مهداة إلى رفيق الشباب محمد إسماعيل هاني
الأضواء الساطعة التي تنبعث من نهاية الزقاق، والجموع الحاشدة التي تتوافد إلى هناك، يؤكدان أن حادثاً هاماً شغل أهل الزقاق هذا المساء!
أما الأغاريد التي تنبعث بين آن وآخر، والأغنيات التي تسمع بين حين وحين، والأعلام الصغيرة الخضراء التي يهزها نسيم المساء الهادئ فتبدو كأنها أيد تدعو الناس إلى الحضور هناك. . .
كل أولئك كان يشير إلى أن الحادث الهام عرس من تلك الأعراس السعيدة التي تشغل أهل القرية كلما أنتفخ جيب شيخ بالمال، وأشرق وجه فتاة بالجمال!. . .
فإذا استخفتك هذه الأغاريد الحلوة، وراعتك هاته الأغنيات الشجية، وسرت في زحمة الناس إلى هناك فسترى في نهاية الزقاق فنوناً من الزينة وضروباً من البهجة تحيط بالعروسين في مكانهما المرتفع الغارق في الأزهار والأنوار. . .
وأقسم أنك لن تنظر إلى الأزهار وقد نسقت في نظام بديع، ولا إلى الأنوار وقد تألقت في وضع جذاب، ولا إلى العذارى من بنات القرية وقد أحطن بالعروس الشابة مثلما تحيط الملائكة بروح طاهرة تدخل الجنة!. . . لا، لن تنظر إلى شيء من ذلك وإنما ستحدق مذهولا في عيني العروس الفاتنة وستجد في نظراتها الساحرة الآسرة غناء عن كل أولئك.
وستظل تحدق في وجهها لا تمل التحديق، وعلى حين فجأة ستجد هاتين العينين تنطبقان في هدوء عجيب، وستجد العروس الفاتنة لا تحس بشيء مما حولها، حتى ولا بعريسها الشاب الجالس إلى جوارها وهو يدخن لفائفه المهداة إليه دون كلل أو فتور.
ستشعر أنت بالضيق حين يحجب عنك هذا الفيض الزاخر من السمر، وستحس برغبة ملحة في رؤية تلك الأحلام التي تمر مستخفية وراء تلك الأهداب الطوال. . .
ومن هنا سأقص عليك قصة تلك الأحلام. . . الواقع أنك كنت مشغولا بعينيها فلم تر ذلك طفل الذي دخل هنا منذ لحظات وجعل يتأمل وجوه الناس ويتفقد أرجاء المكان؛ أنه (سامي) الأخ الصغير (لمحمود). . . وأنت لا تعرف محمودا هذا، ولكن (العروس) تعرفه جيداً. . . أنه الأفق الرحيب الذي تحلق فيه الأحلام، أما سامي الصغير. . . سامي الذي أثار بمرآه ذكريات رقدت في حنايا القلب وأغفت في ثنايا الروح. . . سامي هذا كان بمثابة الجناح الذي حمل العروس وحلق بها في وادي الأحلام، حيث يتراءى لها طيف محمود فوق كل ربوة وعد كل زهرة وجوار كل غدير. . .
إنها تعرف كل شيء عن (محمود). . تعرف أنه كان يتردد على منزلهم كلما أقبل في إجازة مدرسية إلى القرية، فأواصر القرابة التي تربط بينهم أقوى من أن تتركه يهمل تلك الزورات.
كانت تشعر بنشوة طارئة عندما يقبل وهو يسير بخطوات متوثبة حية كأنما يرقص على إيقاعها الشباب. . . وكانت دائماً تحشى أن تطيل النظر إليه حتى لا تلتقي منهما النظرات كانت تشعر كأن في عينيه قوة نفاثة تهزها بعنف فيصعد في وجهها ذلك الدم الحار الذي يكشف المكنون من العواطف ويزيح عن المشاعر أستار الجمود. . .
لذلك كانت تؤثر أن تقف خلف باب الحجرة التي يجلس فيها مع والدها لتسمع حديثه الفتي المرح الذي تتخلله الضحكات، ويا لها من ضحكات سحرية كانت تخترق صدرها الصغير لتوقظ ذلك القلب الراقد هناك في لفائف الصبا الغرير. . .
