغ تحرر العقل، ولو بقدر معين، لن يشعر على الأرض بشيء آخر سوى كونه مسافرا".
نيتشه
المسافر الذي يلم بهذا العنوان أو المفهوم المركب من ثلاث دلالات تداولية كبرى ينهل من اللغتين الإغريقية واللاتينية. "فهومو" تشير إلى الإنسان، و"فيليا" إلى الحب أو الصداقة، و"صوفوص" إلى الحكمة والذائقة... وهي الدلالات التي يمكن ترجمتها إلى اللغة العربية بالإنسان صديق أو محب للحكمة.
للهومو (Homo) في اللفظ والتشقيق دلالات عدة، علاوة على أنه يعني الشبيه (Semblable) والهو نفسه (Le même) فهو يشير إلى النوع الإنساني برمته Homo sapiens ويشير إلى الوسط العائلي Home ويشير إلى الإنسان الصغير أو القزم (Homoncule) كما يشير إلى المترجلة من النساء (Hommasse).. وإذا اعتمدناه كجذر لكلمات أخرى تتنوع دلالته كالمركز المشترك (homo centre) ونفس الشكل (homo morphe) والزواج من نفس المستوى الاجتماعي (homo gamie) وفوبيا المثلية (homo phobie) وحب الغلمان (homo philie) والفضاء الحيوي للإنسان (homo sphére ) إلخ...
إذا كانت الأنتروبولوجيا هي العلم الذي في مقدوره أن يقدم لنا الصورة الحقيقية "للهومو" فإن الثقافة الإغريقية ولغتها هما اللتان يمكنهما تحديد العلاقة فيما بين المحبة والحب والصداقة والصديق (فيليا) من جهة، والحكمة أو صوفيا من جهة أخرى.
كل ذلك باللغة العربية وانطلاقا أيضا من الثقافة العربية خاصة تلك الثقافة ذات النزعة الإنسانية والفلسفية.
فمن هو الإنسان؟ والإنسان المحب للفلسفة أو صديقها؟
يعتبر "إدغار موران" بأن عمر الكون هو سبعة مليارات من السنين وعمر الأرض هو خمسة مليارات من السنين، وعمر الإنسان العالم Homo Sapiens هو مائة ألف إلى خمسين ألف سنة، وعمر الفلسفة ألفان وخمس مائة سنة، أما عمر علوم الإنسان فصفر سنة، ومعنى هذا التقدير أن الإنسان لم يعرف نفسه بعد.
فالنظرية السائدة على مستوى الأنثروبولوجيا في تعريف الإنسان هي تلك التي تفصل بل تقابل بين مفهوم الإنسان والحيوان، بين الثقافة والطبيعة، وكل ما لا يلائم هذا التقسيم يعد "نزعة بيولوجية" أو "نزعة طبيعية" أو "تطورية" (إ.موران، ص، 11).
وفي نظره، يجب الكف عن اختزال الإنسان في الهوموفابر، أو الهوموشابيانس. فالإنسان الصانع أو العارف لا يمكنه أن يحدد حقيقة وجوهر الإنسان، ذلك أن هذا الأخير هو في العمق إنسان عاقل وفاقد لعقله، حكيم (Sage) و شيطان (Démon) في آن واحد. وعليه يجب تصور الإنسان في كليته وتركيبته، فهو نوع إنساني وفرد ومجتمع.Espèce individu Société
في هذا المثلث يجب إبراز الأسطورة والاحتفالات، والرقص والغناء والإنشاء، والحب والموت، والمغالاة، والحرب (ص، 218، نفسه) أكثر مما يجب التركيز على الصناعة وعلى المعرفة، فالذي يتلاشى الآن بعد تطور كل هذه العلوم (البيولوجيا، السبيرنطيقا..) ليس هو مفهوم الإنسان (Homo ) ولكن ذلك المفهوم المنعزل عن الإنسان. وذلك التأليه الذاتي له. تقرع أجراس الموت الآن على الأنتروبولوجيا التجزيئية، وعلى التصورات التي لا تتحمل التعقيد، وتقرع على النظريات المنغلقة، لتعلي الأفراح والأتراح من شأن الإنسان باعتباره كائنا ثقافيا من حيث الطبيعة لأنه كائن طبيعي ثقافيا (ص، 100 نفسه).
ويبقى "الهومو" هو البراديغم المفقود في نظر إ.موران لأنه مفتاح الثقافة في الطبيعة ومفتاح الطبيعة في الثقافة. (ص، 163).
