محمد أبو المعاطي أبو النجا - ذلك الأثر

كنت قد انتهيت من ارتداء ملابس الخروج في ذلك الصباح، وكالمعتاد وقفت أمام المرآة ألقي نظرة أخيرة على هندامي، فوجدت يدي تمتد إلى المشط الموضوع فوق التسريحة، وتمضي به في حركات شبه محفوظة في شعري تبدأ من مفرق جهة اليسار إلى جانب رأسي الأيمن.

في ذلك الصباح فوجئت بحفيدي الذي كان يقف خلفي تماما دون أن أشعر به، يقول:

- جدي.. أنت ليس عندك شعر يا جدي!.
حملت الصغير بين يدي، وقبلته وأنا أقول له:
- متى صحوت أيها العفريت؟.

حاولت بتوجيه سؤالي الواضح له أن أهرب من سؤاله المضمر، ولكن الصغير لم يلبث أن نسي السؤالين معا حين وقعت عيناه على لعبة كانت قد ضاعت منه خلف أحد المقاعد، فانحشر خلف المقعد ليصل إليها.. أما أنا فقد وجدت نفسي- وربما دون قصد- أعود إلى التفكير في ملاحظة حفيدي التي نسيها!.

لم أكن أجهل طبعا أنه ليس عندي شعر ولكني تعودت أن أتعامل مع ما تبقى منه كما كنت أتعامل معه حين كان غزيرا وأسود، وقتها كنت أسرحه أيضا من اليسار إلى اليمين، فقد كانت تلك هي الطريقة المناسبة لإخفاء تلك البقعة المستطيلة من جلد رأسي التي تخلو تماما من الشعر، والتي سوف تظهر لا محالة لو سرحت شعري إلى الوراء، مع أن تلك كانت هي "المودة" في تلك الأيام تأسيا بالنجم أنور وجدي، كنت حريصا منذ أيام الشباب الباكر على أن أخفي ذلك الأثر الذي أحمله في مقدمة الجبهة من آثار الكي بالنار الذي تعرضت له وأنـا طفل صغير كمحاولة أخيرة لإنقاذي من مرض حار فيه طب تلك الأيام فكان آخر الدواء الكي! وفي الواقع أنه لم تكن تلك البقعة المستطيلة الخالية من الشعر في مقدمة رأسي هي الجزء الوحيد الذي تعرض للكي بالنار من رأسي، فقد كانت هناك بقعة أخرى مستديرة في حجم القرش في قمة رأسي تماما قد تعرضت للكي بالنار، وأصبح جلدها ميتا لا ينبت فيه شعر، ولكنها في موقعها الحصين العالي لم تكن تسبب لي أية مشكلة، فلا أحد يمكنه أن يراها هناك، ولهذا فلم تكن تؤثر على طريقة تسريحي لشعري.

ولأول مرة أجد نفسي- بقصد هذه المرة- أطيل التفكير في معنى سلوكي الذي أمارسه كل صباح بدرجة من الآلية، وكأنني لا أزال أخاف أن يرى أحد ذلك الأثر الباقي في مقدمة رأسي، نعم ذلك الأثر الذي لا يكاد يبين حتى لعيني، فمن يمكن أن يلاحظه الآن؟ أو من يهتم بأن يلاحظه؟!.

ومع ذلك فكل هذه البديهيات لم تنجح في إنقاذي من عادة قديمة حتى جاء حفيدي ليفتح عيني على ما لا أريد أن أراه!.

أين اختفى الصغير؟.. كان لا يزال يجاهد في البحث عن لعبته التي لاحت لعينيه من مكمنها خلف المقعد إثر نظرة عابرة!.

كان ما لا أريد أن أراه بحق هو سؤالا آخر تولد عن السؤال المضمر في ملاحظة حفيدي.

أكانت هذه البقعة الخالية من الجلد في مقدمة رأسي هي الأثر الوحيد الذي تخلف عن حادثة الكي بالنار، والذي أحرص على إخفائه، أم أنه كانت هناك آثار أخرى ربما أخطر.. ربما أغزر، تركها هذا الحادث ليس في جلدي بل في شخصيتي وفي سلوكي؟!.

