نقوس المهدي
كاتب
شيطان "الجنس وَضحاياه": إنس ينشق على إنسه
تمنحنا اللغة العربية مفتاحاً حيوياً لثنائية جنس البشر. فكلمة “إنسان” لا تتعدى كونها مثنى “إنس” (إنس ان) التي توحّد بين المرأة والرجل على أساس التمايز دون التمييز. على الرغم من ذلك تحيلنا كلمة “إنسان”، في المتخيّل اللغوي الاجتماعي إلى الرجل في المقام الأول. وفي لغات أخرى (الفرنسية مثلاً) تتشارك المفردة ذاتها في التعريف بالرجل وبالنوع البشري في آن معاً، فيما لا تؤدي كلمة "امرأة" وعديلاتها في تلك اللغات الغرض ذاته بل تخص بها أنثى البشر حصرياً.
يقودنا المدخل اللغوي هذا إلى الفضاء الانثربولوجي، حيث أنه وعبر التاريخ، اقترن التمييز البيولوجي بالمفاضلة بين الجنسين لصالح الرجل. ففي مرحلة ما "قبل الإدراك" (إدراك الذكر/الرجل أبوته ومسؤوليته في الانجاب) كان من الطبيعي أن يكتسب جسد الأنثى غرابة كبيرة في الواقع كما في المتخيل. غرابة تبلغ حدّ الرهبة من قدريْن لا مفر منهما للإنسان: أن يكون موطن الرغبة، هو ذاته الضرورة لاستمرارية الحياة: أي رحم التناسل. الظاهرة عينها تنطبق على الحيوان انطباقاً لم يشكل لذكر الانسان عبر التاريخ مثالاً مطمئِناً. فغياب التبعات النفس-اجتماعية لتحقيق الرغبة لدى المخلوق الأدنى، ينأى بالانسان عن التمثل بهذا. وحده دون سائر المخلوقات يتمتع بميزة التصور المتعلقة بأنشطة الجسد: جسده وجسد شريكته. تصور تحقيق الرغبة وتصور نتائجها. على أن رحلة الإدراك الثاني استغرقت آلاف السنين قبل أن تقرب التصورات من حقائقها العلمية.
شكّل جسد المرأة ولأمد طويل مصدراً لشتى الغيبيات وموضوعات الميثولوجيا؛ تارة تتجسد في آلهة تسمو فوق البشر وتضطلع بأدوار عظيمة مثل حماية "المدينة" وأهلها، وتارة أخرى في "بغي" أو فتاة معبد تكرّس حياتها لخدمة الرب وطالبي اللذة العابرة؛ أو تتمثل بقديسة بتول تحبل بلا "دنس". كان هذا التصور، قائماً في الأساطير قبل الديانة المسيحية (الحبل من ماء النهر، الأسطورة الفرعونية مثالاً)؛ ونقيضها أيضاً المرأة الشبقة التي تحمل من الحيوان الأسطوري.
تحمل مثل هذه التصورات من التعظيم قدر ما تحمل من الإقصاء، ونجد فيها دلالة كبرى على حدوث "الانشقاق الثاني" الذي تلا الأول. أي انشقاق الذكر/الرجل على المرأة/الأنثى وتحميلها مسؤوليتين معاً: مسؤولية الغواية، كونه ينجذب إليها ويرى في ذلك ارتهاناً له. ومسؤولية الانجاب التي تعظّم من شأنها وتشغلها عنه.
ولعل ازدواجية الأمومة/الأنوثة لجهة عدم استيعابها هي منبع هذا الانشقاق الذي أتاح لـ "آدم" أن يخلي مسؤوليته الأصلية تجاه الخطيئة بإلقاء تبعتها على شريكته. ففي المتخيّل الجماعي والفردي، "حواء" هي المسؤولة "الأولى" عن الخطيئة. فهي التي، كما ورد في التوراة، انجذبت إلى "الشجرة" وبادرت إلى تذوق ثمرتها، ومن ثم أغرت آدم بأن يحذو حذوها ففعل. هذا التصوّر لا يقتصر على المؤمنين بالتوراة فقط بل نراه قد تعمم وتوغل في النفوس، حتى غدا كلياً (كونياً). وقد كنت لحين إعداد هذا البحث أظن أن "مبادرة" حواء هذه مثبتة في الآيات كما في الإصحاحات، إلا أنه قد تبيّن لي في البحث أن الآيات تختلف في هذا الصدد عن الإصحاح دون أن يزعزع هذا الاختلاف جوهر المتخيل الجماعي بالنسبة لدورها في غواية آدم. فكلمة "حواء" لم ترد في الآيات على الإطلاق حيث تُسمى فيها "زوج آدم". وعلى الرغم من ذلك لا أظن أن مسلماً على الأرض لا يذكر "حواء" التي وردت مفردتها حصرياً في التوراة.
إن كانت الأديان بالنسبة لجوهر الخطيئة "تساوي" بين "إنس" و"إنس"، فإن التصورات كما التعامل الواقعي (والمحاكم في النظم الحديثة) تضع خطيئة الأنثى في الواجهة محرومة من أي تبرير، وخطيئة الذكر في الخلفية؛ في خانة "التبرير" و"الأسباب التخفيفية". حتى وقبل الأديان السماوية كان توزيع المسؤولية على هذا النحو؛ ففيما كان جزاء "الزاني" في الحضارة الفرعونية الضرب أو الجلد، كان القتل رجماً أو جدع الأنف جزاء "الزانية". جزاء يحرمها من حياتها أو يترك في تلك دمغة لا تمحى.
على الأرجح أن النصوص الدينية لم تبتكر التصورات والعقاب بل وثّـقت المتخيل الجماعي والأعراف التي سادت طويلاً قبل مجيئها والتي تؤكد على "الخصوصية" النفس-اجتماعية لدور المرأة وتبعاته في الغواية. ففي هذا المتخيّل، كما في الواقع، هناك توجس من أن "تتحالف" المرأة مع الشيطان لإيقاع الرجل بالخطيئة. توجس ينبع من طبيعتها "الضعيفة" التي تسهّل لهذا تحقيق غيّـه بالنيل منها ومن "زوجها"، كما من كامل النظام الاجتماعي الذي ينتميان إليه.