هذا التداخل الإشكالي بين الطبيعة والثقافة لا نعثر عليه لدى الإنسان (هومو) فقط بل نجده أيضا لدى الهانومان أو القرد النحوي (أ.باث) ، "هكذا فالقرد الفاشل الذي ينحني في المعركة ويولي بدبره للقرد المسيطر يقلد الأنثى ويمثل المثلية ليعبر عن إحساساته الأكثر احتراما وخنوعا للقوي (ص، 59، إ.موران).
أليست هذه الوضعية هي نفسها تلك التي تحدث عنها مالك شابل في كتابه "عقلية السراي" خاصة في الفصل الأول المتعلق بالمثلية (homo) الانحراف والخنثى، (ص 19 م.شابل).
لا يخلو العالم العربي والمغرب العربي على الخصوص من الممارسات الجنسية الهامشية: كالمثلية (homo) واللواط، والانحراف... وذلك طيلة تاريخ هذه البقعة من الجغرافيا. إلا أن الظاهرة تعاني من كبت مضاعف، فهي أولا محاربة من طرف التقليد أكان دينيا أم اجتماعيا، وهي ثانيا مواجهة بصمت مريب.
لكن الهومو المثلي المغاربي يبقى موجودا. فهو في نظر ابن خلدون تجسيد لفساد العادات الاجتماعية والثقافة الحضرية، ذلك الفساد الذي يتجلى في تنويع المأكولات والمشروبات وفي تنويع الشهوات والأفراح والمناكح والزنى، واللواط، (ص، 25. م.شابل).
هناك إذن بين الأخلاق التقليدية والواقع هوة لا يمكن ذرعها إلا بالصمت والكبت أو بالتسامح والمفارقة، وهذا هو واقع الهومو في المغرب العربي بشتى أشكاله، المخصي، والمخنث، والغلام والأنثى والأمرد،... أشكال يجسدها امتدادا المغني "طويس المعاصر للخلفاء الراشدين: لقد كان مخنثا من أشأم خلق الله: لأنه ولد ليلة وفاة الرسول (عليه السلام) وفطم ليلة موت أبي بكر وبلغ سن المراهقة ليلة مقتل عمر، وتزوج ليلة مقتل عثمان، وزرق مولودا ليلة مقتل علي، وكان عمره أربعين سنة(1).
يميز فوكو بين الفن الإيروسي Ars erotica وبين العلم الجنسي scientia sexualis) ويعتبر الصين واليابان والهند (كماسوترا) والعالم العربي الإسلامي من الحضارات التي أبدعت في المجال الأول أما المجال الثاني فكان من تخصص العالم الأوروبي.
أما الإيرو/تيكا أو المجون فهو هذا الفن الذي يوغل الوصف في الأعضاء الجنسية ويكثر الحديث عن أنواع الجماع، وأضرب النكاح وأنواع النساء والغلمان... قصد المتعة والغرابة والذكاء... سواء في شكل حكايات وطرائف أو في قالب شعري...
وللحديث عن الأيرو/تيكا العربية الإسلامية سأكتفي بثلاثة مؤلفات(2) يمكن إدراجها في سياق الإيروسية العربية الإسلامية، تم اختيارها جزافا ودون تمثيلية صارمة، لكنها تملك شرعية ودلالة أدبية، لا تمتحها من التشريعات الدينية فقط وإنما من تفشيها الواضح في المجتمع وتعاطيها بنوع من التساهل والأمر الواقع...
الشاعر المعني في "رقة الكائن النائم" هو راشد بن إسحاق المكنى ب"أبي حكيمة" شاعر عباسي مجهول توفي سنة 240هـ، أنفق كل شعره في رثاء أيرة (أيروتيكا) فهل أصيب حقا بالعنة؟ أم أنه كان يموه على تهمة اللواط؟ ولماذا التمويه وهو ليس تهمة؟ لقد عاش هذا الشاعر في عصر الخليفتين الأمين والمأمون وكان الأول يحيط نفسه بالغلمان وقيل انه كان يهيم بغلام يدعى "كوثر" قال فيه شعرا:
كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي
وكان للثاني قاضي قضاة يدعى يحيى بن أكثم، اشتهر بلواطه وكان "لا يستخدم في داره إلا المرد الملاح" يقال إنه "هو الذي زين للمأمون اللواط وحبب إليه الولدان وغرس في قلبه فضائلهم ومحاسنهم وخصائصهم وقال : "إنهم بالليل عرائس والنهار فوارس وهم للفراش والهراش و للسفر والحضر..." في هذا الإطار بزغت مجونية أبي حكيمة.
