محمد أبو المعاطي أبو النجا - ماما.. ماما

كانت (صفية هانم) تنتقل نشوى بين المرآة وصوان الملابس وهي تستعرض الفساتين الحريرية الناعمة على جسدها العاجي البديع لتختار الفستان الذي يبرز مفاتن ذلك الجسد ويشي بأسراره إلى العيون.

ثم تنتقل وهي تدندن بإحدى الأغنيات أمام معرض العطور والأدهان في ناحية أخرى من الحجرة لتستعيد لقسماتها الغضة جمال الزهور ولثيابها الأنيقة رقيق العطور. . . ثم تقف أخيراً أمام المرآة وكأنها تسألها رأيها في كل تلك الأناقة وإذ ذلك لا تستطيع أن تكتم تلك الابتسامة الرائعة التي تكشف عن مدى إعجابها بهذا الرأي.

وما تلبث (صفية هانم) أن تلقي بجسمها على مقعد وثير حين تنتبه إلى أنها ستنتظر ساعة أخرى حتى يمكنها أن تذب إلى الشقة المقابلة لتلقى صلاح.

ووضعت رأسها الصغير المضمخ بالعطور بين يديها وجعلت تنتقل بنظراتها القلقة في أنحاء الحجرة حتى انتهت تلك النظرات إلى وجه (سمير) وهو مغرق في النوم فوق سريره الصغير. . . وعلى الرغم منها تجد أ، نظراتها تشيح عنه وهي تشعر بشيء من الضيق يوشك أن يستحيل إلى كراهية. . . وعلى الرغم منها أيضاً تجد هذه النظرات تتجه إلى الماضي لتحدق فيه وسرعان ما تنساق هي ورائها تنبش بعصا الخيال أنقاض الذكريات.

أربع سنوات مضت وهي تعيش في هذا السجن المكون من ثلاث غرف مزودة بفاخر الأثاث ونادر التحف وجميل الستائر، أعني منذ مات زوجها وخلف لها ذلك المعاش الذي أتاح لها تلك الحياة الرخية الناعمة وخلف لها أيضاً سميرا ذلك الطفل الذي يهدف نحو سنته السادسة.

إنها تعجب أشد العجب!!. . . لقد كانت منذ شهر واحد تجد في كل أولئك جنة صغيرة وهي الآدمي الوحيد الذي منحها فوق الأرض. . .

كانت تعتقد أنه يمكنها أن تكون أسعد مخلوقة ولو عاشت في مكان أقل من هذا وبيئة أبسط من تلك ما دام معها (سمير) وما دامت تتملك ذلك الفيض الزاخر من الذكريات. . .

الذكريات التي تنهل منها القلوب حين تظمأ في العواطف في صحراء الحياة!!

وإنها لتكاد تجن حين تذكر أن هناك أيدي كثيرة كانت تمتد إليها ومعها الثراء والشباب والجاه ولكنها كانت ترفضها جميعاً لأنها كانت تفتح ذراعيها لتستقبل ذلك الطفل الصغير الذي يقطع الردهة جرياً على قدميه الصغيرتين ليلقي بنفسه في حضها الحبيب!!

كانت لعبة طريفة من غير شك تلك التي أنستها شبابها النضير.

ومتى يا ترى كانت تذكر ذلك الشاب وهي التي كانت تمضي يومها الطويل لا تفكر إلى في سمير! وهذه اللعبة الطريفة ستسره من غير شك. . . وتلك البدلة الأنيقة سوف تكون مثار دهشته. . . وهذه الحفلة ما أجمل أن يشاهدها سمير. . .!

لقد كانت تود لو استحال العالم كله إلى لعب، إذن لأحضرتها من أجل سمير. . .!

البسمات التي تمرح على شفتيه، والنظرات التي ترقص في عينيه، والكلمات التي تعدو متعثرة على لسانه الصغير؛ كل أولئك تحف غالية كانت تبيع شبابها من أجلها وما أرخصه من ثمن!.

إن أوثق رجل في الوجود لا يستطيع وهي في كنفه أن تقوم بالليل لتتفقد فراش سمير. . ولتنظر هل لا زال الغطاء منسولاً عليه؟ وهل تحرك وهو نائم وأوشك رأسه أن ينحرف قليلا عن الوسادة؟؟ وهل مد يديه الصغيرتين فلم يجد عنقها ليطوقه في شغف؟ كلا كلا هذا مستحيل!

إنها ترفض العالم كله إذا قدم إليها خالياً من سمير!

إنها الآن تتذكر كل ذلك ولا تملك إلا أن تبتسم في سخرية لهذه الأفكار التي تبدو لها الآن تافهة!

أجل إنها تافهة من غير شك وهي تعجب كيف ظلت تجهل ذلك حتى الآن!

الأمومة. . . التضحية. . . الذكريات، كل هذه الألفاظ الجوفاء التي ظلت تتعبد بها طيلة تلك السنوات الأربع ما جدواها وما نفعها؟ أجل ما جدواها في ذلك الزمن الذي يغتصب فيه كل إنسان سعادته من فم الأيام؟ ما أشبهها بأزهار القرع لا تجد وراء ألوانها الناقعة نفحة من عبير!

