نقوس المهدي
كاتب
“إن الجسد العاري هو القناع الصامت الذي يخفي الطبيعة الحقيقية لكل شخص” مثل هندي
يعلمنا الدرس السيميائي أن العالم ليس بريئا، فكل علامة هي دليل حامل لدلالة معينة، كما يعلمنا علم الاجتماع أن كل سلوك صادر عن الأفراد والجماعات، هو تجل من تجليات نمط من الوعي السائد، وهو في النهاية مكون ثقافي لتلك الجماعة التي أفرزته.هذا ما يدفعنا إلى النظر إلى الجسد الأنثوي، نظرة مختلفة حتى نتمكن من وضع اليد على دلالاته الرمزية التي لا يتوقف عن إنتاجها؛ بمعنى آخر “ففي مجتمع يقوم أساسا على الثقافة الشفوية، لا ينحصر في الزخرفة في اللغة التشكيلية بل أيضا في البكتغرافيا أي قانون للدلائل التي هي كما تنص اللسانيات على ذلك دلائل تحمل معها دلالتها وتنطق لمجرد رؤيتها”1وهي دلائل قد نجد عناصرها في رموز تبرز بصورة لاشعورية، وهي تتسم بالغموض والزئبقية في آن، فهي بقدر ما تحمل من الدلالات، قد تبدو فارغة من المعنى.
لذلك يتميز الجسد الأنثوي العربي الإسلامي الراهن، بانتظام عدد من الرموز والدلائل، التي تقتضي استحضار عدد من المستويات للكشف عن بعضها، من خلال التمثلات العميقة للجسد لعدد من المكونات الثقافية التي تتقاطعه وتتداخل فيه.محنة التغريبالجسد جغرافيا تحمل في داخلها ذاتا. هي التي من خلالها تتحدد هوية الكائن، من حيث هو كينونة مدرِكة للعالم، ومن حيث إن العالم يُدْرَكُ من خلال هذه الكينونة. ولذلك فإن الجسد هو ملتقى العديد من التقاطعات الثقافية والفكرية والدينية والتاريخية.. التي تتحول في تداخلاتها إلي شبكة معقدة من المداليل التي لا تتوقف عن إنتاج الدلالة..كما أن الجسد يدخل في علاقة مع الآخر، وبهذا يقع في شِرك الآخر فيغترب ويضيع ويعيش استلابه داخل حضور الغير الذي يتمثله، ومن هنا نفهم جيدا عبارة لاكان “الواقع هو المستحيل” وليس هذا الواقع سوى الواقع الجسدي الذي لا يمكنه التحقق مادام الدليل أكثر شساعة منه.
من خلال هذه العتبة نجد أن قراءة الجسد العربي الإسلامي تحتاج إلى أكثر من وقفة، بما أصبح ينتجه من دلالات رمزية وتعبيرية واضحة. فإمبراطورية الموضة المهيمنة على الجسد، من حيث هو بنية داخل نسق المنظومة الاجتماعية، قد اكتسحت الجسد الأكثر مقاومة لإغراءاتها وسلطتها، ونقصد الجسد الذي يسعى إلى تمثل “قيم” و “مرجعية” يدعي أنها دينية حقيقية وصحيحة. بحيث صرنا أمام جسد مخترق إلى حد بعيد، وجسد يعيش“محنة” التغريب.لقد اعتبر فوكو أن السلطة، لا توجد في المجال السياسي وحده، بل هي منتشرة في كل العلاقات والمؤسسات الاجتماعية ومن ثم فإنها تخترق حتى الجسد، ويظل الجسد الأنثوي أكثر اختراقا من قبل هذه السلطة مقارنة بالجسد الذكوري، وذلك بفعل خضوع ’الجسد الأنثوي’ لعنف السلطة وآلياتها، وبفعل الإلزامات والحظر والتحريض والتهميش الذي يطاله في كل الأبعاد التي يتمسرح فيها الفضاء الذكوري.لذلك فالمجتمع العربي الإسلامي يجعل من الجسد الأنثوي خاضعا لقوانين غارقة في الصرامة والتطويع، بدءا من نشأته وصولا إلى آليات الخوف عليه، لذا لا نستغرب إذا وجدنا أن المجتمع وظف كل إمكاناته وخبراته في ممارسة التضييق على الجسد الأنثوي، وإخفائه، إذ “تصميم وهندسة البيت العربي التقليدية يكاد يكون كله من أجل حجب جسد المرأة وتأمينه وحصره داخل هذا الفضاء الذي نلاحظ فيه الأسوار العالية، البوابات الموصدة، السقائف يصل عددها في بعض البيوت إلى سبع سقائف كل ذلك للمباعدة بين العالم الخارجي والعالم الداخلي”2 وهذا ما يجعل الرجل يستأثر بكل الفضاءات، ويقوم هو بتوزيع الأدوار، وتحديد الفضاء الذي سيتحرك فيه الجسد الأنثوي، في الوقت الذي يزداد التضييق على الجسد الأنثوي، من خلال التحديد الصارم لوضعه وطرائق تمظهره، لأن الثقافة السائدة لا تسمح له بالتحرك بكل حرية، ولأنه ينبغي لجسد المرأة “أن يكون مستقيما دائما، ولا بأس من انحناءة خفيفة تدل على الخير والخضوع لتنال استحسان الناس. أما الالتفاتات في الشارع والتبختر من صفة الغانيات. والانحناءة إلى أسفل لالتقاط شيء فهو فضيحة”3 لذا فإن تحليل الجسد الأنثوي هو بمثابة استكناه للمسكوت عنه والمهمش في بنية ثقافية لا تعمل إلا على تكريس الإقصاء والتهميش والتحديد المقنن لوضعه وامتداده، أي هو بحث في الدور الوظيفي المحدد سلفا من قبل سلطة ذكورية تتخلل كل البنيات الثقافية والاجتماعية.يمكن اعتبار الجسد الأنثوي وعاء للعديد من الإفراغات الذكورية والنصية الدينية، بحيث ظل ملتقى علاقات محكومة بخلفيات إيديولوجية وعصبية، وهو ما قوى من سلطة “الَحْجب” والإخفاء، سواء تعلق الأمر بالجسد الواقعي أو الرمزي. وهو ما يجعل من المرأة حاملا لمعاني تنتمي إلى حقل “الشيطان” وما يتمّ إسقاطه عليه، وهي بذلك الشيطان في مدلولاته الكاشفة عن اللاوعي والمكبوت والظلي المعتم، من غير أن تحمل مدلولا واعيا أو الأنا الواعي في الإنسان 4 . وهذا ما تعضده “ميثولوجيا التأويل القرآني والتي ساهم في تأسيسها وخلقها”مؤولون/رجال“قد رسخوا حكاية خلق حواء من ضلع آدم التي مثلت تاريخيا الإطار المرجعي لاضطهاد المرأة5الذي تولد عنه انشطار بين جنسي الذكر والأنثى/الرجل والمرأة، ومن ثم نتج عنه تشكيل مجموعة من المعتقدات التي تنحو في اتجاه اعتبار الرجل هو الأصل لكونه”المخلوق الأول“في مقابل المرأة الهامشية التي خرجت من هذا الأصل (خلقت من أحد أضلاع الرجل، وهو ضلع أعوج) مما اقتضى معه أن تكون ملحقة بهذا الأصل لغويا6واجتماعيا وثقافيا؛ وهكذا”تظهر اللغة تاريخيا وواقعيا على أنها مؤسسة ذكورية، وهي إحدى قلاع الرجل الحصينة. وهذا يعني حرمان المرأة ومنعها من دخول هذه المؤسسة الخاصة بالرجل، مما جعل المرأة في موضع هامشي بالنسبة لعلاقتها مع صناعة اللغة وإنتاجه“7 فصار الجسد الأنثوي أكثر طواعية للنمطية الإيديولوجية الذكورية، مع استحضار يفصح عنه ـ وأحيانا صامت ـ لفكرة الخطيئة الأولى التي وظفها العقل الذكوري مؤولا إياها وفق ما يخدم سلطته. وبذلك تم إفراغ الجسد الأنثوي من كل فاعلية ليصبح مجرد لذة ومتعة، للرجل الحق في استعماله. وهذا نتج عنه، أيضا، مسخ خطير تحول معه هذا الجسد إلى”علامة“تكتنفها دوائر مثقلة بالمعتقد الديني والتاريخي الأسطوري، مفرغا من البعد الإنساني وقد أعيد تحديد دلالاته بشكل مختزل إلى مجرد”جغرافية“إيروسية تشتغل بين”الدنس“و”الطهر“،”المقدس“و”المدنس“،”فهو جسد ملعون يفيض بالشهوة والشيطان، ومن ثم وجب الابتعاد عنه أو وضعه تحت حراسة الإكراهات والتحريمات“كما أنه جسد في أقصى حالات الطهرانية لن يكون سوى”جزاء من الله“للمؤمنين على ما بذلوه من”تقوى“لنيل رضا”الله“..