سعدي عباس العبد - شياطين في جنة النـساء.. قصة قصيرة

كانت ذراعي ماتزال تطوق عنقها الابيض، الممتلىء ضاغطا باصابعي المفروشة على ثدييها النافرين، عندما لمحت عينيها اللوزيتين تشعان بذلك الوهج المخيف، ارخيت ذراعي، فسمعت صوت انفاسها، كما لو انها فكت حبلا كان معقودا على عنقها، ورأيت خيوطا فاحمة من شعرها المسدول على الوسادة، تنهمر على جانبي وجهها، تراجعت بظهري الى حافة السرير، ساندا رأسي الى الوسادة ابحلق مشدوها، كان ثغرها مزموما يلتمع في النور المنسفح من المصباح وعيناها مازالتا مفتوحتين.. ولما رفعت رأسي عن الوسادة، لاح لعيني ذلك الوهج يختلج في عينيها ويرتعش في الضوء، ويكسو سحنتها اللدنة بملامح غامضة.. ثم رأيتها تنهض، وكأني اراها للمرة الاولى!!
فبدت لي غريبة، كأني لم اعرفها من قبل، فبدت في تلك اللحظة بقامتها الفارعة، وشعرها المتموج المسدول على كتفيها، اكثر جمالا من اي وقت مضى،.. رغبت ان ابوح بشيء ما عندما رأيتها تستلق هناك فوق الاريكة، بيد اني لذت بالصمت! وانا ارنو اليها عبر المسافة المضاءة الفاصلة بيننا تتموج في التماع النور المنصب بكثافة على ذراعيها العاريتين.. فشعرت بهياج غامض يتدافع في اعماقي.. وشعرت كم باتت بعيدة!، عبر تلك المسافة المنحسرة.. رغم ان فضاء الغرفة مازال عابقا برائحتها النفاثة النابضة بذكريات قوية قريبة، مازالت ملامحها عالقة في ذهني، ولكن لا ادري لماذا بدت لي تلك الذكريات نائية، موغلة في افاق بعيدة، كأنها تلوح عبر ذاكرتي من مديات قاتمة، وكأنني لم احترق في شعلتها المتأججة بالرغبات المحمومة، ولكن ما كان يدهشني، هو متى لاحت لي تلك النظرة المشعة بالغموض؟، متى نظرت لي بذلك الوهج المخيف؟ ربما في تلك الامسية، التي كنا فيها نحتفل (بعقد قران احد المعارف).. لا ادري كان الامر غامضا.. ولكني مازلت اتذكر نظراتها المتوهجة التي بقيت عالقة للحظات طويلة عالقة في وجهي ويد احد (المعارف) مطبقة على ذراعها العارية، يطلب اليها بالحاح ان تقاسمه الرقص، وهي تسعى برفق للافلات من قبضته، ولما رأتني لم اعلق بشيء.. في تلك اللحظة لمحت ذلك الوهج الساطع يشع باهرا، قويا حالما استدارت برأسها.. كان الامر (طبيعيا) ولم يساورني ايما احساس بالذنب، اتذكر لما نظرت اليها وهي تبتعد، رأيت عينيها المضيئتين تزدادان توهجا، بيد اني في ذلك الوقت المبكر، لم استطع ان استقرأ مشاعرها، او امسك بخيط الكراهية المنسل من عينيها ، كان الامر في اوله مبهما، ولعله كان في طور النمو، فلم افلح في سبر اغواره. في طريق عودتنا الى المنزل، مكثت صامتة طوال الطريق تعلو ملامحها المقطبة مسحة من الحزن، لم اشأ ان ابدد صمتها بايما كلام، رغم اني سعيت قبل خروجنا ان اجعلها تشعر بجمال الحفلة، غير اني فوجئت بصدود وجفاء مدهشين، لم اعهدهما من قبل.. فهجست بذلك الفرح المضيء قد تلاشى في قتامة الصمت المغلف وجهها المتجهم.. واتذكر اني لما مددت يدي لاتحسس يدها المنسابة في الفراغ الحاجز بيننا، سمعتها تتنهد وهي تجر ذراعها او تنتر يدها من اصابعي، متأففة، فعزوت الامر الى ارهاق مؤقت سيزول ناجما عن الصخب الذي ساد الحفلة، فلم اشغل ذهني في الامر كثيرا، ولما دلفنا الى الغرفة رأيتها تحتوي فوق السرير بكامل ثيابها، من دون ان تنزع حذاءها حتى، وعيناها شاخصتان في الفراغ، فخيل لي انها لم تكن سعيدة في اي يوم!! رأيتها فيه وانها لسبب غامض لم تعد تكترث لوجودوي.. وانها سوف تتلاشى في افاق غامضة ، وتتبدد ولن اراها!! وعلى غير توقع سمعت نحيبا يتدفق على مهل ويتصاعد في فضاء الغرفة.. ولما دنوت من حافة السرير، كان النشيج