نقوس المهدي
كاتب
من مقدمة كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة
أسماء الأعضاء لا تؤثم … أفي الإسلام "طابوا"؟
[…] "فإن هذا الكتاب، وإن لم يكن في القرآن والسنة وشرائع الدين وعلم الحلال والحرام، دالٌّ على معالي الأمور، مرشد لكريم الأخلاق، زاجر عن الدناءة، ناه عن القبيح، باعث على صواب التدبير وحسن التقدير ورفق السياسة وعمارة الأرض. وليس الطريق إلى الله واحدا، ولا كل الخير مجتمعا في تـهجد الليل وسَرْد الصيام وعلم الحلال والحرام، بل الطرق إليـه كثيرة، وأبواب الخير واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصـلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان، بعد توفيق الله بالإرشاد وحسن التبصير[…]
"ولم أر صوابا أن يكون كتابي هذا وقفا على طالب الدنيا دون طالب الآخرة، ولا على خواص الناس دون عوامهم، ولا على ملوكهم دون سوقتهم، فوفيت كل فريق منهم قسمه، ووفرت عليه سهمه. وأودعته طُرفا من محاسن كلام الزهاد في الدنيا وذكر فجائعها والزوال والانتقال، وما يتلاقون به إذا اجتمعوا ويتكاتبون به، إذا افترقوا، في المواعظ والزهـد والصبر والتقوى واليقين وأشباه ذلك، لعل الله يعطف به صادقا، ويأطِـر على التوبة متجانفا، ويردع ظالما، ويلين برقائقه قسوة القلوب. ولم أُخْـلِـه مع ذلك من نادرة طريفة وفطنة لطيفة وكلمة معجبة وأخرى مضحكة، لئلا يخرج عن الكتاب مذهب سلكه السالكون، وعروض أخذ فيها القائلون، ولأروّح بذلك عن القارئ من كد الجد وإتعاب الحق، فإن الأذن مجَّاجة وللنفس حَـمْضَةٌ، والمزْح إذ كان حقا، أو مقاربا، ولأحايينه وأوقاته وأسبابٌ أوجبته، ليس من القبيح ولا من المنكر ولا من الكبائر ولا من الصغائر إن شاء الله.
وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المِزاح والفكاهة وما روى عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له فاعرف المذهب فيه وما أردنا به.
واعلم أنك إن كنت مستغنيا عنه بتنسكك فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه. وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك فيُهيّأ على ظاهر محبتك. ولو وقع فيه توقى المتزمتين لذهب شطر بـهائه وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل إليه معك.
وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين: وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تُصعّر خدك وتعرض بوجهك فإن أسماء الأعضاء لا تُؤْثِم، وإنما المأثم في شتم الأعراض، وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب. قـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَزَّى بعَزَاء الجاهلية فأَعِضُّوه بِهَنِ أبيه ولا تَكْنُوا". وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنـه لـبُدَيْـل بن وَرْقاء، ـ حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء لو قد مَسَّهـم حَـزُّ السلاح لأسلموك ـ: "اعْضَضْ ببَظْر الَّلات، أنحن نسلمه!". وقال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: "من يَطُلْ أير أبيه ينتطق به". وقال الشاعر في هذا المعنى بعينه:
فلو شاء ربي كان أير أبيكم
طويلا كأير الحارث بن سَدُوس
قال الأصمعي: كان للحارث بن سدود أحد وعشرون ذكرا، وقيل للشعبي: إن هذا لا يجيء في القياس، فقال: أيْر في القياس؟ الولد ذكر. وليس هذا من شكل ما تراه في شعـر جرير والفرزدق، لأن ذلك تعبير وابتهار في الأخوات والأمهات وقذف للمحصنات الغافلات. فتفهم الأمرين وأفرق بين الجنسين، ولم أتَرَخّص لك في إرسال اللسان بالرفث على أن تجعله هِجِّيراك على كل حال وديدنك في كل مقال، بل الترخص مني فيه عند حكاية تحكيها أو رواية ترويها، تنقصها الكناية ويذهب بحلاوتـها التعريض.
