هاني عبد الرحمن عبد المقصود القط - دموع ألبرت أينشتاين

أنا و"ألبرت" امتلأ قلبانا بالأسى.. نعم فالحقيقة المجلوة لعيوننا كانت مفزعة.

"ألبرت" في تلك الليلة تملكته نفس الحيرة التى هداه شغفها إلى اكتشاف نظريته الكمية.. أطل يومها على العالم فرآه أضيق من سَمِّ الخياط.. جزر المالديف وهاواى والغابات الإفريقية وكذلك عذراوات النساء الشقر.. ذهب عن كل هذا بهاء دهشة الإعجاب واللذة.

فى سرية تامة وقبل موعد التسلم بيومين؛ أنجزت له شركة مغمورة تصميمه الغرائبي لشبكة المواسير اللولبية الضخمة.. بداخلها الكرة الهوائية المثبتة عند فتحة الدخول.. كانت المقاييس دقيقة بحيث أنها شجعته على إتمام الأمر فى الحال.

دخل محكمًا إغلاق الباب وراءه.. وعلى الكرسى المتصل مع الكرة بقضيب فولاذى جلس.. وبمجرد ضغطه على الزر الأحمر انطلقت الكرة مع الكرسى فى دوراتها الخمس الأولى بالسرعة المقررة.. وفي الدورة السادسة أصبحت السرعة من الجنون بحيث لا تصدق.. اتجاه الكرة حدده للأمام؛ لقراره الحكيم ألا يضيع وقته باستدعاء الزمن القديم.. فالتاريخ مدون.. وإن اختلط بالمبالغات والأكاذيب.

أول الأمر رأى ضبابًا أشهى من الذى يراه الموتى لحظة إفاقة أرواحهم المسجونة داخل الأجساد الحية.. انمحى الضباب على صورة الكوكب الأرضى.. أنهارًا عتيقة جفت.. ومدنًا ساحلية أغرقها ارتفاع منسوب البحار.. لكن ما هاله كان رائحة الموت.. الأرواح الطازجة رآها تصعد من كل مكان إلى السماء بخفتها المتناهية.. الرجل الأحمق الذى ضغط على الزر.. انتابه الخرس بعد سماعه نتائج فعلته.. دقائق معدودة نهض بعدها ليصوب مسدسه إلى رأسه مستعجلاً النهاية التى أصر ألا تكون بقنبلة الخصم.

ساعة من الصراخ والدموع .. بعدها صمتت الدنيا.. الكل فارق الحياة فى مكانه.. الأطفال بمحازاة الرصيف فوق عجلاتهم الصغيرة.. المزارعون فى حقولهم وبأيديهم مناجل الحصاد.. عازفو الكمان وحدهم من أصروا على احتضان آلاتهم التى عزفت أوتارها بعد موتهم لحنًا بديع.. رثت به كل الاموات فى واحدة من عجائب الدنيا.

وحدى من بقيت بجانبه.. فزوجتى امتنعت أن تصحبنى لكوكبنا الجديد الذى ُأكُتشِفت عليه الحياة.. انتقل اليه كل أقربائنا لسأمهم من متاعب دنيانا.. كان علىّ أن أموت معها؛ لكنى تأخرت عن موعد رجوعى بضع ساعات، لإتمام شراء منزل بالمواصفات التى اتفقنا عليها.. جانب البيت الأيمن يطل على بحر والأيسر على نهر و...

دموعى أنا وألبرت تعاود تغطيه وجهينا كلما مسحناها.. فقدت كل الأحبة وسأبقى فوق تلك الأرض لسنين وحدي.. حتى يأتى أحدٌ من الكوكب البعيد في زيارة فيأخذني معه.. ودعنى ألبرت وألم الحسرة يكبر في قلبه.. سيسألونه في مقابلات تلفزيونية بعد عودته:

ـ ماذا ترى فى المستقبل بروفيسور"ألبرت"؟

لن يجيب.. فقط ساعة احتضاره سيتخلى عن صمته.. لكن دموعه المرة ستنساب داخلةً فمه؛ فلا يقدر على الكلام.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قصص عى الهواء البي بي سي مجلة العربي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...