ترى كيف كنت أشعر بها؟ وهل كنت أسعى إلى إخفائها؟ وبأي الطرق؟ وهل كنت أنجح في لعبة الإخفاء تلك أم أن الآثار على هذا الجانب كانت أكثر خفاء وتعقيدا من أن أراها في حجمها وفي حقيقتها مثلما كنت أبصر بقعة الجلد المستطيلة؟! وبالتالي فلم أفعل شيئا لإخفائها، ربما يراها كل الناس ما عداي، وربما يدركون ما تعنيه دون أن أدركه؟! وانصرفت جهودي الرائعة لإخفاء بقعة الجلد المستطيلة في مقدمة رأسي!.

السؤال الدليل

وجدت سؤال حفيدي- الذي نسيه تماما- يقودني هذه المرة دون هوادة أو رحمة إلى رحلة كنت- دون سبب واضح- أتجنب السير في طريقها!.

لماذا كنت أتجنب التفكير في هذه الواقعة برمتها، لماذا ظلت ذكرياتي عنها شاحبة وباهتة؟ لقد عاش أبي حتى رأى أولادي وكذلك عاشت أمي، وكلاهما من شهود الواقعة ومن العارفين بكل ما يتصل بها دون شك، فكيف لم أصارح أحدهما أو كليهما بما كان يختلج دائما في داخلي حول هذه الواقعة؟!.

كيف قنعت بثرثرة أمي حول إخوتي الثلاثة الذين جاءوا قبلي إلى الدنيا ثم رحلوا عنها قبلي، وكانوا يخافون علي من مصيرهم، ثم تقفز أمي في حديثها عن الواقعة من أسبابها إلى نهاياتها، فتقول إنني ظللت بعد حادثة الكي أملأ حجر جلبابي بالأحجار وأقذف بها باب بيت الرجل الذي كواني بمسمار النار مع أن تلك كانت مهنته في القرية يقوم بها مع الصغار والكبار والحيوانات بكل أنواعها.

لم يكن ما أهتم له هو الأسباب أو النتائج ولكن ما كان يهمني هو الواقعة ذاتها، كيف حدثت؟ وحين سألت عنها أبي ذات مرة لم يجب، بل انخرط في البكاء، فلم أعد أبدا لسؤاله مرة أخرى! ما كان يهمني بحق هو كيف مر طفل عمره أربعة أعوام بهذه التجربة؟ كيف أمسكوا بي. يقينا لم يكن أي هو الذي فعلها، قلبه أرق من أن يفعل هذا بأي طفل..! دعك من كونه أبي؟ هل كنت أدرك على أي نحو ما أنا مقدم عليه؟ أو ما يراد بي؟ هل كانوا يهتمون بإخفاء ما يريدون أن يفعلوا بي حتى اللحظة الأخيرة على الأقل؟ ومع ذلك فكم يا ترى دامت لحظة الإدراك القاسية تلك؟ ومن الذي فعلها؟ أقصد من الذي أمسك بي، لقد حدث فعل الكي مرتين، ومعنى ذلك أنه كان هناك وقت ممتد، وإدراك ممتد، ما الذي دار في رأس الطفل الذي كنته بعد المرة الأولى، بعد الصدمة الأولى لو بقيت في رأسه قدرة على التفكير..! ثم بعد المرة الثانية؟ هل تصور الطفل الذي كنته أنه ستكون هناك ثالثة وربما رابعة؟!.. إذ ما الفرق؟ وما المعنى؟ وما المنطق؟.

شغلني دائما أمر الرجل الذي أمسك بي، لا بد أنه كان عملاقا، قادرا على أن يوثقني بيديه فلا أفلت منه طوال هذه المدة!.. لم يحدثني أبدا أحد عنه، والغريب أني لا أتذكر أبدا صورته! لا بد أنه كان أحد أعمامي، لابد أنه كان شخصا أثق به، وأطمئن إليه لأمضي معه بهدوء إلى ما يراد بي.. كانت تلك أول خبرة لي مع دنيا الخداع والمخاتلة، مع انهيار الثقة فيمن تحب! مع اختلاط الخير بالعذاب والألم، مع الذين يقولون لك: إن كل هذا العذاب لا مفر منه.. لكي تنجو.. لكي تعيش.. كنت أعيش لأول مرة وأنا طفل في الرابعة من عمري خبرة المشي على الصراط فوق النار لكي أصل إلى فردوس الحياة؟!.