إن سميراً هذا الذي تبيع شبابها من أجله لتشتري له البسمات سوف يدفع لها الثمن يوماً وسيكون دموعا. . غداً يكبر. . وتكون له معشوقات ويمضي الليالي الطوال لا يفكر إلا في فتاة أحلامه! أما هي فأغلب الظن أنه لن يذكرها إلا حين يحتاج إلى نقود! ثم ماذا بعد ذلك؟ سيتزوج سمير من غير شك. ومعنى هذا أنها ستنتقل من مركز الأم إلى مركز الحماة! وهو مركز لن تحسد عليه بأي حال! ومعنى هذا أيضاً أن (سمير) لن يتكلم معها إلا ليقول. . . يا سيدتي إن هذا لا يصح! لماذا دائماً تثيرين الخلاف مع زوجتي؟ وإذا قدر لها أن تظفر منه بابتسامة فإنها فضلا عما ستحمله من معاني التهكم فستكون على رأس طائفة من الألفاظ لن تفضل بأي حال هذه العبارة. . إنني على استعداد لأن أبحث لك عن مكان لائق وأتكفل بكل مطالبك على أن تتركينا ننعم ببعض الحياة التي كنت تنعمين بها مع أبي. . .!

أما إذا تكرم يوماً بزيارتها فلن يحدث ذلك إلا حين يكون على خلاف مع زوجته، أعني أنها لن تسمع منه غير ألفاظ الشكوى وزفرات الألم!

وهكذا وبكل بساطة تأتي امرأة أخرى لتأخذ الرجل الذي صنعته هي بدموعها وقدمت ليالي شبابها الذاهب قرباناً في محراب حبه!

كم كانت ستخدع وراء هذا السراب الزائف الذي يسمونه الأمومة؟

ثم تبتسم في سخرية وهي تلقي على نفسها هذا السؤال. . . لو الذي هي التي ماتت أكان من المعقول أن يبقى زوجها أربع سنوات بدون أن يتزوج؟ لا، لا يمكن بعد اليوم أن تترك عواطفها الشابة تستدفئ على موقد ليس فيه غير الرماد!

هي إذن ليست مخطئة حين تعرفت إلى صلاح! ذلك الشاب الذي يسكن الشقة المقابلة لقد أحست حين رأته أول مرة وهو يحمل ابنها الصغير بين يديه حين وجده يبذل مجهوداً في صعود السلم! أحست بكل جسدها ينتفض مثلما ينتفض المحموم حين توضع فوق جبينه قطرات الماء. . . لقد استبقت يده بين يديها قليلا وهي تستجمع أشتات الألفاظ لتشكره على ذلك الصنيع الطيب!

ولم تكد تخلو إلى نفسها حتى رأته يبدو أمام عينيها بقامته الفارعة ووجهة الأسمر وابتسامته الخلابة؛ ومثلما سمحت ليفه أن يزور خيالها فقد سمحت له أن يزور مسكنها. وهكذا استطاعت أن تجعل هذا اللقاء العابر يستحيل إلى صداقة. ومن يدري فقد تستحيل تلك الصداقة إلى حب. ومهما يكن من شيء فحسبها تلك الصداقة التي تتيح لهما أن يذهبا معاً إلى دور السينما أو يرتادا أماكن اللهو وهو الشيء الذي يملأ حياتها بفنون من المسرة والإمتاع!. . . وترفع رأسها الصغير ثم تنظر في ساعة يدها وسرعان ما تدرك أن ميعاد السهرة قد قرب فتقف قليلا أمام المرآة ثم تسرع نحو الباب، وحين تدير المزلاج يحدث ذلك الصوت الطبيعي المعروف فيستيقظ سمير وينظر نحو أمه ثم يهتف بصوت أضعفه النعاس - ماما. . . ماما! إنت رايحه فين يا ماما! فتعود الأم وهي تحاول أن تهدهده حتى ينام ثم تقول له

مش رايحه يا حبيبي. . .! ولكن يدي الصغير تحوطان عنقها في إصرار وتشبث وهو يقول. . . خليكي هنا يا ماما. . . ترتجف الأم حين تسمع ذلك الصوت الصغير الحالم.

وتحس بأهدابها تختلج وبأعصابها تنتفض. . . إنها تنظر في عينيه فلا تجد تلك النظرات الساذجة الهادئة، بل إنها لتكاد ترى فيهما عيني والده. . . الزوج الذي مات منذ أربع سنوات. . . إن عينيه لم تموتا. . . إنهما هنا ببريقهما العميق النفاذ. . .! وهاتان اليدان الصغيرتان إنهما يشدان على عنقها بعنف لا تقدر عليه يدا رجل. . . إن هذه الرغبات الطاغية التي كانت تعصف بروحها منذ حين لتوشك أن تختنق تحت وطأة هاته الأيدي الطفلة. . .! ولكن ها هو النوم يطبق أجفان سمير في هدوء، وها هو يستل يديه من حول عنقها كأنه يريد أن يسنده إلى صدره؛ وها هو ذا عقرب الساعة يشير إلى تمام الثامنة ويشير إلى شيء آخر هو أن صلاح ينتظرها الآن فلماذا لا تخرج؟ والواقع أنها لا تستطيع لأنها هي الأخرى قد نامت إلى جوار سمير. . . ثغرها على جبينه. . . ويدها على خصره. . . وروحها تعانق روحه في سماء لا يعلمها غير الله. . .

محمد أبو المعاطي أبو النجا

11 - 12 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...