هذا "التحالف" المتخيّل هو المثال الأعم، الأكثر تجذراً والأكثر تعبيراً عن "الإنكار". إنكار الرجل مسؤولية الغواية: لستُ أنا المخطئ بل هذه الأنثى؛ فهي بامتلاكها سلطة الغواية توقعني في الخطيئة! وكما أي إنكار آخر يقدم هذا تعليلاته: أنا أحب المرأة خاصة زوجتي وأم أولادي وأثق، مبدئياً، بها على أني لا أثق بأن الشيطان، كما سبق له أن عبث بعقل جدتها حواء وأرسل لها الأفعى لتذوق الثمرة المحرمة، لن يكرر فعلته في أي وقت ويعبث ثانية بعقل ذريتها من النساء وصولاً إليها. فهذا اللعين، حين طُرد من الجنة أقسم بأن يوسوس لجنس آدم طيلة حياته على الأرض. لذا فمن واجبي لأني قوي وفي إمكاني مواجهة أقوى الحيوانات، أن أحمي شريكتي المرأة، من نفسها بالدرجة الأولى، كي لا يتسلل ذكر آخر ويغرر بها وبنا جميعاً.
يرى فرويد في "الإنكار" -الذي هو شديد الشيوع في العلاقات البشرية – "أوالية دفاع" عن النفس سعياً لحمايتها من القلق العصابي كمصدر تهديد لتوازن الشخصية. لا يتيح هذا المقال الاسترسال بتحليل هذه الأوالية بل يكتفى بالإيضاح أن الإنكار يختلف عن النفي البسيط ويُعتبر في التحليل النفسي اعترافاً ضمنياً بحقيقة ما يُنكرها المعني بها بواسطة أدوات النفي. "لست أنا بل هي أو هو..."
ويقول فرويد: إذن فالمتهم هو نفسه مَن ينكر التهمة عن طريق نفيها. (أنظر الإنكار لدى فرويد).
قلماً ينفصل الإنكار عن أوالية دفاع أخرى شديدة الشيوع أيضا وهي "الإسقاط". حيث، للتأكيد على "البراءة" من التهمة التي تقلق "الناكر"، يسقطها إسقاطاً "بريئاً" على آخر. معروف أنه من الصعب على الانسان أن يعترف بما يوقعه في كره نفسه أو يورطه في إثم الشك بها؛ لذا ومن باب "الاستعارة" وتوريةً لحقيقة قائمة في ذاته وتحصيناً لها ضد الاعتراف "بالمُـنكر"، يزعم أن حامله هو شخص "آخر" خارج عنه. (أنظر الإسقاط لدى فرويد).
في "الانشقاق الثاني" سيلعب "الإنكار" دوره ويسهل انقلاب "أقوى" طرفي العلاقة على شريكه. الأقوى في السياق التاريخي الاجتماعي والاقتصادي. أي أنه سيسهل انقلاب آدم الرجل على حواء المرأة بجعلها على الأرض، كما كانت في السماء المسؤولة الأساسية عن الاستسلام للغواية وتسهيل الدرب إلى الخطيئة. وعلى صورة الانشقاق الأول، ستشهد المنظومة الأرضية تغييرات في أدوار عناصرها وتحالفات نفس-اجتماعية جديدة تتشكل هرمياً على صورة المنظومة الأولى:
كما الله، سيقيم "النظام" الأبوي في كل مكان، من قاعدة الهرم حتى قمته. وسيثـبّت الذكر الآدمي مكانته كرجل وأب، ويغدو خليفة للرب، حليفاً "للنظام" المستتب، ممثلاً له وحارساً عليه. بالنسبة لعلاقته مع المرأة وجسدها، سيحدث انفصام: لجهة الأمومة، سيتحالف جسدها، في متخيله، مع الله ومع زوجها؛ أما لجهة الرغبات والتصورات، فقد يتحالف مع ابليس ويغدو مصدر تهديد يستدعي القيام بإجراءت ما تحصينية، من شأنها حمايتها وحماية زوجها وعائلتها و"تحصين" المنظومة. إجراءات، بعضها مجرد مثل الامتثال للتقاليد بواسطة الطاعة، والبعض الآخر مجسد مثل الختان والخفاض، الحجر في البيت، الحجر على جسد المرأة عبر المغالاة في تثمين العذرية؛ أو بواسطة حزام العفة للمتزوجات أو الحجاب الكامل الذي يخفيها عن الأعين. هكذا سينفصل فضاء الأنوثة عن الذكورة ليتقوقع في "الخاص"، مقابل العام؛ وفي الانغلاق مقابل الانفتاح؛ وفي الارتهان شبه الكامل للآخر والجماعة مقابل حرية كبرى أو نسبية في التحرك والعمل واتخاذ القرارات لا سيما الشخصية منها. في هذا الانفصال يغدو الإنسان الواحد اثنين "إنس-ان"؛ لا بالمعنى البيولوجي وحسب بل وبالمعنى الثقافي السوسيولوجي وتوزيع الأدوار: "الكبرى" منها التي تدور في الواقع الخارجي مسؤولية الرجل، مثل تولي سدة الحكم والمحاكم وإقامة الحروب؛ و"الصغرى" مسؤولية المرأة مثل الإنجاب ورعاية الأطفال والأسرة ورعاية زوجها أو مساعدته في الحقل.
الأنثى تنشق على نفسها
في هذا السياق كان من الطبيعي أن تشارك الأنثى الرجل، والمنظومة الاجتماعية حاملة التقاليد، المخاوف من جسدها وتبدأ تتواطأ على تقنينه؛ أو تقبل به على الأقل، قبولاً ثبتت مظاهره عبر العصور. إذ ليست الصورة الانثروبولوجية بالبساطة التي يتصوّرها البعض، من أن "مخيم الذكور" تآمر على "مخيم الإناث" وفرض عليهنّ "قانون الأب". ففي ظل الغموض الملازم لبيولوجية الأنثى/الانسان، كان من الطبيعي أن تتساءل هذه أيضاً عن أنشطة جسدها وخصوصيات أنوثتها وعن الملتبس والمعقد والمناقض منها لأنثى الحيوان. عن كل ما يتجاوز البيولوجي ويصب في "النفس" والوجدان والمشاعر أي في كل ما يصب في المقومات الانسانية الاجتماعية للعلاقة مع شريكها.