ولذلك فالجسد الأنثوي في العالم الآخر هو مجرد جسد متعدد يستمتع به المؤمن، ويفتضه، وتتقلص وظيفته في مجرد”إِمتاع“الرجل، والعودة إلى العذرية التي تظل هي مطلب المؤمن الذي”شغله افتضاض الأبكار“حتى أنهم شغلوا بافتضاض العذارى عن أهل النار فلا يذكرونهم ولايهتمون لهم”، ولهذا “إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا” وحده الرجل الذي سيستمتع، أما المرأة فليست من أهل الجنة، وإنما هي من نعم وجزاءات الله في الجنة! وهي “جسد” ينفعل دون أن يفعل، إنه جسد “جريح” مليء بالبتور والتهميش ..تقنيات الجسد الأنثويإن القهر والإقصاء اللذين عانى منهما الجسد الأنثوي طوال تاريخه، ومع التحولات التي طرأت على المجتمعات الإنسانية ما بعد الأنوار، والحداثة وما بعدهما، قد جعلت هذا الجسد الأنثوي، ينشغل بإعادة اكتشاف نفسه، وكذا البحث عن التكنولوجيات الكفيلة بأداء هذا الدور..فليس ثمة معرفة بريئة، أي لا وجود لمعرفة تخلو من خلفية سيطرة وهيمنة. يقول هيدغر في الدروب “حتى كون الإنسان غدا ذاتا والعالم غدا موضوعا ما هو إلا نتيجة لماهية التقنية وسيادة مملكتها وليس العكس” إن معنى التقني عند الإغريق مختلف تماما عن الفهم المعاصر، أو التقنية الحديثة، وهكذا فإن “مسألة” التقنية كما يضعها هيدغر، هي وضع للفلسفة ذاتها في كل تاريخها موضع سؤال، يعني، النظر إليها مثل البراكسيس كتقنية بالمعنى اليوناني الإسم والمسمى؛ وهو ما نص عليه هيدغر بتسليط الضوء عليه والبحث في العلاقة بين النظر والبراكسيس في ذاتها من حيث هي حافظة لماهيتها التي لم يفكر فيها بعد8. إن ما يهمنا من ذلك، هو البحث في تقنيات هذا الجسد الذي يُوَظِّفُ، كما يُوَظَّفُ، باعتباره تقنية، ومن زاوية أخرى كمالك لهذه التقنية إزاء محاولات إخضاع المدركات إليه. فالجسد الأنثوي يستعمل كأداة للمصاهرة9 ،يباع لقاء تغطية أعباء نفقاته ولقاء مبلغ من المال، من الزوج كي يتخذ منه أداة لمتعته، ووعاء لذريته، وجهازا حركيا يقوم على خدمته. أما النفس ـالمرأةـ وكيانها فيفرض عليها الموت المعنوي البطيء10، ومثلما يتم تقييد جسد المرأة ويؤجر جنسيا واقتصاديا، من خلال السلط القانونية والثقافية والدينية التي تمارس سلطتها بكل عنف وقسوة، فإن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة تخضع للاختلال واللاتوازن، حيث يقع الغرم على المرأة دائما، فهي دائما المذنبة بسبب استسلامها للإغراء قبل الزواج، وهي كذلك إن حرمت زوجها من المتعة، ومذنبة إن لم تنجب، ويطاردها الذنب حتى وإن ولدت ولم يكن المولود ذكرا. وهو ما يكشف عن الذاتية والأنانية العنيفة. فالرجل لا يفكر إلا بنفسه ومتعته، والمرأة ليست سوى أداة المتعة11.
إن هذا العنف الممارس هو أحد أنواع “الهدر” الذي تذهب ضحيته المرأة ككيان، وكجسد، إذ ينجم عنه فشل في مشروع تحقيق الذات وصناعة كيان في الوجود يؤدي إلى هدر نوعية الحياة فتهدر الكينونة وتصبح الذات وكأنها خارج الحياة efil fo tuo وهو ما يساهم في كبح الصيرورة بالضرورة . والأمر، إذا، يصبح له ارتباط بتحول دلالة الوجود الذي يتحول إلى مجرد البحث عن الممكن، فتفقد المرأة قيمتها الذاتية تحت سلطة الحاجة وتستسلم للآخر، فتحيا راهنها بلا تاريخ، ودون مشروع صناعة تاريخها أو مصيرها. لذا تتدهور قيمتها وتتحول إلى مجرد استهلاك، بمختلف الوسائل التي تبيح العنف والاحتيال والتصرف في حرمة الجسد. وهو ما يجعل كل ذات تبحث عن التماهي بالاعتقاد الزائف eveileb ekamمن خلال الاندماج في مُثُل تصنعها من شخصيات فنية، أو فقهاء أو شخصية تعتقد أنها تمثل رمزا في اتخاذ مواقف من قضاياهم وانشغالاتهم، كما تمتد هذه الصناعة إلى إنتاج ثرثرة لغوية لتقوم بدور التستر على عورة الفراغ الوجودي، الذي يجد أبرز تعبير له في الجسد العورة12.يصبح الجسد الأنثوي، من هذا المنظور، عورة ينبغي حجبها حتى لا تؤدي إلى دنس أخلاقي يجر الرجل إلى “السلوك الحرام”.. غير أن الرغبة الأنثوية في التعبير عن كيانها، والتبرم على الثقافة السائدة، بعد أن ظهرت بوادر وعي المرأة بكينونتها، أدى إلى اختزال المواقع اللذية في المنطقة القضيبية. وهو ما تكشف عنه طرائق اللباس ونوعيته التي ترتديها الأجساد المحجبة. وهكذا صار المحرم الجنسي ليس فعل الاتصال الذي يحدث بين الجسدين ـ المرأة والرجلـ وإنما تحول إلى الخوف من الإنجاب، ثم الاحتياط من وقوع حالة الافتضاض التي قد تؤدي إلى فقدان الجسد الأنثوي “طهارته ونقاءه” باعتباره البنية الثقافية التي تختصر الكيان في قيمة “البكارة”. وهذا ما تكشف عنه حتى الخلفية الدينية التي تقتضي شروطا صارمة لإثبات “الزنا”. لذا فإن الممارسة الجنسية “السطحية” وتقنية الاحتياط من وقوع الحمل بكل الوسائل المتاحة، تبقى وحدها الأهم ومركز الاهتمام من قبل الجسد الأنثوي. كل شيء يمكن أن يقبل إلا الحمل غير الشرعي. وقد عرفت الجنسانية تحولات جعلت من قيمة “العذرية/البكارة” قيمة متجاوزة، بفعل ما تقدمه الوسائل الطبية من إعادة صناعة هذه القيمة..لذا فالحمل وحده العائق، وإن كان قد عرف ضربات جعلت الاعتراف بـ“المرأة العازبة” واقعا يتم التعامل معه كمعطى قابل للتداول والفهم. وبذلك فإن الجسد الأنثوي تمكن إلى حد بعيد من تجاوز، والتخلص، من “آثام” القيم التقليدية. الأمر الذي جعل مبدأ “التقية” إحدى القيم التعويضية عن تلك التي تم افتقادها.. لأن الرغبة في ممارسة الحرية الجنسية، واقتحام الفضاء العام، قد مكن الجسد الأنثوي من تكسير “ذكورية” الفضاءات، في محاولة لتأنيثها، ورفع الحظر الذي عانى منه الجسد.
هكذا نجد الجسد الأنثوي، قد اختار الإفصاح عن رغباته وحاجياته، بتقنيات تبتعد أكثر فأكثر عن الحلال والحرام، من حيث هما ثنائية لا تستجيب لتحولاته وعلاقاته الجديدة بالواقع. وهو ما خلص إليه عبد الصمد الديالمي في مقاله “الوقاية أو الاجتهاد المغلق”المنشور في موقع الأوان،حين اعتبر أن فقهاء فاس يدركون الجنس من خلال ثنائية الحلال والحرام فقط. أما الثنائيات الأخرى مثل ثنائية الجنس النفعي والجنس الضار، أو ثنائية الجنس السليم والجنس المريض فغائبة عن وعيهم وتحليلهم؛ والواقع أن ثنائية الحرام/الحلال لا تستوعب كل غنى الجنسانية كما يعيشها الفاعل الاجتماعي في الواقع، اليوم وهنا. فالفقه التقليدي لا يدرك الجنسانية إلا من خلال الحرام، ويرفض إدراكها انطلاقا من الضرورة.فغنى التحول الذي يعرفه الجسد الأنثوي، قد دفع بالأنثى إلى البحث عن كل السبل التي “تعتقد” أنها تحافظ على التوازن بين “الديني” و “الذاتي”، “الجسد” من حيث هو وعي منفصل بالذات عن الغير، والدين من حيث هو الخلفية الثقافية المتحكمة في بنائه. خصوصا أن الجسد -حسب بورديو- عبارة عن بناء اجتماعي يتمثل المرء من خلاله مجموعة من النظم، ومن ثم فهو مخترق بسلط تهيمن عليه فيستدخل دونية يتجسدها، في صور انعدام المهارة الجسدية كالخجل والحشمة، وبذلك فإن السلط الاجتماعية تعمل على شرعنة علاقة الهيمنة عن طريق دمجها في الطبيعة البيولوجية التي هي ذاتها بناء اجتماعي وقد تم تطبيعه.
