يوسف يعقوب حداد - ابتسامة صفراء!.

لا يدري سليم متى هاجر عمه إلى البرازيل، ولكنه يدري أن أمه كثيراً ما كانت تضمه إلى صدرها وهو صبي صغير، وتهمس في أذنيه أن عمه إبراهيم سيعود يوماً ما من بلد الخيرات، وأنه سيحمل إليه من هناك ذهباً كثيراً، ومالاً وفيراً، ويعيشا بعد ذلك عيشاً سعيداً، هنياً

ولقد شب سليم وهو يرضع هذا الأمل اللذيذ، ويتطلع إلى أفق يتوهج فيه بريق الذهب!

لم يذهب إلى المدرسة يطلب فيها العلم، ولم يبحث لنفسه عن عمل يعيش منه، فعمه إبراهيم سيعود بالذهب الوهاج ذات يوم، وعندئذ سيتقلب على بساط النعيم، ويعب من متع الدنيا!. . وماذا يضيره لو أن أمه غسلت اليوم ملابس الناس، وخبزت لهم الخبز وتحملت بذلك شيئاً كثيراً من نكد الدنيا وتعب الحياة؟!

شب سليم عن الطوق، واشتد ساعده. . . وهو كلما كبر جسده وانفتل عضله. تضخم في رأسه الأجوف ذاك الأمل الضاحك الذي أرضعته إياه أمه، واشتد في أفق حياته الساذجة بريق الذهب الذي سيعود به عمه أبو خليل. . . من البرازيل!

ولكن الأيام مضت يلتهم بعضها بعضاً، والأعوام تتابعت يسابق بعضها بعضاً، ولا خبر من العم إبراهيم يطرق آذان سليم وأمه الغارقة في مسوحها السوداء. . . حتى كان ذلك اليوم من أيام الشتاء لا يزال سليم يذكره جيداً، لأن الناس لا ينسون الأيام التي تغير مجرى حياتهم!

كان مساء ذلك اليوم البارد يجلس في مقهى القرية يتحارب بقطع النرد على زمرة من زملائه. ومن بعيد سمع ساعي البريد العجوز يسأل عن بيت سليم العنتبلي، فقفز من مقعده في غير وعي، وجرى نحو ساعي البريد يختطف من يده الرسالة ويهرع بها إلى مختار القرية ليقرأهاله!

ولا يستطيع إنسان أن يصف سعادة الفتى حين كانت الكلمات تنساب من فم المختار العجوز بصعوبة لتتسلل إلى أعماق سليم العنتبلي وتهزه هزاً رفيقاً هيناً؛ فيه نشوة من تحقيق أحلامه وإصابة الصميم من أهدافه!

وفي دقائق معدودة، عرف سليم وأمه ما كانا يجهلانه سنين عديدة. . . في دقائق معدودة، عرف سليم أن عمه في البرازيل قد أصاب ثروة كبيرة، وأنه قد تزوج ولكن زواجه ظل عقيماً، وأن هذا العم يحتضر اليوم ويريده على عجل ليهبه نصف الثروة التي جمعها في بلاد الغربة. . . أما النصف الآخر فهو للزوجة التي شاركته الكد والتعب وجمع المال وتكديس الذهب!

واتكأ الفتى على حاجز الباخرة في يأس وفتور، وراحت شفتاه تتهامسان والظلام يجثم على صدر البحر كالعبء الثقيل - ولكن لماذا تقاسمني هذه المرأة الغريبة نصف الثروة التي وعدت بها؟!، من أي حائط قد برزت هذه الجنية البغيضة لتسلبني نصف الذهب الذي انتظرته أكثر من عشرين عاماً متحملاً من أجل ذلك عذاب الانتظار وشظف العيش وقساوة الحياة؟!

وافترت شفتاه عن ابتسامة صفراء خبيثة. . . وسحق عقب سيجارته برأس حذائه، ودلف إلى غرفته لينام لأول مرة منذ وصلته رسالة عمه، نوماً هادئاً عميقاً متواصلاً!

واستقبلته في الميناء سيارة فارغة هي سيارة العم إبراهيم، واحتضنته في القصر الفخم ذراعان دب فيهما دبيب الموت هما ذراعا العم إبراهيم، وابتسمت له شفتان ساحرتان هما شفتا زوج العم إبراهيم!. . .

