حيدر سالم - المسرحي و الاخشاب - قصة قصيرة

إلى كرار فياض


تهشم صفاء ذهن " فياض " كزجاجة منسية وهو يعطي ثمن الاستنساخ لصاحب المحل ، نظر الى أول ورقة و هي تحملُ إسم مسرحيته " الأقنعة " ، كان الاسمُ موشحاً بضبابية ملتبسة ، ينسدح خلف اسوار الغلاف الشفاف . أخذ " فياض " مسرحيته و خرج يتأبط قلقه ، القلق الذي ينهش حضوره المعتم ، يفكرُ في أطفاله الذين تركهم يئنون من شدة الجوع و البرد ، هرب من بيته الذي كان متصدعا من نحيبهم الذي ينغرز كأظافرٍ سوداء في خبايا روحه المعطوبة ، ما كان فقيراً في السابق ، لقد تردت أحواله بعدما خسر كل نقوده في البورصة ، تمارسُ النقود الدعارة من جيب لآخر ، في غفلة من الناس ، تحتضنها الايادي كحبيبة أزلية ، و ما أن تصُادفهم حاجة أو مشكلة حتى ينقشع الحب الصوفي ، و تذهب الحبيبة / النقود لأيادٍ أُخرى .

سار فياض قاصداً المسرح وهو يلملم حسراته ، ثم يقذفها للمدى المزدحم بأصوات المارة و أبواق السيارات ، حث خُطاه ، أجهدته سرعته بالمشي لكنه لا يعرف لماذا هذا الاستعجال ، ترك الشعور يقتاده دون أن يتدخل فيه ، غالباً ما ترك الأشياء و المشاعر تقوده شارياً نفسه ، صفاءها / بياضها ، مبعداً عنها التدخل بأي فكرة أو إيعاز ، فلا يرفض المشاعر و لا تدخل الاخرين به ، يعطي لنفسه و لهم ما يبغونه ، و كأن نفسه منشطرة الى ذاتين ، واحدة مزيفة لهم ، و أخرى له ، بعيدة عن أي شيء ، بعيدة الا من ضرورة الابتعاد ! . و ضع المسرحية ملئ يده كأنه يخاف ان يهرب أحد الابطال من السطور نحو الشارع ، لم يمنع نظراته و هي تجتاح ما يمتلكه المُتسول من نقود جمّة تمكنه من إعانة عائلته ، العائلة التي ثقبتها المصائب ، ونخرها الجوع ، حتى إنه ليطل من ذلك الخرم على تلال من التلاشي .

وصل الى المسرح ، وجد الجميع بإنتظاره ، تكسوهم طبقة من الملل ، تتوزع على سحنهم بالتساوي ، نزل " رائد " من الخشبة متوجهاً الى النص الذي كان متوهجاً بلون أصفر ، أخذه من يد فياض دون أن يحفل بقدومه ، وصعد بملامحٍ ساطعة تنضح فرحاً . بعد أن تبادل فياض مع الاخرين المجاملات و التحايا الرتيبة ، المُنافقة ؛ سأل فياض صديقه " عادل " عن أستاذهم " عطية " الذي لم يأت منذ أسبوع الى المسرح بسبب إنتكاسة مرضية ، كانت نبرته متصدعة ، و حزينة ، بينما أخبره صديقه عن مرضه الذي بدأ يتوسد جسده بالكامل ، و يتدفق بقوة في سائر الجسد دون أن توقفه نظرات أبناءه و طلابه المتضرعة .

كان فياض يفترش أفكاره المزدحمة بعائلته الجائعة ، و أستاذه المريض ، إخترق شروده صوت أحدهم مطالبه بحضور البروفة النهائية ليعطي إقتراحاته الاخراجية ، توجه فياض نحو صديقه الحميم عادل ، تسحبه خطواته اللامبالية ، بينما همس لعادل :
- ألديك ويسكي اليوم ؟

- نعم ، و هل عدنا يوما للبيت دون أن يجففنا من الألم
رد فياض مقهقهاً :

- الويسكي أوكسجين الحياة

- لكن لماذا مازلت مصراً على عدم الإخراج ؟

- لو كانت لدي رؤية إخراجية لأخرجت نفسي مني

بعد أن غادر الجميع جلسا كالعادة ، يهللان و يبجلان الويسكي ، و يطلقان نحو القنينة كلمات المدح و الشتائم ، الى أن غفت على جفنيّ فياض غمامة الثمالة ، صرح بالذهاب بكلماتٍ كادت لاتخرج .

إنطلق فياض في الشارع ، لم يرفع بصره عن الرصيف ، يتمايل بجسده ، تهزهُ حركة لا إرادية ، الثمالة رقصة تقطن الجسد لوقت هانئ ، حاول أن يفرض على خطوه الإتزان ، ودّ لو تخرج روحه المعطوبة من هذا الجسد الهزلي ، كان بليداً ، حقا تمنى لو تسافر روحه الى اللامكان ، فأي مكانٍ سيستقبل هذه الروح المهشمة ، كان يحلم أن يصبح مثل " بيكيت " ، لكنه ردد دائماً بأنه لن يصبح مثله ، لأن بلده تقيئه ، العالم كله تقيئه ، ينفيه الى أقصى مكان ؛ داخله ، يستطيع الانسان الهرب من السجون ، و الاسيجة ، و القضبان ، لكنه ما أن يقع في داخله حتى يمكث هنالك الى ما لا نهاية ، و الان يمشي في داخله ، و ليس في الساحة العامة التي وصلها ، كان مغترباً في الساحة المكتظة بوجع المارة ، بدت له المدينة مصابة بالسل ، لا طاقة لها على التنفس ، لا بهجة في عيون الناس ، و لا حتى ضحكة مصطنعة ، و رغم كل المصابيح كانت الوجوه معتمةً ، أخذ البرد يقشره مثل سكاكين طائشة .