إنها تذكر كل ذلك. . ونذكر أيضاً أن أباها طلب إليها أن تصنع (شاياً) للضيف العزيز ولكنها لم تكد تضع الشاي على الموقد حتى تركته وراحت تعدو خفيفة إلى مكانها المأثور خلف باب الحجرة، ولم تبارح مكانها الحبيب إلا بعد أن ارتفع صوت والدها يستعجل الشراب للضيف الأثير. . وحين غادرت مكانها إلى الموقد كان الشاي قد غادر مكانه إلى الأرض. . . وتذكر أيضاً وما أجمل الذكريات! أنها كانت تتمنى أن تتحدث إلى (محمود) وأن تراه يخصها بكلماته ويغمرها بنظراته ويشعر بوجودها في خاطره ولو للحظات، هي التي تجعل كل خواطرها وقفاً عليه!! وقد وافتها تلك الأمنية السعيدة حين ذهب (محمود) إلى منزلهم ولم يكن أحد سواها هناك. لقد استجابت متكاسلة إلى طرقات الباب ولم يكد ينفرج عن وجه محمود حتى ندت عنها آهة خافتة كانت بمثابة عنوان صادق لكتاب مشاعرها الكبير وحتى تلون وجهها الجميل بحمرة خفيفة كانت بمثابة حديث صامت عن أحلامها العذراء.
وأخرجها محمود من ارتباكها حين سألها:
- هل أبوك موجود؟ وأجابت بنبرات متقطعة خجولة
- إنه خرج. . . ولكن. . . تفضل. .! وأجابها وهو يبتسم
- سأعود مرة أخرى! فقالت وقد تغلبت على خجلها بعض الشيء
- ومتى ذلك؟ فأردف في نبرة حلوة:
- حين تريدين! تذكر أنها لم تجب بعد ذلك وتذكر أنه خلفها بعد أن ربت على كتفيها وهو يقول في صوت أخاذ.
- وداعا إلى أن أعود. . . ولم يكد يتوارى في نهاية الطريق حتى طفقت تعدو نشوى في أنحاء الدار كانت أشبه بسجين مدمن يتناول كأساً من الخمر لم يذق طعمها منذ أمد بعيد. .
وراحت تردد وهي مبهورة الأنفاس متوترة الأعصاب. . .
ربي. . . إنني لا اصدق أذني! أحقا إنني صادفت هوى من نفس محمود؟ حقا أن هذا الشيء اللطيف الرهيف الذي كنت أحسه على كتفي كان يده؟ أحقا انه يحبني؟
وأصبحت تجد طيف محمود في كل ما تنظر، وتستوعب حديثه في كل ما تسمع، وتعيش حياته في كل ما تحلم، وأصبح هو في دنياها كل شئ!!
وتذكر وما أعذب الذكريات أنهما تلاقيا بعد ذلك كثيراً وتحدثا كثيراً وفي ضوء تلك الأحاديث الشهية تلاقت عواطفهما الشابة لتسير في هذا الطريق الخالد الذي تزرع القلوب البشرية على جانبيه أزهار الأمل لتعطر للعشاق أنسام الحياة كان يحدثها عن غرامه حين يلقاها فتطرق!
وكان يربت على خدها حين يودعها فتبتسم. وكان هذا اللقاء الحبيب يتم بينهما خلسة في مكان بعيد. . . بعيد جدا هناك حيث لا تدب عصا التقاليد
وأعجب ما في الأمر أنها كانت تعلم أن هذه العلاقة لن تنتهي بهما إلى الزواج. . . كانت تعلم أن السنوات الباقية في حياته الدراسية وأن المركز الذي ينتظره في حياته الاجتماعية سوف يعودان بتلك الأمنية الغالية إلى دنيا الذكريات والأحلام. ثم هل تفكر الفتاة الريفية البسيطة في الزواج بمحمود؟
يا لغرور الأحلام! لقد كانت كل أمانيها بالأمس تنحصر في شيء واحد هو أن تتحدث إليه، فهل تجمح بها الأخيلة إلى هذا الحد الذي تريد أن تشاركه فيه حياته؟! ثم ألا يكفيها أنه يحبها؟ أنه يلقاها فترى في عينيه دنيا من الأشواق تستطيع بحرارتها أن تدفئ قلبها إلى الأبد!! ثم أليست هي أول من يلقاه حين يحضر وآخر من يراه حين يسافر؟ حسبها إذن هذا المكان الجميل ما دام في قلب محمود!!