ينهمر قويا من تحت الدثار الغامر وجهها بالكامل، فأزحت طرفه وجعلت ابحلق في سحنتها المبتلة، التي بدت لي في تلك اللحظة مترعة بالشقاء، فمددت اطراف اصابعي لتمسح على عينيها وخديها اللتين عكرتهما تشنجات البكاء، فبدت تتمزقان بانصال عذاب اثار ارتيابي، ودهشتي، فمكثت لبرهات طويلة، افكر بالعذاب الذي ألم بها بغتة.. كانت ماتزال تطلق جهشات متصلة عندما لمحت وانا ابحلق في وجهها، تلك النظرة التي لم اكترث لوهجها في تلك اللحظة - والتي ستبقى تلاحقني فيما بعد وقتا طويلا - وكلما اطلب اليها تفسيرا واحدا يدعوها للبكاء، اراها تحدق في وجهي مندهشة كأنها تقول اي غباء تمتلك، ولكني لم افطن الى كل ذلك في تلك اللحظات ولم يسعفني احساسي بما فيه الكفاية، الى الامساك بمغزى تلك النظرات المشعة بالكراهية.. فلبثت اعزو جفاءها وتبرمها وصراخها في احايين كثيرة في وجهي الى نوع من الكأبة الطارئة وسوف تزول.. حتى كان يوم، زارنا فيه هذا (الاحد معارفنا) كانت زوجتي تجلس قبالته بكامل زينتها المفرطة في الاناقة، فلم استغرب في بادىء الامر فهي غالبا ما كانت تتأنق عند حضوره، فلم يخالجني الشك ولم ار في الامر ما يدعو للريبة.. ولكني لما لمحت يده تمتد الى ذراعها وتطبق على زندها، اعتراني الفزع وازداد لما رأيتها تدنو بوجهها الى رأسه، كنت في تلك اللحظة المترعة بالاسى، مشغولا بأمر ما في المطبخ لما حانت مني التفاتة عابرة عبر نافذة المطبخ المطلة على الصالة، فوقعت عينان على تلك المسافة المنحسرة النابضة بالنجم والخوف! التي تفصل بين رأسيهما، كانت تلك المرة الاولى التي اراها فيها تفرش ذراعها على كتفه برغبة حميمة، فشعرت بشرخ عميق يشطر اعماقي، وبفزع ينسل من غور ناء في اعماقي.. فبرقت في ذاكرتي، تلك اللحظة المشعة بوهج عينيها، وكما لو اني افقت من نوم طويل جعلت اتذكر واسارع الى لملمة شتات المشاهد المتباعدة في ذهني والتي ماكنت اعبأ بها او اعرها ادنى اهتمام مازلت انظر اليها عبر تلك المسافة، كما لو اني ارنو اليها من بعيد، من ذلك النهار المشمس، وارها للمرة الاولى واقفة تحت الشجرة تنتظر الحافلة، في بداية تعارفنا، فوجدت ذاكرتي تقطع مديات مديدة، تبتدا من تلك الشجرة وتنتهي عند الصالة.. فبدت لي كأي مخلوق غريب، لم اعرفه من قبل ابدا، فشرعت ذاكرتي تجتر تلك الخيوط الموغلة في الظلام، تستلها باناة، فلاح لي الخيط المشع بذلك الوهج المندلق من عينيها، فوجدتني انصت لصوت يأتي من بعيد يؤنبني يتدفق من داخلي واسمعه يتصاعد جامحا، ويحملني ما حدث..!!
يعلو ساخطا كأنه صوت ابي الميت، ينسل من عبر مسافات نائية، يتصاعد من تلك القبور الموغلة في الخراب ويؤنبني وكأنه صوت المرأة التي رأيتها تحت الشجرة وهي تستنجد بي عبر نظراتها المشعة، من احد معارفنا، فبدأت مساحة الصوت تتسع وتزداد وتمتد الى افاق بعيدة من طفولتي وراح يحفر عميقا في اخاديد الذكريات، فرأيتها عبر تلك المسافات المهولة، الغائمة، ترفل بثوب من الزفاف، ثم رأيتها وهي تهوي برأسها على صدري وهي تضغط خلال ثدييها وذراعيها ووجهها وشعرها الطويل المتموج المنهمر بكامل رائحته النفاذة، واصابعها واحلامها وفرحها الغض ورغباتها وتوقها.. ثم سمعت الصوت يهتف بي يتدفق من اعماقي ويتصاعد في الخارج.. ويتوغل في اماد بعيدة ومن هناك اسمعه (يناديني).. من وراء طفولةثاوية في براري زمان اسود! اسمعه يعلو في البعيد، فيخفق قلبي بشدة، فاطلق ساقي وذكرياتي وطفولتي للريح الخافقة في الخارج.. واجري، اقتفي اثر الصوت الذي ظل يتصاعد عنيفا هائجا في الخارج .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...