"إلا أن ذكر الأعضاء لا يؤثم، وإنما الإثم في ذكرها عند شتم الأعراض وقول الرفت في أكل لحوم الناس وقذف المحصنات"، بمثل هذا القول تستهل عادة شرعية الوصف الأيرو/تيكي وترفع الكلفة.
فرثاء الشاعر أيره قريب الصلة باللواط (الهومو) هو الذي قال فيه جملة وتفصيلا "ومنتبه بين النداء من رأيته " (القصيدة ص 69 رقة الكائن النائم)، لذا يجوز اعتبار أن شعر الشاعر سار بالعنة وكان "أهب من تيس"، مثلما صار شعر أبي العتاهية بالزهد وكان على الإلحاد، وسار اسم أبي نواس باللواط وكان أزنى من قرد.
الهومو إيروتيكا كانت أمرا متفشيا بين الناس آنذاك. جسدها أبو نواس أيما تجسيد! هو الذي انتقل من غلام إلى هومو بويطيقا (شاعر)، فما هو الخطاب الأخلاقي الذي كان ينظم سلوك الناس إذن؟ إنه خطاب الأخلاق التي تتأسس على الشريعة الإسلامية. ففي النكاح تحصي السيدة عائشة(رضي اللع عنها) أربعة أنواع سادت في الجاهلية، نكاح الناس اليوم، الخطوبة فالصداق، ونكاح الاستبضاع حيث ترسل زوجة الرجل إلى آخر ليصيبها لأجل النسل الجيد ونكاح الرهط ما دون العشرة يصيبون المرأة ولما تلد تختار الأب، ونكاح البغايا.
لما بعث محمد (ص) بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا النكاح الأول. والحال يقول محقق كتاب التيفاشي جمال جمعة هناك أنواع أخرى كنكاح البدل (تبادل الزوجات) ونكاح المصامدة إضافة إلى الزوج تتخذ المرأة خليلا أو خليلين، ونكاح السر (اقتران سري) ونكاح الشغار وهو تزوج امرأة بأخرى كمهر للزوج ونكاح المساهاة هو أخذ أخت أو بنت الأسير كفدية، ونكاح الضيزن والمحارم والزنا... إلا أن هناك نكاحين لابد من الوقوف عندهما قليلا الأول يسمى نكاح المخادنة والمخادنة هي الصداقة "والرقة في كل أمر philia والخدين هو الصاحب أو الصديق. جاء في القرآن الكريم "محصنات غير مسافحات ولا متخدات أخدان"(3) وهو صداقة المرأة مع رجل آخر غير زوجها، يكون لها صديقا يحدثها ويواسيها ويصادقها وقد يحصل الاتفاق ليكون للصديق النصف الأعلى من السرة إلى قمة الرأس، والنصف الآخر لبعلها". والثاني هو اللواط طبعا، وقد قسمه الفقهاء إلى اللواط الأكبر واللواط الأصغر، الأكبر هو جماع الرجل مع الرجل (هومو) والأصغر هو وطأ المرأة في الدبر. و قد تشدد الإسلام في عقوبة اللواط الأكبر. قال الرسول (ص) "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"(4)، أما الأصغر فقد حصل بصدده خلاف في التأويل. لقد كان الخطاب الأخلاقي الإسلامي صارما في زجره ومنعه، لكن لماذا تفشت كل المظاهر الإيروتيكية فيما بعد في العالم الإسلامي؟ لا يكفي في الجواب أن نشير إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية وتداخل الأجناس إلخ.. بل ربما يكفي أن نشير الى يحيى بن أكثم حين قال:
"لولا أنتم (يقصد الغلمان) لكنا مؤمنين "(5) (ص، 68 رقة للكائن...) إن المسألة ليست ثقافية أو دينية بل هي أيضا وأساسا طبيعية، وما يؤكد طبيعتها وصف سهل بن مهيدار لطبيعة المخنثين ببغداد وشبقهم وشغفهم على لسان شيخ من شيوخهم (ص، 269 إلى 285) وحديثه عن السحاقيات قائلا: ذكر الأطباء أن أهل هذا الدار خلقة (الفطرة والهيأة) (ص، 235 التيفاشي). ليس صحيحا أن الإيرو/تيكا العربية كانت فاقدة للعلم وللوصفات العلمية الطبية، فكل هذه الكتب المعتمدة في هذا التحليل تتضمن وصفات طبية وتحليلية وعلاجية لشتى الأمراض، المرتبطة بالجنس وممارسته، اعتمادا على ما ابتكره الطبيب يوحنا بن ماسويه في أحد كتبه. تتضمن الوصفة :".... ثلاثة أوراق من دهن الورد الفارسي، ومن الزنبق السابوري الرصاني أوقيتين، ومن دهن البنفسج أوقيتين... "للتطبيب ومعالجة العنة (ص 35/36 رقة الكائن) أما سبب الخنثAndrogyne وعلاجه على رأي محمد بن زكريا الرازي فقد أورده التيفاشي في مؤلفه المذكور (ص302 -308) تحت عنوان (مقالة في الأبنة) ويسمى هذا الداء بالداء الخفي ": الذكورة والأنوثة هي نتاج الحنين وغلبة احداهما على الأخرى، فإذا كان مني الرجل هو المحيل كان المولود ذكرا، وإذا كان العكس كان المولود أنثى وقد يكون المولود قوي التذكير أو قوي الأنوثة حسب قوة وحدة مني الأب أو الأم في الإحالة والعكس صحيح، إلا أن المثير للانتباه هو حين يتكافأ المنيين ويكون للمولود ذكر وفرج وهو الخنث، ولد ليس في غاية التذكير وأنثى ليست في غاية التأنيث.