ثم تختلط أمامها الصور وتتزاحم الرؤى وتتماوج الأطياف حتى تنفرج أخيراً عن صورة تبدو واضحة السمات بارزة المعالم تلك هي صورة (متولي)
إنها تذكر جيدا هذا المساء الذي حضر فيه مع والده ومعه بعض الناس. لقد جلسوا طويلاً يتشاورون في أمر خطبتها (لمتولي) ثم انتهى المجلس بإعلان (الخطبة) وتذكر أن أمها وبعض الجيران رحن يزغردن في سرور والجميع يهتف بها في نشوة: مبروك يا حبيبتي. .!!
أما هي فقد كانت أشبه ما تكون بطفل صغير فقد يد أخيه الأكبر في حفلة من حفلات الزفاف، وجعل يبكي بين هتاف المغنين وأصوات المزامير دون أن يشعر به أحد. . لقد كانت تلك الأغاريد الحلوة تصل إلى أذنيها أشبه بالنواح كأنما تشيع أحلامها العذراء نحو مقابر الحرمان.
أجل حدث كل ذلك بالرغم من أنها كانت تثق بأن محموداً لن يكون زوجها المنتظر وأدركت تماما أنها كانت تخدع قلبها الصغير حين راحت توهمه بأن الزواج يصبح أملاً بسيطا حين تنفسح آفاق الحب وتسمو مشاعر العشاق!!. . . ومنذ ذلك اليوم أحست بأنها قد استيقظت من حلم جميل. . ومنذ ذلك اليوم أيضاً غاب عنها محمود!! لقد ظن الفتى النبيل أنه بذلك يساعدها على النسيان ولم يكن يقدر أن مرأى أخيه الصغير الذي يبحث عنه قد أثار كل هذه الذكريات. . .
لقد كانت الفتاة المسكينة تغمض عينها عن ضياء الحقائق لتنعم بطيف حبيبها في ظلام الأحلام؛ وعادت إليك تلك النظرات الساحرة الفاترة أشبه بشبح منهوك كان يزور قبر ولده الشاب! ومرة أخرى سوف تلهيك هذه النظرات عن سماع ذلك الحوار، أنه يدور بين شاب في ربيع العمر وشيخ في خريف الحياة، أما الأول فهو يهتف في نشوة غامرة.
- ربي إنها تحلم. . . وأما الثاني فيجيبه بصوت ثقة وتجربة
- أجل يا بني بالسعادة المقبلة.
محمد أبو المعاطي أبو النجا
27 - 11 - 1950
الأضواء الساطعة التي تنبعث من نهاية الزقاق، والجموع الحاشدة التي تتوافد إلى هناك، يؤكدان أن حادثاً هاماً شغل أهل الزقاق هذا المساء!
أما الأغاريد التي تنبعث بين آن وآخر، والأغنيات التي تسمع بين حين وحين، والأعلام الصغيرة الخضراء التي يهزها نسيم المساء الهادئ فتبدو كأنها أيد تدعو الناس إلى الحضور هناك. . .
كل أولئك كان يشير إلى أن الحادث الهام عرس من تلك الأعراس السعيدة التي تشغل أهل القرية كلما أنتفخ جيب شيخ بالمال، وأشرق وجه فتاة بالجمال!. . .
فإذا استخفتك هذه الأغاريد الحلوة، وراعتك هاته الأغنيات الشجية، وسرت في زحمة الناس إلى هناك فسترى في نهاية الزقاق فنوناً من الزينة وضروباً من البهجة تحيط بالعروسين في مكانهما المرتفع الغارق في الأزهار والأنوار. . .
وأقسم أنك لن تنظر إلى الأزهار وقد نسقت في نظام بديع، ولا إلى الأنوار وقد تألقت في وضع جذاب، ولا إلى العذارى من بنات القرية وقد أحطن بالعروس الشابة مثلما تحيط الملائكة بروح طاهرة تدخل الجنة!. . . لا، لن تنظر إلى شيء من ذلك وإنما ستحدق مذهولا في عيني العروس الفاتنة وستجد في نظراتها الساحرة الآسرة غناء عن كل أولئك.
وستظل تحدق في وجهها لا تمل التحديق، وعلى حين فجأة ستجد هاتين العينين تنطبقان في هدوء عجيب، وستجد العروس الفاتنة لا تحس بشيء مما حولها، حتى ولا بعريسها الشاب الجالس إلى جوارها وهو يدخن لفائفه المهداة إليه دون كلل أو فتور.
ستشعر أنت بالضيق حين يحجب عنك هذا الفيض الزاخر من السمر، وستحس برغبة ملحة في رؤية تلك الأحلام التي تمر مستخفية وراء تلك الأهداب الطوال. . .
