كنتُ في مقتبل عمري حين شاهدت حلقةً من مسلسل سوريّ تتمشى فيه شابةٌ مع رفيقاتها في الشارع وهي تسألهنّ: هل تشعرن بغرابة ما تفعلن؟ فيجبن بالنفي، يدخلن إلى مقهى ويجلسن فتعيد السؤال ليُعدن الإجابة بالنفي. وبعد بثّ الحيرة فيهنّ من تكرار سؤالها تجيب بأن ما يقمن به الآن من أمور عادية حدّ البداهة كان قبل عقود أمرًا مستهجنُا حدّ الاستحالة، وإنما هنّ ينعمن اليوم بما قادته نساءٌ سابقاتٌ من تغيير رؤى المجتمع حتى بات ما كان مستحيلًا (بات) أبسط من عاديّ. في إشارة أنّ كل تغييرٍ للمفاهيم يحتاج مغامرين شجعانًا للمبادرة به، بل وفي إشارة أعمق لكون المرأة هي محرّك التغيير الأهمّ والأقوى في المجتمعات.
حضرني المشهد وأنا أشارك في حوارٍ لنساء "مثقفات" حول العنف الذي تنبّه الجميع فجأةً كم غدا سيد الموقف في مجتمعنا، لأستمع إلى الأيقونة التي تتكرر بعد كلّ فكرة :"الأعراف، الدين، العادات، ورضى المجتمع" لأتساءل كيف يمكن أن تبني ذاتك الحقيقية إن كنتَ لا تنشد غير الصورة المطلوبة؟
يبدو المجتمع مجموعة أفرادٍ يمارسون دكتاتوريتهم بشرعية الجماعة، باسم ماضٍ اختارته جماعةٌ أخرى ممن غابوا وظلت سطوتهم حاضرةً ممتدة، سواء باسم الدين أو العرف أو الأخلاق التي في غالبها ترتدي أقنعةً مزيفة. هو سلاح قتل الفردانية والاختلاف لصالح من اعتنقوا حالةً قطيعيةً تجيد قطع كلّ أمل بمستقبل مغاير. ما يُنسب إلى صلاحية المجتمع هو أعمق حالات العنف الحقيقي الوائد لأية بذور لفردانية الإنسان. فكيف يمكن التخلص من العنف ما دام يترسّخ منذ لحظة ولادتك على أيدي من لا يرتضون لك خطوةً إلا إن تماشت وخطًّا رسمه الأوّلون فأصرّ اللاحقون أن يعيشوه ماضيًا حاضرًا بل وماضيًا مستقبلًا، لاغيًا لأيّ مسارٍ من الحياة الحقّة؟! وكيف يمكن أن تكون مثقفًا ما دمت تسلّم خيط حياتك وخيوط حيوات الآخرين لتلك الحالة الجمعية راضيًا؟! وكيف يمكن للأنثى "المثقفة" أن ترسّخ سطوة المجتمع عليها وعلى أبنائها وبناتها كي تتناسل بقية المسارات؟.
المجتمع الذي يعبُر أعمى عن امرأةٍ تتلقى الضرب والإهانة في الشارع بتبرير أن من يضربها هو زوجها، هو مجتمعٌ تخلى عن أخلاقه التي يدّعي الدفاع عنها. المجتمع الذي يبارك قتل نسائه بتجربم الضحية لتُقتل مرتين، ومباركة الجاني بوسام الشرف يضع شرعيته أمام ألف إشارة استفهام وتعجّب! المجتمع الذي يُضرب أطفاله ويهانون ويُقمعون بوحشيةٍ باسم صلاحيات الوالدين، يؤسس لأفرادٍ ينتظرون أن يكبروا كي يمارسوا ذات الصلاحيات لنظلّ نتوارث صورًا لأبناء منضبطين "مؤقتًا" ريثما يتسنى لكلّ منهم ممارسةُ قمعه على من يليه.
المنظومة التي تحارب كلّ سمةٍ فردانية وترسّخ لتنشئةٍ قطيعية، تتقوقع في الماضي وتصرّ على وأد المستقبل ألا تستحق صرخةً في وجهها لخلق رؤى مغايرةٍ تدافع عن حق الإنسان في أن يكون ذاته لا صورًا وظلالاً مزيفة؟
أن تؤمن بكونك ضحيةً هو السبيل الأسهل كي تتشبّث ببراءتك من دمك، لتظلّ متقوقعًا في حالةٍ تغتالك. بيد أنّ مساءلة الذات الفردية والجمعية هي العتبة الأولى نحو التغيير والارتقاء، ومن المرأة تحديدًا لا بدّ أن تبدأ، إذ تنشئ أبناءً حقيقيين وبناتٍ مؤمناتٍ بإنسانيّتهنّ، لا أطيافًا موهومة متوارَثة.