من الطبيعي أن يلبس الانسان الدور الاجتماعي الذي أعطيه ويتشبه بالصورة التي اختيرت له. فما امتثال الدور الاجتماعي إلاّ الطريقة الحاسمة لخلاص الانسان، رجلاً كان أم امرأة، من العزلة القاتلة، والنبذ الذي قد ينتج عنها؛ وشرطاً لاندماجه في مجتمعه وصيرورته مقبولاً من الآخرين. فكيف لو كانت أمنيته تتجاوز القبول؟ أن يكون وبالدرجة الأولى محبوباً؟
مثل أمنية المرأة التي تتجاوز حاجتها للحب والقبول في "الثنائي" حاجة الرجل له؛ لا سيما في الحقبات البعيدة تاريخياً، حيث كانت القوة البدنية والتكاتف الذكوري يعززان من اكتفاء الرجل بمجتمعه. مجتمع يعطيه القيمة ويوفر له إشباع غريزة الجسد خارج المنظومة الرسمية للشراكة، ما يعوضه لحد بعيد عن احتياجه "زوجته". ولنا في ثقافة الجنس والذكورة في الحضارة اليونانية القديمة مثال على ذلك.
قد يخيل للبعض أن "الضعاف" من الرجال سيتحالفون مع النساء لحرمانهن (مثلهم) من امتيازات شتى وفي طليعتها مقاليد السلطة. إلا أن واقع الأمر يشير إلى غير ذلك. فعدوانية الرجل "الضعيف" تجاه النساء تتجاوز عموماً عدوانية القوي للسبب عينه أي لحرمانه من "امتيازات" يتمتع بها أصحاب الثراء والسلطة، ورغبته العميقة بالتماثل مع الصورة المستتبة لا مع نقيضها المهدد بجعله خارج منظومة "الرجال".
شكّل الحب عبر التاريخ الانساني مطلباً حيوياً للأنثى. الحب الذي يتجاوز تحقيق رغبة عابرة لا تتسم بالديمومة. على أنها لتكون محبوبة يجب أن تكون مقبولة، من الرجل الذي اختارها وأيضاً من القبيلة؛ وأن تفي بمواصفات وتخضع لشروط يقرها "النظام" و"يرضى" بها الأطراف. وإذ لا مكانَ ولا "مكانة" في المجتمعات المتماسكة لـ"الشواذ" ولا حتى للاستثناءات، كان لا بد من المرشحة، للختان مثلاً، من أن ترضى به بل وأن تطالب بدمغة الامتثال التي تؤهلها كغيرها من البنات، للزواج "الشرعي".
هكذا انشقت الأنثى على نفسها ورفضت كمال جسدها. وكما انفصل السماوي عن الدنيوي ستنفصل، في دخيلة المرأة، الأمومة عن الرغبة. وهوية جسدها كأم عن هوية جسدها كأنثى راغبة. سيدخل "هذان" في تناقض يبلغ حد الصراع وتغدو هويتها الملتبسة هي الحلبة. في تلك، تقضها تساؤلات لا أجوبة لها سوى في الصمت أو القبول أو في ضروب السحر والشعوذة؛ أو في أجوبة تحض على "خروج" شبه مستحيل؛ خروج بلا منافذ أو فسحات سوى دائرة مسكنها الذاتي، أي جسدها. هكذا سيغدو هذا الكيان مسكناً للصراع وشتى مظاهر العصاب الذي يشغل علم النفس ويُترجم بأمراض نفس-فيزيولوجية شائعة. عصابها الذي يعلن عن كنه المعادلة "المستحيلة": مصالحة الأمومة والأنوثة.
يوسع مثل هذا الصراع "الفجوة" بين المرأة وبين شريكها. فالرجل، عموماً، لا يعاني من حدّة الصراع بين وظيفتي الجنس والأبوة. ومهما بلغ تأثير "السلطات العليا" (الكنيسة مثالاً) وقدرتها على التذنيب، تبقى الصلة بين هاتين الوظيفتين الأساسيتين لدى الرجل، بمنأى عن التجاذبات المنهكة. بل وغالباً ما يكون تلازم الجنس/الأبوة مصدر اعتزاز نرجسي للرجل، لمكانته في المجتمع ولديمومة "الاسم" الذي سيحمل الأبناء. كان هذا الواقع سائداً في جميع الثقافات حتى الماضي القريب، وما يزال على حاله في غالبية بلدان العالم.
الانشقاق في العصر الراهن: شيطان العولمة وجسد المرأة
لا بد من الإيضاح أن العولمة من حيث المبدأ ليست مساراً معادياً لأهل الأرض، ولا هي سبب لرفاهيتهم وهنائهم. العولمة سياق حديث في التاريخ يستند إلى رؤية غير حصرية الحدود لجهة شتى أنماط التبادلات بين الدول والشعوب؛ وبهذا المعنى يمكن للعولمة أن تغدو نعمة عظيمة تفضي إلى تطوّير حياة البشر نحو الأفضل، أو قد تغدو لعبة هلاك واستهلاك تدمر الإيجابي من المكتسبات التي أنجزتها النظم السابقة. يرجع التباين إلى الرؤية الملازمة للعولمة. غني عن الذكر أن من يتولى ريادتها في المرحلة الراهنة هو شبكة عليا لاستثمار الأموال في العالم تنشط بإيقاع لا مثيل سابق له. إيقاع تؤشر حدته إلى استهتار كبير بالمنظومات السابقة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ناهيك عن الاستهتار بقدرات الشعوب على منافسة من المؤكد أنها تبغي تحقيق الكسب لا إنماء المجتمعات وتأمين الرفاه.