ومن هنا سأقص عليك قصة تلك الأحلام. . . الواقع أنك كنت مشغولا بعينيها فلم تر ذلك طفل الذي دخل هنا منذ لحظات وجعل يتأمل وجوه الناس ويتفقد أرجاء المكان؛ أنه (سامي) الأخ الصغير (لمحمود). . . وأنت لا تعرف محمودا هذا، ولكن (العروس) تعرفه جيداً. . . أنه الأفق الرحيب الذي تحلق فيه الأحلام، أما سامي الصغير. . . سامي الذي أثار بمرآه ذكريات رقدت في حنايا القلب وأغفت في ثنايا الروح. . . سامي هذا كان بمثابة الجناح الذي حمل العروس وحلق بها في وادي الأحلام، حيث يتراءى لها طيف محمود فوق كل ربوة وعد كل زهرة وجوار كل غدير. . .
إنها تعرف كل شيء عن (محمود). . تعرف أنه كان يتردد على منزلهم كلما أقبل في إجازة مدرسية إلى القرية، فأواصر القرابة التي تربط بينهم أقوى من أن تتركه يهمل تلك الزورات.
كانت تشعر بنشوة طارئة عندما يقبل وهو يسير بخطوات متوثبة حية كأنما يرقص على إيقاعها الشباب. . . وكانت دائماً تحشى أن تطيل النظر إليه حتى لا تلتقي منهما النظرات كانت تشعر كأن في عينيه قوة نفاثة تهزها بعنف فيصعد في وجهها ذلك الدم الحار الذي يكشف المكنون من العواطف ويزيح عن المشاعر أستار الجمود. . .
لذلك كانت تؤثر أن تقف خلف باب الحجرة التي يجلس فيها مع والدها لتسمع حديثه الفتي المرح الذي تتخلله الضحكات، ويا لها من ضحكات سحرية كانت تخترق صدرها الصغير لتوقظ ذلك القلب الراقد هناك في لفائف الصبا الغرير. . .
إنها تذكر كل ذلك. . ونذكر أيضاً أن أباها طلب إليها أن تصنع (شاياً) للضيف العزيز ولكنها لم تكد تضع الشاي على الموقد حتى تركته وراحت تعدو خفيفة إلى مكانها المأثور خلف باب الحجرة، ولم تبارح مكانها الحبيب إلا بعد أن ارتفع صوت والدها يستعجل الشراب للضيف الأثير. . وحين غادرت مكانها إلى الموقد كان الشاي قد غادر مكانه إلى الأرض. . . وتذكر أيضاً وما أجمل الذكريات! أنها كانت تتمنى أن تتحدث إلى (محمود) وأن تراه يخصها بكلماته ويغمرها بنظراته ويشعر بوجودها في خاطره ولو للحظات، هي التي تجعل كل خواطرها وقفاً عليه!! وقد وافتها تلك الأمنية السعيدة حين ذهب (محمود) إلى منزلهم ولم يكن أحد سواها هناك. لقد استجابت متكاسلة إلى طرقات الباب ولم يكد ينفرج عن وجه محمود حتى ندت عنها آهة خافتة كانت بمثابة عنوان صادق لكتاب مشاعرها الكبير وحتى تلون وجهها الجميل بحمرة خفيفة كانت بمثابة حديث صامت عن أحلامها العذراء.
وأخرجها محمود من ارتباكها حين سألها:
- هل أبوك موجود؟ وأجابت بنبرات متقطعة خجولة
- إنه خرج. . . ولكن. . . تفضل. .! وأجابها وهو يبتسم
- سأعود مرة أخرى! فقالت وقد تغلبت على خجلها بعض الشيء
- ومتى ذلك؟ فأردف في نبرة حلوة:
- حين تريدين! تذكر أنها لم تجب بعد ذلك وتذكر أنه خلفها بعد أن ربت على كتفيها وهو يقول في صوت أخاذ.
- وداعا إلى أن أعود. . . ولم يكد يتوارى في نهاية الطريق حتى طفقت تعدو نشوى في أنحاء الدار كانت أشبه بسجين مدمن يتناول كأساً من الخمر لم يذق طعمها منذ أمد بعيد. .
وراحت تردد وهي مبهورة الأنفاس متوترة الأعصاب. . .