دخل الى بيته ، رنّ في أذنيه صوت نحيب الاطفال ، رمى هيكله على الفراش ، سمع صوت زوجته تنبئه بأن الحطب أوشك على النفاذ ، نام و لم يسمع ما أكملته من الاخبار . جلس في الصباح متأخراً ، شارفت الساعة على أن تعلن عن منتصف النهار . غسل وجهه وهو يتأملُ ان تسيل ملامحه مع الماء المنسكب فوق تقاسيمه الواجمة ، أكل الطعام الذي حضرته زوجته وهي تكمل عليه اخبار الامس دون أن تبادله تحية الصباح . خرج هارباً من البيت دون ان غسل يديه ، وهو يُفكر بالحطب و المسرحية و الاستاذ المريض ، لم يذهب لاستاذه لانه لا يمتلك النقود الكافية لشراء أي شيء يحمله اليه ، استاذه الذي سد فراغ أبيه المتوفي منذ السابعة من عمره .

حينما وصل الى المسرح وجد الجميع يتدربون ، شعر بأن جميع الصاعدين ما هم الا دمى هربت من نصوصه الى الواقع ، شخوص خرجوا من أحشاءه ، يتحركون بخيوطٍ مربوطة بذاته ، سرعان ما شدت إنتباهه خشبة المسرح ، لم يرفع بصره عنها ، يتخاطف الأشخاص أمامه كالاشباح ، لكنهم كانوا لا يمنعون ناظره من التسمر فوق الخشبة ، كأنهم كائنات زجاجية ينفذ من خلالهم بصره الى الخشبة ، تحولت الخشبة الى هوس يمنعه من كل الاشياء التي من حوله ، كأنها أسرته ، أو صيرته جزءاً منها ، كان يسمع صوت أطفاله يبكون ، يرتعدون من شدة البرد ، لم يرفع عينه عنها وهو يصغي الى عادل يخبره بذهاب الجميع ، أعلن له بدأ السهرة ، قال له ، " هيا الى الاوكسجين ! " .

بعد أن ثملا ، خرجا من المسرح ، معلنان بمرح عن ولاءهما السرمدي للويسكي ، اختبئ فياض خلف سيارة منتظراً تلاشي عادل ، وبعد أن تبخر داخل زقاق معتم ، عاد فياض وهو يمدح أصحاب المسرح الذين أعطوه نسخة من المفاتيح ، و هو يردد " الان عرفت فائدة المفاتيح ، و الاغبياء الذين يعتنون بالثقافة و الفنون " ، دخل الى المسرح ، إختلط خوفه بثمالته ، إرتفع غثيانه مع صوت لهاثه المتصاعد و نبضاته المتسارعة ، أخذ يبحث عن المطرقة في المخزن ، هرول ليعتلي خشبة المسرح ، و أخذ بتكسيرها وهو يردد " دفئتك بأقدام شخوص كثيرين ، و الان عليك تدفئة أطفالي " ، سقط نص مسرحيته من يده في الفجوة العميقة التي خلفها في كبد المسرح ، هرب الى الشارع ، كان الخوف يحصد ركبتيه ، مخلفا وراءه فجوة عميقة ، شاهدها وهو يخرج ، إنه فخ عميق يطل على اللانهاية ، كان الخشب ينفذ الى جسده ، مخربشا يديه و وجنتيه ، تطلع الناس اليه بريبة ، كان يبدو كمجنون هارب من مصحة نفسية ، أو رجل نفض تراب قبره وعاد الى الحياة .

وصل الى البيت ، قذف كل الخشب الى الموقد كأنه يريد أن يعوضهم عن كل البرد الذي قضم جلودهم كتفاح ناضج ، و غط في نومه دون أن يشعر بجسده المنهك . إنتفض في الصبح هلعا من الفراش ، كان صوت الباب يبعث فيه ركامات من الخوف تتوسط صدره ، كأن من يدق أراد خلعه لا طرقه ، خاف ان تكون الشرطة ، ما زالت الكوابيس تقشر قلبه ، كانوا يلاحقونه طوال الليل في منامه ، فتح الباب ، رأى عادل بسحنته المذهولة ، شاحب اللون ، رسمت الدموع على خديه خطين وسخين ، أخبره بصوت مبحوح ان أستاذهما عطية قد مات ، إنكسرت حسرة في داخل فياض ، بيد انه فرح لان الشرطة لم يكونوا خلف الباب ، ترهلت تقاسيم وجهه بالبؤس ، إقترح عادل ان يذهبا لتشييعه ، في هذه اللحظة إنتفض شخص آخر من قعر فياض ، قوة ما اقالته من منصبه ، فكر بالتابوت ، و تمنى أن يكون من الخشب الفاخر ، كانت الرياح تلسع جلده ، تطلع الى الموقد قبل ان يغلق الباب ، بقيت نار الموقد الخافتة تتأجج بفتور أمامه طول الطريق .



3 . 8 . 2015



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذه القصة منشورة من قبل ولكن أجريت عليها الكثير من التعديلات في هذه النسخة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...