ويشرح الرازي الأعراض قائلا: الخنثى الذكر تميل أعضاؤه (الذكر البيضتان مجاري المني وأوعيته) إلى الداخل إلى ناحية العانة والخنثى الأنثى تميل أعضاؤها إلى الخارج صغيرة متعرجة متحجرة، ويجد /تجد اللذة هناك بسبب الدغدغة في ناحية المعاء المستقيم. هذه الطبيعة الفيزيولوجية هي التي تفسر لنا الخنث واللذة والغلمان واللواط وما شابه. ولهذا السبب لا يمكن احترام الثقافة ولا الانصياع لها. لكن كان أبو حاتم السجستاني مولعا بالغلمان فيذهب فيهم مذهب الاستمتاع بالنظر في قضاء الوتر، وكان المبرد يحضر حلقته يقرأ عليه وكان أجمل أهل زمانه فقال فيه:
ماذا لقيت اليوم مـن
مستحسن خنث الكــلام
وقف الجمال بوجهـه
فسمت له حدق الأنــام
حركاته وسكونـــه
يجني بها ثمر الأثـــام
فإذا خلوت بمثلــــه
وعزمت فيه على اعتزام
لم أعد أفعال العفــاف
وذاك أؤكد للغــــرام
نفسي فداؤك يا أبا الـع
باس حل بك اعتصــام
فارحم أخاك فإنـــه
نزر الكرى بادي السقـام
وأفله ما دون الحـرام
فليس يطمع في الحــرام
هذه "الصداقة" تذكرنا بسقراط وربما لهذا الغرض قيل :"الغلام هو الرفيق في السفر والصديق في الحضر والمعين على الشغل والنديم عند التراب وهو سبب الأنس".
أما الوصفة الطبية حسب الرازي فتخضع لشروط منها: إذا تمادت الأبنة لم يكن من الممكن برء صاحبها، لاسيما إذا كان ظاهر التأنيث لديه يحب التشبه بالنساء، أما إذا كان صاحبها لا يألفها ويحب أن يخلو منها فهذا يمكن أن يعالج(...) وينوع الرازي الوصفة، في عدة أماكن في مقالته يمكن الرجوع إلى التيفاشي والإحالة المذكورة سابقا للاطلاع على ذلك.
كل هذه الأيروتيكا قدمت لنا في أسلوب لا يخلو من حكي وطرائف وعلم وشعر...أما العلم فمثل هذه الوصفات الطبية للرازي أو قبله لابن سينا أو غيرهما... كانت تستثمر المعلومات الطبية المترجمة عن اليونان أو تلك التي توفرها التجربة والممارسة اليومية للعالم الحكيم.
هوامش
1 - طويس تصغير الطاووس: ويكنى بأبي عبد النعيم وهو أول من غنى في الإسلام. التيفاشي، ص، 255
2 - انظر المراجع في آخر المقال.
3 -القرآن: سورة النساء، الآية: 25
4 - صحيح سنن ابن ماجة، تأليف الألباني مجلد 2، ص، 83، ذكره جمال جمعة)
5- وردت القولة أيضا على لسان أبي نواس ص 181 لدى التيفاشي وهذا قد يشير إلى دور التخييل في سرد هذه المعطيات.