ربي. . . إنني لا اصدق أذني! أحقا إنني صادفت هوى من نفس محمود؟ حقا أن هذا الشيء اللطيف الرهيف الذي كنت أحسه على كتفي كان يده؟ أحقا انه يحبني؟
وأصبحت تجد طيف محمود في كل ما تنظر، وتستوعب حديثه في كل ما تسمع، وتعيش حياته في كل ما تحلم، وأصبح هو في دنياها كل شئ!!
وتذكر وما أعذب الذكريات أنهما تلاقيا بعد ذلك كثيراً وتحدثا كثيراً وفي ضوء تلك الأحاديث الشهية تلاقت عواطفهما الشابة لتسير في هذا الطريق الخالد الذي تزرع القلوب البشرية على جانبيه أزهار الأمل لتعطر للعشاق أنسام الحياة كان يحدثها عن غرامه حين يلقاها فتطرق!
وكان يربت على خدها حين يودعها فتبتسم. وكان هذا اللقاء الحبيب يتم بينهما خلسة في مكان بعيد. . . بعيد جدا هناك حيث لا تدب عصا التقاليد
وأعجب ما في الأمر أنها كانت تعلم أن هذه العلاقة لن تنتهي بهما إلى الزواج. . . كانت تعلم أن السنوات الباقية في حياته الدراسية وأن المركز الذي ينتظره في حياته الاجتماعية سوف يعودان بتلك الأمنية الغالية إلى دنيا الذكريات والأحلام. ثم هل تفكر الفتاة الريفية البسيطة في الزواج بمحمود؟
يا لغرور الأحلام! لقد كانت كل أمانيها بالأمس تنحصر في شيء واحد هو أن تتحدث إليه، فهل تجمح بها الأخيلة إلى هذا الحد الذي تريد أن تشاركه فيه حياته؟! ثم ألا يكفيها أنه يحبها؟ أنه يلقاها فترى في عينيه دنيا من الأشواق تستطيع بحرارتها أن تدفئ قلبها إلى الأبد!! ثم أليست هي أول من يلقاه حين يحضر وآخر من يراه حين يسافر؟ حسبها إذن هذا المكان الجميل ما دام في قلب محمود!!
ثم تختلط أمامها الصور وتتزاحم الرؤى وتتماوج الأطياف حتى تنفرج أخيراً عن صورة تبدو واضحة السمات بارزة المعالم تلك هي صورة (متولي)
إنها تذكر جيدا هذا المساء الذي حضر فيه مع والده ومعه بعض الناس. لقد جلسوا طويلاً يتشاورون في أمر خطبتها (لمتولي) ثم انتهى المجلس بإعلان (الخطبة) وتذكر أن أمها وبعض الجيران رحن يزغردن في سرور والجميع يهتف بها في نشوة: مبروك يا حبيبتي. .!!
أما هي فقد كانت أشبه ما تكون بطفل صغير فقد يد أخيه الأكبر في حفلة من حفلات الزفاف، وجعل يبكي بين هتاف المغنين وأصوات المزامير دون أن يشعر به أحد. . لقد كانت تلك الأغاريد الحلوة تصل إلى أذنيها أشبه بالنواح كأنما تشيع أحلامها العذراء نحو مقابر الحرمان.
أجل حدث كل ذلك بالرغم من أنها كانت تثق بأن محموداً لن يكون زوجها المنتظر وأدركت تماما أنها كانت تخدع قلبها الصغير حين راحت توهمه بأن الزواج يصبح أملاً بسيطا حين تنفسح آفاق الحب وتسمو مشاعر العشاق!!. . . ومنذ ذلك اليوم أحست بأنها قد استيقظت من حلم جميل. . ومنذ ذلك اليوم أيضاً غاب عنها محمود!! لقد ظن الفتى النبيل أنه بذلك يساعدها على النسيان ولم يكن يقدر أن مرأى أخيه الصغير الذي يبحث عنه قد أثار كل هذه الذكريات. . .
لقد كانت الفتاة المسكينة تغمض عينها عن ضياء الحقائق لتنعم بطيف حبيبها في ظلام الأحلام؛ وعادت إليك تلك النظرات الساحرة الفاترة أشبه بشبح منهوك كان يزور قبر ولده الشاب! ومرة أخرى سوف تلهيك هذه النظرات عن سماع ذلك الحوار، أنه يدور بين شاب في ربيع العمر وشيخ في خريف الحياة، أما الأول فهو يهتف في نشوة غامرة.
- ربي إنها تحلم. . . وأما الثاني فيجيبه بصوت ثقة وتجربة
- أجل يا بني بالسعادة المقبلة.
محمد أبو المعاطي أبو النجا
27 - 11 - 1950