مرة ثانية.. بل عاشرة يأتينى عمي بخاطب جديد... لا أدرى لماذا يصر على تزويجى بالرغم من أنه يعرف أنى لم أعد صالحة للزواج... أكثر من ثلاثين عاماً وأنا تتقاذفني الأيدي وأقلام موثقى الزواج.. أنجبت عشرات من الأطفال غير الشرعيين.. لا لشيء إلا لأن عمي كان يصر على إتمام زواجى قبل أن أكمل عدتى من طلاقي السابق تارة، ودون علمي تارة، ويزور معلوماتى التوثيقية زاعماً أنى أنا البكر الرشيد... وفي كل مرة يتكرر نفس السيناريو.. ما ألبث أن أنجب حتى يطلقنى زوجي لأرتمي بين يدى آخر يجرنى إليه عمي جراً.. بعد أن يأخذ ابنى مني قسراً ليستغله بالبيع أو يربيه بضع سنين على الكفاف لكى يطلقه فى ميدان العمل ويستولي على حصيلة مجهوده ليضيفها إلى أرصدته المتضخمة كجسده دون أدنى التفاتة لمتطلبات الحياة اليومية لى ولأبنائي.
اليوم يأخذنى إلى مركز التجميل لكى أتزين لخاطبي الجديد وهو يشترط عليه أن يصنع لي كل مرة (شكل جديد) أو (نيو لوك).. حتى لايتعرف الخاطب على عمرى الحقيقي أو نقش الزمن على وجهي.. وتنجح العملية التجميلية ظاهراً، لكن مع اقتراب الصورة ينكشف الأمر وتظهر تجاعيد الوطن على محياي...
وجاء يوم الرؤية وهو اليوم الذى يسمح فيه عمي للزوج المرتقب برؤيتى ومن ثم إتمام زواجى.. بيد أن هذه المرة لم تكن ككل مرة.. فقد أتى الخاطب قهراً ورغماً وجلس ليقول فى مجلس خطبتى : لا أريد أن أتزوج..
هتف به كبار عائلته : ستتزوج لا مفر
قال لهم : كيف أتزوج وأنا رجل رشيد، بلغت الحلم والعلم والفهم.. هل يزوج الرجل رغماً؟!
قرأ الجالسون الفاتحة كأنهم لم يسمعوه، كانوا يبتسمون وسط زغاريد نسائهم، ويعطونه ما يعرف بـ"الشبكة" ليقدمها لي.. وهو يصرخ : لا أريدها.. ألا ترون تلك العجوز الشمطاء المتصابية؟
ظلمنى.. آه لو يعرف أنى أيضاً لا أريده لا أريد الزواج منه ولا من غيره.. لو بيدي الأمر لحررتك أيها المسكين قبل أن أحرر نفسي... كنت فرحة بكلماته لأنها كانت تعبر عن ثورتي حتى وإن آلمتني.. وهو كان يظن أنه يجرحني، ربما حدثته نفسه بأن يثير فيّ الغضب لأهرب من صفعات إهاناته.. بيد أنى لم أفعل، فقد كنت مهانة بالفعل منذ بضعة عشرات من السنين.
أخذت صرخاته تتعالى، والجميع ينظرون إليه بعيون جامدة وابتسامات صفراء، ويهنئونه بعروسه الجميلة، ويتمنون له عمراً زاهراً معي بالرفاء والبنين.. ورغم كل إهاناته إلا أنى كنت مشفقة عليه فقد كان كالمذبوح.. تارة يصرخ كالمجنون، وتارة يكتب كلماته على الحائط ظنّاً منه أن الذين يتظاهرون بالصمم سيرونه أو يعيرونه التفاتاً، وتارة يقبل أيدى الكبار ليرحموه وينقذوه من عذاباته... لكن لا حياة لمن تنادي.. كان الأمر يسير "أوتوماتيكيا"ً بطريقة سابقة التجهيز.. كل شيء.. كل شيء يسير وفق الخطة المعدة قبلاً.. دونما أدنى استعداد للتوقف.. أما الأغاني فحدث ولاحرج، كلها تحكي عن فرحة العروسين ببعضهما البعض، وتفرش الطريق أمامهما بالورود الصناعية، والحلوى البلاستيكية.
وبعد عدة ساعات من صرخاته والدف.. جاء موعد افتتاح بيت الزوجية، وارتفعت أصوات فرق الزفاف لتوصلنا إليه.. أما صوت زوجى فقد حبس فى حنجرته بعد إتمام العقد حيث لم يعد هناك مناص من التزام الصمت.. قام كالمغيب وتركنى أتعلق بذراعه.. ومضى..