من هنا، فإن الجسد قد استطاع أن يجد ما يبيح بعض تحولاته، خصوصا أن الإسلام من حيث هو شريعة هو باب لكل أنواع الاختلاف . وجل الأحكام التي أوردها الخطاب الشرعي، هي من الغنى والاختلاف، إلى حد يصبح البعض منها كشفا عن عدة تناقضات بسبب احتمالات متعددة وأوجه مختلفة. لذلك ظل الثابت الوحيد الذي أعيد إنتاجه كحقيقة، هو “ستر الشعر” فتحول معيار العفة والوقار والالتزام مؤسسا على مسألة “الحجاب”، لأن الجسد بالمفهوم التقليدي -كما رأى نيتشه ليس سوى مستوى من مستويات أخطاء العقل(13). وهذا الخطأ هو الذي ما زال الجسد الأنثوي الإسلامي يحتفظ به ويسعى إلى تغييبه من خلال “التحجب”، الذي يقوم بعدد لانهائي من الوظائف الدلالية للجسد. وإذا كان شعوريا يشتغل من خلفية “دينية” ذات طابع “الالتزام”، فإنه في المقابل يقوم بدور إعطاء قيمة ruelav -ne-esiMلعناصر الوجه.إن ملامح الوجه ومكونانه تتحول من عناصر بيولوجية إلى اختراقات ثقافية للجسد ومن خلاله فالتزين هو محاولة لحمل الجسد على التحول من حالة الأداتية إلى مستوى الاستمتاعية الليبدية، بفعل ما تعرفه “إمبراطورية الموضة” من استحواذ وهيمنة على الوجوه الثقافية للجسد “المحجب ” .
إن استعمال الحجاب، هو توظيف لنظام رمزي يُراد منه أن ينتج رسائل تبعث إلى الآخر لتعرب له عن جسد التوبة والانتماء إلى قيم الطهر والعفة، والإعلان عن البكارة والعذرية. فبالنسبة للمتزوجات اللواتي استعملن “هذه التقليعة” يمثل بالنسبة إليهن توبة ومحوا وتنصلا من كل السلوكات التي كان المسؤول عنها الجسد؛ إنها نوع من المازوشية التي تمارسها الذات المالكة للجسد وهي تسعى إلى التخلص من كل آثار الماضي وما يحمله من آثام، مادام أن “الروح” هي الثابت والأسمى مقابل الجسد المسكون بالشيطان لأنه “ليس الجسد الذي يجعل من الروح خيرا، بل العكس، الروح الخيرة هي التي تجعل الجسد في وضعية مريحة”.14 أما اللواتي لم يتزوجن بعد، فإنهن يسعين إلى الإعلان عن جسد عذري محافظ، و“صالح للاستعمال” المشروط بقيم التداول الجنسي للمجتمع المذكر.يعني، هذا، أن كل جسد -حسب بودريار- أو جزء منه يمكنه أن يقوم بدور وظيفي بنفس الطريقة; شريطة أن يخضع لنفس النظام الإيروتيكي، لذا يكفي له أن يكون الأكثر تسييجا، والأكثر صقلا، ودون عيب، ودون فتحة، ودون “شائبة”. كل اختلاف مثير للشبق يتواطأ مع الحاجز البنيوي الذي يحد هذا الجسد ـ بالمعنى المزدوج للتحديد والتلاؤم ـ الحاجز المرئي داخل اللباس، والحلي أوالخِضاب، غير مرئي في العراء التام، ولكنه دائم الحضور بما أنه يكسو الجسد كجلد ثان. وعليه فإن يوتوبيا العراء، التي تجعل الجسد حاضرا في حقيقته، تعني أن الأمر يتعلق بإيديولوجيا الجسد الذي يمكن أن يعاد تقديمه.
إنه جسد مجنسن éuxes!
يعتبر فرويد أن البنت الصغيرة ليست سوى صبي صغير؛ إنها رجل صغير وهي في إحدى مراحل نموها، تستخدم بظرها المكافئ للقضيب، ومن ثم فالرجل هو المفضل، وهذا ما يجعلها في مرحلة ما تنضوي إلى علاقة الرجل، أي إن علاقة المرأة بالأصل تغدو تلك العلاقة المحكومة بالرجل، وهي بذلك ستفقد توازنها وسبيلها إذا لم تنخرط في هذه الرغبة الأولى الذكرية. وهذا ما يترجم ذلك التخلي عن أصلها لتترك للرجل الحق في أن يدون عليها اسم سلالته، فتتخلى عن أسرتها، ومنزلها واسمها ونسبها لتنضوي إلى أسرة الرجل ومنزله واسمه ونسبه. وهكذا لا يصبح القضيب دالا مميزا للعضو الذكري أو المتعة، بل يتعدى ذلك. ولعل أهم الرغبات التي تبرز هي السيطرة على الذكورة من حيث هي قضيب و“شهوة القضيب” سواء من خلال اشتهائه أو شهوة امتلاكه، وهذا ما يشكل السبب الوحيد الكافي لكي يدفع المرأة بأن تصبح أنثى. فالأنوثة تسعى نحو حيازة أداة المتعة والاستحواذ عليها -بالمحاكاة أو المطابقة- على القضيب الذي يختزل قيمة التبادل الجنسي ورأسماله. غير أن هذا الاقتصاد يجعل من الرجل لذة عارمة تدفعه إلى أن يثق في امتلاكه للقضيب، وهو ما يجعله أكثر استمتاعا بهذا الرأسمال في عمليات تشريعية أو في نشاطات أكثر سموا، مادامت المرأة تدعم القيمة الرمزية للقضيب بما تعمل على المحافظة على حصته وحمايته من تبديد طاقته في تأملات مرآوية مختلفة. بل إنها تذهب إلى حد تمثله أحيانا، في حين يظل جسدها “القضيبي” مدعما أكثر لقيمة القضيب معززا سعر صرفه وتداوله، بضمان رهانه، ومن ثم تصبح المرأة مفوضة للعب دور الطاعة وتقديم الولاء “سيكولوجية الأنوثة؛ ص 711”.
إن الأعضاء تؤدي وظائف في خدمة الأنا، وهي تقل كلما زادت شحنتها الشهوية ومعناها الجنسي، وهذا ما يجعل الجسد الأنثوي أكثر استثمارا لفائض العين وللحيازة البصرية، في سعي نحو التخلص من جراحات “الخصاء” والتمكن من “القضيب” الذي يمثل الضامن الوحيد للمعنى، ولمعنى المعنى، وللشكل، فيصير هو الدال النهائي. وهكذا، فإن المرأة لا تملك شيئا من الحقيقة، إذ الاتفاق والتواطؤ بين عضو وبين هيمنة سلطة البصر يدعها عرضة لجنسها المنعدم ولخصائها الناجز، أي ليبيدو “غير مكترث” إلا في حال قيامه على “شهوة القضيب” ـ سيكولوجية الأنوثة ص71ـ وإذا كانت رغبتها لا تدل إلا على هذا الميل القضيبي، فهذا يعني أن الرجل وحده الذي يملكه، ومن ثم فهو يمثل الثروة الوحيدة في الاقتصاد الجنسي الذي لا تمثل فيه المرأة سوى عنصرا ثانويا، مادامت هي نفسها تعتبر البظر“قضيبا صغيرا” منتقصة من قيمته، ومفسحة المجال الدلالي والفعال للقضيب الذكوري.
إنه جسد لا يتعرى إلا محجبا!