العلم الثقافي
3/10/2010
----------------
* انظر الجزء الثاني في ص 50 من هذا المتصفح او العلم الثقافي
نيتشه
المسافر الذي يلم بهذا العنوان أو المفهوم المركب من ثلاث دلالات تداولية كبرى ينهل من اللغتين الإغريقية واللاتينية. "فهومو" تشير إلى الإنسان، و"فيليا" إلى الحب أو الصداقة، و"صوفوص" إلى الحكمة والذائقة... وهي الدلالات التي يمكن ترجمتها إلى اللغة العربية بالإنسان صديق أو محب للحكمة.
للهومو (Homo) في اللفظ والتشقيق دلالات عدة، علاوة على أنه يعني الشبيه (Semblable) والهو نفسه (Le même) فهو يشير إلى النوع الإنساني برمته Homo sapiens ويشير إلى الوسط العائلي Home ويشير إلى الإنسان الصغير أو القزم (Homoncule) كما يشير إلى المترجلة من النساء (Hommasse).. وإذا اعتمدناه كجذر لكلمات أخرى تتنوع دلالته كالمركز المشترك (homo centre) ونفس الشكل (homo morphe) والزواج من نفس المستوى الاجتماعي (homo gamie) وفوبيا المثلية (homo phobie) وحب الغلمان (homo philie) والفضاء الحيوي للإنسان (homo sphére ) إلخ...
إذا كانت الأنتروبولوجيا هي العلم الذي في مقدوره أن يقدم لنا الصورة الحقيقية "للهومو" فإن الثقافة الإغريقية ولغتها هما اللتان يمكنهما تحديد العلاقة فيما بين المحبة والحب والصداقة والصديق (فيليا) من جهة، والحكمة أو صوفيا من جهة أخرى.
كل ذلك باللغة العربية وانطلاقا أيضا من الثقافة العربية خاصة تلك الثقافة ذات النزعة الإنسانية والفلسفية.
فمن هو الإنسان؟ والإنسان المحب للفلسفة أو صديقها؟
يعتبر "إدغار موران" بأن عمر الكون هو سبعة مليارات من السنين وعمر الأرض هو خمسة مليارات من السنين، وعمر الإنسان العالم Homo Sapiens هو مائة ألف إلى خمسين ألف سنة، وعمر الفلسفة ألفان وخمس مائة سنة، أما عمر علوم الإنسان فصفر سنة، ومعنى هذا التقدير أن الإنسان لم يعرف نفسه بعد.
فالنظرية السائدة على مستوى الأنثروبولوجيا في تعريف الإنسان هي تلك التي تفصل بل تقابل بين مفهوم الإنسان والحيوان، بين الثقافة والطبيعة، وكل ما لا يلائم هذا التقسيم يعد "نزعة بيولوجية" أو "نزعة طبيعية" أو "تطورية" (إ.موران، ص، 11).
وفي نظره، يجب الكف عن اختزال الإنسان في الهوموفابر، أو الهوموشابيانس. فالإنسان الصانع أو العارف لا يمكنه أن يحدد حقيقة وجوهر الإنسان، ذلك أن هذا الأخير هو في العمق إنسان عاقل وفاقد لعقله، حكيم (Sage) و شيطان (Démon) في آن واحد. وعليه يجب تصور الإنسان في كليته وتركيبته، فهو نوع إنساني وفرد ومجتمع.Espèce individu Société
في هذا المثلث يجب إبراز الأسطورة والاحتفالات، والرقص والغناء والإنشاء، والحب والموت، والمغالاة، والحرب (ص، 218، نفسه) أكثر مما يجب التركيز على الصناعة وعلى المعرفة، فالذي يتلاشى الآن بعد تطور كل هذه العلوم (البيولوجيا، السبيرنطيقا..) ليس هو مفهوم الإنسان (Homo ) ولكن ذلك المفهوم المنعزل عن الإنسان. وذلك التأليه الذاتي له. تقرع أجراس الموت الآن على الأنتروبولوجيا التجزيئية، وعلى التصورات التي لا تتحمل التعقيد، وتقرع على النظريات المنغلقة، لتعلي الأفراح والأتراح من شأن الإنسان باعتباره كائنا ثقافيا من حيث الطبيعة لأنه كائن طبيعي ثقافيا (ص، 100 نفسه).
ويبقى "الهومو" هو البراديغم المفقود في نظر إ.موران لأنه مفتاح الثقافة في الطبيعة ومفتاح الطبيعة في الثقافة. (ص، 163).