وأحببت أن تجرى في القليل من هـذا على عادة السلف الصـالح في إرسال النفس على السجية والرغبة بـها عن لِبْسَة الرياء والتصنع. ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنـزهت، وثلموا أديانـهم وتورعت.
وكذلك اللحن إن مر بك في حديث من النوادر فلا يذهبن عليك أنا تعمدناه وأردنا منك أن تتعمده، لأن الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه وشاطر النادرة حلاوتـها، وسأمثل لك مثالا: قيل لمزيـد المديني ـ وقد أكل طعاما كَظَّه:ـ "قي". فقال: "ما أقي، أقي نقًّا ولحم جَدْى ! مرتي طالق لو وجدت هذا قيًّا لأكلته". ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتـها ولاستبشعها سامعها وكان أحسن أحوالها أن يكافئ لطف معناها ثقل ألفاظه…".
("عيون الأخبار" لابن قتيبة. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر. القاهرة 1963، ص، ص، ح ـ ل. 12 مجلد )
ابن قتيبة :
"هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أحد العلماء الأدباء، والحفاظ الأذكياء. كان إماما في اللغة والأدب والأخبار وأيام الناس، متفننا فيها صادقا فيما يرويه، عالما بمشكل القرآن ومعانيه، وغريب الحديث ومراميه، ودقيق الشعر ومغازيه. وكان مستقل الفكر، جريئا في قول الحق. وهو أول من تجرأ على النقد الأدبي فألف في أكثر الفنون المعروفة" […]
"اختلف العلماء اختلافا بينا في ناحية ابن قتيبة الدينية، فقال ابن تيمية : إنه من أهل السنة، وذكره في كتابه تفسير سورة الإخلاص (ص 86) بقوله : "وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما، وابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد (بن حنبل) وإسحق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة، ثم قال : ويقال : هو (يعني ابن قتيبة) لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة".
من ترجمة محقق كتاب "عيون الأخبار" لمؤلفه ابن قتيبة.
أسماء الأعضاء لا تؤثم … أفي الإسلام "طابوا"؟
[…] "فإن هذا الكتاب، وإن لم يكن في القرآن والسنة وشرائع الدين وعلم الحلال والحرام، دالٌّ على معالي الأمور، مرشد لكريم الأخلاق، زاجر عن الدناءة، ناه عن القبيح، باعث على صواب التدبير وحسن التقدير ورفق السياسة وعمارة الأرض. وليس الطريق إلى الله واحدا، ولا كل الخير مجتمعا في تـهجد الليل وسَرْد الصيام وعلم الحلال والحرام، بل الطرق إليـه كثيرة، وأبواب الخير واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصـلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان، بعد توفيق الله بالإرشاد وحسن التبصير[…]
"ولم أر صوابا أن يكون كتابي هذا وقفا على طالب الدنيا دون طالب الآخرة، ولا على خواص الناس دون عوامهم، ولا على ملوكهم دون سوقتهم، فوفيت كل فريق منهم قسمه، ووفرت عليه سهمه. وأودعته طُرفا من محاسن كلام الزهاد في الدنيا وذكر فجائعها والزوال والانتقال، وما يتلاقون به إذا اجتمعوا ويتكاتبون به، إذا افترقوا، في المواعظ والزهـد والصبر والتقوى واليقين وأشباه ذلك، لعل الله يعطف به صادقا، ويأطِـر على التوبة متجانفا، ويردع ظالما، ويلين برقائقه قسوة القلوب. ولم أُخْـلِـه مع ذلك من نادرة طريفة وفطنة لطيفة وكلمة معجبة وأخرى مضحكة، لئلا يخرج عن الكتاب مذهب سلكه السالكون، وعروض أخذ فيها القائلون، ولأروّح بذلك عن القارئ من كد الجد وإتعاب الحق، فإن الأذن مجَّاجة وللنفس حَـمْضَةٌ، والمزْح إذ كان حقا، أو مقاربا، ولأحايينه وأوقاته وأسبابٌ أوجبته، ليس من القبيح ولا من المنكر ولا من الكبائر ولا من الصغائر إن شاء الله.
وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المِزاح والفكاهة وما روى عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له فاعرف المذهب فيه وما أردنا به.
واعلم أنك إن كنت مستغنيا عنه بتنسكك فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه. وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك فيُهيّأ على ظاهر محبتك. ولو وقع فيه توقى المتزمتين لذهب شطر بـهائه وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل إليه معك.
وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين: وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تُصعّر خدك وتعرض بوجهك فإن أسماء الأعضاء لا تُؤْثِم، وإنما المأثم في شتم الأعراض، وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب. قـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَزَّى بعَزَاء الجاهلية فأَعِضُّوه بِهَنِ أبيه ولا تَكْنُوا". وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنـه لـبُدَيْـل بن وَرْقاء، ـ حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء لو قد مَسَّهـم حَـزُّ السلاح لأسلموك ـ: "اعْضَضْ ببَظْر الَّلات، أنحن نسلمه!". وقال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: "من يَطُلْ أير أبيه ينتطق به". وقال الشاعر في هذا المعنى بعينه:
فلو شاء ربي كان أير أبيكم
طويلا كأير الحارث بن سَدُوس
قال الأصمعي: كان للحارث بن سدود أحد وعشرون ذكرا، وقيل للشعبي: إن هذا لا يجيء في القياس، فقال: أيْر في القياس؟ الولد ذكر. وليس هذا من شكل ما تراه في شعـر جرير والفرزدق، لأن ذلك تعبير وابتهار في الأخوات والأمهات وقذف للمحصنات الغافلات. فتفهم الأمرين وأفرق بين الجنسين، ولم أتَرَخّص لك في إرسال اللسان بالرفث على أن تجعله هِجِّيراك على كل حال وديدنك في كل مقال، بل الترخص مني فيه عند حكاية تحكيها أو رواية ترويها، تنقصها الكناية ويذهب بحلاوتـها التعريض.
وأحببت أن تجرى في القليل من هـذا على عادة السلف الصـالح في إرسال النفس على السجية والرغبة بـها عن لِبْسَة الرياء والتصنع. ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنـزهت، وثلموا أديانـهم وتورعت.
وكذلك اللحن إن مر بك في حديث من النوادر فلا يذهبن عليك أنا تعمدناه وأردنا منك أن تتعمده، لأن الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه وشاطر النادرة حلاوتـها، وسأمثل لك مثالا: قيل لمزيـد المديني ـ وقد أكل طعاما كَظَّه:ـ "قي". فقال: "ما أقي، أقي نقًّا ولحم جَدْى ! مرتي طالق لو وجدت هذا قيًّا لأكلته". ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتـها ولاستبشعها سامعها وكان أحسن أحوالها أن يكافئ لطف معناها ثقل ألفاظه…".
("عيون الأخبار" لابن قتيبة. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر. القاهرة 1963، ص، ص، ح ـ ل. 12 مجلد )
ابن قتيبة :
"هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أحد العلماء الأدباء، والحفاظ الأذكياء. كان إماما في اللغة والأدب والأخبار وأيام الناس، متفننا فيها صادقا فيما يرويه، عالما بمشكل القرآن ومعانيه، وغريب الحديث ومراميه، ودقيق الشعر ومغازيه. وكان مستقل الفكر، جريئا في قول الحق. وهو أول من تجرأ على النقد الأدبي فألف في أكثر الفنون المعروفة" […]
"اختلف العلماء اختلافا بينا في ناحية ابن قتيبة الدينية، فقال ابن تيمية : إنه من أهل السنة، وذكره في كتابه تفسير سورة الإخلاص (ص 86) بقوله : "وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي وغيرهما، وابن قتيبة من المنتسبين إلى أحمد (بن حنبل) وإسحق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة، ثم قال : ويقال : هو (يعني ابن قتيبة) لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة".
من ترجمة محقق كتاب "عيون الأخبار" لمؤلفه ابن قتيبة.