إن الجسد المحجب هو جسد يشتغل على توازٍ ثقافي وفكري يعكسه المظهر الذي يتجلى من خلاله؛ فهو جسد يعلن عن “التوبة” و“الطهارة” و “العذرية/البكارة” و“الالتزام”، و “العفة” من خلال الرأس وبالأخص المستوى السطحي منه، وهو الشعر. فستر الشعر هو، في نظر أصحابه، يحجب الجسد الأنثوي، ويحميه من مزالق الدنس والسقوط في “المعصية” و “الكبائر” التي ليس لها من مصدر سوى جسد المرأة من حيث هي جسد يتوقف على “الغواية” وإفساد السلوكات والدفع بالمجتمع إلى الاختلالات. غير أن “الطهرانية” تنحصر في شعر الرأس، وما تبقى فإن الجسد حر في أن يلبس ما يشاء.إن التوازي الثاني هو المظهر الذي يبدو به الوجه وملامحه، التي لا تقل إغراء وإيروسية تجعل من عناصر الوجه أكثر تجميعا وإرسالا لرسائل الغواية..فهي ملامح تستعمل كل أنواع الماكياج/الخضاب، من دهون تساعد على تلميع البشرة وأحمر الشفاه، أما المستوى السفلي من الجسد، حيث “الحدائق السرية” الأكثر شهوية فإن الجسد المحجب لا يبخل في الكشف عن مفاتنه. حيث يرتدي سروالا من نمط الجينز الذي هو اختزال لمرجعية ثقافية وحقل دلالي يدل على الحرية، والتحرر، والفردانية، والليبرالية.. كما أنه يجعل “العورة” أكثر إغراء وبروزا، إذ يتمظر الجسد بصورة أكثر إيروسية وإثارة، بل إنه يتم توزيع المواقع اللذية على كل الجسد بدءا من عناصر الوجه، مرورا بالنهدين، وانتهاء بالفخذين، وهو بذلك لا يتوقف عن الكشف عن الأعضاء الأكثر إثارة وحساسية وشهوية.. إن العديد من الأجساد الأنثوية المحجبة، خاصة بين فئة اللواتي لم يتزوجن بعد، تعمل جاهدة من أجل الكشف عن المفاتن، والتعبير عن الرغبة والميولات الجنسية المحرجة، وهي أجساد لا تخجل من أن تمارس الجنس، بكل طلاقة، وبشكل عادي، إنما المهم هو ألا يقع الحمل، وأما فقدان البكارة،“[فذاك أمر يمكن تجاوزه بعملية جراحية بسيطة”، تعيد للجسد “عذريته”.. لذلك فالشوارع والأماكن العمومية، وكل الفضاءات التي كانت حكرا على الأجساد الذكورية قد صارت فضاءات مرتادة من قبل هذه الأجساد التي اختارت أن يكون الالتزام بقيم محسوبة على ثقافية إسلامية “معينة”، لكن هي تشترط شرطا وحيدا ويتيما هو حجب الشعر، لأن مركز الفتنة وبؤرتها توجد في “الزغب” أما الأعضاء الأخرى فهي مجرد أدوات ثانوية.. لذلك يستباح الجسد في تجلياته وحركاته وسكناته.. وفي الفضاءات التي يمكنه أن يتواجد فيها..وعليه، فإن الاختراقات الجديدة لإمبراطورية الموضة التي استحوذت على الجسد المحجب، قد جعلته بؤرة للكشف عن العديد من الاختلالات، ولعل أهمها، هو فقدان الوعي بهذا الامتداد، وعدم امتلاك أدوات فكرية مسعفة على فهم وتتبع مداليله..
وهذا ما جعل من الحجاب مجرد تقية، يتم من خلالها الكشف عن أمرين ـ كما سبقت الإشارة ـ :إذا كان الجسد ينتمي إلى امرأة متزوجة اختارت، بعد تقدم السن بها، أن تلبس هذا القماش، فإن الأمر يتعلق بتوبة يُراد من خلالها الإعلان عن التنصل من ذاكرة وماض يشكلان جزءا منه، ومن ثم فهو ضرب من الغفران، وصك من صكوك إذلال الجسد الذي لم تعتبره الثقافة العربية/الإسلامية إلا “طينا” ودنسا يؤوي روحا ينبغي أن تكون خيرة، وأما هو فمجرد وعاء لها ينبغي الخروج منه وتوديعه في اتجاه العالم الآخر الذي هو الحقيقة المطلقة، وفيها سيتم استعادة جسد طاهر سيكون له الحق في التمتع بكل الملذات “الحسية” من جوار وغلمان، ووديان …أما إذا كان الجسد لأنثى لم تتزوج بعد، فإن وظيفة الحجاب تضطلع بتقديم الجسد على أنه مثالي، وطاهر لم يوطأ بعد، وأنه يحفظ العفة والعذرية والبكارة..لأن العذرية التي تمثلها البكارة ترمز إلى دور إنكاري عن إمكانية وجود علاقة جنسية ماضية، وهو ما يعني بالنسبة للرجل، الذي تكمن رغبته الأعنف واللامنقطعة في الافتضاض، وهي في العمق تكشف عن علاقة دفينة للولد بأمه، بحيث إن غشاء البكارة هو الحجاب الذي يخفي سر استملاك الأم، ويؤجل امتحان القدرة الجنسية/العجز الجنسي “سيكولوجية الأنوثة؛ لوسي إيرغاري”. إن الحجاب هو أَمارة دالة على الوقار الذي يحمل نفيا لكل علاقة ذات طبيعة جنسية.. إنه جسد يريد أن يتخلص من أي تهمة قد تجعله متهما بممارسة اللذة الجنسية “التي تصبح إثما”.. ولكنه في المقابل جسد يستبيح لنفسه ممارسة كل شيء، بدءا من تناول المخدرات والولوج إلى أماكن الرقص والمراقص، وانتهاء بالعمل الجنسي“الدعارة”. لأنه -حسب فرويد- الحسد القضيبي هو الذي يدفع المرأة إلى التباهي بجسمها، وهي بذلك تعتبر مفاتنها تعويضا لاحقا وثمينا عن دونيتها الجنسية الأصلية، في حين أن الحياء ستر للنقص في أعضائهن التناسلية بعد أن صار“الحياء” منسجما مع التقاليد الاجتماعية. ورغم جمال الجسد الأنثوي، فإن المرأة تبقى متحفظة ومتواضعة ومحتشمة فيما يخص عضوها، وهي بذلك تتواطأ من أجل إخفائه، وهي في هذه اللعبة تعري جس
دها، وتتبرج، وذلك من أجل حفظ فرجها بصورة أفضل. وإذا كان ثمة من فائدة لـجسد المرأة أو قيمة، فإن ذلك يكون مبنيا على تستر عضوها،. هذا المعد للاستهلاك، وهو يحمل في العمق لا معنى و“لاشيء”، فكيف يمكن إدخاله داخل الاقتصاد الجنسي؟ ينبغي للمرأة، كي تلقى رواجا، أن تحجب هذا الشيء المهين والبخس الخاص بها، لأن المرأة لا تسوق إلا بوصفها جسدا موشوما بقيمة العضو الذكري-القضيب؛ ومن هنا تكمن أهمية اللباس والأنسجة التي تتدثر بها المرأة، وهذا، أيضا، ما يفسر المساهمة الوحيدة للنساء في “الاكتشافات والاختراعات في تاريخ الحضارة: تقنية النسج” ـ سيكولوجية الأنوثة؛ ص491ـ إن المفارقات التي يعيشها الجسد الأنثوي العربي/الإسلامي، لتكشف عن تراكمات ثقافية ذات نزوع سلطوي، جراء هيمنة العقل الذكوري القضيبي الذي لم يترك الجسد الأنثوي، يفكر نفسه بنفسه، ويتأمل حدوده وميولاته.. وإنما جعل منه مجرد مرتفع للشهوة والإغراء، وهو مسكون بفكرة الشيطان وإسقاطاته…هكذا يتحول الجسد المحجب، إلى جسد مُستهلك بصورة فظيعة جدّا، مما يجعل المرأة أكثر “جسدا” منها عقلا.. إنه تسطيح لكينونة، تقول شيئا وتحيى نمطا لا يزيدها إلا جرحا وتشردا..ويصبح الجسد المحجب هو أكثر الأجساد تعبيرا عن الميولات الجنسية في صورها الأكثر ابتذالا وعنفا وتسطيحا..إنه تسطيح للمرأة وإعادة وأدها وفق أكثر الأنظمة إنتاجا لاستهلاك الجسد..وتعرية جارحة لجنسانية مقموعة لم تتمكن بعد من معرفة نفسها.
هوامش:
1 - عبد الكبيرالخطيبي؛ الجسد بين الرؤية والدليل. الحياة الثقافية. العدد66/3991. ص.67
2 - حياة الرايس؛ جسدالمرأة: من سلطة الإنس إلى سلطة الجن؛ سينا للنشر. ط.1-5991. ص.32
3 - نفسه؛ ص.34
4 - علي زيعور؛ اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غيراللفظي في الذات العربية. دارالطليعة.بيروت 1991. ص.41
5 - تركي علي الربيعو؛ العنف والمقدس والجنس في الميثولوجيا الإسلامية؛ المركز الثقافي العربي. 4991. ص.81
6 - في شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك نقرأ ما يلي: “أصل الاسم أن يكون مذكرا والتأنيث فرع من التذكير، وهذا يذكرنا بحواء المشتقة من أحد أضلاع آدم، ولكون التذكير هو الأصل، استغنى الاسم المذكر عن علامات تدل على التذكير. ولكون التأنيث فرعا من التذكير افتقر إلى علامة تدل عليه وهي التاء والألف المقصورة”
7 - عبد الله الغذامي؛ المرأة واللغة. المركز الثقافي العربي. الطبعة الأولى. 6991. ص.
8 - Eryck de Rubercy، D.Le Buhan; Douze questions posées à jean Beufrét; à Propos de M.Heidegger; Aubier Montaigne; Paris 1983 ترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي
9 - آنظر بحثنا: تأثيم العقل ومآزق الهوية: قراءة في الجسد الأنثوي والعنف الثقافي؛ مجلة رهانات. العدد 5. شتاء 8002.