هذا التداخل الإشكالي بين الطبيعة والثقافة لا نعثر عليه لدى الإنسان (هومو) فقط بل نجده أيضا لدى الهانومان أو القرد النحوي (أ.باث) ، "هكذا فالقرد الفاشل الذي ينحني في المعركة ويولي بدبره للقرد المسيطر يقلد الأنثى ويمثل المثلية ليعبر عن إحساساته الأكثر احتراما وخنوعا للقوي (ص، 59، إ.موران).
أليست هذه الوضعية هي نفسها تلك التي تحدث عنها مالك شابل في كتابه "عقلية السراي" خاصة في الفصل الأول المتعلق بالمثلية (homo) الانحراف والخنثى، (ص 19 م.شابل).
لا يخلو العالم العربي والمغرب العربي على الخصوص من الممارسات الجنسية الهامشية: كالمثلية (homo) واللواط، والانحراف... وذلك طيلة تاريخ هذه البقعة من الجغرافيا. إلا أن الظاهرة تعاني من كبت مضاعف، فهي أولا محاربة من طرف التقليد أكان دينيا أم اجتماعيا، وهي ثانيا مواجهة بصمت مريب.
لكن الهومو المثلي المغاربي يبقى موجودا. فهو في نظر ابن خلدون تجسيد لفساد العادات الاجتماعية والثقافة الحضرية، ذلك الفساد الذي يتجلى في تنويع المأكولات والمشروبات وفي تنويع الشهوات والأفراح والمناكح والزنى، واللواط، (ص، 25. م.شابل).
هناك إذن بين الأخلاق التقليدية والواقع هوة لا يمكن ذرعها إلا بالصمت والكبت أو بالتسامح والمفارقة، وهذا هو واقع الهومو في المغرب العربي بشتى أشكاله، المخصي، والمخنث، والغلام والأنثى والأمرد،... أشكال يجسدها امتدادا المغني "طويس المعاصر للخلفاء الراشدين: لقد كان مخنثا من أشأم خلق الله: لأنه ولد ليلة وفاة الرسول (عليه السلام) وفطم ليلة موت أبي بكر وبلغ سن المراهقة ليلة مقتل عمر، وتزوج ليلة مقتل عثمان، وزرق مولودا ليلة مقتل علي، وكان عمره أربعين سنة(1).
يميز فوكو بين الفن الإيروسي Ars erotica وبين العلم الجنسي scientia sexualis) ويعتبر الصين واليابان والهند (كماسوترا) والعالم العربي الإسلامي من الحضارات التي أبدعت في المجال الأول أما المجال الثاني فكان من تخصص العالم الأوروبي.
أما الإيرو/تيكا أو المجون فهو هذا الفن الذي يوغل الوصف في الأعضاء الجنسية ويكثر الحديث عن أنواع الجماع، وأضرب النكاح وأنواع النساء والغلمان... قصد المتعة والغرابة والذكاء... سواء في شكل حكايات وطرائف أو في قالب شعري...
وللحديث عن الأيرو/تيكا العربية الإسلامية سأكتفي بثلاثة مؤلفات(2) يمكن إدراجها في سياق الإيروسية العربية الإسلامية، تم اختيارها جزافا ودون تمثيلية صارمة، لكنها تملك شرعية ودلالة أدبية، لا تمتحها من التشريعات الدينية فقط وإنما من تفشيها الواضح في المجتمع وتعاطيها بنوع من التساهل والأمر الواقع...
الشاعر المعني في "رقة الكائن النائم" هو راشد بن إسحاق المكنى ب"أبي حكيمة" شاعر عباسي مجهول توفي سنة 240هـ، أنفق كل شعره في رثاء أيرة (أيروتيكا) فهل أصيب حقا بالعنة؟ أم أنه كان يموه على تهمة اللواط؟ ولماذا التمويه وهو ليس تهمة؟ لقد عاش هذا الشاعر في عصر الخليفتين الأمين والمأمون وكان الأول يحيط نفسه بالغلمان وقيل انه كان يهيم بغلام يدعى "كوثر" قال فيه شعرا:
كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي
وكان للثاني قاضي قضاة يدعى يحيى بن أكثم، اشتهر بلواطه وكان "لا يستخدم في داره إلا المرد الملاح" يقال إنه "هو الذي زين للمأمون اللواط وحبب إليه الولدان وغرس في قلبه فضائلهم ومحاسنهم وخصائصهم وقال : "إنهم بالليل عرائس والنهار فوارس وهم للفراش والهراش و للسفر والحضر..." في هذا الإطار بزغت مجونية أبي حكيمة.
