نقوس المهدي
كاتب
ما هي طبيعة التحولات المعاصرة في الموضوع الأيروتيكي؟
يمكن تلمس الإجابة في تلك المقاربات والدراسات الثقافية التي بدأت منذ فترة تتناول الأيروتيكية كمنتج ثقافي متحول يخضع لشروط الزمان والمكان.
لقد أصبح أيروس صورة تنتجها البنية السياسية والثقافية لمجتمع ما. إنها صورة تخضع لقوانين الإنتاج والتسويق الثقافي، وهي في جوهرها متحولة، غير ثابتة ولا تمتلك أي طبيعة جوهرية. وهي فوق ذلك كله تعبيراً ثقافياً عن علاقات السلطة والقوة في مجتمع ثقافي معين.
وتشكل الثقافة الأمريكية في هذا السياق النموذج الأكثر تداولاً وقراءة في الدراسات والقراءات النقدية التي تقوم بمهمة رسم أبعاد التحول في ثقافة الرغبة بارتباطها الوثيق بالواقع السياسي وبطبيعة السلطة الحاكمة. ففي دراسته المعنونة “انزياح الأيروتيكية: أيروس والسلطة في أدب نورمان مايلر وأمريكا جورج دبليو بوش”، يناقش الناقد والتر هولبينغ رواية مايلر “لماذا نحن في فييتنام؟” الصادرة عام 1967 كنموذج إبداعي لتلك العلاقة الوثيقة بين أيروس وبين السلطة السياسية. يرى هولبينغ أن هذه الرواية تحليل نفسي سردي للاوعي الجمعي الأمريكي. تظهر رواية مايلر أن الحاجة إلى السيطرة ومتعة القتل المترسخان في السيكولوجية الجمعية وفي الثقافة الأمريكية إنما هما سمتان نابعتان من عدة عوامل: التقاليد المتزمتة لثقافة العمل، الإمبريالية الأمريكية، الخوف من الآخر غير الأبيض، الإيمان بالمصير الموعود ونزعة قمع العقلاني والإبداعي في الذات الجمعية. إن هذه العوامل كلها مجتمعة تؤدي إلى تحويل الجسد إلى سلعة تحد من أي طبيعة أيروتيكية وتختصر أيروس إلى مجرد تجل تنافسي للصراع على السلطة. إن الثقافة الأمريكية في هذا السياق تقدم رؤية مثالية للفرد الأمريكي باعتباره “جندي الله في مواجهة الشر”. وهكذا فإن خطاب مايلر في روايته الصادرة عام 1967 يبدو راهناً ومعاصراً للواقع الأمريكي عام 2002. إنه خطاب يوازي لغة جورج دبليو بوش حول التفوق الأخلاقي للولايات المتحدة الأمريكية ومشروعية رغبتها بالسيطرة من أجل “الأمن القومي، ومن أجل الحرب على الإرهاب.
وفي مقابل هذا التصوير الروائي لأيروس كسلعة استهلاكية تعبر عن الانزياح الذي فرضته السلطة السياسية على ثقافة الرغبة، فإن بعض الدراسات تشير إلى نماذج أخرى للموضوع الأيروتيكي في الأدب الأمريكي. تقدم بعض الأعمال صورة مغايرة لأيروس باعتباره قوة فاعلة وقادرة على تحدي السلطة وثقافتها السائدة. “فتيات سيئات وسرد مشاغب: الأيروتيكي وعصيان النص”، هذا عنوان أحد الدراسات التي أنجزها الناقد ديفيد مالكوم في محاولة لكشف فعالية الأيروتيكي في إنتاج خطاب مغاير ومتمرد على المؤسسات الثقافية والسياسية. يتناول مالكوم في دراسته رواية جين بولز “سيدتان جديتان”. في محاولة لإثبات أن الأيروتيكي في الأدب يمكن أن ينجز عملية تمرد ومغايرة مزدوجة تتم على مستويين في ذات اللحظة. في المستوى الأول يقدم الأيروتيكي للشخصيات الروائية قابليات وإمكانيات التحرر من كل أشكال السلطة. إن الممارسة الأيروتيكية للذات تجعل من هذه الشخصيات ذوات متحررة وقادرة على تحدي وتهديد البنى الاجتماعية التقليدية والمنظومات الأخلاقية السائدة، وهذا في جوهره فعل مقاوم لآليات السلطة السياسية. إن الأدب هنا ينتج صورة محددة لأيروس، صورة ترسم ملامح قوة هائلة وكامنة تستطيع إذا ما وظفت أن تهدد وجود السلطة. أما المستوى الثاني الذي تتحقق فيه عملية التمرد والمغايرة فهو التقنية السردية. إن الموضوع الأيروتيكي يضع الشخصيات الروائية في سياق ممارسات لغوية متحررة من المنطق والتماسك. ففي الحدث الأيروتيكي تفقد اللغة بنيتها التقليدية وتكتسب وظائف جديدة وتستعيد إمكانيات تعبيرية مقموعة ومغيبة في اللاوعي. ونتيجة لذلك يوظف السرد الروائي هنا مستويات وتعبيرات لغوية هي في جوهرها تمرد ومغايرة لمنظومات الكلام الاجتماعي والسياسي السائدة.