10 - مصطفى حجازي؛ التخلف الاجتماعي. المركز الثقافي العربي. الطبعة 9- 5002. ص.402
11 - نفسه؛ ص.502
12- الإنسان المهدور؛ ص.ص. 342-492
13- F.Ildefonse; F.Nietzche; Les nouvelles conditions du corps، p.187
14- M.Labrune; Le corps dans la philosophie de Platon; in. CORPS; Ed.Vrin 1992
يعلمنا الدرس السيميائي أن العالم ليس بريئا، فكل علامة هي دليل حامل لدلالة معينة، كما يعلمنا علم الاجتماع أن كل سلوك صادر عن الأفراد والجماعات، هو تجل من تجليات نمط من الوعي السائد، وهو في النهاية مكون ثقافي لتلك الجماعة التي أفرزته.هذا ما يدفعنا إلى النظر إلى الجسد الأنثوي، نظرة مختلفة حتى نتمكن من وضع اليد على دلالاته الرمزية التي لا يتوقف عن إنتاجها؛ بمعنى آخر “ففي مجتمع يقوم أساسا على الثقافة الشفوية، لا ينحصر في الزخرفة في اللغة التشكيلية بل أيضا في البكتغرافيا أي قانون للدلائل التي هي كما تنص اللسانيات على ذلك دلائل تحمل معها دلالتها وتنطق لمجرد رؤيتها”1وهي دلائل قد نجد عناصرها في رموز تبرز بصورة لاشعورية، وهي تتسم بالغموض والزئبقية في آن، فهي بقدر ما تحمل من الدلالات، قد تبدو فارغة من المعنى.
لذلك يتميز الجسد الأنثوي العربي الإسلامي الراهن، بانتظام عدد من الرموز والدلائل، التي تقتضي استحضار عدد من المستويات للكشف عن بعضها، من خلال التمثلات العميقة للجسد لعدد من المكونات الثقافية التي تتقاطعه وتتداخل فيه.محنة التغريبالجسد جغرافيا تحمل في داخلها ذاتا. هي التي من خلالها تتحدد هوية الكائن، من حيث هو كينونة مدرِكة للعالم، ومن حيث إن العالم يُدْرَكُ من خلال هذه الكينونة. ولذلك فإن الجسد هو ملتقى العديد من التقاطعات الثقافية والفكرية والدينية والتاريخية.. التي تتحول في تداخلاتها إلي شبكة معقدة من المداليل التي لا تتوقف عن إنتاج الدلالة..كما أن الجسد يدخل في علاقة مع الآخر، وبهذا يقع في شِرك الآخر فيغترب ويضيع ويعيش استلابه داخل حضور الغير الذي يتمثله، ومن هنا نفهم جيدا عبارة لاكان “الواقع هو المستحيل” وليس هذا الواقع سوى الواقع الجسدي الذي لا يمكنه التحقق مادام الدليل أكثر شساعة منه.
من خلال هذه العتبة نجد أن قراءة الجسد العربي الإسلامي تحتاج إلى أكثر من وقفة، بما أصبح ينتجه من دلالات رمزية وتعبيرية واضحة. فإمبراطورية الموضة المهيمنة على الجسد، من حيث هو بنية داخل نسق المنظومة الاجتماعية، قد اكتسحت الجسد الأكثر مقاومة لإغراءاتها وسلطتها، ونقصد الجسد الذي يسعى إلى تمثل “قيم” و “مرجعية” يدعي أنها دينية حقيقية وصحيحة. بحيث صرنا أمام جسد مخترق إلى حد بعيد، وجسد يعيش“محنة” التغريب.لقد اعتبر فوكو أن السلطة، لا توجد في المجال السياسي وحده، بل هي منتشرة في كل العلاقات والمؤسسات الاجتماعية ومن ثم فإنها تخترق حتى الجسد، ويظل الجسد الأنثوي أكثر اختراقا من قبل هذه السلطة مقارنة بالجسد الذكوري، وذلك بفعل خضوع ’الجسد الأنثوي’ لعنف السلطة وآلياتها، وبفعل الإلزامات والحظر والتحريض والتهميش الذي يطاله في كل الأبعاد التي يتمسرح فيها الفضاء الذكوري.لذلك فالمجتمع العربي الإسلامي يجعل من الجسد الأنثوي خاضعا لقوانين غارقة في الصرامة والتطويع، بدءا من نشأته وصولا إلى آليات الخوف عليه، لذا لا نستغرب إذا وجدنا أن المجتمع وظف كل إمكاناته وخبراته في ممارسة التضييق على الجسد الأنثوي، وإخفائه، إذ “تصميم وهندسة البيت العربي التقليدية يكاد يكون كله من أجل حجب جسد المرأة وتأمينه وحصره داخل هذا الفضاء الذي نلاحظ فيه الأسوار العالية، البوابات الموصدة، السقائف يصل عددها في بعض البيوت إلى سبع سقائف كل ذلك للمباعدة بين العالم الخارجي والعالم الداخلي”2 وهذا ما يجعل الرجل يستأثر بكل الفضاءات، ويقوم هو بتوزيع الأدوار، وتحديد الفضاء الذي سيتحرك فيه الجسد الأنثوي، في الوقت الذي يزداد التضييق على الجسد الأنثوي، من خلال التحديد الصارم لوضعه وطرائق تمظهره، لأن الثقافة السائدة لا تسمح له بالتحرك بكل حرية، ولأنه ينبغي لجسد المرأة “أن يكون مستقيما دائما، ولا بأس من انحناءة خفيفة تدل على الخير والخضوع لتنال استحسان الناس. أما الالتفاتات في الشارع والتبختر من صفة الغانيات. والانحناءة إلى أسفل لالتقاط شيء فهو فضيحة”3 لذا فإن تحليل الجسد الأنثوي هو بمثابة استكناه للمسكوت عنه والمهمش في بنية ثقافية لا تعمل إلا على تكريس الإقصاء والتهميش والتحديد المقنن لوضعه وامتداده، أي هو بحث في الدور الوظيفي المحدد سلفا من قبل سلطة ذكورية تتخلل كل البنيات الثقافية والاجتماعية.يمكن اعتبار الجسد الأنثوي وعاء للعديد من الإفراغات الذكورية والنصية الدينية، بحيث ظل ملتقى علاقات محكومة بخلفيات إيديولوجية وعصبية، وهو ما قوى من سلطة “الَحْجب” والإخفاء، سواء تعلق الأمر بالجسد الواقعي أو الرمزي. وهو ما يجعل من المرأة حاملا لمعاني تنتمي إلى حقل “الشيطان” وما يتمّ إسقاطه عليه، وهي بذلك الشيطان في مدلولاته الكاشفة عن اللاوعي والمكبوت والظلي المعتم، من غير أن تحمل مدلولا واعيا أو الأنا الواعي في الإنسان 4 . وهذا ما تعضده “ميثولوجيا التأويل القرآني والتي ساهم في تأسيسها وخلقها”مؤولون/رجال“قد رسخوا حكاية خلق حواء من ضلع آدم التي مثلت تاريخيا الإطار المرجعي لاضطهاد المرأة5الذي تولد عنه انشطار بين جنسي الذكر والأنثى/الرجل والمرأة، ومن ثم نتج عنه تشكيل مجموعة من المعتقدات التي تنحو في اتجاه اعتبار الرجل هو الأصل لكونه”المخلوق الأول“في مقابل المرأة الهامشية التي خرجت من هذا الأصل (خلقت من أحد أضلاع الرجل، وهو ضلع أعوج) مما اقتضى معه أن تكون ملحقة بهذا الأصل لغويا6واجتماعيا وثقافيا؛ وهكذا”تظهر اللغة تاريخيا وواقعيا على أنها مؤسسة ذكورية، وهي إحدى قلاع الرجل الحصينة. وهذا يعني حرمان المرأة ومنعها من دخول هذه المؤسسة الخاصة بالرجل، مما جعل المرأة في موضع هامشي بالنسبة لعلاقتها مع صناعة اللغة وإنتاجه“7 فصار الجسد الأنثوي أكثر طواعية للنمطية الإيديولوجية الذكورية، مع استحضار يفصح عنه ـ وأحيانا صامت ـ لفكرة الخطيئة الأولى التي وظفها العقل الذكوري مؤولا إياها وفق ما يخدم سلطته. وبذلك تم إفراغ الجسد الأنثوي من كل فاعلية ليصبح مجرد لذة ومتعة، للرجل الحق في استعماله. وهذا نتج عنه، أيضا، مسخ خطير تحول معه هذا الجسد إلى”علامة“تكتنفها دوائر مثقلة بالمعتقد الديني والتاريخي الأسطوري، مفرغا من البعد الإنساني وقد أعيد تحديد دلالاته بشكل مختزل إلى مجرد”جغرافية“إيروسية تشتغل بين”الدنس“و”الطهر“،”المقدس“و”المدنس“،”فهو جسد ملعون يفيض بالشهوة والشيطان، ومن ثم وجب الابتعاد عنه أو وضعه تحت حراسة الإكراهات والتحريمات“كما أنه جسد في أقصى حالات الطهرانية لن يكون سوى”جزاء من الله“للمؤمنين على ما بذلوه من”تقوى“لنيل رضا”الله“..