"إلا أن ذكر الأعضاء لا يؤثم، وإنما الإثم في ذكرها عند شتم الأعراض وقول الرفت في أكل لحوم الناس وقذف المحصنات"، بمثل هذا القول تستهل عادة شرعية الوصف الأيرو/تيكي وترفع الكلفة.
فرثاء الشاعر أيره قريب الصلة باللواط (الهومو) هو الذي قال فيه جملة وتفصيلا "ومنتبه بين النداء من رأيته " (القصيدة ص 69 رقة الكائن النائم)، لذا يجوز اعتبار أن شعر الشاعر سار بالعنة وكان "أهب من تيس"، مثلما صار شعر أبي العتاهية بالزهد وكان على الإلحاد، وسار اسم أبي نواس باللواط وكان أزنى من قرد.
الهومو إيروتيكا كانت أمرا متفشيا بين الناس آنذاك. جسدها أبو نواس أيما تجسيد! هو الذي انتقل من غلام إلى هومو بويطيقا (شاعر)، فما هو الخطاب الأخلاقي الذي كان ينظم سلوك الناس إذن؟ إنه خطاب الأخلاق التي تتأسس على الشريعة الإسلامية. ففي النكاح تحصي السيدة عائشة(رضي اللع عنها) أربعة أنواع سادت في الجاهلية، نكاح الناس اليوم، الخطوبة فالصداق، ونكاح الاستبضاع حيث ترسل زوجة الرجل إلى آخر ليصيبها لأجل النسل الجيد ونكاح الرهط ما دون العشرة يصيبون المرأة ولما تلد تختار الأب، ونكاح البغايا.
لما بعث محمد (ص) بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا النكاح الأول. والحال يقول محقق كتاب التيفاشي جمال جمعة هناك أنواع أخرى كنكاح البدل (تبادل الزوجات) ونكاح المصامدة إضافة إلى الزوج تتخذ المرأة خليلا أو خليلين، ونكاح السر (اقتران سري) ونكاح الشغار وهو تزوج امرأة بأخرى كمهر للزوج ونكاح المساهاة هو أخذ أخت أو بنت الأسير كفدية، ونكاح الضيزن والمحارم والزنا... إلا أن هناك نكاحين لابد من الوقوف عندهما قليلا الأول يسمى نكاح المخادنة والمخادنة هي الصداقة "والرقة في كل أمر philia والخدين هو الصاحب أو الصديق. جاء في القرآن الكريم "محصنات غير مسافحات ولا متخدات أخدان"(3) وهو صداقة المرأة مع رجل آخر غير زوجها، يكون لها صديقا يحدثها ويواسيها ويصادقها وقد يحصل الاتفاق ليكون للصديق النصف الأعلى من السرة إلى قمة الرأس، والنصف الآخر لبعلها". والثاني هو اللواط طبعا، وقد قسمه الفقهاء إلى اللواط الأكبر واللواط الأصغر، الأكبر هو جماع الرجل مع الرجل (هومو) والأصغر هو وطأ المرأة في الدبر. و قد تشدد الإسلام في عقوبة اللواط الأكبر. قال الرسول (ص) "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"(4)، أما الأصغر فقد حصل بصدده خلاف في التأويل. لقد كان الخطاب الأخلاقي الإسلامي صارما في زجره ومنعه، لكن لماذا تفشت كل المظاهر الإيروتيكية فيما بعد في العالم الإسلامي؟ لا يكفي في الجواب أن نشير إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية وتداخل الأجناس إلخ.. بل ربما يكفي أن نشير الى يحيى بن أكثم حين قال:
"لولا أنتم (يقصد الغلمان) لكنا مؤمنين "(5) (ص، 68 رقة للكائن...) إن المسألة ليست ثقافية أو دينية بل هي أيضا وأساسا طبيعية، وما يؤكد طبيعتها وصف سهل بن مهيدار لطبيعة المخنثين ببغداد وشبقهم وشغفهم على لسان شيخ من شيوخهم (ص، 269 إلى 285) وحديثه عن السحاقيات قائلا: ذكر الأطباء أن أهل هذا الدار خلقة (الفطرة والهيأة) (ص، 235 التيفاشي). ليس صحيحا أن الإيرو/تيكا العربية كانت فاقدة للعلم وللوصفات العلمية الطبية، فكل هذه الكتب المعتمدة في هذا التحليل تتضمن وصفات طبية وتحليلية وعلاجية لشتى الأمراض، المرتبطة بالجنس وممارسته، اعتمادا على ما ابتكره الطبيب يوحنا بن ماسويه في أحد كتبه. تتضمن الوصفة :".... ثلاثة أوراق من دهن الورد الفارسي، ومن الزنبق السابوري الرصاني أوقيتين، ومن دهن البنفسج أوقيتين... "للتطبيب ومعالجة العنة (ص 35/36 رقة الكائن) أما سبب الخنثAndrogyne وعلاجه على رأي محمد بن زكريا الرازي فقد أورده التيفاشي في مؤلفه المذكور (ص302 -308) تحت عنوان (مقالة في الأبنة) ويسمى هذا الداء بالداء الخفي ": الذكورة والأنوثة هي نتاج الحنين وغلبة احداهما على الأخرى، فإذا كان مني الرجل هو المحيل كان المولود ذكرا، وإذا كان العكس كان المولود أنثى وقد يكون المولود قوي التذكير أو قوي الأنوثة حسب قوة وحدة مني الأب أو الأم في الإحالة والعكس صحيح، إلا أن المثير للانتباه هو حين يتكافأ المنيين ويكون للمولود ذكر وفرج وهو الخنث، ولد ليس في غاية التذكير وأنثى ليست في غاية التأنيث.