يروّج تيار "العولمة" في هجمته، لنمط ثقافي "عابر للقارات" يسعى لتذويب الخصوصيات التي تعترض طريقه، أو حتى تدميرها بغية الإسراع في شق الطريق أمام مشاريع الاستثمار. مقابل هذه الهجمة تطالعنا ظاهرة يصح تسميتها بـِ"وهم العولمة" تمسك بنفوس المفتونين بظاهرتها. بين شيطان العولمة ووهمها لعبة غواية تنشط فيها صور الجسد عموماً وجسد المرأة بشكل خاص. إن كانت "شجرة المعرفة" رمز هذه الغواية في الزمن الغابر فالاستثمار والاستهلاك هو الرمز الآن. وإن كانت الغواية الأولى أسقطت آدم من هناء الجنة فإلى أين تقودنا الغواية الراهنة اليوم؟
هنا أيضا كما في الغابر وعلى صورة (دنيوي/سماوي) يحدث انشقاق في المنظومة إلى اثنتين:
منظومة الواقع: وتتضمن أنشطة العجلة الاقتصادية والمعنيين بها وأولويتها الكسب السريع؛ومنظومة العالم الافتراضي: تمثله بشكل رئيسي الشاشة ووسائل الإعلام؛ ومهمتها نشر الأوهام كبديل عن الواقع. وعلى صورة الصلة بين دنيوي/سماوي وانضواء الأول تحت السلطة الإلهية، لا تنفصل منظومتا الواقع والافتراضي إلا لتنضويا تحت سلطة واحدة. فغني عن الذكر أن كلا المنظومتين ممسوكتين من أرباب "العولمة". وأن الألوهية الجديدة تؤسس لمنظومة تتغير فيها الأدوار كما التحالفات: الوسيط هناك ابليس الجنة وهنا "القنوات" والوسائل التي تحقق نجاحات باهرة في مصادرة النفوس والتفكير. لا غرابة! فالافتراضي يتجاوز الواقعي بهاءً وثراءً وإيهاماً بالانطلاق ويموّه لحد كبير بؤس الواقع. الأجيال الجديدة المنبهرة بعالم الاستهلاك ستعقد الآمال على أن يكون لها نصيب كبير فيه. ومَن أشتد من هؤلاء طموحاً وجموحاً سيلهث للانخراط في صنع هذا العالم أو في لعبة الترويج له.
كمنظومة، تقيم العولمة، كما الله وكما النظام الأبوي، في كل مكان وتحتل كل فضاء، من قاعدة الهرم حتى قمته. وكما الختان، تعبث بالعقل لتعبث بالجسد. على أن العولمة لا تفعل هذا جهاراً بل تؤدي لعبتها الثقافية بحذق عبر الزعم بضرورة التغيير و"الثورة" على القديم، مقدمة نموذجها بديلاً ثقافياً للنظام الأبوي. لعبة استلاب تفضي إلى انشقاق لا في المنظومات وحسب بل وأيضاً في نفوس الأجيال الجديدة التي ستلعق الأوهام كما يلعق الهرّ المبرَد. كثيرون وكثيرات يلهثون للحاق بقطار المنظومة الجديدة أو خدمتها. أما للمرأة، فهناك مكانة مميزة في هذا القطار. فالعولمة تتيح "الفرص". المثمر الجيد منها والرديء. المثمر للفئات التي وفرت لشاباتها (وشبانها بالطبع) التأهيل اللازم للانخراط في المنظومة بصورة مقبولة. أما مَن لم "تتأهل"، فأسوة بغيرها ستقع في التهميش. التهميش التقليدي أو المستحدث. في هذا الأخير يبدو الطلب على جسد امرأة، عارية أو شبه عارية، شديداً لتلبية حاجات الألعوبة إلى عدد وافر من الدمى، الباربي البشرية.
هكذا، في ترسيّ لعبة الاستثمار والاستهلاك عبودية تُخضع كلا الجنسين، يطالعنا فيها وجه "الضحية السعيد". هذه ليست عولمة تسعى لتقارب البشر، هذه خصخصة لطاقات البشر، تلبس قناعاً براقاً وترفع شعارات تغري بحداثة لم تحدث. تروّج لتدمير البنى السابقة ولا توفر على الإطلاق استغلال الجنس وإغراءاته. وباسم التحرر تُخرِج الجسد والجنس من حيز الخصوصية إلى قنوات المرئي والمعلن والإعلانات. مثل هذا التعميم يلزمه شعار مفحم: "الثورة على النظام الأبوي". عبارة تسير اليوم على كل شفة ولسان. من يعرف ماهية هذا النظام ومن يجهله يرفع الشعار. يزايد مزايدة ساذجة أو خبيثة على الإنجازات الأصيلة التي حققتها الحركات النسوية الناضجة وحركات التحرر، منذ عصر النهضة.
اخطبوط هذا النمط العولمي هو الوجه الآخر للشرنقة القديمة التي حاصرت المرأة في ترهات النظام الأبوي وجعلتها تقبل بالإجراءات "الهادفة" مثل الحجر والختان وحزام العفة. مسار "ما فوق حداثي" هو صورة لرمي العرائس في النهر إرضاء للإله أو للطبيعة الغاضبة. هكذا، في شقاء مستلَب وأوهام تلبس قناع السعادة، تعير المرأة نفسها إرضاء للآلهة الجديدة. سيلزم أضحيات كثيرة، عصابيات سعيدات لإعادة النظر بما يجري والإدراك أن النظام الأبوي ليس الشيطان الذي ينبغي طرده من جنة الحداثة. بل هو النظام القائم منذ آلاف السنين والذي في سياق التاريخ شهد من داخله تطورات وتغيرات وثورات لا تحصى كانت في غالبيتها لصالح الانسان. وما القوانين الحديثة والمتجددة في الدول وعبر الدول سوى تأكيد على أن مرونة هذا النظام تجعله أكثر قابلية للتغيير الناضج مما سبق. إن كنا مطالبين بتطويره فإنما للمزيد من الحرية الأصيلة وقوام النفس وهناء البشر. أما تدمير البنى لشق الطرق، فستقتصر نتائجه على تقديم الأضحيات، وتحفيز قوى كبرى في المجتمعات "المستهدفة"، على التزمت والتشدد والتشبث بالقديم في مواجهة الشيطان الجديد، شيطان ليس غير المُغرض أو الساذج من يفترض أنه بمنأى عن التحالف مع أرباب الحروب (بالنسبة للعولمة أنظر جورج قرم).