ولذلك فالجسد الأنثوي في العالم الآخر هو مجرد جسد متعدد يستمتع به المؤمن، ويفتضه، وتتقلص وظيفته في مجرد”إِمتاع“الرجل، والعودة إلى العذرية التي تظل هي مطلب المؤمن الذي”شغله افتضاض الأبكار“حتى أنهم شغلوا بافتضاض العذارى عن أهل النار فلا يذكرونهم ولايهتمون لهم”، ولهذا “إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا” وحده الرجل الذي سيستمتع، أما المرأة فليست من أهل الجنة، وإنما هي من نعم وجزاءات الله في الجنة! وهي “جسد” ينفعل دون أن يفعل، إنه جسد “جريح” مليء بالبتور والتهميش ..تقنيات الجسد الأنثويإن القهر والإقصاء اللذين عانى منهما الجسد الأنثوي طوال تاريخه، ومع التحولات التي طرأت على المجتمعات الإنسانية ما بعد الأنوار، والحداثة وما بعدهما، قد جعلت هذا الجسد الأنثوي، ينشغل بإعادة اكتشاف نفسه، وكذا البحث عن التكنولوجيات الكفيلة بأداء هذا الدور..فليس ثمة معرفة بريئة، أي لا وجود لمعرفة تخلو من خلفية سيطرة وهيمنة. يقول هيدغر في الدروب “حتى كون الإنسان غدا ذاتا والعالم غدا موضوعا ما هو إلا نتيجة لماهية التقنية وسيادة مملكتها وليس العكس” إن معنى التقني عند الإغريق مختلف تماما عن الفهم المعاصر، أو التقنية الحديثة، وهكذا فإن “مسألة” التقنية كما يضعها هيدغر، هي وضع للفلسفة ذاتها في كل تاريخها موضع سؤال، يعني، النظر إليها مثل البراكسيس كتقنية بالمعنى اليوناني الإسم والمسمى؛ وهو ما نص عليه هيدغر بتسليط الضوء عليه والبحث في العلاقة بين النظر والبراكسيس في ذاتها من حيث هي حافظة لماهيتها التي لم يفكر فيها بعد8. إن ما يهمنا من ذلك، هو البحث في تقنيات هذا الجسد الذي يُوَظِّفُ، كما يُوَظَّفُ، باعتباره تقنية، ومن زاوية أخرى كمالك لهذه التقنية إزاء محاولات إخضاع المدركات إليه. فالجسد الأنثوي يستعمل كأداة للمصاهرة9 ،يباع لقاء تغطية أعباء نفقاته ولقاء مبلغ من المال، من الزوج كي يتخذ منه أداة لمتعته، ووعاء لذريته، وجهازا حركيا يقوم على خدمته. أما النفس ـالمرأةـ وكيانها فيفرض عليها الموت المعنوي البطيء10، ومثلما يتم تقييد جسد المرأة ويؤجر جنسيا واقتصاديا، من خلال السلط القانونية والثقافية والدينية التي تمارس سلطتها بكل عنف وقسوة، فإن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة تخضع للاختلال واللاتوازن، حيث يقع الغرم على المرأة دائما، فهي دائما المذنبة بسبب استسلامها للإغراء قبل الزواج، وهي كذلك إن حرمت زوجها من المتعة، ومذنبة إن لم تنجب، ويطاردها الذنب حتى وإن ولدت ولم يكن المولود ذكرا. وهو ما يكشف عن الذاتية والأنانية العنيفة. فالرجل لا يفكر إلا بنفسه ومتعته، والمرأة ليست سوى أداة المتعة11.
إن هذا العنف الممارس هو أحد أنواع “الهدر” الذي تذهب ضحيته المرأة ككيان، وكجسد، إذ ينجم عنه فشل في مشروع تحقيق الذات وصناعة كيان في الوجود يؤدي إلى هدر نوعية الحياة فتهدر الكينونة وتصبح الذات وكأنها خارج الحياة efil fo tuo وهو ما يساهم في كبح الصيرورة بالضرورة . والأمر، إذا، يصبح له ارتباط بتحول دلالة الوجود الذي يتحول إلى مجرد البحث عن الممكن، فتفقد المرأة قيمتها الذاتية تحت سلطة الحاجة وتستسلم للآخر، فتحيا راهنها بلا تاريخ، ودون مشروع صناعة تاريخها أو مصيرها. لذا تتدهور قيمتها وتتحول إلى مجرد استهلاك، بمختلف الوسائل التي تبيح العنف والاحتيال والتصرف في حرمة الجسد. وهو ما يجعل كل ذات تبحث عن التماهي بالاعتقاد الزائف eveileb ekamمن خلال الاندماج في مُثُل تصنعها من شخصيات فنية، أو فقهاء أو شخصية تعتقد أنها تمثل رمزا في اتخاذ مواقف من قضاياهم وانشغالاتهم، كما تمتد هذه الصناعة إلى إنتاج ثرثرة لغوية لتقوم بدور التستر على عورة الفراغ الوجودي، الذي يجد أبرز تعبير له في الجسد العورة12.يصبح الجسد الأنثوي، من هذا المنظور، عورة ينبغي حجبها حتى لا تؤدي إلى دنس أخلاقي يجر الرجل إلى “السلوك الحرام”.. غير أن الرغبة الأنثوية في التعبير عن كيانها، والتبرم على الثقافة السائدة، بعد أن ظهرت بوادر وعي المرأة بكينونتها، أدى إلى اختزال المواقع اللذية في المنطقة القضيبية. وهو ما تكشف عنه طرائق اللباس ونوعيته التي ترتديها الأجساد المحجبة. وهكذا صار المحرم الجنسي ليس فعل الاتصال الذي يحدث بين الجسدين ـ المرأة والرجلـ وإنما تحول إلى الخوف من الإنجاب، ثم الاحتياط من وقوع حالة الافتضاض التي قد تؤدي إلى فقدان الجسد الأنثوي “طهارته ونقاءه” باعتباره البنية الثقافية التي تختصر الكيان في قيمة “البكارة”. وهذا ما تكشف عنه حتى الخلفية الدينية التي تقتضي شروطا صارمة لإثبات “الزنا”. لذا فإن الممارسة الجنسية “السطحية” وتقنية الاحتياط من وقوع الحمل بكل الوسائل المتاحة، تبقى وحدها الأهم ومركز الاهتمام من قبل الجسد الأنثوي. كل شيء يمكن أن يقبل إلا الحمل غير الشرعي. وقد عرفت الجنسانية تحولات جعلت من قيمة “العذرية/البكارة” قيمة متجاوزة، بفعل ما تقدمه الوسائل الطبية من إعادة صناعة هذه القيمة..لذا فالحمل وحده العائق، وإن كان قد عرف ضربات جعلت الاعتراف بـ“المرأة العازبة” واقعا يتم التعامل معه كمعطى قابل للتداول والفهم. وبذلك فإن الجسد الأنثوي تمكن إلى حد بعيد من تجاوز، والتخلص، من “آثام” القيم التقليدية. الأمر الذي جعل مبدأ “التقية” إحدى القيم التعويضية عن تلك التي تم افتقادها.. لأن الرغبة في ممارسة الحرية الجنسية، واقتحام الفضاء العام، قد مكن الجسد الأنثوي من تكسير “ذكورية” الفضاءات، في محاولة لتأنيثها، ورفع الحظر الذي عانى منه الجسد.
هكذا نجد الجسد الأنثوي، قد اختار الإفصاح عن رغباته وحاجياته، بتقنيات تبتعد أكثر فأكثر عن الحلال والحرام، من حيث هما ثنائية لا تستجيب لتحولاته وعلاقاته الجديدة بالواقع. وهو ما خلص إليه عبد الصمد الديالمي في مقاله “الوقاية أو الاجتهاد المغلق”المنشور في موقع الأوان،حين اعتبر أن فقهاء فاس يدركون الجنس من خلال ثنائية الحلال والحرام فقط. أما الثنائيات الأخرى مثل ثنائية الجنس النفعي والجنس الضار، أو ثنائية الجنس السليم والجنس المريض فغائبة عن وعيهم وتحليلهم؛ والواقع أن ثنائية الحرام/الحلال لا تستوعب كل غنى الجنسانية كما يعيشها الفاعل الاجتماعي في الواقع، اليوم وهنا. فالفقه التقليدي لا يدرك الجنسانية إلا من خلال الحرام، ويرفض إدراكها انطلاقا من الضرورة.فغنى التحول الذي يعرفه الجسد الأنثوي، قد دفع بالأنثى إلى البحث عن كل السبل التي “تعتقد” أنها تحافظ على التوازن بين “الديني” و “الذاتي”، “الجسد” من حيث هو وعي منفصل بالذات عن الغير، والدين من حيث هو الخلفية الثقافية المتحكمة في بنائه. خصوصا أن الجسد -حسب بورديو- عبارة عن بناء اجتماعي يتمثل المرء من خلاله مجموعة من النظم، ومن ثم فهو مخترق بسلط تهيمن عليه فيستدخل دونية يتجسدها، في صور انعدام المهارة الجسدية كالخجل والحشمة، وبذلك فإن السلط الاجتماعية تعمل على شرعنة علاقة الهيمنة عن طريق دمجها في الطبيعة البيولوجية التي هي ذاتها بناء اجتماعي وقد تم تطبيعه.