ويشرح الرازي الأعراض قائلا: الخنثى الذكر تميل أعضاؤه (الذكر البيضتان مجاري المني وأوعيته) إلى الداخل إلى ناحية العانة والخنثى الأنثى تميل أعضاؤها إلى الخارج صغيرة متعرجة متحجرة، ويجد /تجد اللذة هناك بسبب الدغدغة في ناحية المعاء المستقيم. هذه الطبيعة الفيزيولوجية هي التي تفسر لنا الخنث واللذة والغلمان واللواط وما شابه. ولهذا السبب لا يمكن احترام الثقافة ولا الانصياع لها. لكن كان أبو حاتم السجستاني مولعا بالغلمان فيذهب فيهم مذهب الاستمتاع بالنظر في قضاء الوتر، وكان المبرد يحضر حلقته يقرأ عليه وكان أجمل أهل زمانه فقال فيه:
ماذا لقيت اليوم مـن
مستحسن خنث الكــلام
وقف الجمال بوجهـه
فسمت له حدق الأنــام
حركاته وسكونـــه
يجني بها ثمر الأثـــام
فإذا خلوت بمثلــــه
وعزمت فيه على اعتزام
لم أعد أفعال العفــاف
وذاك أؤكد للغــــرام
نفسي فداؤك يا أبا الـع
باس حل بك اعتصــام
فارحم أخاك فإنـــه
نزر الكرى بادي السقـام
وأفله ما دون الحـرام
فليس يطمع في الحــرام
هذه "الصداقة" تذكرنا بسقراط وربما لهذا الغرض قيل :"الغلام هو الرفيق في السفر والصديق في الحضر والمعين على الشغل والنديم عند التراب وهو سبب الأنس".
أما الوصفة الطبية حسب الرازي فتخضع لشروط منها: إذا تمادت الأبنة لم يكن من الممكن برء صاحبها، لاسيما إذا كان ظاهر التأنيث لديه يحب التشبه بالنساء، أما إذا كان صاحبها لا يألفها ويحب أن يخلو منها فهذا يمكن أن يعالج(...) وينوع الرازي الوصفة، في عدة أماكن في مقالته يمكن الرجوع إلى التيفاشي والإحالة المذكورة سابقا للاطلاع على ذلك.
كل هذه الأيروتيكا قدمت لنا في أسلوب لا يخلو من حكي وطرائف وعلم وشعر...أما العلم فمثل هذه الوصفات الطبية للرازي أو قبله لابن سينا أو غيرهما... كانت تستثمر المعلومات الطبية المترجمة عن اليونان أو تلك التي توفرها التجربة والممارسة اليومية للعالم الحكيم.
هوامش
1 - طويس تصغير الطاووس: ويكنى بأبي عبد النعيم وهو أول من غنى في الإسلام. التيفاشي، ص، 255
2 - انظر المراجع في آخر المقال.
3 -القرآن: سورة النساء، الآية: 25
4 - صحيح سنن ابن ماجة، تأليف الألباني مجلد 2، ص، 83، ذكره جمال جمعة)
5- وردت القولة أيضا على لسان أبي نواس ص 181 لدى التيفاشي وهذا قد يشير إلى دور التخييل في سرد هذه المعطيات.
العلم الثقافي
3/10/2010
----------------
* انظر الجزء الثاني في ص 50 من هذا المتصفح او العلم الثقافي