كنت أريد أن أقول له أنى لا ذنب لي.. كنت أريد أن أخبره أنى كنت أتمنى أن أكون مثل زميلاتي وأخياتي اللاتي يخترن حياتهن ويبنين علاقاتهن الزوجية على أسس من الحوار والفهم المتبادل والتكافؤ.. كنت أريد أن أقول له: اقتلني.. مزقنى لتريحنى من عناء السنين.. لكني لم أنطق.. كنت حبيسة نفسي وحبيسة (نعم).. فأقدميتى فى هذا الأمر كانت عتيقة.. كنت أوقن فى أعماقي أن (لا) لن تجدِ ولن تغنِ أو تسمن من جوع.. فآثرت السلامة؛ أو هكذا خيّل إليّ؛ وسلمت نفسي لعمي... لكني...
بعد لحظات وجدتنى أصيح: كلا... لن أسكت بعد الآن.. سأصرخ فى وجه عمي لأستعيد أبنائي الذين مزقهم الضياع والإنهاك.. سأفعل مافعلته قريباتى وأذهب إلى حيث أكون حرة الاختيار.. سأكسر قيود عمي التى أدمت معصمى وكاحلي وعنقي وكل جزء فى جسدى المسن الضامر المتعب.. لابد أن أنقذ نفسي وهؤلاء الضحايا من الذبح الدوري...
ارتديت ملابس الحداد وتوجهت إلى بيت عمي.. استقبلنى حراسه الذين يذكروننى بزبانية جهنم بيد أن الأخيرين ملائكة وهؤلاء من الشياطين لامحالة... لم ألتفت إليهم.. دخلت إليه، وقفت أمامه بثبات.. قلت : أريدك فى موضوع هام على انفراد..
قال: ماذا تريدين؟
قلت له: اتركنى أعيش حياتي كما أريد، لا كما تريد أنت.. لم أعد قادرة على الاستمرار فى لعبة لا نهائية الألم والعذاب أنت الرابح الوحيد فيها..
نظر إليّ كأنه يرانى لأول مرة.. ولم يرد.. خلته وافق، وبدأت الفرحة تشق طريقها إلى قلبي.. وكيف لا.. لماذا لم أفعل ذلك منذ سنين طويلة.. لماذا تركت نفسي له دون قيد أو شرط، مع أنه لديه الاستعداد ليتركني.. آه لو تكلمت منذ زمن!
فجأة أظلمت الدنيا وتكاثرت الغيوم.. آه.. الصداع يمزق رأسي.. لا أكاد أرى وجه عمي، تداخلت الصورة في بعضها ولم أعد قادرة على تمييز وجهه أو جسده.. ماهذه الرائحة النتنة؟ وأين أنا؟
سمعت صوتاً عابراً يقول: ما كل هذه الأوراق الملقاه فى مقلب القمامة؟
آه..إنها بطاقات التصويت المستعملة فى الاستفتاء الذى أعلنت نتيجته قبل قليل..
ابتسمت واستسلمت للموت.
اليوم يأخذنى إلى مركز التجميل لكى أتزين لخاطبي الجديد وهو يشترط عليه أن يصنع لي كل مرة (شكل جديد) أو (نيو لوك).. حتى لايتعرف الخاطب على عمرى الحقيقي أو نقش الزمن على وجهي.. وتنجح العملية التجميلية ظاهراً، لكن مع اقتراب الصورة ينكشف الأمر وتظهر تجاعيد الوطن على محياي...
وجاء يوم الرؤية وهو اليوم الذى يسمح فيه عمي للزوج المرتقب برؤيتى ومن ثم إتمام زواجى.. بيد أن هذه المرة لم تكن ككل مرة.. فقد أتى الخاطب قهراً ورغماً وجلس ليقول فى مجلس خطبتى : لا أريد أن أتزوج..
هتف به كبار عائلته : ستتزوج لا مفر
قال لهم : كيف أتزوج وأنا رجل رشيد، بلغت الحلم والعلم والفهم.. هل يزوج الرجل رغماً؟!
قرأ الجالسون الفاتحة كأنهم لم يسمعوه، كانوا يبتسمون وسط زغاريد نسائهم، ويعطونه ما يعرف بـ"الشبكة" ليقدمها لي.. وهو يصرخ : لا أريدها.. ألا ترون تلك العجوز الشمطاء المتصابية؟
ظلمنى.. آه لو يعرف أنى أيضاً لا أريده لا أريد الزواج منه ولا من غيره.. لو بيدي الأمر لحررتك أيها المسكين قبل أن أحرر نفسي... كنت فرحة بكلماته لأنها كانت تعبر عن ثورتي حتى وإن آلمتني.. وهو كان يظن أنه يجرحني، ربما حدثته نفسه بأن يثير فيّ الغضب لأهرب من صفعات إهاناته.. بيد أنى لم أفعل، فقد كنت مهانة بالفعل منذ بضعة عشرات من السنين.