.
تمنحنا اللغة العربية مفتاحاً حيوياً لثنائية جنس البشر. فكلمة “إنسان” لا تتعدى كونها مثنى “إنس” (إنس ان) التي توحّد بين المرأة والرجل على أساس التمايز دون التمييز. على الرغم من ذلك تحيلنا كلمة “إنسان”، في المتخيّل اللغوي الاجتماعي إلى الرجل في المقام الأول. وفي لغات أخرى (الفرنسية مثلاً) تتشارك المفردة ذاتها في التعريف بالرجل وبالنوع البشري في آن معاً، فيما لا تؤدي كلمة "امرأة" وعديلاتها في تلك اللغات الغرض ذاته بل تخص بها أنثى البشر حصرياً.
يقودنا المدخل اللغوي هذا إلى الفضاء الانثربولوجي، حيث أنه وعبر التاريخ، اقترن التمييز البيولوجي بالمفاضلة بين الجنسين لصالح الرجل. ففي مرحلة ما "قبل الإدراك" (إدراك الذكر/الرجل أبوته ومسؤوليته في الانجاب) كان من الطبيعي أن يكتسب جسد الأنثى غرابة كبيرة في الواقع كما في المتخيل. غرابة تبلغ حدّ الرهبة من قدريْن لا مفر منهما للإنسان: أن يكون موطن الرغبة، هو ذاته الضرورة لاستمرارية الحياة: أي رحم التناسل. الظاهرة عينها تنطبق على الحيوان انطباقاً لم يشكل لذكر الانسان عبر التاريخ مثالاً مطمئِناً. فغياب التبعات النفس-اجتماعية لتحقيق الرغبة لدى المخلوق الأدنى، ينأى بالانسان عن التمثل بهذا. وحده دون سائر المخلوقات يتمتع بميزة التصور المتعلقة بأنشطة الجسد: جسده وجسد شريكته. تصور تحقيق الرغبة وتصور نتائجها. على أن رحلة الإدراك الثاني استغرقت آلاف السنين قبل أن تقرب التصورات من حقائقها العلمية.
شكّل جسد المرأة ولأمد طويل مصدراً لشتى الغيبيات وموضوعات الميثولوجيا؛ تارة تتجسد في آلهة تسمو فوق البشر وتضطلع بأدوار عظيمة مثل حماية "المدينة" وأهلها، وتارة أخرى في "بغي" أو فتاة معبد تكرّس حياتها لخدمة الرب وطالبي اللذة العابرة؛ أو تتمثل بقديسة بتول تحبل بلا "دنس". كان هذا التصور، قائماً في الأساطير قبل الديانة المسيحية (الحبل من ماء النهر، الأسطورة الفرعونية مثالاً)؛ ونقيضها أيضاً المرأة الشبقة التي تحمل من الحيوان الأسطوري.
تحمل مثل هذه التصورات من التعظيم قدر ما تحمل من الإقصاء، ونجد فيها دلالة كبرى على حدوث "الانشقاق الثاني" الذي تلا الأول. أي انشقاق الذكر/الرجل على المرأة/الأنثى وتحميلها مسؤوليتين معاً: مسؤولية الغواية، كونه ينجذب إليها ويرى في ذلك ارتهاناً له. ومسؤولية الانجاب التي تعظّم من شأنها وتشغلها عنه.
ولعل ازدواجية الأمومة/الأنوثة لجهة عدم استيعابها هي منبع هذا الانشقاق الذي أتاح لـ "آدم" أن يخلي مسؤوليته الأصلية تجاه الخطيئة بإلقاء تبعتها على شريكته. ففي المتخيّل الجماعي والفردي، "حواء" هي المسؤولة "الأولى" عن الخطيئة. فهي التي، كما ورد في التوراة، انجذبت إلى "الشجرة" وبادرت إلى تذوق ثمرتها، ومن ثم أغرت آدم بأن يحذو حذوها ففعل. هذا التصوّر لا يقتصر على المؤمنين بالتوراة فقط بل نراه قد تعمم وتوغل في النفوس، حتى غدا كلياً (كونياً). وقد كنت لحين إعداد هذا البحث أظن أن "مبادرة" حواء هذه مثبتة في الآيات كما في الإصحاحات، إلا أنه قد تبيّن لي في البحث أن الآيات تختلف في هذا الصدد عن الإصحاح دون أن يزعزع هذا الاختلاف جوهر المتخيل الجماعي بالنسبة لدورها في غواية آدم. فكلمة "حواء" لم ترد في الآيات على الإطلاق حيث تُسمى فيها "زوج آدم". وعلى الرغم من ذلك لا أظن أن مسلماً على الأرض لا يذكر "حواء" التي وردت مفردتها حصرياً في التوراة.
إن كانت الأديان بالنسبة لجوهر الخطيئة "تساوي" بين "إنس" و"إنس"، فإن التصورات كما التعامل الواقعي (والمحاكم في النظم الحديثة) تضع خطيئة الأنثى في الواجهة محرومة من أي تبرير، وخطيئة الذكر في الخلفية؛ في خانة "التبرير" و"الأسباب التخفيفية". حتى وقبل الأديان السماوية كان توزيع المسؤولية على هذا النحو؛ ففيما كان جزاء "الزاني" في الحضارة الفرعونية الضرب أو الجلد، كان القتل رجماً أو جدع الأنف جزاء "الزانية". جزاء يحرمها من حياتها أو يترك في تلك دمغة لا تمحى.
على الأرجح أن النصوص الدينية لم تبتكر التصورات والعقاب بل وثّـقت المتخيل الجماعي والأعراف التي سادت طويلاً قبل مجيئها والتي تؤكد على "الخصوصية" النفس-اجتماعية لدور المرأة وتبعاته في الغواية. ففي هذا المتخيّل، كما في الواقع، هناك توجس من أن "تتحالف" المرأة مع الشيطان لإيقاع الرجل بالخطيئة. توجس ينبع من طبيعتها "الضعيفة" التي تسهّل لهذا تحقيق غيّـه بالنيل منها ومن "زوجها"، كما من كامل النظام الاجتماعي الذي ينتميان إليه.