ومن جانب آخر هناك مقاربات تنظر إلى الأيروتيكي كقوة قادرة على تهديم المفاهيم الميتافيزيقية الغربية القائمة على الثنائيات. في دراسة الناقدة جوستين تالي “التي تناولت رواية توني موريسون “الفردوس وذلك الجسد” إشارة إلى تلك الآلية التي تفكك فيها ثقافة الرغبة المنظومات الثنائية التي قمعت الذات الأنثوية. توظف تالي نظرية جوليا كريستيفا لتحليل خضوع الشخصية الروائية الأنثوية كنتيجة لفقدانها الهوية في النظام البطريركي. يتخذ ذلك الخضوع شكل التبعية للمكان بالنسبة للذات الأنثوية. لقد ارتبطت المرأة مكانيا بفردوس المطبخ وروائح الطعام كفضاء آمن وحيد. في هذا الفضاء يقوم النص الروائي بعملية إعادة بناء دلالي للمكان- المطبخ فيتحول الطعام إلى تقنية تبرز الأيروتيكي في النص من خلال التأكيد على الحسية في تجربة المرأة وفي فضائها الخاص. لقد تحول الطعام بما له من ارتباط بالحسي إلى أحد الملامح الرئيسة من فضاء الشخصية الروائية الأنثوية. إن هذه المنظومة الدلالية- الثقافية لفضاء جسد المرأة تبدو في جوهرها عنصراً قابلاً لإعادة الصياغة من قبل الأدب، وذلك من خلال عمليتين مختلفتين. في الأولى يقوم النص بإجراء تغييرات جوهرية في طبيعة المكان الأنثوي من الناحية الدلالية ليربط أيروس بهذا المكان وبوظيفته. وفي العملية الثانية يقوم النص بإعادة صياغة المكان ذاته من خلال اقتحام جسد المرأة له، فيصبح هذا الجسد في نزوعه الأيروتيكي مركزاً يمنح للأمكنة هويات وأبعاداً جديدة تتناقض مع منظومات التفكير التقليدية التي توزع الحضور الإنساني في الأمكنة وفقاً للجنس. وهكذا فإن قراءة صور ووظائف أيروس المعاصر تشرف على آفاق عديدة، لكن من المؤكد أن الموضوع الأيروتكي لم يعد عنواناً ثابتاً، بل هو تجل ثقافي لواقع متغير.
• ناقدة وأستاذة جامعية يونانية. مقطع من دراسة نشرت في مجلة الجمعية الأوربية للدراسات الأمريكية.
يمكن تلمس الإجابة في تلك المقاربات والدراسات الثقافية التي بدأت منذ فترة تتناول الأيروتيكية كمنتج ثقافي متحول يخضع لشروط الزمان والمكان.
لقد أصبح أيروس صورة تنتجها البنية السياسية والثقافية لمجتمع ما. إنها صورة تخضع لقوانين الإنتاج والتسويق الثقافي، وهي في جوهرها متحولة، غير ثابتة ولا تمتلك أي طبيعة جوهرية. وهي فوق ذلك كله تعبيراً ثقافياً عن علاقات السلطة والقوة في مجتمع ثقافي معين.
وتشكل الثقافة الأمريكية في هذا السياق النموذج الأكثر تداولاً وقراءة في الدراسات والقراءات النقدية التي تقوم بمهمة رسم أبعاد التحول في ثقافة الرغبة بارتباطها الوثيق بالواقع السياسي وبطبيعة السلطة الحاكمة. ففي دراسته المعنونة “انزياح الأيروتيكية: أيروس والسلطة في أدب نورمان مايلر وأمريكا جورج دبليو بوش”، يناقش الناقد والتر هولبينغ رواية مايلر “لماذا نحن في فييتنام؟” الصادرة عام 1967 كنموذج إبداعي لتلك العلاقة الوثيقة بين أيروس وبين السلطة السياسية. يرى هولبينغ أن هذه الرواية تحليل نفسي سردي للاوعي الجمعي الأمريكي. تظهر رواية مايلر أن الحاجة إلى السيطرة ومتعة القتل المترسخان في السيكولوجية الجمعية وفي الثقافة الأمريكية إنما هما سمتان نابعتان من عدة عوامل: التقاليد المتزمتة لثقافة العمل، الإمبريالية الأمريكية، الخوف من الآخر غير الأبيض، الإيمان بالمصير الموعود ونزعة قمع العقلاني والإبداعي في الذات الجمعية. إن هذه العوامل كلها مجتمعة تؤدي إلى تحويل الجسد إلى سلعة تحد من أي طبيعة أيروتيكية وتختصر أيروس إلى مجرد تجل تنافسي للصراع على السلطة. إن الثقافة الأمريكية في هذا السياق تقدم رؤية مثالية للفرد الأمريكي باعتباره “جندي الله في مواجهة الشر”. وهكذا فإن خطاب مايلر في روايته الصادرة عام 1967 يبدو راهناً ومعاصراً للواقع الأمريكي عام 2002. إنه خطاب يوازي لغة جورج دبليو بوش حول التفوق الأخلاقي للولايات المتحدة الأمريكية ومشروعية رغبتها بالسيطرة من أجل “الأمن القومي، ومن أجل الحرب على الإرهاب.