أخذت صرخاته تتعالى، والجميع ينظرون إليه بعيون جامدة وابتسامات صفراء، ويهنئونه بعروسه الجميلة، ويتمنون له عمراً زاهراً معي بالرفاء والبنين.. ورغم كل إهاناته إلا أنى كنت مشفقة عليه فقد كان كالمذبوح.. تارة يصرخ كالمجنون، وتارة يكتب كلماته على الحائط ظنّاً منه أن الذين يتظاهرون بالصمم سيرونه أو يعيرونه التفاتاً، وتارة يقبل أيدى الكبار ليرحموه وينقذوه من عذاباته... لكن لا حياة لمن تنادي.. كان الأمر يسير "أوتوماتيكيا"ً بطريقة سابقة التجهيز.. كل شيء.. كل شيء يسير وفق الخطة المعدة قبلاً.. دونما أدنى استعداد للتوقف.. أما الأغاني فحدث ولاحرج، كلها تحكي عن فرحة العروسين ببعضهما البعض، وتفرش الطريق أمامهما بالورود الصناعية، والحلوى البلاستيكية.
وبعد عدة ساعات من صرخاته والدف.. جاء موعد افتتاح بيت الزوجية، وارتفعت أصوات فرق الزفاف لتوصلنا إليه.. أما صوت زوجى فقد حبس فى حنجرته بعد إتمام العقد حيث لم يعد هناك مناص من التزام الصمت.. قام كالمغيب وتركنى أتعلق بذراعه.. ومضى..
كنت أريد أن أقول له أنى لا ذنب لي.. كنت أريد أن أخبره أنى كنت أتمنى أن أكون مثل زميلاتي وأخياتي اللاتي يخترن حياتهن ويبنين علاقاتهن الزوجية على أسس من الحوار والفهم المتبادل والتكافؤ.. كنت أريد أن أقول له: اقتلني.. مزقنى لتريحنى من عناء السنين.. لكني لم أنطق.. كنت حبيسة نفسي وحبيسة (نعم).. فأقدميتى فى هذا الأمر كانت عتيقة.. كنت أوقن فى أعماقي أن (لا) لن تجدِ ولن تغنِ أو تسمن من جوع.. فآثرت السلامة؛ أو هكذا خيّل إليّ؛ وسلمت نفسي لعمي... لكني...
بعد لحظات وجدتنى أصيح: كلا... لن أسكت بعد الآن.. سأصرخ فى وجه عمي لأستعيد أبنائي الذين مزقهم الضياع والإنهاك.. سأفعل مافعلته قريباتى وأذهب إلى حيث أكون حرة الاختيار.. سأكسر قيود عمي التى أدمت معصمى وكاحلي وعنقي وكل جزء فى جسدى المسن الضامر المتعب.. لابد أن أنقذ نفسي وهؤلاء الضحايا من الذبح الدوري...
ارتديت ملابس الحداد وتوجهت إلى بيت عمي.. استقبلنى حراسه الذين يذكروننى بزبانية جهنم بيد أن الأخيرين ملائكة وهؤلاء من الشياطين لامحالة... لم ألتفت إليهم.. دخلت إليه، وقفت أمامه بثبات.. قلت : أريدك فى موضوع هام على انفراد..
قال: ماذا تريدين؟
قلت له: اتركنى أعيش حياتي كما أريد، لا كما تريد أنت.. لم أعد قادرة على الاستمرار فى لعبة لا نهائية الألم والعذاب أنت الرابح الوحيد فيها..
نظر إليّ كأنه يرانى لأول مرة.. ولم يرد.. خلته وافق، وبدأت الفرحة تشق طريقها إلى قلبي.. وكيف لا.. لماذا لم أفعل ذلك منذ سنين طويلة.. لماذا تركت نفسي له دون قيد أو شرط، مع أنه لديه الاستعداد ليتركني.. آه لو تكلمت منذ زمن!
فجأة أظلمت الدنيا وتكاثرت الغيوم.. آه.. الصداع يمزق رأسي.. لا أكاد أرى وجه عمي، تداخلت الصورة في بعضها ولم أعد قادرة على تمييز وجهه أو جسده.. ماهذه الرائحة النتنة؟ وأين أنا؟
سمعت صوتاً عابراً يقول: ما كل هذه الأوراق الملقاه فى مقلب القمامة؟
آه..إنها بطاقات التصويت المستعملة فى الاستفتاء الذى أعلنت نتيجته قبل قليل..
ابتسمت واستسلمت للموت.