هذا "التحالف" المتخيّل هو المثال الأعم، الأكثر تجذراً والأكثر تعبيراً عن "الإنكار". إنكار الرجل مسؤولية الغواية: لستُ أنا المخطئ بل هذه الأنثى؛ فهي بامتلاكها سلطة الغواية توقعني في الخطيئة! وكما أي إنكار آخر يقدم هذا تعليلاته: أنا أحب المرأة خاصة زوجتي وأم أولادي وأثق، مبدئياً، بها على أني لا أثق بأن الشيطان، كما سبق له أن عبث بعقل جدتها حواء وأرسل لها الأفعى لتذوق الثمرة المحرمة، لن يكرر فعلته في أي وقت ويعبث ثانية بعقل ذريتها من النساء وصولاً إليها. فهذا اللعين، حين طُرد من الجنة أقسم بأن يوسوس لجنس آدم طيلة حياته على الأرض. لذا فمن واجبي لأني قوي وفي إمكاني مواجهة أقوى الحيوانات، أن أحمي شريكتي المرأة، من نفسها بالدرجة الأولى، كي لا يتسلل ذكر آخر ويغرر بها وبنا جميعاً.
يرى فرويد في "الإنكار" -الذي هو شديد الشيوع في العلاقات البشرية – "أوالية دفاع" عن النفس سعياً لحمايتها من القلق العصابي كمصدر تهديد لتوازن الشخصية. لا يتيح هذا المقال الاسترسال بتحليل هذه الأوالية بل يكتفى بالإيضاح أن الإنكار يختلف عن النفي البسيط ويُعتبر في التحليل النفسي اعترافاً ضمنياً بحقيقة ما يُنكرها المعني بها بواسطة أدوات النفي. "لست أنا بل هي أو هو..."
ويقول فرويد: إذن فالمتهم هو نفسه مَن ينكر التهمة عن طريق نفيها. (أنظر الإنكار لدى فرويد).
قلماً ينفصل الإنكار عن أوالية دفاع أخرى شديدة الشيوع أيضا وهي "الإسقاط". حيث، للتأكيد على "البراءة" من التهمة التي تقلق "الناكر"، يسقطها إسقاطاً "بريئاً" على آخر. معروف أنه من الصعب على الانسان أن يعترف بما يوقعه في كره نفسه أو يورطه في إثم الشك بها؛ لذا ومن باب "الاستعارة" وتوريةً لحقيقة قائمة في ذاته وتحصيناً لها ضد الاعتراف "بالمُـنكر"، يزعم أن حامله هو شخص "آخر" خارج عنه. (أنظر الإسقاط لدى فرويد).
في "الانشقاق الثاني" سيلعب "الإنكار" دوره ويسهل انقلاب "أقوى" طرفي العلاقة على شريكه. الأقوى في السياق التاريخي الاجتماعي والاقتصادي. أي أنه سيسهل انقلاب آدم الرجل على حواء المرأة بجعلها على الأرض، كما كانت في السماء المسؤولة الأساسية عن الاستسلام للغواية وتسهيل الدرب إلى الخطيئة. وعلى صورة الانشقاق الأول، ستشهد المنظومة الأرضية تغييرات في أدوار عناصرها وتحالفات نفس-اجتماعية جديدة تتشكل هرمياً على صورة المنظومة الأولى:
كما الله، سيقيم "النظام" الأبوي في كل مكان، من قاعدة الهرم حتى قمته. وسيثـبّت الذكر الآدمي مكانته كرجل وأب، ويغدو خليفة للرب، حليفاً "للنظام" المستتب، ممثلاً له وحارساً عليه. بالنسبة لعلاقته مع المرأة وجسدها، سيحدث انفصام: لجهة الأمومة، سيتحالف جسدها، في متخيله، مع الله ومع زوجها؛ أما لجهة الرغبات والتصورات، فقد يتحالف مع ابليس ويغدو مصدر تهديد يستدعي القيام بإجراءت ما تحصينية، من شأنها حمايتها وحماية زوجها وعائلتها و"تحصين" المنظومة. إجراءات، بعضها مجرد مثل الامتثال للتقاليد بواسطة الطاعة، والبعض الآخر مجسد مثل الختان والخفاض، الحجر في البيت، الحجر على جسد المرأة عبر المغالاة في تثمين العذرية؛ أو بواسطة حزام العفة للمتزوجات أو الحجاب الكامل الذي يخفيها عن الأعين. هكذا سينفصل فضاء الأنوثة عن الذكورة ليتقوقع في "الخاص"، مقابل العام؛ وفي الانغلاق مقابل الانفتاح؛ وفي الارتهان شبه الكامل للآخر والجماعة مقابل حرية كبرى أو نسبية في التحرك والعمل واتخاذ القرارات لا سيما الشخصية منها. في هذا الانفصال يغدو الإنسان الواحد اثنين "إنس-ان"؛ لا بالمعنى البيولوجي وحسب بل وبالمعنى الثقافي السوسيولوجي وتوزيع الأدوار: "الكبرى" منها التي تدور في الواقع الخارجي مسؤولية الرجل، مثل تولي سدة الحكم والمحاكم وإقامة الحروب؛ و"الصغرى" مسؤولية المرأة مثل الإنجاب ورعاية الأطفال والأسرة ورعاية زوجها أو مساعدته في الحقل.
الأنثى تنشق على نفسها
في هذا السياق كان من الطبيعي أن تشارك الأنثى الرجل، والمنظومة الاجتماعية حاملة التقاليد، المخاوف من جسدها وتبدأ تتواطأ على تقنينه؛ أو تقبل به على الأقل، قبولاً ثبتت مظاهره عبر العصور. إذ ليست الصورة الانثروبولوجية بالبساطة التي يتصوّرها البعض، من أن "مخيم الذكور" تآمر على "مخيم الإناث" وفرض عليهنّ "قانون الأب". ففي ظل الغموض الملازم لبيولوجية الأنثى/الانسان، كان من الطبيعي أن تتساءل هذه أيضاً عن أنشطة جسدها وخصوصيات أنوثتها وعن الملتبس والمعقد والمناقض منها لأنثى الحيوان. عن كل ما يتجاوز البيولوجي ويصب في "النفس" والوجدان والمشاعر أي في كل ما يصب في المقومات الانسانية الاجتماعية للعلاقة مع شريكها.