كيف فهمت وقتها معنى أن أبي لم يكن موجودا؟ معنى أنه تركني لهم أو قادني إليهم، ولم يحضر حين ناديته صارخا وملهوفا؟.

كيف فهمت معنى جهله أو تواطؤه أو عجزه عن إنقاذي من أيديهم؟!.

أين وكيف أخفيت كل هذا الرعب الذي تفجر في داخلي عبر تلك اللحظات المرعبة؟ أين وكيف أخفيت شكي فيمن وثقت بهم، وكراهيتي لمن أسلموني لهم، لمن عجزوا- رغم محبتي لهم- عن إنقاذي مما يحدق بي؟ ثم كيف عدت أحبهم من جديد دون حقد أو ضغينة أو بهما خافيين ملتبسين!!.

وفجأة تراءى لي في وضوح قاس أن كثيرا ممن كنت أظنه بعض صفاتي الطيبة طوال سني عمري ربما لم يكن سوى أسلوبي الطفولي في تجنب الهول الذي كنت أخشى أن يأتيني فجأة ممن أحبهم وأثق بهم؟! وكيف حدث أن تصالحت عبر الأيام والسنين مع أبي وأمي وأعمامي؟ وماذا كان الثمن الذي دفعته أو دفعوه هم أيضا من أجل أن يتم هذا التصالح؟ ومرة أخرى خيل إليّ أنني أرى في وضوح قاس، وربما لأول مرة ثمن ذلك التصالح في ألوان من سلوكي ما كان بمقدوري أن أنجح في إخفائها تحت أي شعر أو شعار؟!.

المخاوف اللا معقولة التي كانت تظهر فجأة على السطح حين تلوح أمامي فرص للنمو وللمغامرة، فتخطفني من أمام الفرصة أو تخطف الفرصة من أمامي حين أتردد في اتخاذ المبادرة التي قد تكون مجرد كلمة أو خطوة أو ابتسامة أو قرار!.

ذلك الغضب في ذلك البلد

لم أشعر أبدا بالخجل في أي يوم مما كنت أعتقد دائما أنه جزء من صفاتي الطيبة حتى ذلك اليوم الذي سمعت فيه ذلك الإطراء لبعض هذه الصفات من رجل غريب في بلد غريب، وربما كانت هذه الغربة هي التي دفعت الرجل لكي يقدم تأسيسا لهذا الإطراء، فقال:

- إن فيك تلك الطيبة التي تميز الكثير من المصريين. ولأول مرة لم أسترح لهذا الإطراء، ورحت أخفف من غضبي بملاحظة ملابسات خاصة أحاطت بموقف الرجل الغريب في البلد الغريب.

رؤية

لا أدري ما الذي جعلني أتذكر فجأة هذه القصة التي وقعت منذ وقت بعيد في ذلك البلد الغريب في هذا الصباح.. لا أدري ما الذي جعلني أشعر حين تذكرتها بأنني أشم رائحة شيء يحترق، كأنه شعر رأسي، واختلطت تلك الرائحة بصورة غريبة غامضة لعملاق أمسك في قبضته الخرافية التي تحتوي على آلاف الأصابع بأعناق كل المصريين، وراح يكويهم في جباههم بالنار بحجة أنه ينقذهم من هلاك محقق أو يقودهم لخير عميم، وليتعمد ذلك الشعب بطيبة الخائفين!.

الحفيد يصرخ

صراخ حفيدي هو الذي أيقظني من هذه الرؤية المرعبة. حفيدي الذي كان يحاول استخلاص لعبته الضائعة، لقد نجح في الوصول إلى لعبته، ولكنه أصبح عاجزا عن الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه لكي يصل إلى لعبته، خلف المقعد، ولم أشأ أن أتعجل في تقديم العون له، كنت مطمئنا إلى أنه سوف ينجح في تخليص نفسه، وأنه يستحق بعد ما فعله بي أن يعاني قليلا، ما دامت هذه المعاناة لن تفقده القدرة على التذكر!.



- مارس 1994


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...