وفي مقابل هذا التصوير الروائي لأيروس كسلعة استهلاكية تعبر عن الانزياح الذي فرضته السلطة السياسية على ثقافة الرغبة، فإن بعض الدراسات تشير إلى نماذج أخرى للموضوع الأيروتيكي في الأدب الأمريكي. تقدم بعض الأعمال صورة مغايرة لأيروس باعتباره قوة فاعلة وقادرة على تحدي السلطة وثقافتها السائدة. “فتيات سيئات وسرد مشاغب: الأيروتيكي وعصيان النص”، هذا عنوان أحد الدراسات التي أنجزها الناقد ديفيد مالكوم في محاولة لكشف فعالية الأيروتيكي في إنتاج خطاب مغاير ومتمرد على المؤسسات الثقافية والسياسية. يتناول مالكوم في دراسته رواية جين بولز “سيدتان جديتان”. في محاولة لإثبات أن الأيروتيكي في الأدب يمكن أن ينجز عملية تمرد ومغايرة مزدوجة تتم على مستويين في ذات اللحظة. في المستوى الأول يقدم الأيروتيكي للشخصيات الروائية قابليات وإمكانيات التحرر من كل أشكال السلطة. إن الممارسة الأيروتيكية للذات تجعل من هذه الشخصيات ذوات متحررة وقادرة على تحدي وتهديد البنى الاجتماعية التقليدية والمنظومات الأخلاقية السائدة، وهذا في جوهره فعل مقاوم لآليات السلطة السياسية. إن الأدب هنا ينتج صورة محددة لأيروس، صورة ترسم ملامح قوة هائلة وكامنة تستطيع إذا ما وظفت أن تهدد وجود السلطة. أما المستوى الثاني الذي تتحقق فيه عملية التمرد والمغايرة فهو التقنية السردية. إن الموضوع الأيروتيكي يضع الشخصيات الروائية في سياق ممارسات لغوية متحررة من المنطق والتماسك. ففي الحدث الأيروتيكي تفقد اللغة بنيتها التقليدية وتكتسب وظائف جديدة وتستعيد إمكانيات تعبيرية مقموعة ومغيبة في اللاوعي. ونتيجة لذلك يوظف السرد الروائي هنا مستويات وتعبيرات لغوية هي في جوهرها تمرد ومغايرة لمنظومات الكلام الاجتماعي والسياسي السائدة.
ومن جانب آخر هناك مقاربات تنظر إلى الأيروتيكي كقوة قادرة على تهديم المفاهيم الميتافيزيقية الغربية القائمة على الثنائيات. في دراسة الناقدة جوستين تالي “التي تناولت رواية توني موريسون “الفردوس وذلك الجسد” إشارة إلى تلك الآلية التي تفكك فيها ثقافة الرغبة المنظومات الثنائية التي قمعت الذات الأنثوية. توظف تالي نظرية جوليا كريستيفا لتحليل خضوع الشخصية الروائية الأنثوية كنتيجة لفقدانها الهوية في النظام البطريركي. يتخذ ذلك الخضوع شكل التبعية للمكان بالنسبة للذات الأنثوية. لقد ارتبطت المرأة مكانيا بفردوس المطبخ وروائح الطعام كفضاء آمن وحيد. في هذا الفضاء يقوم النص الروائي بعملية إعادة بناء دلالي للمكان- المطبخ فيتحول الطعام إلى تقنية تبرز الأيروتيكي في النص من خلال التأكيد على الحسية في تجربة المرأة وفي فضائها الخاص. لقد تحول الطعام بما له من ارتباط بالحسي إلى أحد الملامح الرئيسة من فضاء الشخصية الروائية الأنثوية. إن هذه المنظومة الدلالية- الثقافية لفضاء جسد المرأة تبدو في جوهرها عنصراً قابلاً لإعادة الصياغة من قبل الأدب، وذلك من خلال عمليتين مختلفتين. في الأولى يقوم النص بإجراء تغييرات جوهرية في طبيعة المكان الأنثوي من الناحية الدلالية ليربط أيروس بهذا المكان وبوظيفته. وفي العملية الثانية يقوم النص بإعادة صياغة المكان ذاته من خلال اقتحام جسد المرأة له، فيصبح هذا الجسد في نزوعه الأيروتيكي مركزاً يمنح للأمكنة هويات وأبعاداً جديدة تتناقض مع منظومات التفكير التقليدية التي توزع الحضور الإنساني في الأمكنة وفقاً للجنس. وهكذا فإن قراءة صور ووظائف أيروس المعاصر تشرف على آفاق عديدة، لكن من المؤكد أن الموضوع الأيروتكي لم يعد عنواناً ثابتاً، بل هو تجل ثقافي لواقع متغير.
• ناقدة وأستاذة جامعية يونانية. مقطع من دراسة نشرت في مجلة الجمعية الأوربية للدراسات الأمريكية.
صورة مفقودة