من هنا، فإن الجسد قد استطاع أن يجد ما يبيح بعض تحولاته، خصوصا أن الإسلام من حيث هو شريعة هو باب لكل أنواع الاختلاف . وجل الأحكام التي أوردها الخطاب الشرعي، هي من الغنى والاختلاف، إلى حد يصبح البعض منها كشفا عن عدة تناقضات بسبب احتمالات متعددة وأوجه مختلفة. لذلك ظل الثابت الوحيد الذي أعيد إنتاجه كحقيقة، هو “ستر الشعر” فتحول معيار العفة والوقار والالتزام مؤسسا على مسألة “الحجاب”، لأن الجسد بالمفهوم التقليدي -كما رأى نيتشه ليس سوى مستوى من مستويات أخطاء العقل(13). وهذا الخطأ هو الذي ما زال الجسد الأنثوي الإسلامي يحتفظ به ويسعى إلى تغييبه من خلال “التحجب”، الذي يقوم بعدد لانهائي من الوظائف الدلالية للجسد. وإذا كان شعوريا يشتغل من خلفية “دينية” ذات طابع “الالتزام”، فإنه في المقابل يقوم بدور إعطاء قيمة ruelav -ne-esiMلعناصر الوجه.إن ملامح الوجه ومكونانه تتحول من عناصر بيولوجية إلى اختراقات ثقافية للجسد ومن خلاله فالتزين هو محاولة لحمل الجسد على التحول من حالة الأداتية إلى مستوى الاستمتاعية الليبدية، بفعل ما تعرفه “إمبراطورية الموضة” من استحواذ وهيمنة على الوجوه الثقافية للجسد “المحجب ” .
إن استعمال الحجاب، هو توظيف لنظام رمزي يُراد منه أن ينتج رسائل تبعث إلى الآخر لتعرب له عن جسد التوبة والانتماء إلى قيم الطهر والعفة، والإعلان عن البكارة والعذرية. فبالنسبة للمتزوجات اللواتي استعملن “هذه التقليعة” يمثل بالنسبة إليهن توبة ومحوا وتنصلا من كل السلوكات التي كان المسؤول عنها الجسد؛ إنها نوع من المازوشية التي تمارسها الذات المالكة للجسد وهي تسعى إلى التخلص من كل آثار الماضي وما يحمله من آثام، مادام أن “الروح” هي الثابت والأسمى مقابل الجسد المسكون بالشيطان لأنه “ليس الجسد الذي يجعل من الروح خيرا، بل العكس، الروح الخيرة هي التي تجعل الجسد في وضعية مريحة”.14 أما اللواتي لم يتزوجن بعد، فإنهن يسعين إلى الإعلان عن جسد عذري محافظ، و“صالح للاستعمال” المشروط بقيم التداول الجنسي للمجتمع المذكر.يعني، هذا، أن كل جسد -حسب بودريار- أو جزء منه يمكنه أن يقوم بدور وظيفي بنفس الطريقة; شريطة أن يخضع لنفس النظام الإيروتيكي، لذا يكفي له أن يكون الأكثر تسييجا، والأكثر صقلا، ودون عيب، ودون فتحة، ودون “شائبة”. كل اختلاف مثير للشبق يتواطأ مع الحاجز البنيوي الذي يحد هذا الجسد ـ بالمعنى المزدوج للتحديد والتلاؤم ـ الحاجز المرئي داخل اللباس، والحلي أوالخِضاب، غير مرئي في العراء التام، ولكنه دائم الحضور بما أنه يكسو الجسد كجلد ثان. وعليه فإن يوتوبيا العراء، التي تجعل الجسد حاضرا في حقيقته، تعني أن الأمر يتعلق بإيديولوجيا الجسد الذي يمكن أن يعاد تقديمه.
إنه جسد مجنسن éuxes!
يعتبر فرويد أن البنت الصغيرة ليست سوى صبي صغير؛ إنها رجل صغير وهي في إحدى مراحل نموها، تستخدم بظرها المكافئ للقضيب، ومن ثم فالرجل هو المفضل، وهذا ما يجعلها في مرحلة ما تنضوي إلى علاقة الرجل، أي إن علاقة المرأة بالأصل تغدو تلك العلاقة المحكومة بالرجل، وهي بذلك ستفقد توازنها وسبيلها إذا لم تنخرط في هذه الرغبة الأولى الذكرية. وهذا ما يترجم ذلك التخلي عن أصلها لتترك للرجل الحق في أن يدون عليها اسم سلالته، فتتخلى عن أسرتها، ومنزلها واسمها ونسبها لتنضوي إلى أسرة الرجل ومنزله واسمه ونسبه. وهكذا لا يصبح القضيب دالا مميزا للعضو الذكري أو المتعة، بل يتعدى ذلك. ولعل أهم الرغبات التي تبرز هي السيطرة على الذكورة من حيث هي قضيب و“شهوة القضيب” سواء من خلال اشتهائه أو شهوة امتلاكه، وهذا ما يشكل السبب الوحيد الكافي لكي يدفع المرأة بأن تصبح أنثى. فالأنوثة تسعى نحو حيازة أداة المتعة والاستحواذ عليها -بالمحاكاة أو المطابقة- على القضيب الذي يختزل قيمة التبادل الجنسي ورأسماله. غير أن هذا الاقتصاد يجعل من الرجل لذة عارمة تدفعه إلى أن يثق في امتلاكه للقضيب، وهو ما يجعله أكثر استمتاعا بهذا الرأسمال في عمليات تشريعية أو في نشاطات أكثر سموا، مادامت المرأة تدعم القيمة الرمزية للقضيب بما تعمل على المحافظة على حصته وحمايته من تبديد طاقته في تأملات مرآوية مختلفة. بل إنها تذهب إلى حد تمثله أحيانا، في حين يظل جسدها “القضيبي” مدعما أكثر لقيمة القضيب معززا سعر صرفه وتداوله، بضمان رهانه، ومن ثم تصبح المرأة مفوضة للعب دور الطاعة وتقديم الولاء “سيكولوجية الأنوثة؛ ص 711”.
إن الأعضاء تؤدي وظائف في خدمة الأنا، وهي تقل كلما زادت شحنتها الشهوية ومعناها الجنسي، وهذا ما يجعل الجسد الأنثوي أكثر استثمارا لفائض العين وللحيازة البصرية، في سعي نحو التخلص من جراحات “الخصاء” والتمكن من “القضيب” الذي يمثل الضامن الوحيد للمعنى، ولمعنى المعنى، وللشكل، فيصير هو الدال النهائي. وهكذا، فإن المرأة لا تملك شيئا من الحقيقة، إذ الاتفاق والتواطؤ بين عضو وبين هيمنة سلطة البصر يدعها عرضة لجنسها المنعدم ولخصائها الناجز، أي ليبيدو “غير مكترث” إلا في حال قيامه على “شهوة القضيب” ـ سيكولوجية الأنوثة ص71ـ وإذا كانت رغبتها لا تدل إلا على هذا الميل القضيبي، فهذا يعني أن الرجل وحده الذي يملكه، ومن ثم فهو يمثل الثروة الوحيدة في الاقتصاد الجنسي الذي لا تمثل فيه المرأة سوى عنصرا ثانويا، مادامت هي نفسها تعتبر البظر“قضيبا صغيرا” منتقصة من قيمته، ومفسحة المجال الدلالي والفعال للقضيب الذكوري.
إنه جسد لا يتعرى إلا محجبا!