من الطبيعي أن يلبس الانسان الدور الاجتماعي الذي أعطيه ويتشبه بالصورة التي اختيرت له. فما امتثال الدور الاجتماعي إلاّ الطريقة الحاسمة لخلاص الانسان، رجلاً كان أم امرأة، من العزلة القاتلة، والنبذ الذي قد ينتج عنها؛ وشرطاً لاندماجه في مجتمعه وصيرورته مقبولاً من الآخرين. فكيف لو كانت أمنيته تتجاوز القبول؟ أن يكون وبالدرجة الأولى محبوباً؟
مثل أمنية المرأة التي تتجاوز حاجتها للحب والقبول في "الثنائي" حاجة الرجل له؛ لا سيما في الحقبات البعيدة تاريخياً، حيث كانت القوة البدنية والتكاتف الذكوري يعززان من اكتفاء الرجل بمجتمعه. مجتمع يعطيه القيمة ويوفر له إشباع غريزة الجسد خارج المنظومة الرسمية للشراكة، ما يعوضه لحد بعيد عن احتياجه "زوجته". ولنا في ثقافة الجنس والذكورة في الحضارة اليونانية القديمة مثال على ذلك.
قد يخيل للبعض أن "الضعاف" من الرجال سيتحالفون مع النساء لحرمانهن (مثلهم) من امتيازات شتى وفي طليعتها مقاليد السلطة. إلا أن واقع الأمر يشير إلى غير ذلك. فعدوانية الرجل "الضعيف" تجاه النساء تتجاوز عموماً عدوانية القوي للسبب عينه أي لحرمانه من "امتيازات" يتمتع بها أصحاب الثراء والسلطة، ورغبته العميقة بالتماثل مع الصورة المستتبة لا مع نقيضها المهدد بجعله خارج منظومة "الرجال".
شكّل الحب عبر التاريخ الانساني مطلباً حيوياً للأنثى. الحب الذي يتجاوز تحقيق رغبة عابرة لا تتسم بالديمومة. على أنها لتكون محبوبة يجب أن تكون مقبولة، من الرجل الذي اختارها وأيضاً من القبيلة؛ وأن تفي بمواصفات وتخضع لشروط يقرها "النظام" و"يرضى" بها الأطراف. وإذ لا مكانَ ولا "مكانة" في المجتمعات المتماسكة لـ"الشواذ" ولا حتى للاستثناءات، كان لا بد من المرشحة، للختان مثلاً، من أن ترضى به بل وأن تطالب بدمغة الامتثال التي تؤهلها كغيرها من البنات، للزواج "الشرعي".
هكذا انشقت الأنثى على نفسها ورفضت كمال جسدها. وكما انفصل السماوي عن الدنيوي ستنفصل، في دخيلة المرأة، الأمومة عن الرغبة. وهوية جسدها كأم عن هوية جسدها كأنثى راغبة. سيدخل "هذان" في تناقض يبلغ حد الصراع وتغدو هويتها الملتبسة هي الحلبة. في تلك، تقضها تساؤلات لا أجوبة لها سوى في الصمت أو القبول أو في ضروب السحر والشعوذة؛ أو في أجوبة تحض على "خروج" شبه مستحيل؛ خروج بلا منافذ أو فسحات سوى دائرة مسكنها الذاتي، أي جسدها. هكذا سيغدو هذا الكيان مسكناً للصراع وشتى مظاهر العصاب الذي يشغل علم النفس ويُترجم بأمراض نفس-فيزيولوجية شائعة. عصابها الذي يعلن عن كنه المعادلة "المستحيلة": مصالحة الأمومة والأنوثة.
يوسع مثل هذا الصراع "الفجوة" بين المرأة وبين شريكها. فالرجل، عموماً، لا يعاني من حدّة الصراع بين وظيفتي الجنس والأبوة. ومهما بلغ تأثير "السلطات العليا" (الكنيسة مثالاً) وقدرتها على التذنيب، تبقى الصلة بين هاتين الوظيفتين الأساسيتين لدى الرجل، بمنأى عن التجاذبات المنهكة. بل وغالباً ما يكون تلازم الجنس/الأبوة مصدر اعتزاز نرجسي للرجل، لمكانته في المجتمع ولديمومة "الاسم" الذي سيحمل الأبناء. كان هذا الواقع سائداً في جميع الثقافات حتى الماضي القريب، وما يزال على حاله في غالبية بلدان العالم.
الانشقاق في العصر الراهن: شيطان العولمة وجسد المرأة
لا بد من الإيضاح أن العولمة من حيث المبدأ ليست مساراً معادياً لأهل الأرض، ولا هي سبب لرفاهيتهم وهنائهم. العولمة سياق حديث في التاريخ يستند إلى رؤية غير حصرية الحدود لجهة شتى أنماط التبادلات بين الدول والشعوب؛ وبهذا المعنى يمكن للعولمة أن تغدو نعمة عظيمة تفضي إلى تطوّير حياة البشر نحو الأفضل، أو قد تغدو لعبة هلاك واستهلاك تدمر الإيجابي من المكتسبات التي أنجزتها النظم السابقة. يرجع التباين إلى الرؤية الملازمة للعولمة. غني عن الذكر أن من يتولى ريادتها في المرحلة الراهنة هو شبكة عليا لاستثمار الأموال في العالم تنشط بإيقاع لا مثيل سابق له. إيقاع تؤشر حدته إلى استهتار كبير بالمنظومات السابقة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ناهيك عن الاستهتار بقدرات الشعوب على منافسة من المؤكد أنها تبغي تحقيق الكسب لا إنماء المجتمعات وتأمين الرفاه.