ما أحوجنا إذن لنساءٍ حقيقيات، كي تبني أفرادًا أحرارًا ومسؤولين، ربّما حينها سنشهد أن لدينا نواةً لمجتمع أرقى، مشرّعة أبوابه نحو المستقبل والحياة.
أنوار الأنوار
كاتبة من الجليل.
حضرني المشهد وأنا أشارك في حوارٍ لنساء "مثقفات" حول العنف الذي تنبّه الجميع فجأةً كم غدا سيد الموقف في مجتمعنا، لأستمع إلى الأيقونة التي تتكرر بعد كلّ فكرة :"الأعراف، الدين، العادات، ورضى المجتمع" لأتساءل كيف يمكن أن تبني ذاتك الحقيقية إن كنتَ لا تنشد غير الصورة المطلوبة؟
يبدو المجتمع مجموعة أفرادٍ يمارسون دكتاتوريتهم بشرعية الجماعة، باسم ماضٍ اختارته جماعةٌ أخرى ممن غابوا وظلت سطوتهم حاضرةً ممتدة، سواء باسم الدين أو العرف أو الأخلاق التي في غالبها ترتدي أقنعةً مزيفة. هو سلاح قتل الفردانية والاختلاف لصالح من اعتنقوا حالةً قطيعيةً تجيد قطع كلّ أمل بمستقبل مغاير. ما يُنسب إلى صلاحية المجتمع هو أعمق حالات العنف الحقيقي الوائد لأية بذور لفردانية الإنسان. فكيف يمكن التخلص من العنف ما دام يترسّخ منذ لحظة ولادتك على أيدي من لا يرتضون لك خطوةً إلا إن تماشت وخطًّا رسمه الأوّلون فأصرّ اللاحقون أن يعيشوه ماضيًا حاضرًا بل وماضيًا مستقبلًا، لاغيًا لأيّ مسارٍ من الحياة الحقّة؟! وكيف يمكن أن تكون مثقفًا ما دمت تسلّم خيط حياتك وخيوط حيوات الآخرين لتلك الحالة الجمعية راضيًا؟! وكيف يمكن للأنثى "المثقفة" أن ترسّخ سطوة المجتمع عليها وعلى أبنائها وبناتها كي تتناسل بقية المسارات؟.
المجتمع الذي يعبُر أعمى عن امرأةٍ تتلقى الضرب والإهانة في الشارع بتبرير أن من يضربها هو زوجها، هو مجتمعٌ تخلى عن أخلاقه التي يدّعي الدفاع عنها. المجتمع الذي يبارك قتل نسائه بتجربم الضحية لتُقتل مرتين، ومباركة الجاني بوسام الشرف يضع شرعيته أمام ألف إشارة استفهام وتعجّب! المجتمع الذي يُضرب أطفاله ويهانون ويُقمعون بوحشيةٍ باسم صلاحيات الوالدين، يؤسس لأفرادٍ ينتظرون أن يكبروا كي يمارسوا ذات الصلاحيات لنظلّ نتوارث صورًا لأبناء منضبطين "مؤقتًا" ريثما يتسنى لكلّ منهم ممارسةُ قمعه على من يليه.
المنظومة التي تحارب كلّ سمةٍ فردانية وترسّخ لتنشئةٍ قطيعية، تتقوقع في الماضي وتصرّ على وأد المستقبل ألا تستحق صرخةً في وجهها لخلق رؤى مغايرةٍ تدافع عن حق الإنسان في أن يكون ذاته لا صورًا وظلالاً مزيفة؟
أن تؤمن بكونك ضحيةً هو السبيل الأسهل كي تتشبّث ببراءتك من دمك، لتظلّ متقوقعًا في حالةٍ تغتالك. بيد أنّ مساءلة الذات الفردية والجمعية هي العتبة الأولى نحو التغيير والارتقاء، ومن المرأة تحديدًا لا بدّ أن تبدأ، إذ تنشئ أبناءً حقيقيين وبناتٍ مؤمناتٍ بإنسانيّتهنّ، لا أطيافًا موهومة متوارَثة.
ما أحوجنا إذن لنساءٍ حقيقيات، كي تبني أفرادًا أحرارًا ومسؤولين، ربّما حينها سنشهد أن لدينا نواةً لمجتمع أرقى، مشرّعة أبوابه نحو المستقبل والحياة.
أنوار الأنوار
كاتبة من الجليل.