وفي اليوم التالي، أعدت للغذاء قرب سرير العم المريض مائدة صغيرة حافلة بكل طعام شهي لذيذ، وجلست زوجة العم على رأس المائدة تقطع من هذا القديد وذاك الفطير، وتضعه أمام الفتى مرحبة به مكرمة ضيافته. . . وقد فات الفتى أن يغوص في أعماق عينيها ليرى تلك النظرة الغريبة التي كانت ترمقه بها بين الحين والحين!

وقبل أن يمد سليم يده إلى الطعام، لحظت عيناه قطة جميلة لا ترضى لها مجلساً إلا تحت قدمي زوجة العم، فأحب الفتى أن يداعبها ويلاطفها وقد رأى زوجة عمه تعز قطتها وتعطف عليها، فمد يده إليها بقطعة من اللحم الذي وضعته زوجة عمه في صحنه، فما كاد يفعل هذا حتى ندت عن شفتي زوجة العم صيحة خافتة بدا عليها أنها حاولت كثيراً أن تخنقها في فمها أو تقتلها على شفتيها، ولكنها كانت على ما يظهر أشد قوة وانطلاقاً من أن تقاوم أو تحبس!

وأرتاع الفتى للصرخة الخافتة وسقطت من يده قطعة اللحم وهوت من بين أنامله، لا إلى الأرض كما ظن وإنما إلى بطن القطة الجميلة المدللة!

وفجأة. . . ماءت القطة مواءاً مرعباً، واهتزت في مكانها اهتزازاً فظيعاً، ثم سقطت إلى الأرض جثة هامدة لا حس فيها ولا حركة!

وأنتفض العم إبراهيم في سريره، وتشنجت أعصابه، وشحب وجه الزوجة واستحال لونه إلى مثل صفرة الأموات. . . وجمدت نظراتها المذعورة على وجه الفتى وهو يقهقه قهقهة مدوية هستيرية!. ثم تمالك سليم نفسه وتنفس الصعداء، ومال على أذن عمه يهمس بصوت مسموع وهو يرمق زوجة عمه بنظرة عتاب مرة، ساخرة - الحمد لله يا عم إبراهيم. . لقد كتب لي اليوم عمر جديد بفضل القطة الجميلة!

ولم تحتمل زوجة العم أكثر مما تحملت في خزي وفشل وهذه جريمتها قد انكشفت بهذا الشكل الفظيع الذي لم تكن تتوقعه، فدفعت كرسيها إلى الوراء بقوة وعصبية، وأسرعت إلى مخدعها لتكتب قصاصة من الورق تعلن فيها فرارها بعيداً عن مسرح جريمتها الفاشلة. .

وفيما هي تعد حقيبتها وتكدس فيها ملابسها، شعرت بظمأ شديد يكاد يفطر لسانها ويحرق كبدها، فأسرعت إلى قنينة الماء التي اعتادت أن تضعها إلى جوار فراشها، وتجرعت منها جرعة كبيرة. .

وحين أرادت أن تعود لتستأنف إعداد حقيبتها شعرت بالضعف يدب في ساقيها، وأحست بألم فظيع يقطع أحشاءها، وانعقد لسانها وهي تحاول أن تطلق من صدرها صرخة مدوية تعبر عن فزعها وهي ترى بعينيها قبرها المظلم يسرع نحوها فاغراً فاه لالتهامها!. . وسقطت إلى الأرض وهي جثة هامدة لا حس فيها ولا حركة!

وألقى الزوج نظرة احتقار على جثة زوجته الغادرة، فقد ظنها انتحرت بعد أن فشلت في قتل ابن أخيه العزيز، وربت على ظهر الفتى وهو يسلمه ثروته كلها!

ولم يدر العجوز الطيب القلب، أن ابن أخيه كان في تلك اللحظة يضغط بأنامله على زجاجة من نقيع السم، كان قد أفرغ محتوياتها في قنينة الماء التي عرف أن زوجة عمه قد اعتادت الشرب منها!

البصرة: عراق

يوسف يعقوب حداد

15 - 10 - 1951

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...