إن الجسد المحجب هو جسد يشتغل على توازٍ ثقافي وفكري يعكسه المظهر الذي يتجلى من خلاله؛ فهو جسد يعلن عن “التوبة” و“الطهارة” و “العذرية/البكارة” و“الالتزام”، و “العفة” من خلال الرأس وبالأخص المستوى السطحي منه، وهو الشعر. فستر الشعر هو، في نظر أصحابه، يحجب الجسد الأنثوي، ويحميه من مزالق الدنس والسقوط في “المعصية” و “الكبائر” التي ليس لها من مصدر سوى جسد المرأة من حيث هي جسد يتوقف على “الغواية” وإفساد السلوكات والدفع بالمجتمع إلى الاختلالات. غير أن “الطهرانية” تنحصر في شعر الرأس، وما تبقى فإن الجسد حر في أن يلبس ما يشاء.إن التوازي الثاني هو المظهر الذي يبدو به الوجه وملامحه، التي لا تقل إغراء وإيروسية تجعل من عناصر الوجه أكثر تجميعا وإرسالا لرسائل الغواية..فهي ملامح تستعمل كل أنواع الماكياج/الخضاب، من دهون تساعد على تلميع البشرة وأحمر الشفاه، أما المستوى السفلي من الجسد، حيث “الحدائق السرية” الأكثر شهوية فإن الجسد المحجب لا يبخل في الكشف عن مفاتنه. حيث يرتدي سروالا من نمط الجينز الذي هو اختزال لمرجعية ثقافية وحقل دلالي يدل على الحرية، والتحرر، والفردانية، والليبرالية.. كما أنه يجعل “العورة” أكثر إغراء وبروزا، إذ يتمظر الجسد بصورة أكثر إيروسية وإثارة، بل إنه يتم توزيع المواقع اللذية على كل الجسد بدءا من عناصر الوجه، مرورا بالنهدين، وانتهاء بالفخذين، وهو بذلك لا يتوقف عن الكشف عن الأعضاء الأكثر إثارة وحساسية وشهوية.. إن العديد من الأجساد الأنثوية المحجبة، خاصة بين فئة اللواتي لم يتزوجن بعد، تعمل جاهدة من أجل الكشف عن المفاتن، والتعبير عن الرغبة والميولات الجنسية المحرجة، وهي أجساد لا تخجل من أن تمارس الجنس، بكل طلاقة، وبشكل عادي، إنما المهم هو ألا يقع الحمل، وأما فقدان البكارة،“[فذاك أمر يمكن تجاوزه بعملية جراحية بسيطة”، تعيد للجسد “عذريته”.. لذلك فالشوارع والأماكن العمومية، وكل الفضاءات التي كانت حكرا على الأجساد الذكورية قد صارت فضاءات مرتادة من قبل هذه الأجساد التي اختارت أن يكون الالتزام بقيم محسوبة على ثقافية إسلامية “معينة”، لكن هي تشترط شرطا وحيدا ويتيما هو حجب الشعر، لأن مركز الفتنة وبؤرتها توجد في “الزغب” أما الأعضاء الأخرى فهي مجرد أدوات ثانوية.. لذلك يستباح الجسد في تجلياته وحركاته وسكناته.. وفي الفضاءات التي يمكنه أن يتواجد فيها..وعليه، فإن الاختراقات الجديدة لإمبراطورية الموضة التي استحوذت على الجسد المحجب، قد جعلته بؤرة للكشف عن العديد من الاختلالات، ولعل أهمها، هو فقدان الوعي بهذا الامتداد، وعدم امتلاك أدوات فكرية مسعفة على فهم وتتبع مداليله..
وهذا ما جعل من الحجاب مجرد تقية، يتم من خلالها الكشف عن أمرين ـ كما سبقت الإشارة ـ :إذا كان الجسد ينتمي إلى امرأة متزوجة اختارت، بعد تقدم السن بها، أن تلبس هذا القماش، فإن الأمر يتعلق بتوبة يُراد من خلالها الإعلان عن التنصل من ذاكرة وماض يشكلان جزءا منه، ومن ثم فهو ضرب من الغفران، وصك من صكوك إذلال الجسد الذي لم تعتبره الثقافة العربية/الإسلامية إلا “طينا” ودنسا يؤوي روحا ينبغي أن تكون خيرة، وأما هو فمجرد وعاء لها ينبغي الخروج منه وتوديعه في اتجاه العالم الآخر الذي هو الحقيقة المطلقة، وفيها سيتم استعادة جسد طاهر سيكون له الحق في التمتع بكل الملذات “الحسية” من جوار وغلمان، ووديان …أما إذا كان الجسد لأنثى لم تتزوج بعد، فإن وظيفة الحجاب تضطلع بتقديم الجسد على أنه مثالي، وطاهر لم يوطأ بعد، وأنه يحفظ العفة والعذرية والبكارة..لأن العذرية التي تمثلها البكارة ترمز إلى دور إنكاري عن إمكانية وجود علاقة جنسية ماضية، وهو ما يعني بالنسبة للرجل، الذي تكمن رغبته الأعنف واللامنقطعة في الافتضاض، وهي في العمق تكشف عن علاقة دفينة للولد بأمه، بحيث إن غشاء البكارة هو الحجاب الذي يخفي سر استملاك الأم، ويؤجل امتحان القدرة الجنسية/العجز الجنسي “سيكولوجية الأنوثة؛ لوسي إيرغاري”. إن الحجاب هو أَمارة دالة على الوقار الذي يحمل نفيا لكل علاقة ذات طبيعة جنسية.. إنه جسد يريد أن يتخلص من أي تهمة قد تجعله متهما بممارسة اللذة الجنسية “التي تصبح إثما”.. ولكنه في المقابل جسد يستبيح لنفسه ممارسة كل شيء، بدءا من تناول المخدرات والولوج إلى أماكن الرقص والمراقص، وانتهاء بالعمل الجنسي“الدعارة”. لأنه -حسب فرويد- الحسد القضيبي هو الذي يدفع المرأة إلى التباهي بجسمها، وهي بذلك تعتبر مفاتنها تعويضا لاحقا وثمينا عن دونيتها الجنسية الأصلية، في حين أن الحياء ستر للنقص في أعضائهن التناسلية بعد أن صار“الحياء” منسجما مع التقاليد الاجتماعية. ورغم جمال الجسد الأنثوي، فإن المرأة تبقى متحفظة ومتواضعة ومحتشمة فيما يخص عضوها، وهي بذلك تتواطأ من أجل إخفائه، وهي في هذه اللعبة تعري جس
دها، وتتبرج، وذلك من أجل حفظ فرجها بصورة أفضل. وإذا كان ثمة من فائدة لـجسد المرأة أو قيمة، فإن ذلك يكون مبنيا على تستر عضوها،. هذا المعد للاستهلاك، وهو يحمل في العمق لا معنى و“لاشيء”، فكيف يمكن إدخاله داخل الاقتصاد الجنسي؟ ينبغي للمرأة، كي تلقى رواجا، أن تحجب هذا الشيء المهين والبخس الخاص بها، لأن المرأة لا تسوق إلا بوصفها جسدا موشوما بقيمة العضو الذكري-القضيب؛ ومن هنا تكمن أهمية اللباس والأنسجة التي تتدثر بها المرأة، وهذا، أيضا، ما يفسر المساهمة الوحيدة للنساء في “الاكتشافات والاختراعات في تاريخ الحضارة: تقنية النسج” ـ سيكولوجية الأنوثة؛ ص491ـ إن المفارقات التي يعيشها الجسد الأنثوي العربي/الإسلامي، لتكشف عن تراكمات ثقافية ذات نزوع سلطوي، جراء هيمنة العقل الذكوري القضيبي الذي لم يترك الجسد الأنثوي، يفكر نفسه بنفسه، ويتأمل حدوده وميولاته.. وإنما جعل منه مجرد مرتفع للشهوة والإغراء، وهو مسكون بفكرة الشيطان وإسقاطاته…هكذا يتحول الجسد المحجب، إلى جسد مُستهلك بصورة فظيعة جدّا، مما يجعل المرأة أكثر “جسدا” منها عقلا.. إنه تسطيح لكينونة، تقول شيئا وتحيى نمطا لا يزيدها إلا جرحا وتشردا..ويصبح الجسد المحجب هو أكثر الأجساد تعبيرا عن الميولات الجنسية في صورها الأكثر ابتذالا وعنفا وتسطيحا..إنه تسطيح للمرأة وإعادة وأدها وفق أكثر الأنظمة إنتاجا لاستهلاك الجسد..وتعرية جارحة لجنسانية مقموعة لم تتمكن بعد من معرفة نفسها.
هوامش:
1 - عبد الكبيرالخطيبي؛ الجسد بين الرؤية والدليل. الحياة الثقافية. العدد66/3991. ص.67
2 - حياة الرايس؛ جسدالمرأة: من سلطة الإنس إلى سلطة الجن؛ سينا للنشر. ط.1-5991. ص.32
3 - نفسه؛ ص.34
4 - علي زيعور؛ اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غيراللفظي في الذات العربية. دارالطليعة.بيروت 1991. ص.41
5 - تركي علي الربيعو؛ العنف والمقدس والجنس في الميثولوجيا الإسلامية؛ المركز الثقافي العربي. 4991. ص.81
6 - في شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك نقرأ ما يلي: “أصل الاسم أن يكون مذكرا والتأنيث فرع من التذكير، وهذا يذكرنا بحواء المشتقة من أحد أضلاع آدم، ولكون التذكير هو الأصل، استغنى الاسم المذكر عن علامات تدل على التذكير. ولكون التأنيث فرعا من التذكير افتقر إلى علامة تدل عليه وهي التاء والألف المقصورة”
7 - عبد الله الغذامي؛ المرأة واللغة. المركز الثقافي العربي. الطبعة الأولى. 6991. ص.
8 - Eryck de Rubercy، D.Le Buhan; Douze questions posées à jean Beufrét; à Propos de M.Heidegger; Aubier Montaigne; Paris 1983 ترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي
9 - آنظر بحثنا: تأثيم العقل ومآزق الهوية: قراءة في الجسد الأنثوي والعنف الثقافي؛ مجلة رهانات. العدد 5. شتاء 8002.
10 - مصطفى حجازي؛ التخلف الاجتماعي. المركز الثقافي العربي. الطبعة 9- 5002. ص.402
11 - نفسه؛ ص.502
12- الإنسان المهدور؛ ص.ص. 342-492
13- F.Ildefonse; F.Nietzche; Les nouvelles conditions du corps، p.187
14- M.Labrune; Le corps dans la philosophie de Platon; in. CORPS; Ed.Vrin 1992