يروّج تيار "العولمة" في هجمته، لنمط ثقافي "عابر للقارات" يسعى لتذويب الخصوصيات التي تعترض طريقه، أو حتى تدميرها بغية الإسراع في شق الطريق أمام مشاريع الاستثمار. مقابل هذه الهجمة تطالعنا ظاهرة يصح تسميتها بـِ"وهم العولمة" تمسك بنفوس المفتونين بظاهرتها. بين شيطان العولمة ووهمها لعبة غواية تنشط فيها صور الجسد عموماً وجسد المرأة بشكل خاص. إن كانت "شجرة المعرفة" رمز هذه الغواية في الزمن الغابر فالاستثمار والاستهلاك هو الرمز الآن. وإن كانت الغواية الأولى أسقطت آدم من هناء الجنة فإلى أين تقودنا الغواية الراهنة اليوم؟
هنا أيضا كما في الغابر وعلى صورة (دنيوي/سماوي) يحدث انشقاق في المنظومة إلى اثنتين:
منظومة الواقع: وتتضمن أنشطة العجلة الاقتصادية والمعنيين بها وأولويتها الكسب السريع؛ومنظومة العالم الافتراضي: تمثله بشكل رئيسي الشاشة ووسائل الإعلام؛ ومهمتها نشر الأوهام كبديل عن الواقع. وعلى صورة الصلة بين دنيوي/سماوي وانضواء الأول تحت السلطة الإلهية، لا تنفصل منظومتا الواقع والافتراضي إلا لتنضويا تحت سلطة واحدة. فغني عن الذكر أن كلا المنظومتين ممسوكتين من أرباب "العولمة". وأن الألوهية الجديدة تؤسس لمنظومة تتغير فيها الأدوار كما التحالفات: الوسيط هناك ابليس الجنة وهنا "القنوات" والوسائل التي تحقق نجاحات باهرة في مصادرة النفوس والتفكير. لا غرابة! فالافتراضي يتجاوز الواقعي بهاءً وثراءً وإيهاماً بالانطلاق ويموّه لحد كبير بؤس الواقع. الأجيال الجديدة المنبهرة بعالم الاستهلاك ستعقد الآمال على أن يكون لها نصيب كبير فيه. ومَن أشتد من هؤلاء طموحاً وجموحاً سيلهث للانخراط في صنع هذا العالم أو في لعبة الترويج له.
كمنظومة، تقيم العولمة، كما الله وكما النظام الأبوي، في كل مكان وتحتل كل فضاء، من قاعدة الهرم حتى قمته. وكما الختان، تعبث بالعقل لتعبث بالجسد. على أن العولمة لا تفعل هذا جهاراً بل تؤدي لعبتها الثقافية بحذق عبر الزعم بضرورة التغيير و"الثورة" على القديم، مقدمة نموذجها بديلاً ثقافياً للنظام الأبوي. لعبة استلاب تفضي إلى انشقاق لا في المنظومات وحسب بل وأيضاً في نفوس الأجيال الجديدة التي ستلعق الأوهام كما يلعق الهرّ المبرَد. كثيرون وكثيرات يلهثون للحاق بقطار المنظومة الجديدة أو خدمتها. أما للمرأة، فهناك مكانة مميزة في هذا القطار. فالعولمة تتيح "الفرص". المثمر الجيد منها والرديء. المثمر للفئات التي وفرت لشاباتها (وشبانها بالطبع) التأهيل اللازم للانخراط في المنظومة بصورة مقبولة. أما مَن لم "تتأهل"، فأسوة بغيرها ستقع في التهميش. التهميش التقليدي أو المستحدث. في هذا الأخير يبدو الطلب على جسد امرأة، عارية أو شبه عارية، شديداً لتلبية حاجات الألعوبة إلى عدد وافر من الدمى، الباربي البشرية.
هكذا، في ترسيّ لعبة الاستثمار والاستهلاك عبودية تُخضع كلا الجنسين، يطالعنا فيها وجه "الضحية السعيد". هذه ليست عولمة تسعى لتقارب البشر، هذه خصخصة لطاقات البشر، تلبس قناعاً براقاً وترفع شعارات تغري بحداثة لم تحدث. تروّج لتدمير البنى السابقة ولا توفر على الإطلاق استغلال الجنس وإغراءاته. وباسم التحرر تُخرِج الجسد والجنس من حيز الخصوصية إلى قنوات المرئي والمعلن والإعلانات. مثل هذا التعميم يلزمه شعار مفحم: "الثورة على النظام الأبوي". عبارة تسير اليوم على كل شفة ولسان. من يعرف ماهية هذا النظام ومن يجهله يرفع الشعار. يزايد مزايدة ساذجة أو خبيثة على الإنجازات الأصيلة التي حققتها الحركات النسوية الناضجة وحركات التحرر، منذ عصر النهضة.
اخطبوط هذا النمط العولمي هو الوجه الآخر للشرنقة القديمة التي حاصرت المرأة في ترهات النظام الأبوي وجعلتها تقبل بالإجراءات "الهادفة" مثل الحجر والختان وحزام العفة. مسار "ما فوق حداثي" هو صورة لرمي العرائس في النهر إرضاء للإله أو للطبيعة الغاضبة. هكذا، في شقاء مستلَب وأوهام تلبس قناع السعادة، تعير المرأة نفسها إرضاء للآلهة الجديدة. سيلزم أضحيات كثيرة، عصابيات سعيدات لإعادة النظر بما يجري والإدراك أن النظام الأبوي ليس الشيطان الذي ينبغي طرده من جنة الحداثة. بل هو النظام القائم منذ آلاف السنين والذي في سياق التاريخ شهد من داخله تطورات وتغيرات وثورات لا تحصى كانت في غالبيتها لصالح الانسان. وما القوانين الحديثة والمتجددة في الدول وعبر الدول سوى تأكيد على أن مرونة هذا النظام تجعله أكثر قابلية للتغيير الناضج مما سبق. إن كنا مطالبين بتطويره فإنما للمزيد من الحرية الأصيلة وقوام النفس وهناء البشر. أما تدمير البنى لشق الطرق، فستقتصر نتائجه على تقديم الأضحيات، وتحفيز قوى كبرى في المجتمعات "المستهدفة"، على التزمت والتشدد والتشبث بالقديم في مواجهة الشيطان الجديد، شيطان ليس غير المُغرض أو الساذج من يفترض أنه بمنأى عن التحالف مع أرباب الحروب (بالنسبة للعولمة أنظر جورج قرم).
.